من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات


العودة   منتديات نور الاستقامة > الــنـــور الإسلامي > المكتبة الإسلامية الشاملة

المكتبة الإسلامية الشاملة [كتب] [فلاشات] [الدفاع عن الحق] [مقالات] [منشورات]


موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
265  من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي
كُتبَ بتاريخ: [ 11-14-2010 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية عابر الفيافي
 
عابر الفيافي غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363
قوة التقييم : عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز


من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

القليل من المسلمين من يعرف حقيقة الاباضية أو (الأباضية) مذهبا و عقيدة وسلوكا، ذلك لأن كثير من عامة المسلمين لم يسمعوا عن الإباضية قط، أو أنهم سمعوا عن الاباضية معلومات مشوشة أو مقتضبة، أما المثقفين فلا زال كثير منهم ينظرون إلى الإباضية، بنوع من الشك والارتياب فمنهم من يصنفهم ضمن طوائف الخوارج والمتطرفين والمبتدعة، بل أن منهم من يكفرهم ويخرجهم من الملة. وقليل جدا ممن عرف حقيقة الاباضية وأنصفهم، لكن أغلب ممن ينتسب إلى العلم من غير الاباضية لم يعيروا الفكر الإباضي اهتماما جديا لدراسته ليكونوا صورة واضحة عنه ينقلوها إلى عامة المسلمين، وهذا مما يؤسف له في وقت يحتاج فيه المسلمون أن يتحدوا لمقاومة الغزو الفكري الذي يقوده أعداء الإسلام في داخل الأمة الإسلامية وخارجها.
ولاشك أن هناك أسباب وتراكمات تاريخية وسياسية دفعتهم لتكوين تلك الصورة القاتمة عن الاباضية، وإذا كانت هذه الأسباب مقبولة في القديم فإنه لا يعذر أي مثقف في عصر المعلومات من التعرف على [IMG]file:///C:/Users/adnan/Desktop/t1751_files/aliyahya.jpg[/IMG]حقيقة الإباضية من مصادرها الحقيقية . ومهما حاول البعض التعتيم على الفكر الإباضي فإن وسائل الاتصال الحديثة وأهما الانترنت والبريد الالكتروني ستساهم في تكوين فهم صحيح عن الفكر الاباضي.
شعارنا المعرفة والتعارف والاعتراف
يقول الشيخ علي رحمه الله إن المذهبية في الأمة الإسلامية لا تتحطم بالقوة ولا تتحطم بالحجة . ولا تتحطم بالقانون فإن هذه الوسائل لا تزيدها إلا شدة في التعصب وقوة رد الفعل ، وإنما تتحطم المذهبية بالمعرفة والتعارف والاعتراف ، فبالمعرفة يفهم كل واحد ما يتمسك به الآخرون ، ولماذا يتمسكون به . وبالتعارف يشتركون في السلوك والأداء الجماعي للعبادات ، وبالاعتراف يتقبل كل واحد منهم مسلك الآخر يرضى ، ويعطيه مثل الحق الذي يعطيه لنفسه ( اجتهد فأصاب أو اجتهد فأخطأ ) وفي ظل الأخوة والسماح تغيب التحديات ، وتجد القلوب نفسها تحاول أن تصحح عقيدتها وعملها بالأصل الثابت في الكتاب والسنة ، غير خائفة أن يقال عنها تركت مذهبا أو اعتنقت مذهباً . ولن نصل إلى هذه الدرجة حتى يعترف اليوم أتباع جابر وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزيد وجعفر وأحمد وغيرهم ممن يقلدهم الناس أن أئمتهم أيضا يقفون في صعيد واحد لا مزية لأحدهم على الآخرين إلا بمقدار ما قدم من عمل خالص.
ويقول أيضا "إن من يكتب عن فرقة معتمدا على مصادر غيرها يبعد عن الحقيقة ولا يسلم من التجني، أو هو في الحقيقة واقع في الخطأ من أول خطوة وإن ما يجيء على لسانه أو قلمه من الصواب فيها فهو بمحض الصدفة". الإباضية بين الفرق الإسلامية ص 311
الحقيقة التي يجهلها البعض و لا يريد أن يعترف بها آخرون هي أن الإباضية مذهب وفكر إسلامي متميز له قواعده وأصوله وفقهه وعقيدته المستمدة من كتاب الله تعالى وما تواتر وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه الأولون قبل أن ينحرف المسلمون عن دينهم وتختلط عليه الأمور وتدخل عليهم الثقافات الأخرى. وهذا ما توصل إليه كل باحث عن الحق وكل منصف ممن اتصل وعاشر الإباضية عن قرب.
يقول الدكتور عمرو خليفة النامي في مقدمة تحقيقه لكتاب أجوبة ابن خلفون : وَلَعَلَّهُ من الإنصاف أَن نقرر هنا حقيقة هامة . هي أنَّ المذهب رغم تلك الجفوة التي اصطنعتها ظروف السياسة في تاريخ الأمة الإسلامية بينه وبين سائر مذاهب الأمة.. يمثل في واقعه أقرب صورة إلى حقيقة الإسلام الأصيل، في عقائده وفقهه ومسلك أتباعه.
يأتي هذا الموقع للتعريف بحقيقة الإباضية والمذهب الإباضي. ونرجو أن يساهم في رفع العزلة عنه وتضييق الفجوة التاريخية والفكرية بينه وبين الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى.
ومن هذا المنطلق ننصح كل من يريد أن يعرف من هم الإباضية و على حقيقة الفكر الإباضي أن يبدأ بقراءة كتب الشيخ علي يحي معمر - رحمه الله. وأولها كتاب الإباضية بين الفرق الإسلاميةويمكن تحميل الكتاب من هـنا













lk il hghfhqdm -l]og gtil prdrm hgYfhqdm ,hgl`if hghfhqd H]og gtil hghfhqd hghfhqdm hgYfhqdm prdrm ,hgl`if





توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

كُتبَ بتاريخ : [ 11-14-2010 ]
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



تاريـخ و حـضـارة

نشأة الاباضية
في الوقت الذي كان الخوارج المتطرفون يقومون بثوراتهم وحركاتهم ضد الأمويين وولاتهم ويتعرضون من جراء ذلك للقتل والتشريد ويواجهون السخط والاستنكار من قبل السكان، كانت هناك جماعة انبثقت بعد معركة النهروان واتخذت من مدينة البصرة مقرا لها، وآثرت السلم وعدم اللجوء إلى السيف أو العنف لفرض آرائها. وقد تزعم هذه الجماعة أبو بلال مرداس بن أدية التميمي، وكونت هذه الجماعة البذرة التي أنتجت بما عرف فيما بعد في التاريخ الإسلامي بالفرقة الإباضية. وكان زعيم هذه الفرقة - قبل أن تُعرَف بالإباضية - هو
أبو بلال مرداس بن أدية التميمي.
هو مرداس بن حدير ويكنى بأبي بلال. ينتمي إلى قبيلة تميم التي كان يتزعمها الأحنف بن قيس، وقد شهد معركة صفين مع الإمام علي هو وأخوه عروة وفارقه مع أهل النهروان بعد التحكيم وكان من العدد القليل الذين نجوا من القتل في معركة النهرولن. قال عنه ابن الأثير: (كان مرداس عابدا مجتهدا عظيم القدر وكان لا يدين بالاستعراض ويحرم خروج النساء ويقول لا نقاتل إلا من قاتلنا)[1].
ويظهر أنه لم يكن مرتاحا لما حدث من خلاف وفتنة بين المسلمين وصعق لِما حل بأصحابه من قتل وتشريد على أيدي إخوانه المسلمين ورأى أن القتال بين أتباع العقيدة الإسلامية أمر لا يصح, فانسحب مع نفر من أصحابه وأقام بالبصرة تحت حماية الأحنف بن قيس الذي كان يمتاز بحكمته وسداد رأيه، وفي ظل هذه الحماية أخذ أبو بلال ينشر آراءه وأفكاره مؤثرا طريق النقاش والإقناع بدلا من طريق الحرب الذي سلكه الخوارج، فدعا أتباعه ألا يجردوا سلاحا ولا يقاتلوا أحدا إلا إذا تعرضوا للعدوان فأنكر قتل المخالفين واستعراض الناس على طريقة متطرفي الخوارج. وكان مما ساعده في نشر أفكاره هو تسامح زياد بن أبيه والي العراق في ذلك الحين معه ومع جماعته لأنهم لم يحاربوه كما فعل الخوارج. وقد أنكر الخوارج قعود أبي بلال وجماعته عن الثورة ضد ولاة الأمويين فلقبوهم - احتقارا - بالقعدة، أما أهل البصرة فكانوا يسمونهم الحرورية[2]، نسبة إلى حروراء.
نشط أبو بلال في البصرة لنشر دعوته وأفكاره وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه، فانضم إليه عدد كبير من الناس وازداد عددهم حتى بنوا مسجدا خاصا لهم بالبصرة[3]. وبلغ من حسن سيرته أن جميع الفِرق التي خرجت على الدولة الأموية تتولاه بما فيهم الأزارقة والنجدات والشيعة والمعتزلة، ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الفِرق جميعا كانت هي التي تسمى بالمحكمة قبل أن تنقسم.
كان أبو بلال ملازما للإمام جابر بن زيد حتى قيل أنه ما كان يصبر على فراقه فقد كان من تشوقه إليه أنه يخرج من عند جابر بعد العشاء ويأتيه قبل صلاة الصبح فيقول له جابر لقد شَقَقْتَ على نفسك فيرد عليه أبو بلال : والله لقد طال ما همت نفسي بلقاك شوقا إليك حتى أتيتك. وهذا يبين مدى الصلة الفكرية والروحية التي كانت تربط أبا بلال بالإمام جابر ويذكر مؤرخو الإباضية أن أبا بلال كان لا يبرم أمرا إلا بمشورة الإمام جابر.
وعندما تولى عبيد الله بن زياد إمارة العراق سنة 55 للهجرة اتبع سياسة جديدة مختلفة عن سياسة والده تجاه القعدة فاشتد في طلب الخوارج واستعمل القسوة مع كل المعارضين سواء كانوا من القعدة أو من الخوارج ورفض الشفاعة في أي واحد منهم، ورغم كل هذا كان أبو بلال يقول كلمة الحق ولم يخش في الله لومة لائم.
يقول الدرجيني[4]: (ثبت عندنا من طريق صحيح أن أبا بلال رحمه الله كان في المسجد الجامع فسمع زيادا يقول على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء والحاضر بالغائب والصحيح بالسقيم. فقام رحمه الله فقال: قد سمعنا ما قلت ،وإنك تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي وما هكذا ذكر الله إذ يقول (وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)[5].
كان من نتيجة ذلك أن سُجن أبا بلال قبل أن يُقتل أخاه عروة ثم أُطلق سراحه وربما كان سبب ذلك خوفه من إثارة بني تميم التي كان لها آنذاك وزن كبير في البصرة. ولكن هذا العفو لم يشمل أتباعه فاستمر في مطاردتهم وملاحقتهم ولم يفرق بين الرجال والنساء فقد ذكر المؤرخون أنه أتى بامرأة من أصحاب أبي بلال اسمها البلجاء (أو البثجاء) كانت مجتهدة في العبادة وكانت تذكر تجبر ابن زياد وسوء سيرته فقال لها أبو بلال: إن هذا الجبار قد ذكرك فتغيبي. قالت: (أخشى أن يلقى أحد مكروها بسببي. فأخذها ابن زياد فقطع رجليها ويديها ثم رمى بها في السوق)[6].
واستمر ابن زياد في اضطهاد كل مخالفيه سواء كانوا من المحاربين أو من القعدة وكان يبث العيون والجواسيس لتعقبهم وملاحقتهم ثم حبسهم أو قتلهم. وتمشيا مع هذه السياسة اضطر أبو بلال وأصحابه إلى التخفي فكانوا يعقدون اجتماعاتهم سرا للنظر في أمورهم وقد ذكر الدرجيني أنهم كانوا يأتون إلى المجالس متشبهين بالنساء أحيانا ومنتحلين صفة الباعة المتجولين أحيانا أخرى.
كان من نتيجة الاضطهاد الذي مارسه عبيد الله بن زياد ضد المسلمين أثره الكبير في نفس أبي بلال فقرر أن يترك البصرة إلى مكان آخر أملا أن يأمن شر ابن زياد وأن يدعو إلى فكره في مكان آخر فقال لأصحابه: (إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للفضل مفارقين للعدل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا). فخرج من البصرة وهو يقول:
إني وزنت الذي يبقى ليعدله


ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
من كان يرجو بقاء لا نفاد له


فلا يكن حبه الدنيا له شجــنا


تقوى الإله وخوف النار أخرجني



وبيع نفسي بما ليست له ثمنا


سار ومعه أربعون رجلا من أتباعه حتى نزلوا بآسك[7]، وقد أعلن أنه وأصحابه لن يخيفوا أحدا أو يجردوا سيفا ولا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. ولكن ابن زياد لم يرتض هذا العمل من أبي بلال فأرسل إليه جيشا مكونا من أربعة آلاف رجل بقيادة عباد ابن أخضر فقتلهم جميعا وكان ذلك في سنة 61 هجرية. وكان يقول قبل قتله:
ماذا نبالي إذا أرواحنا خرجــــت


ماذا فعـلتم بأجسـادي وأوصـالــي
نرجو الجنان إذا طارت جماجمنا

تحت العجاج كمثل الحنظل البالي
إني امرؤ باعني ربي لموعـــــــده

إذ القلوب هوت من خوف أوجالي[8]

كان لمقتل أبي بلال صدى عميق في نفوس أصحابه وآثار نقمة شديدة ضد ابن زياد فقد كان بسلوكه وعمله واستشهاده المثل الأعلى لأتباعه فرثاه كثير من الشعراء منهم عمران ابن حطان الذي قال فيه[9]:
يا عين ابكي لمرداس ومصرعــه


يا رب مرداس اجعلــني كمرداس
تركتني هائما أبكـي لمرزأتــــي

في منزل موحش من بعد إينـــاس
أنكرتُ بعدك ما قد كنت أعرفه

ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
وقال أيضا:
لقد زاد الحيــاة إلي بغضـــــا

وحبــا للخـــروج أبو بـــــلال

أحاذر أن أموت على فراشــي

وأرجو الموت تحت ذرى العوالي
فمن يك همـه الدنيــا فإنــــي

لها والله رب العـــرش قـــــال

ولو أني علمت بأن حتــــــفي

كحتــف أبي بــلال لم أبـــال


[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ الجزء الثاني ص.517 ذكر أحداث سنة 59 هـ

[2] عوض خليفات: نشأة الحركة الإباضية ص. 65

[3] الأنساب للبلاذري - نقلا عن نشأة الحركة الإباضية لعوض خليفات

[4] [4] الدرجيني: طبقات المشايخ بالمغرب الجزء الثاني ص. 215
[5] سورة النجم آية

[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ الجزء الثاني ص.517 ذكر أحداث سنة 59 هـ

[7] آسك: بلد من نواحي الأهواز

[8] الحارثي: العقود الفضية في أصول الإباضية ص.



