تأريخ الرواية - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



المكتبة الإسلامية الشاملة [كتب] [فلاشات] [الدفاع عن الحق] [مقالات] [منشورات]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
265  تأريخ الرواية
كُتبَ بتاريخ: [ 01-19-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية عابر الفيافي
 
عابر الفيافي غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363
قوة التقييم : عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز


تأريـخ الـروايـة
فصل من كتاب جدلية الرواية والدراية عند أهل الحديث
د. زكريا المحرمي
السنة النبوية تشكل مصدر التشريع الثاني المكمل للقرآن الكريم، فهي بيان لما في الكتاب العزيز من شرائع وتعليمات يقول تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل: 44، وقد اهتمت جميع طوائف الأمة وفرقها باتباع السنة والحفاظ عليها، بيد أنه ونتيجة لتفاوت المدارك العقلية لمنظري كل فريق، ونتيجة للدور الجبروتي الطاغي للسلطة الحاكمة اختلفت الأمة في تحديد مفهوم السنة وطريقة التعامل معها، فبعد أن كانت السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام تمثل المنهاج والطريقة العملية التي مارسها الرسول r لشرائع الدين وشعائره، انحرف هذا المفهوم وتوسع وتمدد ليشمل كل ما أثر عن النبي r من قول أو فعل أو تقرير، وهذا المفهوم للسنة يتجاهل العوامل الزمانية والمكانية للحظة النص الأصلية أي اللحظة التي قال فيها النبي r ذلك القول وفعل ذلك الفعل وأقر ذلك التقرير، فهل كان هذا الفعل أو القول أو التقرير:
1. حكماً شرعياً ملزماً للأمة جمعاء كما هو الحال مع تبيين شرائع الدين وقوانينه التي جاءت مجملة في الكتاب العزيز والتي أمر الله عز وجل الأمة باتباعها كما في قوله عز وجل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر: 7، مع التأكيد على أن ما أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الوحي {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم: 4، والوحي يشمل القرآن الكريم "الذكر" والسنة "البيان" لما في القرآن.
2. أم كان اجتهاداً من النبي r بمعزل عن الوحي لنازلة لها حيثياتها الزمانية والمكانية قد يصيب فيه الحق المطلق أو لا يصيب الحق الذي يليق بمقامه كما هو الحال في مسألة التعامل مع أسرى بدر التي أكدّها قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } الأنفال: 66-67، والتي يعلق عليها محمد رشيد رضا بقوله: "أن النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده، ولكن الله تعالى يبين له ذلك ولا يقره عليه كما صرح به العلماء، فهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله تعالى لا في الرأي والاجتهاد. ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الإعراض عن الأعمى الفقير الضعيف عبدالله بن أم مكتوم (رض) حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى الإسلام لئلا يعرضوا عن سماع دعوته، فعاتبه الله تعالى على ذلك بقوله {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأعْمَى} عبس: 1"([1]).
