في فترة من فترات الترف الفكري في عهد الدولة العباسية أثير في أوساط المسلمين سؤال شغل علماء المسلمين وحكامهم سنوات طويلة واختلفوا فيه اختلافا كبيرا حتى أنهم كفروا بعضهم بعضا، وهذا السؤال هو: هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ والذي أثار هذا السؤال كما تقول بعض المصادر هو رجل يهودي تظاهر بالإسلام اسمه شاكر الديصاني. ونظرا لأن هذه القضية ليست من أصول الدين ولا ينبني عليها عمل فسأكتفي فيها بذكر بعض الملاحظات والتعليقات، ومن أراد مزيدا من التفصيل فيها ليعرف أقوال العلماء ووجه الخلاف فيها فليرجع إلى كتاب الحق الدامغ للشيخ أحمد الخليلي[1]. 1- إنّ هذه القضية لم تكن معروفة في عهد النبي (صلى الله عليه و سلم ) ولا في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم حتى نهاية الدولة الأموية، كما أن القرآن الكريم لم يتحدث عنها وكذلك السنة النبوية وهي ليست من الأمور الاعتقادية التي لا يتم الإيمان إلا بها ولا ينبني عليها أي عمل والخوض فيها وخصوصا في هذا العصر من الأمور التي يجب أن ينهى عنها، ويكفينا ما أجمع عليه المسلمون بأن القرآن كلام الله تعالى ونحن مطالبون بحفظه وفهمه وتدبره والعمل به. 2- إن هذه الفتنة حدثت في العراق في بداية القرن الثالث الهجري وكانت في بدايتها معركة جدلية بين بعض علماء المعتزلة والحاكم العباسي من جهة وبين الإمام أحمد بن حنبل وبعض من أتباعه من جهة أخرى. ولم يشترك فيها الإباضية لا من قريب ولا من بعيد, ففي الوقت الذي أثيرت فيها هذه القضية كان الإباضية في معزل عن هذا الجدل الفكري الذي شغل المسلمين سنوات عديدة. 3- دام الجدل في هذه القضية قرابة عشرين عاما(218-234) وتوالى على الحكم العباسي في هذه الفترة المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل في بداية عهده. وقد أعلن المأمون وهو الخليفة العباسي بوجوب الاعتقاد بخلق القرآن وأجبر الناس والعلماء على التصريح بذلك، وامتحن الناس والعلماء. وقصة الإمام أحمد بن حنبل في هذا معروفة ومشهورة. الغريب أنه في ذلك الوقت كان شغل الناس محصورا فقط في : هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ ولم يطرح أحد من العلماء السؤال الذي هو أهم منه وهو: هل يجوز للحاكم أو الخليفة أو غيره أن يكره أحدا من الناس على الاعتقاد بأمر مختلف فيه. فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه (لا إكراه في الدين)، فكيف يحق لأي إنسان أن يكره الناس ويجبرهم على الاعتقاد بخلق القرآن أو غيره، فكتب التاريخ لم تذكر أن أحد من العلماء وقف ليقول للمأمون ومن معه : لا يجوز لكم أن تكرهوا الناس على الاعتقاد، كما أنه لم نقرأ في كتب التاريخ أن وقف أحد من هؤلاء العلماء لينكر الفساد واللهو المتفشي في المجتمع الإسلامي بصفة عامة وفي بلاط الدولة بصفة خاصة في ذلك الوقت. فكيف يسكت العلماء عن هذا الفساد ويهتموا بقضية فرعية من قضايا الدين. إن كان هذا يدل على شيء فإنه يدل على وجود أيدي خفية تسعى لبث الفرقة بين المسلمين حتى جرتهم إلى مثل هذا الجدل الذي لا هدف منه. 4- في الوقت الذي كان الجدل في هذه القضية على أشده كان للإباضية إمامة بالمغرب، عرفت في كتب التاريخ بعد بالدولة الرستمية، وقد شهد لها التاريخ بالعدل والاستقامة وإقامة الدين والحرية الفكرية وتعدد المذاهب والآراء والدعوة إلى الله كما هو مفصل في كتب للتاريخ[2]، كما كانت في تلك الفترة إمامة في عُمان توالى عليها عدة أئمة انتُخِبوا بالشورى وحكموا بالعدل. 5- إن اعتقاد المأمون بخلق القرآن لم يأت عن جهل أو إيحاء من ابن أبي دؤاد[3] كما تقول بعض كتب التاريخ - لإبعاد الشبهة عن المأمون - وإنما عن يقين واقتناع لأن كل كتب التاريخ تذكر أن المأمون كان قد حفظ القرآن ودرس الحديث واللغة والأدب والشعر، وفي الوقت الذي كان فيها أهل الحديث يحدثون كان يجتمع عليه التلاميذ، وقد صنع له منبرا كما صنع لهم وحَدّث كما حدّثوا، فهذا يدل أنه صاحب علم وأن اجتهاده لم يأت من فراغ وليس من الخطأ أن يقتنع بأن القرآن مخلوق أو غيرها من القضايا التي اختلف فيها العلماء، وإنما الخطأ الذي وقع فيه والذي يجب أن ينبه عليه من قبل العلماء هو إجباره الناس على الاعتقاد بما يعتقده هو. وكان واجبُ العلماء في ذلك الحين أن يركزوا في نقاشهم وبحثهم وردودهم علي قضية إجبار الناس على الاعتقاد بخلق القرآن وليس على قضية: هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ 6- عندما وصلت أخبار هذه الفتنة إلى الإباضية في عُمان والمغرب بدؤوا في نقاشها وبما أنهم لم يشتركوا في تلك الفتن ولم يقعوا تحت العواطف فكان بحثهم في القضية موضوعيا لأنهم انطلقوا من قاعدة الحجة والدليل وليس من باب التكفير والإكراه والضغائن والأحقاد. وهم أيضا اختلفوا فيها ولهم فيها رأيان معتمدان في المذهب، والاختلاف ناتج عن معنى كلمة القرآن. هل هو علم الله وكلامه الذاتي أم هو المصحف. فمنهم من قال بأن القرآن مخلوق، ومنهم من قال بأنه غير مخلوق ولكن لم يكفر أحد منهم الآخر كما حصل في العراق. فعلماء الإباضية في المغرب اتفقوا على أن القرآن مخلوق, أما في عُمان فقد اختلف العلماء في خلق القرآن ذلك الوقت في بداية الأمر وخصوصا بين محمد بن محبوب بن الرحيل وبين محمد بن هاشم واستمر النقاش فيها فترة من الزمن وعندما خافوا من الفتنة والانشقاق اجتمعوا في مدينة دما (السيب حاليا) واتفقوا على الاكتفاء بما كان عليه السلف وهو الكف عن التصريح بخلق القرآن أو عدمه[4]. 7- ليس من مصلحة المسلمين اليوم إثارة مثل هذه القضايا من جديد والأفضل لهم الكف عنها وعن غيرها من القضايا التي لا طائل من ورائها، إذ لم يثبت أن قال أحد من الصحابة أو التابعين أن القرآن مخلوق كما لم يقل أحد منهم أنه قديم، بل إن الآثار المتواترة عنهم أن القرآن كلام الله، وفي هذا كفاية لجمع الأمة من جديد. والمشكلة في عمومها فلسفية كلامية أُقحمت فيها العامة إقحاما وأجبر فيها العلماء على قول واحد ولولا ذلك لما كانت مشكلة أصلا.