علاقة الاباضية بالدولة الأموية
إن نظام الحكم في الإسلام هو الذي جاءت قواعده الأساسية في كتاب الله تعالى وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وطبقه الخلفاء الراشدون بطريقة عملية. وبما أن الخلافة هي أهم مرافق الدولة، وأعظم مظهر للأمة، وأقوى سلطة تشرف على تنفيذ أوامر الله، وتطبيق الكتاب العزيز، فقد جاء الإسلام بنظام الإمامة في رئاسة الدولة الإسلامية، ليقود المسلمين في كل زمان ومكان أفضل أبنائها وأكثرهم كفاءة، وأتمهم في الورع والنزاهة والإخلاص.
فالخلافة بهذا الوصف لا يمكن أن تخضع لنظام وراثي، ولا أن ترتبط بجنس أو قبيلة أو أسرة أو لون، وإنما يجب أن يشترط فيها الكفاية الدينية والخلقية والعملية والعقلية، فإذا تساوت هذه الكفايات في عدد من الأشخاص أمكن أن تجعل الهاشمية أو القرشية أو العروبة من أسباب المفاضلة، أو وسائل الترجيح.
و تنعقد الإمامة في الدولة الإسلامية بطريق واحد لا ثاني له، ألا وهو اختيار أهل الحل والعقد للإمام أو الخليفة، وقبول الإمام أو الخليفة لهذا المنصب. وبهذه الطريقة بويع الخلفاء الراشدون جميعا. لكن الأمويين والعباسيين ومن جاء بعدهم لم يلتزموا بهذا الأصل فتحولت الخلافة الإسلامية منذ أن عهد معاوية بن أبي سفيان إلى ابنه يزيد بالخلافة إلى ملك عضوض وبذلك تحقق قول الرسول صلي الله عليه وسلم في الحديثين الذين رواهما الإمام أحمد في مسنده.
الحديث الأول رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَـتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبت الناس بالتي تليها وأولها انقضاء الحكم وآخرهن الصلاة)[1]، والحديث الثاني رواه حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه إذا شاء الله أن يرفعه ثم يكون ملكا جبريا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة[2]).
ومن خلال تتبع ما حدث بعد معركة صفين ومقتل الإمام علي كرم الله وجهه وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة إلى معاوية وما حدث بعدها من أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، نجد أن عروة الإسلام الأولى -وهي الحكم - قد انتقضت، ومنذ ذلك الحين انتقل الحكم الإسلامي إلى ملك عضوض توارثه بنو أمية ثم بنو العباس ومن جاء بعدهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وبقدر ما يؤكد الحديث الثاني أنه ستكون في آخر الزمان خلافة على منهاج النبوة وهي بشارة لهذه الأمة التي تعاني في هذا العصر من الملك الجبري أو الملك العاض في أماكن عدة من بلاد الإسلام، فإنه يبين بوضوح أنه سيحدث انحراف عن منهاج النبوة مباشرة بعد الخلافة الراشدة. وأول انحراف حدث - كما هو معروف - هو الانحراف في اختيار الخليفة أو الحاكم وهو ما عناه النبي (صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الأول الذي ينص على أن أول ما يُنتقض من عرى الإسلام هو الحكم. وقد بدأ الانحراف في الحكم منذ تحكيم الحكمين بعد معركة صفين، التي راح ضحيتها آلاف من الصحابة والتابعين، وبعدها توارث بنو أمية الخلافة الإسلامية. وقد صاحب هذا الانحراف في اختيار الخليفة، عدم الالتزام بالعدل في الحكم وعدم الحرص على أموال الأمة.
ففي عهد الخلافة الراشدة كان المسلمون يختارون للخلافة أكفأهم لها، وأقدرهم على سياسة الأمة، لكن الأمر تغير بعد ذلك فقد أجمع المؤرخون والفقهاء وعلماء الأمة على أن أمراء وحكام الأمويين أو العباسيين قد تولوا الحكم عن غير مشورة من المسلمين، وفرضوا أنفسهم على الأمة، عدا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كما أن أكثرهم قد عاث فسادا في بيت مال المسلمين، فبدلا من إنفاقه في مصالح المسلمين ووضعه حيث أمر الله، أنفقوه على شهواتهم وأهوائهم, وعلى الشعراء - الذين كالوا لهم المديح وعلى أنصارهم من القواد الذين ساعدوهم على تثبيت حكمهم.
يقول أبو الحسن الندوي[3] في كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان "الانحطاط في الحياة الإسلامية" بعد أن تحدث عن المجتمع الإسلامي الأول وعصر الخلفاء الراشدين (ولكن من المؤسف ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يعدوا له عدة, ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية عميقة متينة كما تلقى الأولون وكثيرون في عصرهم وجيلهم, ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية والدنيوية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية وهذا الحكم عام يتمثل في خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فظهر في ذلك ثلمات في ردم الإسلام لم تسد حتى الآن، ووقعت تحريفات في الحياة الإسلامية ووقع فصل بين الدين والسياسة عمليا، فإن هؤلاء لم يكونوا من العلم والدين بمكان يستغنون به عن غيرهم من العلماء أهل الدين فاستبدوا بالحكم و السياسة، واستعانوا - إذا أرادوا واقتضت المصالح - بالفقهاء ورجال الدين, فتحررت السياسة من رقابه الدين, وأصبح رجال الدين والعلم بين معارض للخلافة وخارج عليها, وحائد منعزل اشتغل بخاصة نفسه, ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء مما يرى ويسمع ولا يملك من الأمر شيئا, ومتعاون مع الحكومة لمصلحة دينيّه أو شخصيّه, ولكل ما نوى, وحينئذ انفصل الدين والسياسة، وأصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي, وأصبحت السياسة مطلقة اليد, حرة التصرف, نافذة الكلمة, صاحبة الأمر والنهي, ومن ثم أصبح رجال العلم والدين طبقه متميزة، ورجال الدنيا طبقه متميزة, والشقة بينهما شاسعة, وفي بعض الأحيان بينهما عداء وتنافس. ولم يكن كثير من رجال الحكومة حتى الخلفاء أمثلة كاملة في الدين والأخلاق, بل كان في عدد منهم عروق للجاهلية ونزعاتها, فسرت روحهم ونفسيتهم في الحياة العامة, وأصبحوا أُسوة للناس في أخلاقهم وعوائدهم، وزالت رقابة الدين والأخلاق, وارتفعت الحسبة وفقدت حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلطانها, لأنها لا تستند إلى قوة ولا تحميها حكومة وإنما يقوم بها متطوعون لا قوة لديهم ولا عقاب, فتنفست الجاهلية في بلاد الإسلام ورفعت رأسها وأخلد عدد كبير من الناس إلى الترف والنعيم والملاهي والملاعب وانغمسوا في الملذات والشهوات, ونظرة في كتاب الأغاني وكتاب الحيوان للجاحظ تريك ما كان هنالك من رغبة جامحة إلى اللهو, وتهافت علي الملاهي والملذات[4].
ويقول خالد البيطار في كتابه " الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز " (عندما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز كانت الأوضاع قد وصلت إلى حال لا ترضي أحدا وقد ساءت الأحوال قبيل استلام يزيد بن معاوية واتسعت الهوة بين الخلفاء والعلماء وصار الناس في واد وحكامهم في واد آخر. وقد ازدادت الأحوال سوءا باستلام بعض الولاة أمثال الحجاج لِما جنت أيديهم من ظلم وعسف، وقد وقع الخلفاء بما وقع به الولاة من ظلم وجور, ووقعوا كذلك في البطر والترف فصاروا يجمعون الأموال وينفقونها في غير محلها ويعطون الأعطيات بلا حساب ولا رقيب ولا قانون . كان الشاعر يدخل على الخليفة أو الوالي فيمدحه فيكيل له من المال ويخلع عليه من الأعطيات. وقد اعتمدوا على المظاهر في خلافتهم, وكانوا يأخذون الناس بالشبهة فلا احترام لأحد إلا بقدر ما يؤيدهم في مخالفاتهم أو يكف لسانه عنهم وقد عاملوا أهل البيت ومن يمت إليهم بصلة أو من يؤيدهم أسوأ المعاملة حتى وصل الأمر بهم إلى شتم الإمام علي ولعنه على المنبر وكانوا يتصفون بالقسوة في كل أمورهم بالنسبة لمن يخالفهم، وقد أنفقوا كثيرا من الأموال وأضاعوا الرجال في حروبهم مع الخوارج ومع غيرهم . وقد بذلوا من أجل إبقاء الخلافة في البيت الأموي الكثير من الجهود، واكتسبوا كثيرا من العداوات والمخالفات لأكابر الصحابة والعلماء . كل تلك الأمور جعلت الناس في ضيق بل جعلتهم ينتظرون اليد الحانية المصلحة التي تعيد الحق إلى نصابه وتعيد إليهم أمنهم وراحتهم وتعيد إلى الإسلام وجهه الناصع وإلى المسلمين العدل والحق[5].
وهذه بعض الأمثلة لأعمال الأمويين المخالفة لأحكام الإسلام

· جعل الأمويون لعن الإمام علي سنة على المنابر في المساجد منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ودام هذا حوالي ستين سنة حتى جاء عمر بن عبد العزيز فاستبدله بقول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [6].
· كان يزيد بن معاوية من شاربي الخمر سماعي الغناء والمستهترين بأوامر الله، وكان ممن اتخذ الصيد حرفة واتخذ الفتيان والغلمان والتفكه بالقرود وغيرها من الأعمال التي لا تليق بالخلفاء في الوقت الذي كانت فيه الفتن على أشدها.
· في عهد يزيد بن معاوية قُتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وقُتل معه من أهل بيته ومن أصحابه سبعون رجلا في موقعة كربلاء المعروفة، وفي عهده أيضا في سنة 63 للهجرة خرج أهل المدينة على يزيد لِقلّة دينه فجهز لهم مسلم بن عقبة فخرجوا له بظاهر المدينة فاستبيحت المدينة المنورة مدة ثلاثة أيام وقُتل من أهل المدينة في واقعة الحرة المشهورة من الصحابة والتابعين عدد كبير منهم عبد الله بن حنظلة المشهور بغسيل الملائكة.
· ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء بعضا من أخبار عبد الملك بن مروان منها قول يحيى الغساني أن عبد الملك بن مروان كان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء، فقالت له مرة : (بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلاء بعد المنسك والعبادة. قال: أي والله والدماء قد شربتها). وقال العسكري : (كان عبد الملك أول من غدر في الإسلام[7]، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف). وقال ابن عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال هذا آخر العهد بك[8].
· قال عبد الملك بن مروان في خطبته بالمدينة : (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه)، رغم أنه كان عابدا زاهدا قبل توليه الخلافة وكان معدودا في الفقهاء، إلا أنه قد تغير بعد ذلك. قال السيوطي (لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا توليته للحجاج على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم يهينهم ويذلهم قتلا وضربا وشتما وحبسا لكفى).
· في عهد الوليد بن عبد الملك الذي ورث الخلافة عن أبيه سار سيرة والده حتى أن عمر بن عبد العزيز قال: (امتلأت الأرض - والله - ظلما وجورا). وذلك حين كان الوليد بالشام والحجاج بالعراق وعثمان بن حجارة بالحجاز وقرة بن شريك في مصر.
· كان يزيد بن عبد الملك أخو الوليد صاحب لذّات وطرب، مولع بالغناء، فقد اشتهر بصحبته لحُبابة وسُلامة المغنيتين حتى قيل أنه مات بسبب جزعه على موت حبابة. وقد ذكر السيوطي أنه أقام أربعين يوما يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز ثم عدل عن ذلك.
· عندما كتب السيوطي عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك وصفه بقوله "الخليفة الفاسق" فقال فيه كان فاسقا، شاربا للخمر، منتهكا لحرمات الله، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه، وخرجوا عليه فقُتل. ولما قُتل وقُطع رأسه وجيء به، نظر إليه أخوه سليمان بن يزيد فقال : بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا.
· أما أعمال الحجاج فهي لا تحصى ويكفي أن نذكر أن الحجاج بعث إلى ابن عمر من يضربه بطرف رمح مسموم فمات منها، وختم في عنق أنس ابن مالك ختما يريد بذلك إذلاله.
· أحرق الأمويون البيت الحرام ورموه بالمنجنيق. كل هذا حدث من أجل القضاء على معارضيهم وتثبيت حكمهم. فقد أهرق الأمويون كثيرا من الدماء ظلما وعدوانا. وقد تمثل ذلك في قتلهم لعبد الله بن الزبير والحسين بن علي وحجر بن عدي وأصحابه وضربهم لمكة بالمنجنيق وقتلهم لكثير من الأبرياء وخصوصا في عهدي عبيد الله بن زياد والحجاج. ولقد استطاع الأمويون أن يضفوا على دولتهم صفة شرعية بالقوة والعنف أحيانا، وبالدهاء والحيلة أحيانا أخرى.
· تهاون الأمويون في العمل بسنّة الرسول (صلى الله عليه وسلم )، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد في حديثه عن القراءة في الصلاة قال: (وأما المداومة فيها على قراءة قصار السور دائما فهو فعل مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابث، وقال: (مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله (ص) يقرأ في المغرب بطولى الطولين، قال: وما طولى الطولين؟ قال : الأعراف). قال ابن القيم في زاد المعاد: قال شيخنا (يقصد ابن تيمية) وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة، وأحدثوه فيها كما أحدثوا فيها ترك تمام التكبير، وكما أحدثوا فيها التأخير الشديد، وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه (صلى الله عليه وسلم )، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء (خرج القراء وهم أهل القرآن والصلاح بالعراق على الحجاج لظلمه وتأخيره الصلاة والجمع في الحضر، وكان هذا مذهبا واهيا لبني أمية كما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) : (يكون عليكم أمراء يميتون الصلاة) [9].
هذه بعض النماذج من سلوك أمراء الأمويين، وقد يوجد في هذه الأخبار بعض المبالغات من المؤرخين في وصف تصرفات وسلوك بعض الأمراء، لكنها أيضا لا تخلو من حقائق مهمة أجمع عليها المؤرخون وهي أن الخلافة الإسلامية تولاها من ليس أهلا لها، كما أنهم لم يلتزموا بالإسلام في أنفسهم ولا طبقوا العدل في رعيتهم، فكان من نتيجة ذلك أن نقم الناس على سيرتهم وحكمهم خصوصا أن كثيرا منهم كان من بقية الصحابة ومن أبناء المهاجرين والأنصار الذين ذاقوا حلاوة العدل والشورى في ظل الخلافة الراشدة فلم يرتضوا سيرة ولاة الأمويين المخالفة لمبادئ الإسلام، فمنهم من سكت، ومنهم من أنكر عليهم مخالفتهم للدين واستئثارهم بالرئاسة وهي شورى بين المسلمين، ومنهم من رفع السيف وأخذ يقاتلهم. ولكن الدولة الأموية كانت في شبابها وقد استقر لها الأمر فركزت كل جهدها إلى ضرب خصومها. ومن يدرس تاريخ الدولة الأموية يجد أن فترة حكمها كانت أغلبها فترة حروب مع معارضيها حتى انتهت على أيدي العباسيين. قال الثعالبي: (روت الرواة من غير وجه عن عبد الملك بن عمير الليثي قال: رأيت هنا في هذا القصر - وأشار إلى قصر الإمارة بالكوفة - رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس، ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بين أبي عبيد، ثم رأيت رأس المختار بن يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك، فحدثت بهذا الحديث عبد الملك، فتطير منه وفارق مكانه).
ومن أجل هذه الأعمال وغيرها كثير مما هو مفصل في كتب التاريخ ونتيجة للانحراف بالحكم الإسلامي عن حقيقته فقد عمت النقمة على الأمويين العالم الإسلامي كله ما عدا فئة من المستفيدين بالوضع والمعتزين بالجاه والمنصب.
ولقد اتفق الصحابة والتابعون والعلماء والفقهاء وعامة المسلمين الصادقين على أن الحكم بعد الخلافة الراشدة قد انحرف عن مجراه الطبيعي في النظام الإسلامي باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز، ولكنهم رغم اتفاقهم أن الحكم قد انحرف، فقد اختلفوا في معالجة هذا الانحراف حسب قربهم وبعدهم عن الحكم وفهمهم للإسلام، و حسب تصوراتهم لما حدث وكيف حدث. وباستقراء الحوادث التاريخية يمكننا أن نقسم آراءهم إلى ثلاثة أقسام:
· قسم غير راض فهو ينتقد وينقم، ولكنه في نفس الوقت يقف من الحكم الأموي موقفا مسالما، لا يجهر بالنقمة، ولا يدعو إلى الثورة خوفا من فتنة تضر بالأمة، أكثر مما تصلح، وتشتت أكثر مما تجمع، ولذا فهم يرون وجوب الخضوع للأمر القائم حتى تتبدل الأمور. ويمثل هذا الجانب علماء الحديث الذي استطاعوا أن يتكيفوا مع الوضع القائم وأن يهتموا بجمع الحديث وحفظه.
· وقسم آخر رفع السيف وأخذ يقاتل الأمويين، وقد تطرف بعض منهم حتى أنهم استحلوا دماء المسلمين دون حق، وهؤلاء الذين أطلق عليهم فيما بعد اسم الخوارج. ومنهم الأزارقة والنجدات.
· وقسم ثالث كان ينتقد الانحراف ويطالب بتنفيذ أحكام الله والاستمساك بشريعته دون دعوة تؤدّي إلى فتنة جامحة، فهم يقفون موقف الناقد الصريح الذي لا يسكت عن منكر، ولا يرفع سيفا.
وكانت الإباضية من أوائل الفِرَق التي أنكرت على بنى أمية استئثارهم بالحكم دون غيرهم وتصرفهم في بيت مال المسلمين دون حق، لكنها لم ترفع السيف في وجه أحد، إلا أن الدعاية السياسية في العهد الأموي استطاعت أن تضفي لقب الخارجية على كل من عارضها سواء بالسيف أو اللسان، وحتى بالسكوت، ومنذ ذلك الوقت صنفت الإباضية من طائفة الخوارج.
وانتشرت كلمة الخوارج وتلقفها الناس فنشروها في كتبهم وفي أحاديثهم، وفي المجالس الخاصة والعامة، كما وضعت كثير من الأحاديث في ذم الخوارج. ووجد الكذابون والمشنعون والمستغلون ميدانا فسيحا للافتراء والزيادة فنشروا أباطيل كثيرة عن الخوارج تناقلها الناس كأنها وقائع وأخذها كتاب المقالات كمادة علمية حشوا بها كتبهم دون تحقيق أو تمحيص أو نقد، فأصبحت كأنها حقائق لا يتوجه إليها نقد ولا يرتفع بصددها نقاش[10].

مسند الإمام أحمد بن حنبل، حديث رقم ....[1]

مسند الإمام أحمد، حديث رقم .....[2]

[3]) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، الطبعة الثامنة، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 132-134.

[4]) أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص

[5]) خالد البيطار: عمر بن عبد العزيز

[6]) سورة النحل آية 90

[7]) أخرج العسكري بسنده عن ابن الكلبي قال : كان مروان بن الحكم ولى العهد عمرو بن سعيد بن العاص بعد ابنه عبد الملك، فقتله عبد الملك، وكان قتله أول غدر في الإسلام. نقلا عن تاريخ الخلفاء ص. 216

[8]) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 216

[9]) الحديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي ذر قال: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها) قال : قلت فما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة).

علي يحي معمر ، .....