3. أم كان فعلاً يدخل في إطار الطبيعة البشرية للنبي r {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الكهف: 110، كما هو الحال مع ارتياده للأسواق ولبسه لباس أهل زمانه، وركوبه وسائل مواصلاتهم، واستخدامه آلاتهم الحرفية والحربية، واستعانته بأدويتهم واطبائهم.
ونتيجة لاتساع مفهوم السنة، الذي واكب التغيرات السياسية التي حدثت في الأمة حيث المذاهب الفقهية تتفاصل والفرق الكلامية تتجادل والقوى السياسية تتناحر، بدأ بعض المسلمين بشكل عفوي بتدوين السنة ليتم حفظها من العبث، لكن تأثير تلك الحروب السياسية والكلامية والفقهية ألقى بظلاله على عملية التدوين، حيث كانت كل فرقة تطلب النص الذي يؤيد موقفها ضد الآخر، فتضخمت بذلك نصوص السنة تضخماً رهيباً كان للسلطة فيه الدور الأكبر، وكان وراء عملية التضخيم هذه مجموعة من الرواة العوام الذين لم يتمرسوا الفقه ومبادئه قاموا بجمع الروايات وحشوها في مصنفات ضخمة فعرفوا بالحشوية([2])، ونتيجة لافراطهم في جمع وتخييش الروايات تعارف الناس على تسميتهم بـ "أهل الحديث"، ولما في هذا المصطلح من جاذبية في نفوس البسطاء والعوام استطاع هؤلاء استغلال الظروف الموضوعية السياسية والفكرية لتثبيت مناهجهم وترسيخ أفكارهم، واعتبروا أنفسهم الممثل الوحيد للسنة النبوية وأن مخالفيهم أهل بدعة وضلال!.
ولتأكيد قدسية فكر أهل الحديث بين عوام الامة صوّر هؤلاء لأتباعهم أن السنة أفضل من القرآن الكريم، لأن القرآن في نظرهم محتاج للسنة، والسنة مستقلة غير محتاجة للقرآن الكريم، فقد قال البربهاري: "إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن"([3]). مع أن هذه الدعوى ينقضها العقل والنقل فحجية السنة كما قال الإمام الشاطبي تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم([4] فالكتاب مقطوع بثبوته إجمالاً وتفصيلاً لوصوله إلينا بالتواتر، ولم تختلف الأمة بجميع طوائفها عليه، بينما السنة مقطوع بثبوتها إجمالاً، ولكنها مظنونة الثبوت تفصيلاً لأن معظم الروايات أحادية، والآحاد ظني الثبوت([5]). كما أن حجية السنة تنبع أساساً من أمر الله لرسوله r بتبيين أحكام القرآن للناس {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل: 44، ولا يمكن أن يكون الشرح أفضل من المشروح، لأنه لو عُدم الشرح لم يتأثر المشروح بينما لو عُدم المشروح لم يكن للشرح فائدة([6]).
إذا السنّة في جوهرها هي شرح لمجمل القرآن، بمعنى آخر هي الجزئيات العملية للأحكام المجملة في كتاب الله العزيز والتي أُمرَ الرسول r بتوضيحها للأمه، وهذه السنّة العملية اتفقت الأمة على الكثير منها، وهو ما تناقلته بالتواتر كعدد ركعات الصلاة، وقيمة الزكاة، وشعائر الحج كالوقوف في عرفة، ثم المبيت في مزدلفة، ورمي الجمرات، والرجم والاختتان وغيرها. أما أطنان الروايات الآحادية التي يفرضها علينا أهل الحديث على أنها السنة المقصودة بالحجية والاتّباع، فلا يمكن قبولها إلا وفق نظام صارم من التحقيق والتدقيق، ينبع من الرغبة في تنزيه الشريعة من الدخيل عليها.
وهذه النتجية نفسها يلخصها عبد الله بن محمد بن بركة (ت 362هـ) بقوله: "والسنة على ضربين: فسنة قد اجتمع عليها، وقد استغني بالإجماع عن طلب صحتها، وسنة مختلف فيها، ولم يبلغ الكل علمها، وهي التي يقع التنازع بين الناس في صحتها. فلذلك تجب الأسانيد والبحث عن صحتها ثم التنازع في تأويلها إذا صحت بنقلها، فإذا اختلفوا في حكمها كان مرجعهم إلى الكتاب"([7]).