علاقة الإباضية بالخوارج
مقدمة
لقد أُسيء فهم واستعمال كلمة الخوارج من قبل الكتاب - قديما وحديثا - إذ أخرجها كثير من الكتاب عن معناها الحقيقي، ووصفوا بها أناسا ليسوا بخوارج ونسبوا لهم أعمالا هم منها براء. ولقد تأذى الإباضية كثيرا بهذه الكتابات التي أصبحت ولا تزال مرجعا لكل باحث، والتي سببت في ازدياد الفرقة واتساع الهوة بين الإباضية وغيرهم من الفرق والمذاهب الإسلامية.
وذلك لأن كلمة الخوارج تشمئز منها النفس، وينقبض منها القلب فعندما يسمع المسلم هذه الكلمة يتخيل الخوارج قوما قساة القلوب جفاة الأكباد لا يعرفون إلا السيف، يسلبون وينهبون ويقتلون من أمامهم، شيخا كان أو صبيا، رجلا كان أو امرأة، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم طريقا، فالنتيجة التي يخرج بها المسلم وهو يقرأ أحداث التاريخ أن هذه صفات كل من ينسب إلى الخوارج في كل زمان ومكان. ولذلك لا يرضى مسلم أن يوصف بهذه الصفة.
وكلمة الخوارج شبيهة في هذا العصر بكلمة إرهابي. ففي السنوات الأخيرة فرضت هذه الكلمة نفسها في وسائل الإعلام وأصبحت تطلق على المسلم الملتزم بدينه، كما تطلق على قاطع الطريق وعلى من يخطف طائرة، وعلى المجاهد في سبيل الله وهؤلاء ليسوا سواء . إن الإعلام العالمي يتحدث عن الإرهاب دون تحديد ما هو الإرهاب الحقيقي ولكن بطريقة غامضة ومشوشة، المسلم الصادق يعلم جيدا أن هذه الكلمة يقصد بها محاربة الدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله في كل مكان. وكذلك كلمة الخوارج عندما أُطلقت من قبل الأمويين على أعدائهم، فهي قريبة من هذا المعنى.
فقد اختلف المؤرخون وأصحاب المقالات في تعريف الخوارج فأكثرهم أطلقها على الطائفة التي أنكرت تحكيم الحكمين واعتزلت جيش الإمام علي بن أبي طالب بعد التحكيم، لأنهم في نظر هؤلاء نقضوا بيعة في أعناقهم، وخرجوا عن إمامة مشروعة، وهي الطائفة التي حاربها الإمام علي وقضى عليها في معركة النهروان. وهذه الطائفة سميت في كتب التاريخ بعدة أسماء أخرى منها : أهل النهروان والحرورية والمحكِّمة.
وبعض المؤرخين يطلقون كلمة الخوارج على كل من انتقد أو خرج على الدولة الأموية، وهناك من يجمع بين هؤلاء وأولئك فيقول أن المحكمة الذين خرجوا على الإمام علي هم أصل الخوارج، ومن خرج بعد ذلك على الأمويين فهو أيضا من الخوارج. كما يطلقها بعض من المتكلمين في أصول العقائد والديانات على بعض الفرق وهم يقصدون بها الخروج من الدين، استنادا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أناسا من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)‏.
ومن هذا يتبين أن المؤرخين لم يتفقوا على تعريف معين لكلمة الخوارج كما أنهم لم يحددوا معنى لها فنجد الخلط بين المعنى السياسي لكلمة الخوارج والمعنى الديني لها واضحا في كتب التاريخ والعقائد والفرق والمقالات.
وبما أن الإباضية كانت من إحدى الطوائف التي انتقدت سياسة الأمويين لذلك أطلقت عليهم كلمة الخوارج كما أطلقت على غيرهم رغم التباين الكبير بين فكر الإباضية وبقية الفِرَق التي تكونت في تلك الفترة. لكن المؤرخين اضطربوا في تحديد علاقة الإباضية بالخوارج، فأغلبهم ينسب الإباضية إلى الخوارج على وجه العموم، وبعضهم قال : الإباضية أعدل الخوارج، ومن أنصفهم قليلا قال: (الإباضية أقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة) ، وقليل منهم الذين صرحوا بأن الإباضية ليسوا من الخوارج، وهؤلاء هم الذين أتيحت لهم الفرصة للاتصال بالإباضية أو مطالعة كتبهم. والواقع إن كل من يعرف الإباضية حق المعرفة ليدرك أن الإباضية هم أبعد الناس عن الخوارج قولا وعملا، لكن الحرب الإعلامية التي شنتها السياسة الأموية على معارضيها خلطت بين الحق والباطل فنسبت الإباضية إلى الخوارج. ثم جاء بعدهم من كتب التاريخ فلم يتمكن لندرة المعلومات الصحيحة عن الإباضية أن يعرف حقيقتهم.
وقبل أن نوضح علاقة الإباضية بالخوارج يجب أن نعرف المعنى اللغوي والاصطلاحي للخوارج، وما أنواع الخروج، ومن الذي تنطبق عليه أحاديث الخوارج ، وعندها تتضح حقيقة العلاقة بين الإباضية والخوارج.
أنواع الخروج
المدقق في كلمة " الخوارج" التي استعملها المؤرخون يجد أن لها عدة معان . فبالنظر إلى معناها اللغوي ومعناها الاصطلاحي نجد أن هناك فرقا كبيرا بينهما، فأحيانا تستعمل لتعني الخروج السياسي وأحيانا الخروج الديني (أي الخروج من الإسلام) وأحيانا تعني الاثنين معا أي الخروج السياسي والديني ولا شك أن الحكم الشرعي الذي يترتب على وصف فرقة ما بالخروج يختلف باختلاف دلالة الكلمة. لذلك قبل أن نحكم على الإباضية أو على غيرهم بهذا الحكم يلزم أن نتفق على مدلول كلمة الخوارج أولا.
الخوارج لغة: أصلها من الفعل خرج (عكس دخل) فإذا قلت خرج أحمد فإن المستمع لن يستفيد من هذا إلا إذا تبعته بما يوضح هذا الخروج. فهذا الخروج قد يعني خرج أحمد من بيته ، أو خرج أحمد عن طاعة أبيه، وقد تعني خرج أحمد في سبيل الله أو خرج أحمد عن طاعة السلطان، كما تعني أيضا: خرج أحمد من الإسلام. فهذه المعاني الخمسة للخروج كل منها يختلف عن الآخر، بل إن بعضها متناقض تماما. فالخروج في سبيل الله مناقض للخروج من الإسلام. فإذا أردنا أن نعرف الحكم الشرعي الذي يترتب على هذه المعاني الخمسة للخروج لوجدنا أن خروج أحمد من البيت أمر عادي لا ينبني عليه أي حكم شرعي، أما خروج أحمد عن طاعة أبيه فهو من عقوق الوالدين ورغم أن العقوق من كبائر الذنوب إلا أن تأثيره لا يتجاوز غير نفسه وأسرته. أما من يخرج من الإسلام فينطبق عليه أحكام المرتدين، وأما خروج فرد أو جماعة عن طاعة السلطان فقد يكون بحق أو بغير حق وقد يكون واجبا أو جائزا أو حراما. فإذا كان السلطان ظالما وكان هذا الخروج من أجل الحق فهذا يسمى جهادا في سبيل الله، وإن كان السلطان عادلا كان الخروج باطلا فإن هذا الخروج لا يعني إلا إثارة الفتنة بين الناس وبلبلة المجتمع، وعلى الحاكم المسلم أن يحاول إقناع هذه الفِرَق بالحسنى فإن أبت إلا الاستمرار في خروجها وثورتها وأصرت على محاربة السلطان العادل فإن على الحاكم أو الخليفة أن يحاربها حتى يقضي عليها. ولا شك أن الأمة كلها ستتطوع للقضاء على هذه الفتنة كما حدث عندما قاتل سيدنا أبو بكر الصديق مانعي الزكاة. وهذا الخروج هو الذي يطلق عليه الخروج السياسي والديني. أما إذا لم يلتزم الحاكم المسلم بأصول الحكم من حيث الشورى والعدل والاهتمام بأمور الرعية فإنه من واجب الأمة تقويم الأمور بالحسنى فيجوز أن تقوم جماعة أو أكثر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتغيير المنكر قد يكون بالقلب وقد يكون باللسان وقد يكون باليد. وأسلوب التغيير من الأمور التي تختلف فيها وجهات النظر بين الناس في كل زمان ومكان، فقد تتطور الأمور حتى تصل إلى الحد الذي قد تخرج جماعة أو أكثر عن السلطان القائم, وقد تصحب هذه الفتنة مصالح شخصية ومؤامرات أجنبية وكيد صليبي أو يهودي حاقد. وهذا ما يسمى بالخروج السياسي.
الذي يهمنا مما سبق هو أنواع الخروج الثلاثة الأخيرة وهي: الخروج السياسي والخروج الديني، والخروج السياسي الديني. وإذا بحثنا عن أمثلة لهذه الأنواع الثلاثة في فترة الخلافة الراشدة قبل معركة صفين لأمكننا أن نحددها فيما يلي:
· الخروج السياسي مثل :خروج طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام (رضي الله عنهم جميعا) على الإمام علي كرم الله وجهه ورفضهم بيعته كان خلافا سياسيا أصله اختلاف وجهات النظر في قضية الإمامة. وكذلك خروج معاوية بن أبي سفيان عن طاعة الإمام علي حتى اضطر الإمام على إلى قتاله كان خروجا سياسيا.
· الخروج الديني ومثله كل من دخل في الإسلام ثم أنكر بعض تعاليمه أو رفضها أو تكبر عنها مثل ما فعل جبلة بن الأيهم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
·الخروج السياسي الديني ويتمثل في ارتداد الأعراب عن الإسلام في عهد أبي بكر الصديق الذين امتنعوا عن دفع الزكاة فقاتلهم سيدنا أبو بكر فمنهم من قتل ومنهم من تاب وعاد إلى حظيرة الإسلام.
هذه هي الأنواع الثلاثة للخروج قبل فتنة التحكيم بين المسلمين فإذا اتفقنا عليها وانتقلنا إلى ما بعدها علينا أن نطبق نفس المقاييس على الطوائف والفرق التي تكونت بعد ذلك.
ولقد كانت فتنة التحكيم أكبر فتنة حدثت بين المسلمين والتي كان من نتيجتها أن انقسم فيها المسلمون إلى ثلاثة أقسام : قسم مع الإمام علي وقسم مع معاوية بن أبي سفيان وقسم اعتزل الإمام عليا بعد أن رضي بالتحكيم. وفي كل الأقسام الثلاثة يوجد مجموعة من الصحابة. والمؤرخون وكتّاب المقالات، وضعوا في أذهان الناس أن المحكِّمة الذين قاتلهم الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه في واقعة النهروان عام 38 هـ هم أصل الخوارج، وهو مفهوم خاطئ فإن المحكِّمة قُتلوا في النهروان ولم ينج منهم إلا تسعة كما يقول المؤرخون ثم ثار على الحكم الأموي طوائف كثيرة من الناس جماعات وأفراد. فقد خرج على الأمويين مجموعة التوابين وعبد الله بن الزبير والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهم، وهذا كله حدث في أواخر ولاية عبيد الله بن زياد قبل أن يظهر الخوارج سنة 64 هجرية الذين ينطبق عليهم حديث المروق والذين ينطبق عليهم تعريف الخوارج بمعنييه السياسي والديني، فالذين خرجوا على الدولة الأموية قبل سنة 64 هجرية وكذلك المحكمة الذين قاتلهم الإمام على في معركة النهروان لا ينطبق عليهم إلا معنى الخروج السياسي.
أما الذين خرجوا سنة 64بقيادة نافع بن الأزرق واستحلوا دماء وأموال المسلمين دون وجه حق, وقتلوا الناس في الطرقات دون سبب وحكموا بالكفر على المسلمين فهؤلاء فقط الذين يمكن اعتبارهم خوارج
إن معركة النهروان التي وقعت بين الإمام علي وجزء من جيشه فهي ليست إلا فتنة بين الصحابة مثلها في ذلك معركة صفين ومعركة الجمل. والذين قتلوا في هذه المعركة لا يختلفون عن الذين قتلوا في صفين أو في الجمل أو في غيرها من المعارك التي حدثت بين الصحابة، ويخطئ من يظن أو يعتقد أن الجيش الذي اعتزل الإمام علي وأطلق عليه من بعد اسم "الخوارج" ليس فيه من الصحابة أحد، والواقع والتاريخ يثبت غير ذلك. فإمامهم هو عبد الله بن وهب الراسبي كان صحابيا ،ذكر ذلك ابن حجر في كتابه " الإصابة في تاريخ الصحابة" وذكر الدرجيني في الطبقات أسماء كثير من الصحابة ممن لم يرضوا بالتحكيم وقتلوا في النهروان[2].
نخلص إلى القول بأن معركة النهروان التي نتجت عن التحكيم كانت فتنة عظيمة بين الصحابة كغيرها من الفتن التي سبقتها، ولقد هزت المسلمين هزا عنيفا وتسببت في فرقتهم التي لا يزال المسلمون يعانون منها حتى الآن.
وإذن يجب أن نفرق بين فتنة التحكيم وبين الحركات التي خرجت عن الدولة الأموية فيما بعد. وكل من يدرس تلك الفترة التاريخية دراسة دقيقة سوف يصل إلى هذه الحقيقة. تذكر كتب التاريخ أن أهل النهروان كانوا ستة آلاف رجع منهم إلى معسكر الإمام علي ألفان وبقي أربعة آلاف قاتلهم جيش الإمام علي ولم ينج منهم إلا تسعة. فعلى التعريف الذي اتفق عليه أغلب المؤرخين أن الخوارج هم الطائفة التي خرجت على الإمام علي فهذا يعني أن هذه الحركة التي سميت فيما بعد بالخوارج قد انتهت بنهاية تلك المعركة، إلا أنه من الملاحظ أن كتب التاريخ تذكر أن الحركات الخارجية كانت أشد عنفا في عهد الدولة الأموية. فهل يعقل أن يستطيع هؤلاء التسعة الذين نجوا أن يجندوا الجيوش التي ظل الأمويون يحاربونها مدة تزيد عن سبعين سنة. وهل يعقل أيضا أن يعتزل الإمام علي آلافمن جيشه ولا يوجد فيهم صحابي واحد. وإذا أطلقنا كلمة الخوارج عليهم فهذا ينطبق على من فيهم من الصحابة[3] وهو وصف لا يرضاه مسلم. ومهما يكن من أمر فإن اختلافهم مع الإمام علي في حكم شرعي، ما كان ليخرجهم من الإسلام ولا أن يوصفوا بالمروق من الدين. لقد كانوا يطلقون عليهم المحكِّمة وأهل النهروان والحروريين. ولكن ربط الخروج السياسي بالخروج الديني جاء متأخرا، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن التاريخ قد شوهه الأمويون وأن أكثر المفكرين والكتاب المعاصرين غير قادرين على التصريح بهذه الحقيقة لأنها تخالف ما كتبه الأقدمون.
وإذا كانت الخوارج طائفة من الناس خرجت عن الإمام علي أو عن الدولة الأموية فهذه قضية تاريخية، قد انتهت منذ القرون الأولى، أما إذا كانت الخوارج مبادئ وأفكار تدعو إلى الخروج على الحكم القائم، فان العالم الإسلامي اليوم مليء بالحركات والجماعات التي تعارض أنظمة معينة وبعضها ترفع السلاح وتقتل الأبرياء ومع ذلك لم يوصفوا بالخوارج ولم يحكم بكفرهم أو بخروجهم من الإسلام أحد, وأكثر ما وصفوا به أنهم متأولون خاطئون. فلماذا تطلق كلمة الخوارج على الإباضية دون غيرهم في هذا العصر.
· وإذا سلمنا بتسمية الذين أنكروا التحكيم بالخوارج، فالإباضية كفرقة لم تعرف إلا بعد التحكيم، وإذا أنكر الإباضية التحكيم فيما بعد فهم ليسوا وحدهم الذين أنكروا التحكيم فقد أنكر التحكيم على بن أبي طالب نفسه ولكنه غُلب على أمره[4].
وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ المعروفة كتاريخ الطبري وابن الأثير لوجدنا إشارات كثيرة على مفارقة الإباضية للخوارج منذ منتصف القرن الأول الهجري. ومن يدرس تاريخ الإباضية وأصول عقيدتهم سوف يدرك أن الإباضية لا يمكن أن ينطبق عليهم أحاديث المروق التي تنسب إلى الخوارج . والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما يلي:
· عندما اشتد إيذاء بعض ولاة الأمويين للمسلمين والمعارضين للحكم الأموي أرسل نافع بن الأزرق رسالة إلى عبد الله بن إباض يدعوه فيها للخروج ورد عليه هذا نصها عند الطبري (سم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة والدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلا ونهارا، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال : ( وقاتلوا المشركين كافة) ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال. وقد رد عليه عبد الله بن إباض بما يلي: (قاتله الله، أيّ رأْيٍ رأَى، صدق نافع بن الأزرق لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيا وحكما فيما يشير به وكانت سيرته كسيرة النبي (ص) في المشركين، ولكنه كذب وكذّبنا فيما يقول. إن القوم كفار بالنعم والأحكام وهم براء من الشرك. وما سوى ذلك من أموالهم فهو حرام علينا)[5]. وهذه الرسالة هي بداية مفارقة الإباضية لمن سموا بالخوارج فيما بعد، فنافع ين الأزرق يصف أمراء الأمويين بالشرك ويطلب من عبد الله بن إباض أن يقاتلهم معه بينما كان رد عبد الله بن إباض أنهم براء من الشرك وأنهم كفار بالنعم فقط ولا يجوز قتالهم ولا أخذ أموالهم.
· نجد في بعض الكتب تسمية الإباضية بالقعدة من قبل الخوارج وكان هذا في عهد زياد بن أبيه عندما كان واليا على العراق وكان زعيم الإباضية أبو بلال مرداس بن أدية التميمي فلما أراد بعض الناقمين على الحكم الأموي الثورة على زياد بن أبيه وطلبوا من أبي بلال أن يناصرهم لم يستجب لهم ، فأنكروا قعودهم عن الجهاد ومحاربة الظالمين فلقبوهم - احتقارا - بالقعدة وهذا يدل على رفضهم الإباضية لمبدأ الخروج.
· قامت حروب بين الإباضية وبين بعض طوائف الخوارج ومنها ما حدث بين الجلندى بن مسعود إمام الإباضية في عُمان (130-132هـ) وشيبان الخارجي وهو من الصفرية والتي انتهت بقتل شيبان الخارجي.
· إن عبد الله بن إباض الذي تنسب إليه الإباضية لم يرفع السيف في وجه الدولة الأموية ولكنه اكتفى بنقد سياستهم عن طريق المراسلة. ورسالته التي أرسلها إلى عبد الملك بن مروان مشهورة في كتب التاريخ عند الإباضية لكنه لم يشترك في أي عملية عسكرية ضد الأمويين، بل إنه لما طلب منه بعض الناقمين على الحكم الأموي أن يبايعوه رفض في شدة ثم أشار إلى عمران المساجد بالذكر والصلاة وقال في لهجة احتجاج: أعلى هؤلاء يجوز الخروج؟ أما أبو بلال مرداس فكان ينتقد سياسة الأمويين باللسان ولم يرفع سيفا ومع ذلك لم يسلم من أذى الأمويين حتى اضطر إلى ترك البصرة، ولما سار بجماعته أدركه جنود بني أمية فقتلوه وأصحابه بآسك.
· الإباضية لم يرفعوا السيف في وجه أحد من أهل التوحيد إلا في موقف الدفاع عن أنفسهم فعندما قامت في عُمان دولة باسم الإباضية في عهد أبي العباس السفاح سنة 132 هجرية. لم تبدأ أحدا بحرب، كما لم تحاول أن تتوسع، ولقد هاجمتها عدة مرات قوات العباسيين فردت الاعتداء واستمرت لعدة قرون. وكان لها شرف الدفاع عن الجزيرة العربية ضد الاستعمار الغربي منذ القرن الخامس عشر الميلادي مما سوف نتعرض له في فصل "دور الإباضية في خدمة الإسلام".
· اتجه الإباضية إلى خدمة الإسلام علما وعملا منذ القرن الأول الهجري فجابر بن زيد - إمام الإباضية الأول - كان أول من دون الحديث وأقوال الصحابة فيما عرف بديوان جابر بن زيد, أما الخوارج فقد جنحوا إلى إراقة الدماء ولم يذكر التاريخ أن أحد من الأزارقة أو النجدات أو الصفرية أو غيرهم من الخوارج ألف كتابا أو ترك علما ولم تعرف لهم رواية ولا تدوين. وكتب أهل السنة عندما تذكر مؤلفات الخوارج إنما يقصدون الإباضية. والإباضية يشهد لهم التاريخ أنهم قد اهتموا بالعلم تدوينا ونقلا منذ بدايتهم حتى الآن.
· الإباضية يجيزون التزاوج بينهم وبين بقية المسلمين، أما الخوارج فلا يجيزون ذلك لأنهم يعتقدون أن من سواهم مشركين. ففي كل مكان وجد فيه الإباضية وغيرهم من المسلمين، فإن العلاقات الاجتماعية بينهم مبنية على أحكام الإسلام التي لم يختلف فيها أحد.
مما سبق يتبين أن الإباضية لم يخرجوا على الدولة الأموية أو العباسية لا خروجا سياسيا ولا خروجا دينيا. ولكنهم لم يكونوا راضين عن سياسة الأمويين. ولقد خرج عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عن الدولة الأموية وظل يحاربها قرابة عشرين عاما وحكم جزءا من الحجاز، ومع ذلك لم يُسمَّ خارجيا ولم ينسب إلى الخوارج مما يدل أن الخوارج ككلمة أطلقت فيما بعد من قبل الأمويون على بعض خصومهم.
وبناء على ما تقدم فإنه لا ينسب الإباضية إلى الخوارج إلا من لم يعرف حقيقتهم وفكرهم وكل من عاشر الإباضية يدرك أنهم من أحرص المؤمنين على التقيد بما ثبت في النصوص الشرعية من أحكام المسلمين وهم يعتقدون أن كل من نطق بكلمة الشهادة فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم فلا يستحلون دماء أحد من أهل القبلة إلا بالحق الذي بينته وحددته الشريعة الإسلامية كالردة وقتل النفس وما شابه ذلك. ولا يستحلون مال أحد إلا بالطرق التي رسمتها الشريعة الإسلامية للتعامل بين الناس: فريضة في كتاب الله، هبة عن تراض،بيع عن تراض وما في معناها. أما قتل الأبرياء وسبي الأطفال والنساء فقد حالت دونها كلمة التوحيد، ولا يستحلون هذا حتى من البغاة مهما بالغوا في مسلكهم الظالم. فالاعتبارات التي سمي الخوارج من أجلها خوارج لا وجود لها عند الإباضية مطلقا، بل أن الإباضية أبعد الناس عنها عقيدة وقولا وعملا وجميع كُتّاب المقالات رغم إصرارهم على أن الإباضية من الخوارج يشهدون بذلك ويسجلونه في كتبهم[6].
وقد التزم الإباضية على مدى التاريخ بتعاليم الإسلام لدرجة أنهم وصفوا بالتشدد والاحتياط في كثير من أمور الدين وخصوصا فيما يتعلق بالصلاة والمعاملات ومن يقرأ كتب الفقه الإباضي أو الفتاوى يتبين له ذلك كما أن من عاشر الإباضية وتعامل معهم ليدرك مدي حرصهم على اجتناب الشبهات. وإذا اعتقد بعض الناس أن الإباضية مخطئون في فهم بعض النصوص فهم على أسوأ الاحتمالات متأولون ولا يمكن أن يوصف من يتأول نصا من نصوص القرآن ويفهمه فهما آخر بالخروج من الدين.
إن كلمة الخوارج لا يجب أن تطلق إلا على الذين خرجوا من الدين، ولا يجب أن ترتبط بزمن أو تاريخ معين كما لا يجب أن ترتبط بطائفة أو غيرها، والخروج من الدين لا يكون إلا بإنكار صريح من القرآن أو إنكار أحد أركان الإسلام أو الإيمان، أما الخروج على إمام، والثورة عليه، مهما كانت أسباب الخروج، لا يمكن أن تعتبر خروجا من الدين، ومروقا من الإسلام فلم يعرف التاريخ الإسلامي أن أحدا حكم بالخروج على أئمة شرعيين، كالذين ثاروا على عثمان رضي الله عنه أو الإمام علي كرم الله وجهه، فلماذا إذن يطلق هذا الاسم على الإباضية دون غيرهم.
أرجو أن يكون ما ذكرته كافيا للدلالة على أنه ليس هناك علاقة للإباضية بالخوارج لا من الناحية السياسة ولا من الناحية الدينية، واختم هذا الفصل بما كتبه الشيخ علي يحي معمر حول نسبة الإباضية للخوارج فيقول : (وعلى جميع الاعتبارات، لماذا نحكم على فرقة من المسلمين اليوم موجودة في أي بلد من بلدان الإسلام بأنها من الخوارج مع العلم بأن هذه الفرقة لم تحضر بيعة الإمام علي ولا اشتركت في حروب الجمل وصفين، ولا شاهدت أحداث النهروان فهي في الواقع لم تبايعه ولم تنفصل عنه ولم تحاربه، لأن فاصلا زمنيا طوله ألف وأربعمائة سنة يفصل بينهم، ثم هم في واقعهم لم يخرجوا عن نظام الحكم الذي يجري عليهم ،ولم يقم منهم دعاة لإسقاط الأنظمة الحاكمة، ولم يحاربوا غيرهم من المسلمين ولم يستحلوا دمهم ولا مالهم، ولم يحكموا على مخالفيهم بالكفر، وهم بين كل ذلك يعيشون مع غيرهم من المسلمين كما يعيش الأخ مع أخيه يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويوجبون ما أوجب الله ويحرمون ما حرم الله.
فلماذا تسيطر - على أقلام المؤرخين وكتاب المقالات والفلاسفة والباحثين (من القدماء والمعاصرين) جميعا رغم وضوح الحقائق - تلك الكلمة التي أطلقتها شفة مجهولة قالت إن الإباضية من الخوارج.
لقد انتهت الخارجية بحقها وباطلها عند نهاية الدولة الأموية تقريبا فلماذا يتهم الإباضي في هذا القرن بتحمل أوزار ارتكبت قبل أربعة عشر قرنا إن صح أنها ارتكبت، ثم يقف موقف القاضي في هذه القضية أناس درسوا الشريعة الإسلامية حتى كانوا قدوة، ودرسوا التاريخ حتى كانوا أساتذة، ودرسوا الحقوق حتى اعتز بهم القضاء والمحاماة. وكانت مجالسهم طافحة بالتحرر الفكري والصفاء الذهني والانفلات من قيود التقليد والعصبيات والرواسب، حتى إذا سألتهم عن الإباضية وأصلها وتاريخها وعقيدتها وجدت أن ألسنتهم قد تلجلجت وأقلامهم اضطربت وقد انساقوا مع التيار الخاطئ مكتوفي الأيدي والأذهان مع أقوال السابقين دون تمحيص أو تدقيق.
إن محاربة المؤرخين وكتاب المقالات لهذا العدو الوهمي الذي يطلق عليه لفظ الخوارج أكثر ضراوة من أي حرب أخرى. أي أن الحرب التاريخية المذهبية أعنف وأشد من الحرب السياسية والعسكرية. فقد انتهت المعارك السياسية والعسكرية بانتهاء الدولة الأموية تقريبا بل إن الذين قامت من أجلهم زوبعة الخوارج قد انتهت قصتهم قبل انتهاء النصف الأول من خير القرون، ولكن هجوم المؤرخين وكتاب المقالات لا يزال مستمرا بل أعنف مما يكون في بعض الأحوال. ومن المؤسف أن هذا الهجوم الذي ينطلق بهذا العنف يستند إلى ما قيل - وقع أم لم يقع - قبل ألف سنة ومن السهل على أي قلم اليوم أن يجرد حملة على الخوارج يحملهم بكل سهولة أوزار التاريخ الطويل[7].
وأقول : ما الفائدة التي يجنيها أولئك الذين يتهمون الإباضية في هذا الوقت بالخارجية. إن المسلم الحريص على وحدة الأمة لا يمكن أن تصدر منه هذه الأقوال، ولا نستطيع أن نجد تفسيرا لهذا إلا أن يكون ناتجا عن جهل أو تعصب أو تقليد أعمى، وفي كل الأحوال هؤلاء ليسوا معذورين. ولا يسع المسلم في هذا الوقت إلا أن يشعر بالأسف لتلك الفتاوى التي تخرج من هنا وهناك والتي تصف الإباضية بالخوارج أحيانا وبالكفر أحيانا أخرى. والمدقق في مصادر هذه الفتاوى سيدرك أنها صدرت من أناس لم يعرفوا الإباضية لا من خلال الكتب ولا من خلال الواقع وأن هذه الفتاوى سواء صدرت عن حسن نية أو غيرها لن تزيد الأمة إلا تفرقا والجاهل إلا تعصبا ولن يستفيد منها إلا أعداء الإسلام.
وإذا أراد بعض المعاصرين من الفقهاء والخطباء والكتاب أن يحكموا على سلف الإباضية بالخروج على الدولة الأموية أو العباسية فلهم ذلك - إذا كانت هذه قناعاتهم - وسواء كان ذلك حقا أو باطلا فهو أمر قد مر وانتهى، أما الحكم على الإباضية عموما في كل العصور بالخروج من الدين أو الكفر أو الخلل في العقيدة أو الإفتاء بعدم جواز الصلاة خلفهم فهو أمر خطير، ومن يقول بذلك فهو مسئول أمام الله سبحانه وتعالى على ذلك. كما أنه مسئول أيضا عن تضليل عامة المسلمين الذين يأخذون بهذه الفتاوى وينشرونها في بلاهة وغفلة يناصبون بها إخوانهم الإباضية العداء ويزيدون الأمة تفككا وتفرقا. ويحق لنا أن نسأل هؤلاء لماذا الخوف من الفكر الإباضي أن ينتشر بين المسلمين؟ فإذا كان الفكر الإباضي يستمد أصوله من الإسلام فهو فكر إسلامي يجب على الأمة أن تدرسه وتستفيد منه كما استفادت من غيره، وان كان غير ذلك فإن العقل السليم والفطرة السوية سوف ترفضه ولن يحتاج أن يحارب بمثل الضراوة التي سمعنا وعشنا ورأينا جزءا منها. وإنه لمن المؤسف جدا أن تُمنع كتب الإباضية من دخول بعض بلاد الإسلام في الوقت الذي يسمح فيه للكتب الهدامة والمجلات الخليعة والأفكار المنحرفة من دخولها وتداولها بين شباب المسلمين.
لقاء الإباضية بالخوارج