موقف الرسول r والصحابة من الروايات الآحادية:
لو كانت كل تلك الأطنان من الروايات الآحادية التي كدّسها لنا أهل الحديث تمثل جوهر الإسلام –كما هوالحال مع القرآن الكريم والسنة العملية- لجعل لها رسول الله r كتّاباً يدونونها، ووضع لها طريقة مناسبة للجمع كما هو الحال مع عملية تدوين القرآن الكريم وجمعه، ولو كانت كل تلك الروايات الآحادية من بين الأشياء التي يجب عليه تبليغها لاجتهد r في حفظها، ولحدّد لها المنهج المناسب في عملية النقل والتبليغ حتى لا يسمح للروايات الموضوعة والضعيفة بالولوج إليها، وهذه الضوابط التي يفترض بالرسول r أن يفعلها ناتجة من أمر الله تعالى له بتبليغ الأمة أولها وآخرها بالأحكام التفصيلية للدين الإسلامي، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} المائدة67.
بيد أن الحقيقة التاريخية تؤكد عكس ذلك تماماً، فقد استفاضت الأخبار عن منع الرسول r من كتابة بعض الروايات([8])، وجاء عنه r أنه قال: "لا تكتبوا عني سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"([9])، وجاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "جهدنا بالنبي r أن يأذن لنا في الكتاب فأبى"([10])، وعنه أيضاً أنه قال: "ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن"([11])، وقال أبو هريرة: "خرج علينا رسول الله r ونحن نكتب الأحاديث، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله أتدرون. ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى"([12]).
واستمر هذا الموقف المعارض من تدوين الروايات والأخبار إلى عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فقد رُويَ عن أبي بكر الصديق أنه جمع الناس فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله r أحاديث تختلفون فيها، والناس من بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه"([13]). أما عمر بن الخطاب فقد جاء أنه طفق يستخير الله شهراً، ثم قال: "إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً"([14])، ثم كتب في الأمصار "من كان عنده شيء من الروايات فليمحه"([15])، وروى عنه أنه أحرق مجموعة من الروايات وقال: "مثناة كمثناة أهل الكتاب"([16]). وكان من شدة احتياطه في منع كتابة الروايات الآحادية يخرج مع رسله إلى الآفاق ويسير معهم في الطريق ليقول لهم: "إنكم تاتون بلدة لأهلها دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله r وأنا شريككم"([17]). بل قد وصل به الاحتياط في منع الحديث إلى درجة حبس مجموعة من كبار الصحابة لإكثارهم من التحديث فقد روي أنه بعث إلى عبدالله بن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري، فقال لهم: "ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله r؟"، فحبسهم! بالمدينة حتى استشهد([18]).
وروي عن عبدالله بن مسعود أنه أحرق صحيفة بها بعض الأحاديث ثم قال: "اذكر الله رجلاً يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون"([19])، وأراد معاوية أن يكتب حديثاً فنهاه زيد بن ثابت قائلاً: "إن رسول الله r أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه"([20]).
وتعلل أهل الحديث بأن هذا المنع منسوخ بما رووه من أن رجلاً من أهل اليمن قال: "اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله r: اكتبوا لأبي شاه. فقلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله r "([21]).
بيد أن هذا الإحتجاج ينقضه سياق الرواية نفسها ، فكما هو واضح من الرواية أن الرسول r إنما سمح للرجل بكتابة خطبة الوداع لأنها تمثل مجموعة من أحكام الشرع التفصيلية "السنة العملية"، وقد سمعها عشرات الآلاف من الصحابة، وكتبت في حضور الرسول r وتحت إشرافه، وموضع الخطبة شائع، وحضره جمع غفير فيستحيل تحريف حرف منه، فهي بذلك تجري مجرى السنة المتواترة التي أطبقت عليها الأمة، ومنع الرسول r كان للروايات الآحادية، ونفس هذا التحليل يجري على أحكام الصدقات والديات والفرائض التي كتبت في حديث عمر بن حزم، ولو كان هذا إذناً بكتابة الروايات الآحادية لما ثبت عن الصحابة منع كتابة مثل تلك الروايات، ولما استدل أبى سعيد الخدري بالمنع بعد وفاة الرسول r، ولما منع زيد بن ثابت معاوية من الكتابة.
وقال أهل الحديث للإجابة عن منع النبي r وصحابته للرواية بقولهم إن المنع كان ضرورياً في بداية الأمر لكي لا يختلط الحديث بالقرآن!، وهذا احتجاج واهٍ لأن العرب معروفون بالفصاحة وشدة الحفظ فلا يمكن أن يختلط عليهم القرآن بغيره، خاصة وأن القرآن معجز في ألفاظه وتركيبه، ولا يمكن أن يختلط به غيره([22]).
والظاهر أن المنع من الرواية كان القصد منه عدم الخلط بين الجانب التشريعي للسنة الذي تواتر عملياً عند الأمة، وبين الجانب البشري أو التشريعي غير الملزم كاجتهادت النبي r في القضايا اليومية ذات الصبغة المحلية المأطرة في حدود الزمان والمكان، خاصة وأنها حوادث لم يشهدها إلا فرد أو أفراد قليلون من الصحابة وهم غير معصومين من الخطأ والنسيان والرواية بالمعنى مع اختلاف ملكاتهم العقلية، بالإضافة إلى أن النبي r أراد الإبقاء على دائرة الإلزام في أضيق الحدود، وأراد الإبقاء على دائرة الإباحة واسعة كما قررها منهج القرآن الكريم، بينما ستحمل الروايات الآحادية مضامين إلزامية مع مرور الزمن لاختلاطها بالتشريع الملزم.

الانفلات الروائي:
إن القراءة السابقة لعملية التدوين الأولى للروايات والموقف منها نستخلص منه أن عملية تدوين الروايات الآحادية لاقت سداً منيعاً من الرسول r وصاحبيه أبي بكر وعمر، فماذا حدث بعد ذلك؟
في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ومع بداية تفجر الفتنة بين الصحابة وما تبعها من اغتيال الخليفة، حدث انفلات روائي رهيب أذكى جذوته انبهار الصحابة بما يرويه كعب الأخبار وغيره ممن طالع كتب أهل الكتاب، وكان للعوامل السياسية المتفجرة دورها في إذكاء نار الانفلات الروائي، فقد كانت هناك مراجعات كثيرة بين الخليفة ومنتقديه، واحتاج الأمر إلى التذكير بسيرة الرسول r وسيرة الشيخين من بعده([23]).
بعكس عمر بن الخطاب الذي حظر على كعب الأحبار الرواية والتحديث، كان عثمان بن عفان يستمع لروايات كعب الأحبار ويستشيره في أمور الأمة، وقد أورد الذهبي في ترجمة أبي ذر الغفاري في "سير أعلام النبلاء" أكثر من رواية تؤكد على ثورة أبي ذر ضد آراء كعب الأحبار في مجلس الخليفة عثمان، ومنها أن أبا ذر دخل على عثمان وعنده كعب فأقبل عثمان على كعب، فقال: "يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن جمع هذا المال، فكان يتصدق منه ويصل الرحم؟ قال كعب: إني لأرجو له. فغضب –أي أبو ذر- ورفع عليه العصا"([24]).
ورُوي أن معاوية بن أبي سفيان اتهم كعباً بالكذب([25])، ولا يبعد أن يكون ذلك في عهد عثمان لأن كعباً انتقل إلى الشام التي كان معاوية والياً عليها([26] ولم يكن كعب ليحدّث بغرائبه في عهد عمر. وأبو هريرة نفسه يؤكد حقيقة بدء الرواية في عهد ما بعد عمر بن الخطاب حيث يقول: "لو كنت أحدّث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته"([27])، ويقول أيضاً: "إني لأحدّث أحاديث لو كنت تكلمت بها في زمن عمر لشج رأسي"([28]).
وبعد اغتيال الخليفة عثمان بن عفان فشا التحديث في جماعة معاوية إلى درجة أن علي بن أبي طالب اتهمهم بإفساد سنة رسول الله r، فقد قال عنهم في صفين: "قاتلهم الله أي عصابة بيضاء سودوا، وأي حديث من حديث رسول الله r أفسدوا"([29]).
وحقيقة انتشار التحديث في حزب معاوية وشيعته يؤكدها ما ثبت عن معاوية أنه أراد أن يكتب حديثاً فنهاه زيد بن ثابت قائلاً: "إن رسول الله r أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه"([30]).
وقد وصل إفساد الأمويين في الحديث إلى درجة كبيرة دفعت ببعض الصحابة إلى الإعلان عن التوقف عن الرواية، فقد جاء عن عبدالله بن عباس–حزب علي- أنه قال: "إنا كنا نحدث عن رسول الله r إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه"([31]).
وقد بيّنا في مقدمة الكتاب دور السلطة الأموية في تشجيع رواية أحاديث التجسيم والإرجاء. يقول ابن عبد البر: "قال عبدالرحمن بن مهدي وقد سئل أي الحديث أصح قال: حديث أهل الحجاز قيل له ثم من؟ قال: حديث أهل البصرة. قيل ثم من؟ قال: حديث أهل الكوفة، قالوا: فالشام؟ قال: فنفض يده"([32]).
ويشير البعض إلى أن أبا هريرة وهو أكثر الناس رواية عن الرسول r حيث روى (5374) حديثاً([33]) كان من شيعة معاوية، حيث كان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة([34]). يقول سعيد بن المسيِّب: "كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية سكت، فإذا أمسك عنه تكلم"([35]).