يلتقي الإباضية مع الخوارج في من الناحية الفكرية في قضيتين اثنتين هما: مفهوم الخلافة ورفض تحكيم الحكمين. وفي ما عدا ذلك فإن الإباضية أبعد الناس عن الخوارج في فهمهم للإسلام وعملهم بأحكامه. وقد بين الشيخ علي يحي معمر في كتابه الإباضية في موكب التاريخ أن اشتراك أفراد أو طوائف في رأي معين لا يعني اشتراك أولئك الأفراد أو تلك الطوائف في جميع الآراء، واتفاقهم عليها.
إن الإباضية والخوارج ينتقدون قبول التحكيم ويرون أن الإمام علي رضي الله عنه مخطئ في قبوله التحكيم لأنه جعل حقه في الخلافة موضع نزاع بينه وبين معاوية، وكما أخطأ في قبوله تحكيم الحكمين فقد أخطأ في قتاله لأهل النهروان. وهذا الرأي ليس مقصورا على الإباضية أو على الخوارج فقط، وإنما كان رأي كثير من الصحابة كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومن التابعين الحسن البصري وغيره. وكل مسلم قرأ أو سمع عن فتنة التحكيم كان يتمنى لو أن رفع المصاحف في معركة صفين لم يقع، وأن التحكيم لم يقبل, وأن الإمام علي لو استمر في قتال أهل الشام لخمدت الفتنة واستقرت له الأمور فيما بعد.
أما قضية الخلافة فأصلها الحديث الذي ورد عن رسول الله (ص) الذي يقول: (الخلافة في قريش) ورأي الإباضية وكذلك الخوارج أن الخلافة الإسلامية لا تنحصر في قبيلة أو عائلة أو طائفة وإنما يتولى أمر المسلمين أكفأ أبنائها وأقدرهم على خدمتهم وتسيير أمورهم. بينما رأى فريق آخر أن الخلافة محصورة في قبيلة قريش. ورغم أن النقاش كان فيها حادا بين العلماء في القرون الأولى إلا أنه بعد ذلك وخصوصا في العصر الحالي بعد أن ضاعت الخلافة الإسلامية لم يعد هناك من يقول إن الخلافة يجب أن تكون في قريش. والعالم الإسلامي اليوم مليء بالحركات الإسلامية التي تنادى بإعادة الخلافة الإسلامية دون اعتبار لأن تكون الخلافة في قريش أو في غيرها. وبذلك يبقى اللقاء الوحيد بين الإباضية والخوارج هو في اتفاقهم على عدم قبول تحكيم الأشخاص في قضية حكم فيها الشرع من قبل. وعلى كل حال فهذه قضية تاريخية قد انتهت كما ذكرنا وكما هم ومعرف. وقد يختلف الناس في تقييمها ومعرفة المخطئ من المصيب ولكن الذي يجب ألا يختلف فيه المسلمون هو أن يتجنبوا مثل تلك الأخطاء أخذا للعبرة من هذه الفترة والاستفادة منها لمستقبل الأمة.
الخوارج في نظر الإباضية
الخوارج قديما هم طوائف من الناس من زمن التابعين رؤوسهم نافع بن الأزرق ونجدة بن عامر، وعبد الله بن الصفار، ومن شايعهم وسموا خوارج لأنهم خرجوا عن الحق، وعن الأمة بالحكم على مرتكب الذنب بالشرك، فاستحلوا ما حرم الله من الدماء والأموال بالمعصية[8]. وحين أخطئوا في التأويل لم يقتصروا على مجرد القول، بل تجاوزوه إلى الفعل، فاستعرضوا النساء والأطفال والشيوخ. وهم باعتقادهم وعملهم قد خرجوا من الإسلام وخرجوا عن الحق فهم الذين يمكن أن ينطبق عليهم الحديث الوارد في المروق من الدين.
يرى الإباضية أنه عند إطلاق لفظة الخوارج لا ينبغي أن ينظر إليها من جانب سياسي سواء كانت هذه الثورة لأسباب شرعية عندهم أو لأسباب غير شرعية لذلك هم لا يطلقون هذه الكلمة على قتلة عثمان ولا على طلحة والزبير وأتباعهما ولا على معاوية وجيشه وإنما يلاحظ عند إطلاقها المعنى الديني الذي يتضمنه حديث المروق في صيغه المختلفة وهم الذين ينكرون الثابت القطعي من أحكام الإسلام وأقرب الفرق إلى ذلك هم ( الأزارقة والصفرية والنجدية) الذين تبرأ الإباضية من أفعالهم.
دور الخوارج في وضع الحديث
ذكر الشيخ مصطفى السباعي في كتابه " السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ما نصه(لم يلعب الخوارج[9] دورا مهما في حركة الوضع لاعتقادهم أن مرتكب الكبيرة كافر ولهذا السبب لا توجد في كتب الموضوعات أدلة على وضع الخوارج للحديث). ونقل عن سليمان بن الأشعث قوله: (ليس من أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج)[10]. ويقول ابن تيمية : (الخوارج مع مروقهم من الدين فهم أصدق الناس حتى قيل إن حديثهم أصح الحديث).
وقد وضع أمراء الأمويين في أذهان الناس أن من أنكر على الأمويين منكرهم وأمرهم بالمعروف، أو شهر سيفا لقتالهم فهو من الخوارج - سواء انطبقت عليهم أم لم تنطبق - ولذلك شمل هذا الحكم الإباضية، ثم وضعت الأحاديث الكثيرة في ذم الخوارج وفعلهم حتى وصفوا بالمروق من الدين. ثم صدر حكم أخر من جهة ما في وقت ما بأنهم أهل البدع والأهواء ولا يجوز أخذ حديثهم (رغم أنهم أصدق الناس وأقربهم من الصحابة) وبذلك عزلوا عن الأمة فكريا وسياسيا، بل حوربوا محاربة شديدة وأصبح كل من يحاول أن يقترب من فكر الخوارج أو من المعتزلة أو الإباضية يشك في دينه وفي فكره. ولقد اجتهد بعض من المفكرين الإسلاميين في مختلف العصور والأزمان الخروج من الدائرة الضيقة للفكر الإسلامي التي حصرها بعض القدماء في أهل السنة والجماعة أو في الفكر السلفي، أو غيره فاتُّهِموا وحوربوا فكريا وأدبيا، ولا تزال تلك الدائرة ضيقة، ولا يزال ذلك الفكر محاصرا.
ورغم اعتراف علماء الحديث بصدق الخوارج (الإباضية) ومع ذلك فم يقبلوا منهم لا حديثا ولا فقها، ففي كتاب"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لا توجد أي إشارة إلى مسند الإمام الربيع الذي روى أحاديثه عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد بل أن المؤلف (رحمه الله) عندما تحدث عن كتابة الحديث في جيل التابعين ذكر أن جابر بن زيد امتنع عن كتابة الحديث كما امتنع بعض التابعين. ولقد ذكرنا فيما سبق أن جابر بن زيد دوّن ما سمعه من الأحاديث وأقوال الصحابة في كتابه المسمّى "ديوان جابر" لكن يبدوا أن الشيخ السباعي رحمه الله كغيره لم يطلع على الإباضية اطلاعا كافيا ولهذا نقل ما وصل إليه عن أسلافه.
خاتمة هذا البحث
ومهما كان تعريف الخوارج أو دلالة كلمة الخوارج فإن الذين أطلقت عليهم هذه الكلمة قد انتهوا منذ القرن الثاني الهجري على أيدي الأمويين، لكن الملاحظ أن كلمة الخوارج بقيت تطلق على الإباضية منذ ذلك التاريخ حتى الوقت الحاضر. وترتب على ذلك عزل الفكر الإباضي عن بقية المسلمين، ولو كانت كلمة الخوارج تعنى الخروج السياسي لما كان لها أي تأثير سلبي على الإباضية إلا أنها عندما رُبطت بالمعنى الديني أصبح كل مَن خرج على السياسة الأموية خارجا من الدين وكل من اعتزل الإمام عليا خارجا من الدين، فإن إطلاق الكلمة بهذا المعنى يترتب عليه حكم شرعي ولذلك فمن الواجب على من يطلق هذه الكلمة على الإباضية بعد انتهاء حركات الخوارج أن يتثبت مما يقول أو يكتب.
وفي الحقيقة أن قضية الخوارج بصفة عامة تحتاج إلى دراسة موضوعية جديدة من قبل الباحثين الذين همهم معرفة الحقيقة، وليس نقل ما كتبه الأقدمون دون تمحيص
للمزيد من المعومات عن الخوارج من وجهة نظر إباضية إقرأ كتاب " الخوارج والحقيقة الغائبة" للشيخ ناصر السابعي ----