أبو هريرة والإنفلات الروائي:
يقول أبو هريرة "ما أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً مني عنه، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه يكتب وكنت لا أكتب"([36]).
بيد أن عبدالله بن عمرو بن العاص -وهو من شيعة معاوية أيضاً- قد روى (671) حديثاً فقط، وهي التي جمعها له أحمد بن حنبل في مسنده، وربما لو حذفنا المكرر منها لنقص العدد إلى حدّ كبير، لكنه روى عن أهل الكتاب، وأدمن النظر في كتبهم، واعتنى بذلك([37])، وأصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما!([38]).
أما أبو هريرة فقد كان يحدّث عن كعب الأحبار حتى قال عنه كعب "ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة"([39])، وكان أبو هريرة يكثر من الرواية عن كعب الأحبار إلى درجة أن الرواة كانوا يخلطون بين روايات كعب وروايات الرسول r، فقد قال بسر بن سعيد: "اتقوا الله، وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله r ويحدثنا عن كعب ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله r "([40])، بينما نسبه آخرون إلى التدليس والخلط بين روايات كعب الأحبار وروايات الرسول r!، فقد روي عن شعبة أنه قال: "أبو هريرة كان يدلس، أي يروي ما يسمعه من كعب وما سمعه من رسول الله r، ولا يميز هذا من هذا"([41]).
ويفسر البعض متابعة أبي هريرة لكعب الأحبار بأنه كان منبهراً بما عند كعب من عجائب الأخبار، ونودار الأساطير التلمودية، ويؤكد أبو هريرة نفسه على هذا الإجتهاد في طلب العلم من كعب الأحبار حيث يقول: "خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله r "([42]).
بيد أن هذا الثنائي الروائي "كعب وأبي هريرة" كان محل متابعة ومراقبة من قبل كثير من الصحابة، حتى وصل الأمر بعمر بن الخطاب أن هددهما بالطرد من المدينة، فقد قال عمر لأبي هريرة: "لتتركن الحديث عن رسول الله r أو لألحقنك بأرض دوس! وقال لكعب: لتتركن الحديث، أو لألحقنك بأرض القردة"([43]).
ومن المستحيل أن يروي أبو هريرة كل تلك الروايات عن الرسول r وحده، وذلك لأسباب بدهية أهمها: أنه أسلم متأخراً في عام خيبر في السنة السابعة للهجرة، أي أنه لم يعاصر الرسول r إلا أربعة سنوات فقط –وربما أقل لأنه ابتعث إلى البحرين- ، بينما عاشره بقية المهاجرين ثلاثاً وعشرين عاماً، كما أنه دخل الإسلام وهو كبيرٌ السن، فقد كان يبلغ من العمر أكثر من ثلاثين عاماً، ومعلوم أن ملكة الحفظ في هذا السن تكون قد وهنت وضعفت مقارنة مع حفظ صغار السن كما هو الحال مع عبدالله بن عباس وعلي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين.
لقد كان أبو هريرة في واقع الأمر لا يحدث عن الرسول r فقط، بل كان يحدّث عن الصحابة ما سمعوه عن النبي r، فقد روى روايات مسندة عن أحداث وقعت قبل دخوله الإسلام، حيث روى أن الرسول r قال لعمّه: "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة"([44])، وأن الرسول r قال لقومه حين أنزل الله تعالى عليه قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}الشعراء: 214 "يا معشر قريش لا أغني عنكم من الله شيئاً"([45])، بدون ذكر الواسطة الذي أبلغه بتلك الأحداث، مما حدا بشعبة إلى اتهامه بالتدليس([46])، وقال شعبة: "حدّث أبو هريرة، فردّ عليه سعد حديثاً، فوقع بينهما كلام، حتى ارتجت الأبواب بينهما"([47]).
يقول السرخسي: "واشتهر عن بعض الصحابة ومن بعدهم بمعارضة روايته بالقياس، فابن عباس عندما سمعه يروي "توضئوا مما مسته النار"([48])، قال: "أرأيت لو توضأت بماء سخن أكنت تتوضأ منه؟ أرأيت لو ادهن أهلك بدهن فادهنت به شاربك أكنت تتوضأ منه؟"... ولما سمعه يروي "من حمل جنازة فليتوضأ"([49])، "قال: "أيلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة؟" ... ولما سمعت عائشة أم المؤمنين أن أبا هريرة يروي أن ولد الزنا شر الثلاثة. قالت: "كيف يصح هذا وقد قال الله تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164؟ ... وروي أن عائشة قالت لابن أخيها ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل ورسول الله r حدث بأحاديث لو عدها عاد لأحصاها([50])!، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون"([51]).
والعجيب أن تجد روايات مرفوعة إلى الرسول r من طريق أبي هريرة تصف الذي يحدث بكل ما يسمع أنه "كذّاب" حيث جاء فيها: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"([52])، ومع ذلك ترى روايات أبي هريرة من الغزارة والكثرة بحيث صارت كالسيل الهادر باعتراف أبي هريرة نفسه!، فقد قال مجيباً على تساؤل الصحابة حول كثرة روايته: "لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته"([53])، وقال مقراً باستغراب الناس من كثرة روايته: "إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله r وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله r بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله r على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، واحفظ إذا نسوا ... وقد قال رسول الله r في حديث يحدثه: "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول" فبسطت نمرة عليّ حتى إذا قضى رسول الله r مقالته جمعتها إلى صدري فما نسيت مقالة رسول الله r تلك من شيء"([54])، مما يوحي أن أبا هريرة لم يرو حديث ذم كثرة الرواية وإنما نُسب إليه، أو أنه كان لا يرى أن الرواية عن النبي r تدخل ضمن إطار المنع من التحديث بكل شيء، وأنه لم يدرك أبعاد نهي النبي r والخلفاء من بعده للرواية.
ونحن لا نشكك في صفاء عقيدة أبي هريرة ولا في نقاء سريرته، ولكن رواياته عن أهل الكتاب جرّت بلاءً على الأمة، كما أن الوضاعين اتخذوا أبا هريرة تكئة لتعليب الروايات ونسبتها إلى الرسول r، فكثرة روايات أبي هريرة خاصة في الغرائب والعجائب التي نقلها عن كعب الأحبار، تسهّل على هؤلاء وضع الأحاديث على لسان أبي هريرة ونسبتها إلى الرسول r لدمغها بخاتم العصمة والإلزام.