نبذة عن الكتاب
يمكن تحميل الكتاب من هنا
قائمة الكتب التي يمكن تحميلها






الدولة الرستمية دولة إسلامية ظلمها التاريخ
بقـلـم : الشيخ مهنا بن راشد بن حمد السعدي
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد سمعنا عن الكثير من الدول الإسلامية التي نشأت وسقطت على مر التاريخ الإسلامي ، كالدولة الأموية العباسية والعثمانية بالمشرق ، والدولة المدارية والإدريسية والفاطمية بالمغرب ، وغيرها من الدول الإسلامية الأخرى التي فصل التاريخ في ذكرها .
وهذه الدول لها إيجابياتها ولها سلبياتها ، وقد قدمت للأمة الإسلامية محاسن ، إلا أنها كذلك لم تخل من المساوئ التي نجدها عند قراءة تاريخها ، وهذه طبيعة البشر القصور عن الكمال .
إلا أن هناك دولا إسلامية قامت ونشأت واستمرت ردحا من الزمن إلى أن سقطت ، وقدمت للأمة الإسلامية الشيء الكثير ، وقد يكون ما قدمته يفوق ما قدمته الدول المشهورة والمعروفة عند الخاصة والعامة .
ومن هذه الدول من سار على نهج الخلافة الراشدة ، وتطبيق مبدأ الشورى ، سواء في انتخاب الحاكم أو في حكم الرعية ،
إلا انه وللأسف الشديد لا نعرف عن هذه الدول الشيء الكثير ، وإذا وصلنا شيء فهو نزر قليل لا يفي للتعرف على جميع جوانب تلك الدولة والظروف التي عايشتها والخدمات الجليلة التي قدمتها للأمة الإسلامية ، وكذلك لا يخلو من التشويه والتحريف .
والتعتيم على هذه الدول من قبل كتاب التاريخ يعود إلى عدة أسباب كالتعصبات المذهبية ، والمصالح السياسية ، والاغراءات المادية وما شابه ذلك من الأسباب التي ليس هذا محل ذكرها .
ومن هذه الدول التي يجهلها الكثير ، دولة إسلامية عريقة نشأت في المغرب في سنة 160هـ ، واستمرت إلى سنة 296هـ ، أي أنها استمرت لمدة 136 سنة (1) .
وقد خدمت هذه الدولة الأمة في الكثير من الجوانب سواء في جانب التأليف ونشر العلم أو في الجانب الاقتصادي والاجتماعي أو في الجانب المعماري ، وحتى في الجانب السياسي .
فما اسم هذه الدولة ؟ ومن أنشأها ؟ وكيف نشأت ؟ وما الذي قدمته للأمة الإسلامية ؟ هذا ما سنحاول أن نتعرف عليه من خلال هذا المقال .
إن هذه الدولة هي الدولة " الرستمية " التي نشأت في المغرب الأوسط ـ الجزائر حاليا ـ على يد الإمام عبد الرحمن بن رستم (2) .
فمن هو الأمام عبد الرحمن بن رستم ؟
هو عبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن كسرى ، ولد في العراق في العقد الأول من القرن الثاني الهجري على أكبر تقدير ، ويرجع في نسبه إلى الأكاسرة ملوك الفرس ، فهم أجداده ، إلا أن بعض المؤرخين يعيدون نسبه إلى اللذارقة ملوك الأندلس قبل الإسلام ، والمهم في هذا أنه سليل بيت الملوك قبل الإسلام ، سواء كانوا من الفرس أم من اللذارقة (3) .
سافر أبوه به وأمه من العراق إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ، إلا أن الأب وافاه أجله ، وترك يتيما وأرمله ، فتزوجت أمه برجل من أهل المغرب ، فأخذه وابنها عبد الرحمن إلى القيروان (4) .
نشأ عبد الرحمن في القيروان ، وصادف هناك نشر الدعوة الإباضية في تلك الربوع فتعلق بها ، ونصحه أحد الدعاة بالسفر إلى المشرق لتلقي المزيد من العلم على يد الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة إمام الإباضية في ذلك الوقت (5) .
توجه إلى البصرة ، وظل مع الإمام أبي عبيدة لمدة خمس سنوات يدرس في سرداب أبي عبيدة ، الذي أعده أبو عبيده تحت الأرض خوفا من عيون الأمويين (6) .
عاد عبد الرحمن مع أصحابه حملة العلم إلى المغرب ، وكان من ضمنهم أول إمام للإباضية بويع في المغرب ، وهو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري اليمني ، وقد ذكرت بعض المصادر ظهور أئمة للإباضية قبل الإمام أبي الخطاب ، كالإمام عبد الحارث الحضرمي ، والإمام أبي الزاجر إسماعيل بن زياد النفوسي (7) .
إلا أن بعض الباحثين يعتبر أن الإمام أبا الخطاب هو أول إمام للإباضية في المغرب ، وذلك أنه استطاع أن يقيم دولة للإباضية في المغرب (8) .
بعد أن وصل حملة العلم إلى المغرب ، هيئوا الأجواء لإقامة دولتهم ، فلما سنحت لهم الفرصة في سنة 140هـ بايعوا أبا الخطاب المعافري بالإمامة ، بأمر من شيخهم أبي عبيدة (9) .
بعد أربع سنوات من قيام دولة أبي الخطاب في الغرب ، وجه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي جيشا بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي ، فاستطاع هذا الأخير القضاء على دولة الإمام أبي الخطاب في معركة عنيفة سنة 144هـ ، أستشهد فيها الإمام أبو الخطاب (10) .
حاول عبد الرحمن نجدة الإمام أبي الخطاب ، لكنه لم يتمكن من ذلك ، فاضطر للفرار من ملاحقة ابن الشعث له ، فتوجه إلى المغرب الأوسط ، حتى وصل إلى جبل يدعى " سوفجج " فتحصن به ، حتى أيس منه ابن الأشعث (11) .
لما أحس عبد الرحمن من نفسه القوة والقدرة على بناء دولته الجديدة ، خاصة بعد أن التف عليه الكثير من أنصاره من البربر ومن أهل العلم والصلاح ممن يثق بهم ، اتجه إلى مكان تكثر في الأشجار والأحراش والسباع يسمى " تيهرت " ، فشرع في بناء دولته الإسلامية الجديدة هناك ما بين 155هـ - 160هـ ، والتي عرفت باسم " الدولة الرستمية " نسبة إلى والد عبد الرحمن ، كما جرت العادة في تسمية الدول الإسلامية في العصور الوسطى بأسماء آباء المؤسسين (12) .
بذل عبد الرحمن ـ وهو لم يبايع بالإمامة ـ جهده مع من معه من العلماء في بناء تيهرت حتى تكون على أجمل هيئة ، حتى أن بعض المصادر العلمية تفصل في بناء المدينة بداية بالمسجد الجامع ، ونهاية بالدور والقصور ، والبيوت والأسوار الحصينة (13) .
فازدهرت تيهرت وبلغت شهرتها الآفاق ، وشدت إليها الرحال للتجارة والسكن والعيش الرغيد الآمن ، مما جعل الكتاب والرحالة يقصدونها ويشيدون بها ومن ذلك ما قاله المقدسي واصفا لها فيقول : " ... هي بلخ المغرب ، قد أحدقت بها النهار ، والتفت بها الأشجار ، وغابت في البساتين ، ونبعت حولها العين ، وجل بها الإقليم ، وانتعش فيه الغريب ، واستطابها اللبيب ، يفضلونها على دمشق وأخطأوا ، وعلى قرطبة وما أظنهم أصابوا ، هو بلد كبير ، كثير الخير رحب ، رقيق طيب ، رشيق الأسواق ، غزير الماء ، جيد الأهل ، قديم الوضع ، محكم الرصف ، عجيب الوصف ... " إهـ (14)
وما أن وصلت سنة 160هـ حتى قام العلماء وأهل تيهرت بمبايعة عبد الرحمن إماما عليهم ، وهو حري بهذا المنصب ، فهو الذي استطاع أن يبني لهم هذه الدولة ، وهو الذي خصه شيخه أبو عبيدة بقوله له : " أفت بما سمعت مني وما لم تسمع " (15) .
وقد تولى الحكم في الدولة الرستمية عدد من الأئمة العدول ، يتم اختيارهم من قبل العلماء والرعية ، فكانت الدولة الرستمية سائرة على نهج الخلافة الراشدة ، وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن الحكم في الدولة الرستمية وراثي بسبب كون جميع من حكم من سلالة الإمام عبد الرحمن ، ولكن الأمر بخلاف ذلك ، وقد تكفل بعض الباحثين بكشف اللبس في هذه القضية كالشيخ علي يحيى معمر في كتابه " الإباضية في موكب التاريخ " 3/30 ، وذكر عدة أدلة تدل على أن نظام الحكم في الدولة الرستمية ليس وراثيا ، وإنما كان يرتسم خطى الخلافة الراشدة بتطبيق مبدأ الشورى ، وتكفل أهل الحل والعقد من العلماء باختيار الإمام الجديد .
وأما عن سبب اختيار أهل الحل والعقد الإمام من أبناء الأمام عبد الرحمن فذلك يعود إلى توفر الصفات والشروط المطلوبة في الإمام من صلاح وتقوى وعلم وحنكة سياسية وغيرها من الصفات ، وقد رد د/ محمد صالح ناصر على من اتهم الدولة الرستمية وأتباعها أنهم طبقوا نظام الوراثة والملك العضود فقال " ... وهذه مغالطة ، لأن كتب التاريخ تشهد أن الرستميين كانوا يطبقون الشورى والانتخاب عند توليت كل إمام ، وما ذنب الرستميين إن كانت الكفاءة والنزاهة والتقوى ترشحهم كل مرة للفوز برضى الأمة التي ارتضتهم " إهـ (16) .
وقد اشتهرت هذه الدولة بنظام الشورى المطبق فيها ، وبعدالة أئمتها ، وصلاحهم وتقواهم وعلمهم ، وبازدهارها ، وقد كان يعيش تحت ظلها أتباع كل المذاهب الإسلامية ، وكانوا يمارسون عبادتهم بكل حرية وأمان ، وكانت لهم مساجدهم وبيوتهم الخاصة التي يعيشون فيها مصانين الحقوق بعدل وإنصاف من غير تفريق بين مذهب ومذهب ، قال ابن الصغير مؤرخ الدولة الرستمية : " ليس أحد ينزل بهم من الغرباء إلا استوطن معهم وابتنى بين أظهرهم ، لما يرى من رخاء البلد وحسن سيرة إمامه وعدله في رعيته ، وأمانه على نفسه وماله ، حتى لا ترى دارا إلا قيل هذه لفلان الكوفي ، وهذه لفلان البصري ، وهذه لفلان القروي ، وهذا مسجد القرويين ، ورحبتهم ، وهذا مسجد البصريين ، وهذا مسجد الكوفيين ... " إهـ (17) .
وابن الصغير هذا نفسه كان شيعيا وقيل مالكي ، ومال د/ محمد صالح و إبراهيم بحاز إلى أنه شيعي المذهب ، وقد كان يعيش في الدولة الرستمية (18) .
وليس هذا فحسب بل كان يعيش في الدولة الرستمية أصحاب الديانات الأخرى كاليهود والنصارى ، وقد كانت للنصارى كنيسة واحدة على الأقل يمارسون فيها عبادتهم ، وكانوا ـ النصارى واليهود ـ يعملون في مهن مهمة كالطب والتجارة داخل الدولة الرستمية (19) .
ولقد اهتم أئمة الدولة الرستمية بالجانب الاقتصادي لدولتهم ، فاهتموا بالزراعة وكانت تكثر فيها البساتين وزراعة الحبوب ، والعصفر والكتان والسمسم ، والنخيل ، ومختلف الفواكه ، والتين والزيتون ، فكانت تدر عليهم أرباحا طائلة ، وقد كانت تكثر فيها الأنهار ، وأقام الرستميون خزانات وأحواض للماء كبيرة اكتشفها الأثريون ، وكانت محكمة التصميم والهندسة ، ليحافظوا على الماء أيام الجفاف ، بل إنهم أوصلوا الماء إلى البيوت عن طريق الأنابيب وشق القنوات (20) .
واهتموا كذلك بالرعي وتربية الماشية ، لكثرة المراعي الخصبة في الدولة الرستمية ، فكانوا يربون الغنم والبقر والجمال والخيول والبغال والحمير ، وكانت تجارتها رائجة ، وتصدر إلى الدول المجاورة ، وكانوا يستغلونها في إنتاج الصوف (21) ، قال ابن حوقل يصف الماشية في تيهرت وأحوازها : " وهي أحد معادن الدواب والماشية والغنم والبغال والبراذين الفراهية ، ويكثر عندهم العسل والسمن " إهـ (22) .
حتى أن بعضهم كان يمتلك مئات الآلاف من الماشية ، التي كانت عمادا لبيت مال المسلمين ، قال الإمام عبد الوهاب : " لولا أنا ومحمد بن جرني ويبيب بن زلغين لخرب بيت مال المسلمين : أنا بالذهب ، ومحمد بن جرني بالحرث ، وابن زلغين بالأنعام " (23) .
وكذلك كان لهم اهتمام كبير بالصناعة ، فكانت توجد في الدولة الرستمية العديد من الصناعات والحرف كالنجارة والحدادة والخياطة والدباغة والطحن ، وصناعة السفن والقوارب ، وصناعة الزجاج والفخار والتحف والعطور ، والخشب المنحوت والمخطوط والمموه والمرصع بالعاج أو الصدف ، وصناعات الذهب والفضة ، حتى أنها كانت تضرب منها الدراهم والدنانير ، فكانت لها عملاتها الخاصة التي كشفت عنها الآثار (24) .
وقد اهتم الرستميون بالتجارة أيما اهتمام ، فأنشئوا الأسواق في مختلف المدن ، فكانت رائجة بشتى أنواع البضائع والمؤن التي تأتي من داخل الدولة الرستمية نفسها أو من الدول الأخرى عن طريق العلاقات التجارية ، حيث أنه كانت للدولة الرستمية علاقات تجارية مع الكثير من الدول كالأندلس ومصر وبلاد السودان وغيرها من الدول في المشرق والمغرب ، فكانت القوافل التجارية تخرج من الدولة الرستمية محملة بشتى أنواع البضائع والمؤن إلى تلك الدولة ، وتعود كذلك محملة بالبضائع التي تنتج في تلك البلاد ، وكانت تجارة الذهب وبيع الرقيق رائجة في ذلك الوقت ، وللدولة الرستمية نشاط كبير فيها ، ووصل النشاط التجار ي في الدولة الرستمية إلى حد أنه كان يوجد بها التخصص في الأسواق ، فكان بها سوق النحاس ، وسوق الأسلحة ، وسوق الصاغة ، وسوق الأقمشة وغيرها من الأسواق (25) .
وقد قام الأئمة الرستميون بإنشاء بيوت للأموال في مدن الدولة الرستمية ، وبيت مال مركزي في العاصمة تيهرت مع دار للزكاة ، وكانت موارد بيوت المال تختلف عن موارد دار الزكاة ، فدار الزكاة مورده هو أموال الزكاة فقط ، وكانت تصرف أموال الزكاة من هذه الدار لمستحقيها الشرعيين الذين حددهم الله تعالى في كتابه في قوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... والله عليم حكيم } التوبة : 6 .
وأما دور الأموال فكانت مصادرها الجزية وخراج الأراضي والضرائب والرسوم التي تؤخذ على القوافل التجارية والتجار والحرفيين ، وكانت أموال هذه الدور تسخر في أجور الموظفين في الدولة ، وفي بناء المساجد والطرقات والأسواق ومصالح المسلمين (26) .
أيضا فإننا نجد أن الرستميين اهتموا بالجانب العلمي والفكري اهتماما كبيرا ، ولا أدل على ذلك أن من الشروط الأساسية في إمام الدولة حتى يتم انتخابه ، أن يكون عالما بأمور الشريعة والسياسة والحكم .
فاهتمت الدولة بإنشاء المؤسسات التعليمية كالكتاب ـ أماكن للتعليم ـ وكذلك إقامة حلق العلم في المساجد سواء في التفسير أو الحديث أو الفقه أو اللغة وغيرها من العلوم ، حتى أن أئمة الدولة الرستمية كانوا يساهمون في التعليم بأنفسهم ولا يأنفون من ذلك أو يتكبرون ، كالإمام عبد الوهاب الذي قضى سبع سنوات يعلم الناس أمور الصلاة في جبل نفوسة ، أو الإمام أفلح الذي دارت عليه أربع حلق للعلم قبل أن يبلغ الحلم (27) .
وكذلك اهتمت الدولة الرستمية بإنشاء المكتبات العلمية الزاخرة بمختلف فنون العلم والآثار ، ومن مكتباتها المشهورة مكتبة " المعصومة " التي كانت تحوي آلافا من المجلدات والكتب ، أوصلها بعض الباحثين إلى ثلاثمائة ألف مجلد ، فكانت تحوي بين رفوفها كتبا في علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وتوحيد ، وكتبا في الطب والرياضيات والهندسة والفلك والتاريخ واللغة وغيرها من العلوم المختلفة ، ولم تكن كتبها مقتصرة على مذهب بعينه بل كانت تجمع مؤلفات لمختلف المذاهب الإسلامية ، ومن المكتبات المشهور الأخرى " خزانة نفوسة " الجامعة لآلاف الكتب ، وكذلك لم تخل منازل العلماء في الدولة الرستمية من وجود المكتبات الخاصة (28) .
وهذه النهضة العلمية لابد وأن يواكبها نهضة في مجال التأليف ، فحازت الدولة الرستمية قصب السبق في ذلك ، فقدم أئمتها وعلماؤها للأمة الكثير من المؤلفات في مختلف فنون العلم سواء الدينية أم الدنيوية ، وكان أئمة الدولة الرستمية في مقدمة الركب في ذلك ، كالأمام عبد الرحمن الذي ألف كتابا في التفسير ، وكتابا جمع فيه خطبه ، والأمام عبد الوهاب الذي ترك لنا كتابا يعرف بـ " مسائل نفوسة الجبل " ، وأما الإمام أفلح فقد ترك لنا الكثير من المؤلفات والرسائل العلمية منها المطبوع ومنها المخطوط ، وأما الإمام أبو اليقظان فكان من المكثرين في التأليف ومن مؤلفاته " رسالة في خلق القرآن " وغيرها من المؤلفات ، هذا بالنسبة لأئمة الدولة الرستمية ، وأما علماؤها فحدث عنهم في مجال التأليف بلا حرج (29) .
كذلك فإن الدولة الرستمية لم تهمل جانب العلوم العقلية كعلم الكلام وغيره ، فكانت تجري بين العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية والتيارات الفكرية المناظرات والمناقشات العلمية بحرية تامة وبلا تضييق ، وذلك أن الدولة الرستمية عاش في كنفها الكثير من اتباع المذاهب الإسلامية كالإباضية والمعتزلة والصفرية والحنفية والمالكية والشيعة وغيرهم ، بل كان هناك وجود لليهود والنصارى كما ذكرنا (30) .
ويحدثنا ابن الصغير عن ذلك فيقول : " من أتى إلى حلق الإباضية من غيرهم ، قربوه وناظروه ألطف مناظرة ، وكذلك من أتى من الإباضية إلى حلق غيرهم كان سبيله كذلك " ، وابن الصغير نفسه كانت له مناظرات مع علماء الدولة الرستمية من الإباضية (31) .
كذلك نجد أن الدولة الرستمية كان لها اهتمام بالأدب العربي من شعر ونثر ، فأما النثر فيظهر ذلك جليا من خطب أئمة الدولة الرستمية ومراسلاتهم ، وأما الشعر فكان لهم نصيب فيه ولكن ليس كالنثر ، ومن شعراء الدولة الرستمية الإمام أفلح بن عبد الوهاب ، ومن قصائده العصماء تلكم القصيدة في فضل العلم التي يقول في مطلعها :
العلم أبقى لأهـل العلم آثـارا :: وليلهم بشموس العلم قد نـارا
يحيى به ذكرهم طول الزمان وقد :: يريك أشخاصهم روحا وأبكارا
حي وإن مات ذو علم وذو ورع :: إن كان في منهج الأبرار ما مارا (32)
ومن شعراء الدولة الرستمية شاعر تيهرت بكر بن حماد الزناتي ، ومن شعره :
قف بالقبـور فنادي الهامدين بهـا :: من أعظم بليت فيها وأجساد
قـوم تقطعت الأسـباب بينهـم :: من الوصال وصاروا تحت أطواد
راحوا جميعا على الأقدام وابتكروا :: فلن يروحوا ولن يغدوا لهم غادي
والله والله لـو ردوا ولو نـطقوا :: إذا لقالوا : التقى من افضل الزاد (33)
وقد كانت للدولة الرستمية علاقات ثقافية مع بلدان المغرب والأندلس ، ومع بلاد السودان وبلدان المشرق العربي ، فكانت بينهم مراسلات ولقاءات (34) .
كذلك فإن الدولة الرستمية تميزت بجمالها المعماري ، فكان بها القصور والبيوت والمساجد والأسواق والفنادق والحمامات يحيط بكل ذلك سور ، وكانت تمر خلالها المياه حتى تصل إلى البيوت ، وقد تفنن الرستميون في بناء دولتهم حتى وصفت بعراق المغرب ، وببلخ المغرب (35) .
وقد أطنب المأرخون والرحالة في وصف جمالها وحسنها ، وقد ذكرنا شيئا مما ذكره المقدسي ، ولنستمع إلى ابن الصغير وهو يصف تيهرت في عهد الإمام افلح فيقول : " ... وشمخ في ملكه ، وابتنى القصور ، واتخذ بابا من حديد ، وبنى الجفان ، وأطعم فيها أيام الجفاف ... وعمرت معه الدنيا ، وكثرت الأموال والمستغلات ، وأتته الرفاق والوفود من كل الأمصار والآفاق بأنواع التجارات ، وتنافس الناس في البنيان ، حتى ابتنى الناس القصور والضياع خارج المدينة ، وأجروا النهار ... " إهـ (36) .
ومن أشهر مدن الدولة الرستمية : مدينة " تيهرت " العاصمة ، ومدينة " وهران " ومدينة " شلف " ومدينة " الغدير " والمدينة " الخضراء " وغيرها من المدن (37) .
وكان للمرأة دور بارز في الدولة الرستمية ، فأنجبت لنا الدولة الرستمية العديد من العالمات والمصلحات ، كأمثال أخت الإمام أفلح ، وأخت الشيخ عمروس ، اللتان تعدان من عالمات الدولة الرستمية ، ولا أدل على بروز المرأة في المجتمع الرستمي وانتنشار العلم بينهن من كلام أحد أفراد الدولة الرستمية واصفا ذلك فيقول : " معاذ الله أن تكون عندنا أمة لا تعلم منزلة يبيت فيها القمر " هذا بالنسبة للإماء فما بالنا بالحرائر (38) .
كذلك فإن أئمة الدولة الرستمية اهتموا بالجانب العسكري للدولة ونشر الأمن والسلام في ربوعها ، فكانت لهم الجيوش الجرارة التي تحمي الدولة من اعتداء الغاشمين ، وكان لهم الوزراء والولاة والقضاة الذين يعينون الإمام في تسيير دفة الحكم والمحافظة على حقوق الشعب ، وكانت لهم الشرطة التي تحافظ على الأمن والنظام في مدن الدولة الرستمية وأسواقها (39) .
وقد ساهمت الدولة الرستمية مساهمة فعالة في نشر الإسلام في إفريقيا السوداء عن طريق ممارسة التجارة مع تلك المناطق التي لم تكن تعرف الإسلام قبل وصول تجار الدولة الرستمية حاملين معهم مشعل الهداية ، ومن أمثال هؤلاء الدعاة التجار الذي أنجبتهم الدولة الرستمية علي بن يخلف النفوسي الذي كان السبب في إسلام ملك مملكة مالي وشعبه (40) .
وقد امتدت حدود الدولة الرستمية في فترة من فتراتها الزاهرة من حدود مصر شرقا إلى مدينة تلمسان في أقاصي المغرب الأوسط غربا (41) .
وبعد هذا العمر المديد وهذه الإنجازات الضخمة التي قدمتها الدولة الرستمية للأمة الإسلامية ، هجم عليها أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين في سنة 296هـ ، فدمرها وعاث فيها فسادا ، وقتل أهلها ، ولم يكتف بذلك ، بل قام بإحراق مكتبة المعصومة بعد أن أخذ منها الكتب الرياضية والصناعية والفنية ، فقضى بذلك على تراث عظيم من تراث الأمة الإسلامية فحسبنا والله ونعم الوكيل (42).
هذه هي الدولة الرستمية الإسلامية ، والتي للأسف الشديد تجاهلها الكثير من المؤرخين والكتاب القدماء أو المحدثين ، وإذا ذكروها لا يذكرونها إلا بقصد التجني عليها ، وتشويهها والتعتيم على الإنجازات العظيمة التي حققتها خدمة للأمة الإسلامية ، وكل هذا يعود إلى الأهواء السياسية ، و التعصبات المذهبية المقيتة التي عادت على هذه الأمة بالشر والوبال ، بالرغم من أن الدولة الرستمية أظلت بظلها مختلف المذاهب الإسلامية بل والديانات الأخرى ، مصانين الحقوق والكرامة .
ومن أمثال هؤلاء المؤرخين الذين ظلموا الدولة الرستمية ، وكان حري بأمثالهم الإنصاف : ابن عبد الحكيم ( تـ : 257هـ ) صاحب كتاب " فتوح مصر والمغرب والأندلس " ، والبلاذري ( تـ : 279 ) صاحب كتاب " فتوح البلدان " ، وحتى ابن خلدون الذي شهد له بالموضوعية لم يسلم من ذلك ( 43) .
فعسى أن تكون هذه الأجيال الإسلامية المباركة في هذا الوقت أن تكون قد أدركت هذه الحقية المرة ، وأدركت أن ما يعانيه المسلمون اليوم من ذل ومهانة وصغار على أيدي أعداء الأمة الإسلامية ، يعود في المقام الأول إلى المسلمين أنفسهم ، بسبب اشتغالهم بالتعصبات المذهبية والتشنيع على إخوانهم من غير مذاهبهم ، مما أدى إلى إيغار الصدور ، وتفتت العلاقات بين المسلمين ، ففتح الباب على مصراعيه أمام أعداء الأمة ليعيثوا في جسدها فسادا ، بعد أن أنهكه أبنائها بصراعاتهم العقيمة ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل الأمر ببعض من ينسبون أنفسهم إلى الإسلام إذا أصيب أحد إخوانهم المسلمين من غير مذهبهم باعتداء سافر غاشم من قبل أعداء الإسلام ، يفرحون لذلك ويسرون ، والله المستعان ، فهل من صحوة من هذا السبات ، وهل من عودة إلى قوله تعالى : { إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } الأنبياء : 92 .