[1] محمد رشيد رضا "تفسير المنار" ج10ص81.

[2] قال الفراهيدي في "العين" ج1ص388: "الحشو من الناس: من لا يعتد به"اهـ.

[3] حسن البربهاري "شرح السنة" ص89.

[4] الشاطبي "الموافقات" القسم الرابع ص5.

[5] الخطيب البغدادي "الكفاية في علم الرواية" ص18.

[6] الشاطبي "الموافقات" القسم الرابع ص6.

[7] عبد الله بن محمد بن بركة "الجامع" ج1ص280.

[8] نقل شعيب الأرنؤوط في تعليقه على "سير أعلام النبلاء" للذهبي ج3ص81 قول ابن القيم في "تهذيب السنن" 5/245 ما نصه: " قد صح عن النبي r النهي عن الكتابة"اهـ .

[9] الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص33 من طريق أبي سعيد الخدري ورواه مسلم[7510] 72-(3004)، وأحمد 1/171.

[10] الخطيب البغدادي نفس المصدر ص21-33.

[11] أبو داود 3648، وابن أبي شيبة في "المصنف" برقم 2991.

[12] الخطيب البغدادي نفس المصدر ص34.

[13] الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج1ص3.

[14] الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص49.

[15] ابن سعد "الطبقات الكبرى" ج1ص206

[16] ابن سعد "الطبقات الكبرى" ج5ص140

[17] الخطيب البغداي "شرف أصحاب الحديث" ص87.

[18] الخطيب البغدادي "شرف أصحاب الحديث" ص87.

[19] ابن عبد البر "جامع بيان العلم وفضله" ص92.

[20] الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص35، أبو داود3647.

[21] البخاري 2434.

[22] عبد الجواد ياسين "السلطة في الإسلام" ص244.

[23] لمراجعة قضية مناقشات عثمان والصحابة، راجع علي الحجري "الإباضية ومنهجية البحث" ص108-119.

[24] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص67-68.

[25] البخاري 7361

[26] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج3ص490

[27] الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج1ص7، مصنف عبد الرزاق برقم20496.

[28] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص601.

[29] الذهبي "تذكرة الحفاظ" ج1ص12

[30] الخطيب البغدادي "تقييد العلم" ص35.

[31] "صحيح مسلم" المقدمة [19] و [20] و[21]

[32] ابن عبد البر "التمهيد" ج1ص81.

[33] السيوطي "تدريب الرواي" ج2ص675.

[34] صحيح مسلم [5464]48-(2087)

[35] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص615.

[36] البخاري113، ولكن الثابت أن أبا هريرة روى أضعاف أضعاف روايات عبدالله بن عمرو!.

[37] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج3ص81.

[38] ابن كثير في مقدمة تفسيره "تفسير القرآن العظيم" ج1 ص13

[39] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص600.

[40] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص606.

[41] محمد بن محمد أبو شهبة "دفاع عن السنة" ص110.

[42] الربيع بن حبيب "المسند" 279، مالك243.

[43] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص579-632، قال شعيب الأرنؤوط محقق الكتاب معلقاً على رواية تهديد عمر بطرد كعب وأبا هريرة ما نصه: "وهذا إسناد صحيح"اهـ.

[44] مسلم [134]41-(25).

[45] مسلم [501]348-(204)، والبخاري 2753.

[46] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص608.

[47] الذهبي "سير أعلام النبلاء" ج2ص603.

[48] مسلم [788]90-(351).

[49] أحمد 2/454

[50] صحيح مسلم [7509]71-(2493).

[51] أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي "المحرر في أصول الفقه" ج1ص255، وقال السرخسي معلقاً: فلما كان ما اشتهر من السلف في هذا الباب قلنا: ما وافق القياس من روايته فهو معمول به، وما خالف القياس فإن تلقته الأمة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعاً مقدم على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه.

[52] صحيح مسلم 7 و8 و9، وجاء في مقدمة صحيح مسلم [10] عن مالك قوله: "اعلم أنه ليس يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدث بكل ما سمع".

[53] الذهبي "تذكرة الحفاظ" في ترجمة عمر بن الخطاب ج1ص7.

[54] البخاري2047، ومسلم [6397]159-(2492). وحديث ضم ثوب أبي هريرة بالروايات فلم ينس منها شيئاً هو حديث آحادي لا تثبت به معجزة، والواقع يخالفها، فكم من رواية ردها الصحابة لأن ابا هريرة لم يضبطها، وهذه الرواية من جنس الروايات العجيبة التي استنكرها الصحابة على أبي هريرة. وقد روى مسلم نفس هذه الرواية من طريق مالك بن أنس برقم [6398] وقال: "غير أن مالكاً انتهى حديثه عند انقضاء قول أبي هريرة، ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي r: (من يبسط ثوبه) إلى آخره"!.



jHvdo hgv,hdm


الموضوع الأصلي: تأريخ الرواية || الكاتب: عابر الفيافي || المصدر: منتديات نور الاستقامة



توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس

إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرواية , تأريخ


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فتاوى الصلاة للشيخ سعيد بن مبروك القنوبي عابر الفيافي نور الفتاوى الإسلامية 30 08-26-2013 02:24 PM
فتاوى الحج للشيخ سعيد القنوبي عابر الفيافي نور الحج والعمرة 3 06-08-2011 03:08 PM


الساعة الآن 07:24 PM.