الهوامش :
1- إبراهيم بحاز ، الدولة الرستمية ، جمعية التراث – القرارة – الجزائر ، ط2 : 1414هـ / 1993م ، ص110 .
2- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، مكتبة الاستقامة – مسقط – سلطنة عمان ، 1418هـ / 1997م ، ص155 .
3- بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، ج2 ، دار الغرب الإسلامي – بيروت – لبنان ، ط2 : 1421هـ / 2000م ، ص246 رقم الترجمة : 544 .
4- بحاز وآخرون ، المصدر السابق ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
5- بحاز وآخرون ، المصدر السابق ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
6- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، مطابع دار الشعب – الأردن – عمَان ، 1978م ، ص108 ، ص137 ـ د/ محمد صالح ناصر ،منهج الدعوة عند الإباضية ، ص119 ، 149 .
7- أحمد بن سعيد الشماخي ، كتاب السير ، ج1 ، وزارة التراث القومي والثقافة – سلطنة عمان ، ص114 ـ علي يحيى معمر ، الإباضية في موكب التاريخ ، ج3 ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع – مسقط – سلطنة عمان ، ط2 : 1993م ، ص32 ـ عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص139 ، 142 .
8- لقاء مع الشيخ أحمد بن سعود السيابي .
9- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص148 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص150 .
10- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص152 - 153 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص152 .
11- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص166 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص153 .
12- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص167 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص153 ـ بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
13- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص154 .
14- المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان ، 1408هـ / 1987م ، ص228 .
15- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص168 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص154 ـ بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
16- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص215 .
17- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ت : د/ محمد صالح ناصر و إبراهيم بحاز ، دار الغرب الإسلامي – بيروت – لبنان ، 1406هـ / 1986م ، ص36 .
18- ابن الصغير ، المصدر السابق ، ص13.
19- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص176 ، 373 .
20- بحاز ، المصدر السابق ، ص142 ـ 158 .
21- بحاز ، المصدر السابق ، ص158 – 163 .
22- أبو القاسم ابن حوقل النصيبي ، صورة الأرض ، ط2 ، مطبعة بريل ، ليدن ، 1938م ، ص86 نقلا عن : بحاز ، الدولة الرستمية ، ص159 .
23- الشماخي ، السير ، 2/177 .
24- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص140 ، ص 164- 174، ص181 .
25- بحاز ، المصدر السابق ، ص175- 179 ـ محمد علي دبوز ، تاريخ المغرب الكبير ، ج3 ، دار إحياء الكتب العربية ، ط1 1383هـ / 1963م ، ص283 .
26- بحاز ، المصدر السابق ، ص237- 245 .
27- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص281 ـ بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/61 ، رقم الترجمة : 116 .
28- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص288- 290 .
29- بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/61 ، رقم الترجمة : 116 ، 2/248 ، رقم الترجمة : 544 ، 2/283 ، رقم الترجمة : 609 ، 2/359 ، رقم الترجمة : 784 ـ بحاز ، الدولة الرستمية ، ص298- 329 .
30- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص329 - 342 .
31- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص117 ، 118 .
32- سليمان بن عبدالله الباروني ، كتاب الأزهار الرياضية ، ج2 ، دار أبو سلام للطباعة والنشر – شارع فرنسا - تونس ، ط1 : 1986 ، ص190 ـ بحاز ، الدولة الرستمية ، ص355- 367 .
33- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/73 ـ بحاز ، الدولة الرستمية ، ص364 .
34- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص382- 398 .
35- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/8 .
36- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص61 .
37- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/45- 66 .
38- الشماخي ، السير ، 2/195 ـ الدولة الرستمية ، ص377- 381 .
39- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/164 ، 219 ـ ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص45 ، 62 ، 63 .
40- د/ محمد صالح ناصر ، دور الإباضية في نشر الإسلام بغرب إفريقيا ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع – السيب – سلطنة عمان ، ص19 .
41- بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/284 ، رقم الترجمة : 609 .
42- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص156 - بحاز ، الدولة الرستمية ، ص 128 .
43- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص6 .

مهنا بن راشد بن حمد السعدي
معهد العلوم الشرعية - مسقط
العنوان : سلطنة عمان - ولاية السويق
ص.ب : 389 - الرمز : 315






حملة العلم إلى المشرق والمغرب

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد ؛
فإن التاريخ الإسلامي قد حفل بالحواضر العلمية التي كانت مراكز للاشعاع العلمي في كافة أنحاء العالم الإسلامي ، ومن بين هذه الحواضر مدينة البصرة التي أنشئت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t ، والتي صارت بعد فترة قصيرة من أكبر المراكز العلمية الهامة في الدولة الإسلامية ؛ حيث كانت تعج بالصحابة وكبار التابعين .
ومن هذه المدينة انطلقت الدعوة الإباضية إلى شتى البقاع ، وكان ممن حمل لواءها مشايخ عظام درسوا على أئمة المذهب ثم انطلقوا يبلغونها ويؤسسون على مبادئها إمامات ودولا [1] ، وسمي هؤلاء في التاريخ الإباضي بحملة العلم إلى المغرب وحملة العلم إلى المشرق .
ونبدأ بذكر حملة العلم إلى المغرب لأنهم الأسبق تاريخيا .
أولا؛ من هم حملة العلم إلى المغرب[2] :
تتفق المصادر أنهم خمسة أنفار وفدوا إلى الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة بالبصرة، واحد منهم من اليمن وهو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح، والباقون مغاربة وهم عبد الرحمن بن رستم الفارسي، وعاصم السدراتي، وأبو المنيب إسماعيل بن درّار الغدامسي، وأبو داود القبلّي .
درس هؤلاء الطلبة الخمسة على يد الإمام أبي عبيدة مدة خمس سنوات من سنة 135 إلى 140 هـ، ثم اتجهوا جميعا عائدين إلى بلاد المغرب الإسلامي ( شمال إفريقيا ) .
1 أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافيري :
أصله من اليمن، أخذ العلم عن إمام الإباضية وقتئذ أبي عبيدة مسلم في مدينة البصرة، وبعد خمس سنوات من التلقي اتجه مع زملائه المغاربة إلى بلادهم بعد أن أوصاهم شيخهم بإعلان الإمامة إن أنسوا من أنفسهم قوة، وأشار عليهم بعقدها لأبي الخطاب . ولما وصلوا إلى بلاد المغرب استقروا بطرابلس التي كانت آنئذ في اضطراب كبير وسخط على الحكام العباسيين وقبلهم الأمويين، فعقدوا الإمامة لأبي الخطاب فسار في المغرب بسيرة الخلفاء الراشدين . امتدت إمامته شرقا إلى برقة وغربا إلى القيروان وجنوبا إلى فزان . ولكن الأقدار لم تتح له فرصة التمكين لدين الله وسياسة الناس بالعدل، حيث أرسل إليه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور جيشا ضخما بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي، فدارت معركة ضارية بين الجيشين انتهت باستشهاد أبي الخطاب والقضاء على إمامته سنة 144 هـ .
2 عبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن كسرى الفارسي :
من أكبر أعلام الإباضية وعظماء التاريخ، اعتبره الدكتور سهيل زكار من بين مائة أوائل في التاريخ والتراث الإسلامي . يرجع نسبه إلى الأكاسرة ملوك الفرس . ولد بالعراق في العقد الأول من القرن الثاني الهجري على أكبر تقدير، تزوجت أمه الأرملة بحاجٍّ مغربي فاصطحبها وابنها اليتيم إلى القيروان، وفيها نشأ عبد الرحمن وترعرع، وبها تعلم مبادئ العلوم، ثم صادف نشر الدعوة الإباضية فتعلق بها، ثم سافر إلى البصرة في بعثة علمية للاستزادة من تعاليم المذهب الإباضي والاغتراف من معين شيوخه، وكان ذلك سنة 135هـ، وبعد خمس سنوات عادت البعثة لتحمل على عاتقها عبء الدعوة الإباضية . أجازه شيخه أبو عبيدة في أن يفتي بما سمع منه وما لم يسمع . عينه الإمام أبو الخطاب واليا على القيروان أيام دولته التي كانت من سنة 140 إلى 144هـ . بعد استشهاد أبي الخطاب في معركة تاورغا لجأ عبد الرحمن إلى المغرب الأوسط بعيدا عن نفوذ العباسيين، واعتصم في منطقة تيهرت بالغرب الجزائري حاليا -، وهناك أسس مدينة تيهرت ( أو تاهرت ) والتي تسمى اليوم بتيارت . وفي سنة 160هـ بايعه الإباضية المغاربة إماما لأول دولة إسلامية مستقلة بالمغرب الأوسط والتي عرفت في التاريخ باسم الدولة الرستمية التي دامت إلى أواخر القرن الثالث الهجري .
ذُكر أن له كتابين أحدهما في تفسير كتاب الله العزيز، والآخر جُمعت فيه خطبه، إلا أنهما لم يصلا إلينا . دام في إمامته إلى غاية وفاته سنة 171هـ [3].
3 عاصم السدراتي :
من أيمة المغرب الإسلامي، جزائري الأصل، وهو أحد حملة العلم الخمسة من وإلى المغرب . بعد العودة من البصرة سنة 140هـ حمل عاصم لواء الدعوة والتعليم، وظل ينتقل بين القرى والبوادي من جبل نفوسة بليبيا إلى جبال الأوراس بالجزائر . درس على يديه أيمة وعلماء أجلاء منهم الإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن ثاني أيمة الرستميين، ومحمد بن يانس وغيرهم . كان مستجاب الدعاء، زاهدا ورعا، كما اشتهر بالشجاعة والفروسية . مات مسموما خلال مشاركته مع الإمام أبي الخطاب في حصار قبيلة ورفجومة سنة 141هـ [4].
4 أبو المنيب إسماعيل بن درّار الغدامسي :
واحد من علماء الإباضية، أصله من طرابلس الغرب، سافر إلى البصرة في البعثة التي أرسلها سلمة بن سعد والتحق بحلقة الإمام أبي عبيدة المستخفية في سرداب بعيدا عن أعين العباسيين، فقضى معه خمس سنوات في طلب العلم الشرعي وبخاصة فقه المعاملات والأحكام . وبعد رجوع البعثة سنة 140هـ وقيام إمامة أبي الخطاب عُين قاضيا للإمامة، فأدى واجبه وقام به أحسن قيام إلى جانب اشتغاله بأداء رسالته في تعليم الأجيال، وكان من أشهر تلاميذه محمد بن يانس . وبعد مقتل زميله عاصم السدراتي اعتزل القضاء واشتغل بالتدريس [5].
5 أبو داود القبلّي النفزاوي :
أحد العلام الكبار، أصله من نفزاوة بتونس، أخذ علومه الأولى عن سلمة بن سعد ثم انطلق مع عبد الرحمن بن رستم وزملائه في بعثة إلى أبي عبيدة مسلم بن أبي كرية . بعد عودته من البصرة سنة 140هـ اعتزل السياسة واهتم بالتدريس وتكوين الأجيال، كان غزير العلم حتى رُوي أن الإمام عبد الوهاب مع سعة علمه إذا جلس بين يديه ظهر كالصبي أمام المعلم [6].
ثانيا؛ من هم حملة العلم إلى المشرق[7] :
الذين حملوا العلم من البصرة إلى المشرق عديدون ، ولكن اشتهر منهم الذين حملوه عن الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي ثالث أيمة الإباضية - إلى عمان . وقد اختلف في عددهم ؛ فالبعض يرى أنهم أربعة [8] وهم : أبو المنذر بشير بن المنذر ، ومحمد بن المعلى ، ومنير بن النير ، وموسى بن أبي جابر . والبعض يرى أنهم خمسة [9] وهم الأربعة المذكورون والإمام أبو سفيان محبوب بن الرحيل الذي قيل : إنه رحل إلى عمان مع الإمام الربيع في آخر عمره . ولعل الأمر الذي جعل الفريق الأول لا يعتبر الإمام محبوبا من حملة العلم كونه استوطن عمان ولم يكن عماني الأصل ؛ بمعنى لم يذهب من عمان إلى البصرة ثم عاد إلى عمان مثل الأربعة الآخرين ، ولكن هذا الاحتمال يعكر عليه أن هذا الاعتبار لم يكن عند حملة العلم إلى المغرب ؛ إذ كان أربعة منهم مغاربة الأصل باعتبار وخامسهم من حضرموت واستقر أخيرا بالمغرب .
1 - العلامة بشير بن المنذر :
هو الشيخ أبو المنذر بشير بن المنذر النزوي العقري ، جد بني زياد ، وهو من بني نافع من سامة بن لؤي بن غالب . من كبار علماء عصره ، ومن أعلام الإباضية بالمشرق في القرن الثاني الهجري. كان له دور بارز في إحياء الإمامة الثانية في أواخر العقد السابع من القرن الثاني الهجري.
المشهور أنه توفي سنة 178 هـ ، ولكن بعض المسائل الواقعة بعد هذا التاريخ يذكر فيها بشير بن المنذر ؛ وأبرزها مسألة براءة بعض العلماء من الإمام المهنا بن جيفر إلى أن مات[10] ، والإمام المهنا كانت إمامته من سنة 126 إلى سنة 137 هـ ، ولا أدري للإباضية مسمى في تلك الفترة غير صاحبنا ؛ إلا ما ذكر في دليل أعلام عمان[11] من أن شيخا يسمى أبا المنذر بشير بن المنذر ، وهو حسب الدليل غير تلميذ الربيع ؛ ولكن المعلومات التي جاءت في تعريفه يبدو فيها الخلط بين صاحبنا بشير والشيخ أبي المنذر بشير بن محمد بن محبوب .
والذي أفترضه أن الإمام بشير قد مات بعد السنة المذكورة له ( 178هـ ) ، لأنه ليس من المستبعد أن يدرك إمامة المهنا [12].
2 - الشيخ محمد بن المعلى :
هو محمد بن المعلى الفشحي من كندة ، من أعلام الإباضية في عُمان في القرن الثاني الهجري ، ومن تلاميذ الإمام الربيع ، كان واليا على مدينة صحار العمانية فترة من الزمن ، رشحه العلامة موسى بن أبي جابر للإمامة فاعتذر بأنه شارٍ فقبل منه .
تذكر بعض المصادر[13] أن بعض الإباضية لا يتولونه ولم تذكر سبب ذلك [14].

3 - الشيخ منير بن النير :
هو منير بن النير بن عبد الملك الريامي الجعلاني ، واحد من تلامذة الإمام الربيع بن حبيب بالبصرة، وحملة العلم إلى عمان ، كان من المعمرين ، وقيل إنه مات شهيدا سنة280هـ عن عمر يناهز المائة وعشر سنين ، ويرى الشيخ البطاشي أن هذا خلط من المؤرخين واستبعد التاريخ المذكور ورجح أن المنير المقصود يكون قد مات على أحسن التقديرات في نهاية القرن الثاني الهجري ، وأن المذكور بأنه مات سنة 280 هـ هو شخص آخر [15].
4 - العلامة موسى بن أبي جابر :
هو موسى بن أبي جابر الإزكوي من بني ضبة ، وقيل : من بني سامة بن لؤي ، درس على يد الربيع بن حبيب ، وكان من العلماء المشهورين في زمانه ، ولعله كان الأبرز فيهم ، حيث لعب دورا هاما في عمان بعد سقوط الإمامة الأولى سنة 134هـ ؛ إذ كان هو المرجع لمن أراد الحكم بما أنزل الله ، وإليه يعود الفضل في إحياء الإمامة الثانية في أواخر العقد السابع من القرن الثاني الهجري . توفي ر حمهم الله جميعا سنة 181 هـ عن عمر يناهز الأربعة والتسعين عاما [16].
5 العلامة أبو سفيان محبوب بن الرحيل القرشي ثم العماني :
من تلاميذ الإمام الربيع ، وكان ربيبا له ، قيل : انتقل معه إلى عمان في آخر حياته . والإمام أبو سفيان أب لعائلة عريقة في العلم ؛ إذ كان من ذريته علماء فطاحل منهم : محمد بن محبوب وبشير بن محمد بن محبوب وسعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب . ويعود الفضل لأبي سفيان في نقل تاريخ الإباضية الأولى في البصرة وفقه أئمتها، ولكن الكتاب الذي ضمن فيه تلك الآثار قد ضاع وبقيت منه أجزاء مضمنة في كتب أخرى مثل: الطبقات للدرجيني ، والسير للشماخي ، وكتاب الضياء للعوتبي ، وبيان الشرع للكندي وغيرها[17].
[1] - انظر ؛ محمد ناصر : منهج الدعوة عند الإياضية ، r15 وما بعدها .

[2] - أُخذت تراجمهم من معجم أعلام الإباضية قسم المغرب، إعداد لجنة البحث العلمي بجمعية التراث، القرارة ، الجزائر .

[3] - جمعية التراث : المعجم، ترجمة رقم 544 .

[4] - م س، ترجمة رقم 528 .

[5] - جمعية التراث : المعجم، ترجمة رقم 107 .

[6] - م س ، ترجمة رقم 303 .

[7] - لا تذكر المصادر الكثير عنهم ، وإنما هي ومضات قليلة لا تعطينا صورة كاملة عن تفاصيل حياتهم .

[8] - انظر ؛ العوتبي : الضياء،ج01، ص40 . الكندي : بيان الشرع،ج01، ص13 . البطاشي : إتحاف الأعيان،ج01، ص220،222،224،225 .

[9] - انظر ؛ السعدي : قاموس الشريعة،ج08،358 . السالمي : شرح الجامع الصحيح،ج01، ص04 . مجموعة أساتذة : دليل أعلام عمان، ص150 .

[10] - الكندي : بيان الشرع،ج04، ص159،160،161،201 . ج06، ص133 . ج67-68، ص400 .

[11] - ص34 .

[12] - انظر ؛ السالمي : تحفة الأعيان،إمامة الوارث بن كعب،ج01، ص112 وما حواليها . البطاشي : الإتحاف ،ج01، ص220 . مجموعة من الأساتذة : دليل أعلام عمان، ص34 .

[13] - انظر ؛ العوتبي : الضياء،ج01، ص40 . الكندي : بيان الشرع ،ج01، ص13 .

[14] - انظر ؛ السالمي : شرح الجامع،ج01، ص04 . البطاشي : الإتحاف،ج01، ص224 . مجموعة أساتذة : الدليل ، ص150 .

[15] - انظر ؛ البطاشي : الإتحاف،ج01، ص225 وما بعدها . مجموعة أساتذة : الدليل ، ص154 .

[16] - انظر؛ السالمي : تحفة الأعيان،ج01، ص115 . البطاشي : م س ، ص222 . مجموعة أساتذة : م س ، ص155 .

[17] - انظر ؛ مجموعة أساتذة : دليل أعلام عمان ، ص143 . البطاشي : الإتحاف ، ج01، ص217 .


قائمة المصادر والمراجع
01- البطاشي ؛ سيف بن حمود : إتحاف العيان في تاريخ بعض علماء عمان . ط2 : 1419ه/1998م . المطبعة الوطنية . مسقط .
02- جمعية التراث ؛ لجنة البحث العلمي : معجم أعلام الإباضية قسم المغرب . ط01 : 1420هـ/1999م . المطبعة العربية . غرداية الجزائر .
03- السالمي ؛ عبد الله بن حميد :
أ ) تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان . 1417ه/1997م . مكتبة الإستقامة . مسقط .
ب ) شرح الجامع الصحيح . المطابع الذهبية . مسقط .
04- السعدي ؛ جميل بن خميس : قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة . 1403ه/1983م . نشر : وزارة التراث القومي والثقافة . سلطنة عمان .
05- العوتبي ؛ سلمة بن مسلم : الضياء . ط1 : 1411ه/1991م . نشر : وزارة التراث القومي والثقافة . سلطنة عمان .
06- الكندي ؛ محمد بن إبراهيم : بيان الشرع . من 1402ه/1982م إلى 1414ه/1993م . نشر : وزارة التراث القومي والثقافة . سلطنة عمان .
07- مجموعة أساتذة : دليل أعلام عمان . ط1 : 1412ه/1991م . المطابع العالمية . مسقط . نشر : جامعة السلطان قابوس . سلطنة عمان .
08- ناصر ؛ محمد بن صالح : منهج الدعوة عند الإباضية . نشر : جمعية التراث بالقرارة – الجزائر .( نسخة مصورة عند وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان ) .





توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

كُتبَ بتاريخ : [ 11-14-2010 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



عقيدة وفقه

رؤية الله
رؤيةُ الله تَعَالىَ من الأمورِ الغيبية التي اختلف فيها العلماء بين مثبت للرؤية وناف لها، ورغم أَنَّهَا ليست في الأصل من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام التي نص القُرآن عليهَا، إِلاَّ أَنَّها صارت من أهم المسائل التي أدرجها العلماء كأصل من أصول العقيدة، وقد تشدَّدت المسائل فيما بينها حتَّى كفّرت بَعضها البعض بهذه المسألة وغيرها، وأصبحت من أبرز المسائل الخلافية بين المذاهب الإِسلاَمية.
وسنعرض أقوال المذاهب في هذا المقال، وأصل اختلافهم، من تفصيل الشيخ أحمد الخليلي لها في كتابه الشافي الكافي: «الحق الدامغ» وفيما يلي ملخص ما قاله:
«والنزاعُ بَين مختلف طوائف الأُمَّة في إمكان رؤية الله تعالى ووقوعها قديم، فبعض الطوائفِ المنتسبة إلى السنَّة والسلفية والأشاعرة والماتريدية والظاهرية وغيرهم يقولون: إِنَّها ممكنة في الدنيا والآخرة، غير أن جمهورهم يثبت وقوعها في الآخرة دون الدنيا.
واختلفت الطائفة التي تقول: إِنَّها واقعة في الدنيا والآخرة كذلك، هل هي خاصة في الدنيا برسول الله -صلى الله عليه وسلم - أو هي عامة للمؤمنين؟ فأكثرهم على أَنَّهَا خَاصَّةً به، وهو قول الأشعري وأتباعه، نقله عنهم الحافظ بن حجر، وقال النووي ولم يقل بوقوعها لغيره -صلى الله عليه و سلم -في الدنيا إلا غلاة الصوفية. أما ابن القيم فيقول في حادي الأرواح([1]): "فقد دَلَّت الأحاديث الصحيحة على أن المنافقين يرونه تعالى, بل والكفار أيضا كما في حديث التجلي يوم القيامة", ثم قال: "وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة: إحداها: أن لا يراه إِلاَّ المؤمنون. والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم؛ ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك. والثالث: يراه المنافقون دون الكفار. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وهي لأصحابه»([2]).
رأي الإباضية

أما الإباضية فيعتقدون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه عندما عَرج به إلى السماء، كما ادعى البعض، وهو قول الجمهور من أهل التحقيق، ويرون أَيْضًا استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، وهو ما يتناسب مع تنزيه الله تعالى من صفات النقص، وما تَدُلُّ عليه الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، وهو ما ينسجم مع العقل والمنطق.
ومن هذا المبدأ فسَّر الإباضية وغيرهم من المذاهب التي ذهبت إِلىَ هذا الرأي كُلّ الآيات والأحاديث التي تُوهم التشبيه أو الرؤية، بما يتناسب مع صفات الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، والمتتبع للقرآن الكريم لا يجد آية صريحة في مسألة الرؤية، بل إن الآيات والأحاديث التي تنفي الرؤية أكثر وأصرح من الآيات والأحاديث التي تثبتها.
والقول بعدم رؤية الباري سبحانه وتعالى ليس جديدا، وليس خاصا بالإباضية فقط وإنما كان رأيا قديما، بل كان هو الرأي السائد في الصدر الأَوَّل من الصحابة والتابعين، إِلىَ أوائل القرن الثاني عندما تولى المعتزلة الحكم، ابتداء من عهد المأمون، وهو رأي الشيعة أَيْضًا، ولم يتغير هذا الرأي إِلاَّ بعدما سيطر أهل الحديث على الحكم العباسي، وأقصيت المعتزلة ونكل بهم أشد التنكيل، فكانت نقطة صراع يَتَبَيَّن منها الموالي للحكم العباسي، والخارج عليه، مثلها مثل فتنة الإمَام أحمد في خلق القُرآن.
أدلة الإباضية في نفي رؤية الله تعالى في الدار الآخرة: منها أدلة نقلية، وأدلة عقلية، تناولتها كثير من كتب الإباضية أختصرها فيما يلي:
أولا: الأدِلَّة النقلية:

1- من القرآن الكريم:

· قول الله تعالى: ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. (سورة الأنعام: 103) قال صاحب قاموس الشريعة: هذه صفة لا تُنسَخ، لأَنَّ هذا خبر، والأخبار لا تنسخ، ولأنَّ الله مدح نفسه، ومدائح الله لا تزول ولا تتحول.
· قول الله تعالى لموسى عليه السلام لَمَّا سأله الرؤية، قال له:﴿ لَن تَـرَانِي ﴾ (الأعراف: 143)، وهذا نفي مطلق غير مقيد بزمان ولا مكان، فلو حصلت الرؤية في أي زمان من أزمان الدنيا والآخرة، لكان منافيا لهذا الخبر. وحرف النفي "لن" عند علماء اللغة هو من حروف الإياس. وَإنَّمَا طلبَ موسى عليه السلام رؤية الله ليُقيم الحجَّة على قومه الذين ألحوا عليه أن يروا الله جهرة أَمَّا هو، فيعلم أن ذلك مستحيل.
· ما جاء في آيات الكتاب من الإنكار البالغ والتقريع الشديد للذين سألوا الرؤية من اليهود والمشركين، مع تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعوا فيه، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُـنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىآ أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ (النساء: 153)
· وقول الله تعالى: (وَقَالَ الذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلآَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلآَئِكَةُ أَوْ نَرَىا رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فيِ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْاْ عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 21) وقوله تعالى: (اَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ، وَمَنْ يَّتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالاِيمَانِ فَقَدْ ضَّلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ) (البقرة: 108)


2- الأدلة من الأحاديث الواردة في نفي الرؤية، هي:

· روى مسلم في صحيحه عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : (لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة).
· روى مسلم عن أبى ذر أَنَّهُ سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنّى أراه) فهذا الحديث ينفي الرؤية مطلقا فقد وصف الرسول ربه بأنه نور، واستبعد حصول الرؤية بقوله (أنّى أراه) وأنّى بمعنى كيف. ولو يعلم بأنه سيراه في الآخرة لأخبر أبا ذر.
· روي عن علي بن أبي طالب في تفسير قول الله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ﴾ فقالَ: أنَّ الله لا يُدرك بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وروي عنه أيضا في تفسير قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ﴾ (القيامة: 22). قال: إلى ثواب رَبِّها ناظرة.
· قول عائشة أم المؤمنين لمسروق: من زعم أنَّ محمدا رأى ربه، فقد أعظم على الله الفرية.
وغيرها من الأحاديث التي لا يتسع المقال لذكرها


ثانيا: الأدلة العقلية على نفي الرؤية:

· إن كُلّ ما يمكن أن يراه الإنسان أو يتخيله أو يتصوره لاَ بُدَّ أن يكون محدودا، بالشكل أو بالحجم أو باللون أو بالزمان أو بالمكان. وجميع المخلوقات التي نعرفها والتي لا نعرفها, نراها أو لا نراها هي محدودة بهذه الحدود أو ببعضها. وما دامت هذه صفات المخلوقات فَإنَّهُ يستحيل أن تكون من صفات الخالق.
ورؤية الله تبارك وتعالى تستلزم شروطا لذلك منها: أن يكون محدودا بجهة معينة، أو صفة أو شكل معين، حتى تتوجه إليه الأبصار، وهذا مستحيل في حق الله تبارك وتعالى.
فمن صفاته سبحانه وتعالى أَنَّهُ: قديم بلا بداية، باق بلا نهاية، منزه عن الشكل واللون، لا يحويه زمان ولا مكان، لأَنَّهُ هو الذي خلق الأشكال والأحجام والألوان والأزمان والأمكنة، وهو منزه عن الجهات والاستقرار، وليس له صورة على النحو الذي يمكن أن يَتَغَيَّر من شكل إلى آخر.
ومن صفاته أيضا: أنه الأَوَّل فليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، لا يشبه شيئا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فكيف يمكن أن يتصور أو يتخيل أو يرى.
· إن كثيرا من الأشياء التي خلقها الله تعالى في هذا الكون لا يراها الإنسان، فنحن لا نستطيع رؤية الأشعة السينية، ولا الأشعة فوق البنفسجية، ولا الأشعة تحت الحمراء، كما لا نستطيع رؤية الكهرباء التي تسري في الأسلاك، ولا الجاذبية والروائح والأصوات، ولكن نؤمن بها وندرك تأثيرها في الأشياء حولنا؛ أَمَّا حقيقتها فيعلمها الله. وكذلك نؤمن بوجود الله وقدرته دون أن نراه.
· كثيرا ما نجد في كتاب الله تعالى ما وعد الله به عباده المؤمنين في الدار الآخرة من النعيم مذكورا بأوضح العبارات وبصراحة كاملة، ومكررا في مواضع شتى لأجل التشويق، بينما لا تجد للرؤية ذكرا إِلاَّ ما يتأوله المثبتون للرؤية من لفظ ﴿الزيادة﴾ وأمثالها، وهو لم يذكر إِلاَّ مجملا، فلو كانت الرؤية ثابتة وهي أصل كُلّ نعيم في الْجَنَّة، لوردت في آيات صريحة لا تحتمل التأويل.
· نرى التناقضات والاضطرابات التي يذكرها القائلون بالرؤية في الآخرة، وذلك لاختلافهم في من يَرونه ومتى يرونه؟؟.
· من يروه يوم القيامة؟ يقول الأكثر بأن الرؤية خَاصَّة بالمؤمنين، إذ هي نعمة يمنّ الله بها عليهم، يتضاءل معها نعيم الْجَنَّة، ومن الغريب أَيْضًا أَنَّنا نجد البعض ينعم بها عَلَى الكفار والمنافقين، ويمنعها عن المسلمين القائلين بعدم الرؤية لعدم إيمانهم بذلك.
· متى يرونه؟ نجد من خلال استقرار الأحاديث المثبتة للرؤية تناقضها فيما بينها، من حيث الموضع الذِي يرى فيه رَبِّ العزة، وأهم هَذِهِ الأحاديث: حديث: «فإنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته» مَع أنَّ سياق هذا الحديث يَقتضي أن هذه الرؤية ستكون في الموقف، وأنها غير خَاصَّة بالمؤمنين، بل يشاركهم المنافقون والمشركون كما ذكر ذَلِكَ ابن القيم وغيره.
· إن محاولة تنزيه المولى عز وجل وإثبات الرؤية، وتأويلها بأنها رؤية بلا كيف، هو كلام بشر قابل للأخذ والرد.
- أدلة القائلين بالرؤية، ورأي الإباضية:

القائلون بالرؤية استدلوا ببعض الآيات والأحاديث منها:
· قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ(22) إِلَىا رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذِم بَاسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَنْ يـُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ (القيامة)، قالوا: إِنَّ النظر هنا بمعنى الرؤية، وهذا أقوى الأدلة التي يستدلون بها.
· قول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ) (يونس: 26) فقالوا: إِنَّ الحسنى هي الْجَنَّة، والزيادة: هي رؤية الله في الْجَنَّة.
· قولُ الله تعالى ﴿ كَلآَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبـِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين: 15)، قالَ المثبتون للرؤية أن الحَجبَ هو: الحجبُ عن رؤية الله تعالى. وذكر ابن كثير في تفسير الآية: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون؛ ثُمَّ يحجب عنه الكافرون، وينظر إليه الكافرون كل يوم غدوة وعشية.
- وأما الأحاديث التي استدلوا بها، فمنها:
1- حديث البخاري في كتاب التوحيد عن أبي هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - : «هل تضامون في القمر ليلة البدر؟» قالوا: لا، يا رسول الله. قال: «فإنكم ترونه كذلك, يجمع الله الناس يوم القيامة, فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه, فيتبع من كان يعبد الشمسُ الشمسَ, ويتبع من كان يعبد القمرُ القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت, وتبقى هذه الأُمَّة فيها شافعوها أو منافقوها شك إبراهيم فيأتيهم الله في هيئة، فيقول: أنا ربكم. فيقولون:أنت ربنا, فيتبعونه...» الخ.
2- حديث مسلم في كتاب الإيمان فيه زيادة: «فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتي ربنا... » الخ وهو حديث طويل يرجع إليه في مصادره.
هذه الآيات الكريمة والأحاديث المذكورة إذا أخِذت على ظاهرها فإنها تفيد تشبيه الله بخلقه، وهذا يتنافى مع تنزيه الله تعالى، وقَد قال بعض العلماء هربا من هذا التشبيه: بأن المؤمنين يرون ربهم بلا هيئة ولا كيف، وقال غيرهم: بأن الآخرة محل خرق العادات، وأن الله سيخلق حاسة سادسة في المؤمنين يرونه بها، وهذا تكلف لا ضرورة له، كما أنه افتراض تخيلي دون دليل عقلي أو نقلي يؤيده، والعقائد لا تنبني على الافتراضات والتخمينات، وَإنَّمَا تبنى على الآيات المحكمات التي لا تحتمل غير معنى واحدا.
· يذكر ابن القيم: أن المنافقين أيضا يرونه، وذكر ابن كثير: أن الكافرين يرونه ثم يحجب عنهم؛ فإن رؤية الكافرين لربهم يوم القيامة ينافي ما يقوله المثبتون بأن الرؤية هي أعظم نعيم في الْجَنَّة، وهو خاص بالمؤمنين، فكيف يكشف الحجاب وينظر إليه الكافرون.
ومن أغرب ما سمعنا من تفسير هذه الآية ما قاله أحد العلماء وأخذ يردده أحد الخطباء عَلَى المنابر، يقول: إِنَّ الإباضية هم الذين يحُجبون عن رَبِّهم، فلا يرونه عندما يراه المؤمنون، ولكنهم يرون مالكا خازن النار بسبب إنكارهم للرؤية.
تفسير الإباضية لهذه الآيات:
كان تفسيرا بما يتناسب مع جلال الله وعظمته، ومع ما ينسجم مع اللغة العربية.
يقول الشيخ أحمد الخليلي: «إن الانسجام المعهود في القرآن الكريم، وارتباط بعض الآيات مع بعض لا يكون إلا بتفسير آية القيامة: (﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذِم بَاسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَنْ يـُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ بِالانتظار, فَإِنَّ الآيات قَسَّمت الناس يومئذ إلى طائفتين:
إحداهما: وجوهها ناضرة: أي مبتهجة مشرقة بما ترجوه من ثواب الله. إلى ربها ناظرة: أي منتظرة لرحمته ودخول جنته. والطائفة الأخرى: وجوهها باسرة: أي كالحة مكفهرة لما تتوقعه من العذاب. تظن أن يفعل بها فاقرة: أي تتوقع أن ينزل بها ما يقطع فقار ظهورها. فنضارة هذه الوجوه مقابل بسور تلك, وانتظار هذه لرحمة الله ودخول جنته مقابل ما يتوقع تلك للعذاب. ولو فسر النظر هنا بالرؤية لتقطع الوصل بين الآيات, وتفكك رباطها, وانقطع انسجامها. وهذا التفسير هو الذي ينسجم مع ما في خاتمة سورة عبس، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)﴾.
وقَد فسَّر النظر: بمعنى الانتظار كُلّ من علي بن أبي طالب وابن عباس كما أخرجَ ذَلِكَ الإمام الربيع في مسنده، وروي ذلك عن كثير من السلف, فقد أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن عمر، كما أخرجه أيضا عن عكرمة ورواه الطبري من عدة وجوه وبمختلف الأسانيد عن مجاهد وهو من مفسري التابعين وتلميذ ابن عَبَّاس»[3].
وهناك آيات كثيرة في القرآن تفيد أن معنى النظر: هو الانتظار، ومنها قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلآَّ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآَئِكَةُ وَقُضِيَ الاَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ(210)﴾ ، وقوله تعالى في سورة يس: ﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَاخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ(49)﴾، وقول الله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نـُّورِكُم) (الحديد: 13)
إن آية القيامة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ تُصوِّر موقف يوم القيامة قَبل أن ينتقل الأبرار إلى دار الثواب، والفجار إلى دار العقاب، بدليل السياق في الآيات السابقة, وقوله تَعَالىَ في الأشقياء ﴿ تَظُنُّ أَنْ يـُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ يؤكده، فَإِنَّ ذلك قبل دخول النار قطعا، إذ لا معنى لظنهم ذلك بعد الدخول، فكيف تكون هذه الآية دليلا عَلَى رؤية الله تعالى في الْجَنَّة، وسياق الآية يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا في الموقف.
مِمَّا أشكل على المثبتين للرؤية: إسناد النظر في آية القيامة إلى الوجوه، فترددوا بين القول بأن الرؤية بالبصر، أو بالوجوه، أو بالجسم كله, أو بحاسة سادسة, وما هذا الاضطراب إِلاَّ دليل بَيِّن عَلَى أَنَّهُم غير مستندين إلى أصل متين ولا ركن مكين فيما قالوه, ولو أَنَّهُم فهموا الآية الكريمة فهما صحيحا، وحملوها على ما يقتضيه السياق واللغة، لسلموا من هذا الاضطراب.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار: «وأَمَّا رؤية الربِّ تعالى فربما قيل في بادئ الرأي أن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات، كقوله تعالى (لَن تَـرَانِي) ، وقوله (لاَّ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ)، فَهمَا أَصرح دلالة على النفي، من دلالة قوله تعالى : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ على الإثبات، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن الكريم وكلام العرب. كقوله ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾, ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ﴾ (الأعراف: 53)، ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلآَّ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآَئِكَةُ﴾».
· معنى الزيادة في الآية الكريمة:
لفظة مبهمة غير دالة على الرؤية، وفي تفسير الزيادة وردت أقوال مختلفة منها: أَنَّهَا النظر إلى وجه الله تعالى، ومنها ما رُوِيَ عن علي كرم الله وجهه: أن الزيادة غُرفة من لؤلؤة, وعن ابن عباس قالَ: «الحسنى هي الجنة والزيادة عشر أمثالها»، وعن مجاهد قال : «أن الزيادة مغفرة من الله ورضوان»، وذكر الفخر الرازي «أن الزيادة أن تمرَّ السحابة بأهل الْجَنَّة فتقول: ما تريدون أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرهم). وقد تشمل الزيادة كل هذه الأشياء أو غيرها. لأن في الجنة كما ورد في الحديث: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». فدلالة هذه الآية على الرؤية دلالة ظنية، لأن معنى الزيادة هنا يحتمل كل ما ذكر. فحصر الزيادة بالرؤية ليس في محله.
تفسير الرؤية بالعلم:

فسر بعض العلماء الرؤية بالعلم التام، والمعرفة الكاملة بالله تعالى يوم القيامة، ومن هؤلاء الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين". وقد وردت آيات تدل على أن المقصود بالرؤية هو العلم، ومن هذه الآيات قول الله تعالى:
· ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبـُّكَ بِعَادٍ(6)﴾ (الفجر).
· ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبـُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)
· ﴿ اَلَمْ تَرَ إِلىَا رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ, سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45)﴾ (الفرقان)
· ﴿ أَلَمْ تَعْلَمَ اَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فيِ السَّمَآءِ وَالاَرْضِ، إِنَّ ذَالِكَ فيِ كِتَابٍ، اِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ(70)﴾ (الحج)
ففي كل ما سبق ألم تر معناها ألم تعلم. و كذلك قول الشاعر:
رأيت الله أهلك قوم عاد ثمود وقوم نوح أجمعين
يعني: علمت أن الله قد أهلك قوم عاد وثمود، فالعرب استعملوا كلمة الرؤية للدلالة على تمام العلم والمعرفة، ومن ذلك يمكن تأويل الرؤية بالعلم، فيكون معنى الرؤية هو معرفة الله تعالى تمام المعرفة بعد أن يكشف حجاب الغيب، والله أعلم.
الخلاصة:
مِمَّا سبق يمكن أن نخلص إِلىَ أن المسألة خلافية، وَإنَّمَا أردت أن أبيِّن بَعض الأدلة التي اعتمدها الإباضية وغيرهم من المذاهب الإِسلاَمية، لأَنَّ الكثير من الناس يجهلونها، وتبقى القضية تحتاج إِلىَ الرجوع إِلىَ المطولات في الإطلاع عَلَى هَذِهِ المسألة بتفصيل، ولا يسعنا في هذا المقال استقصاء جميع الأقوال والأدلة، ومناقشتها. والإباضية لا ينكرون على أحد أن يأخذ بأي رأي يشاءه، وَإنَّمَا ينكرونه التعصب المقيت الذِي لا يستند إِلىَ حجة، وَإنَّمَا هو إتباع للهوى، وحكم بغير بَيِّنَة، و«عدو الإنسان ما جهل» وهذا الذي يرفضه العقل والنقل، وهو الذي أدى ببعض العلماء لأن يقولوا: «إِنَّ الإباضية لديهم خلل في العقيدة»، ومنهم: من صرح بكفر من أنكر الرؤية، وأفتى بعدم جواز الصلاة خلفهم، وقد تهور أحدهم حتَّى قال: «لو وُجدت دولة إسلامية فإن منكر الرؤية يجب أن تحز رقبته».
ومن المعلوم أن المسلم لا يكفر إِلاَّ بإنكار صريح القرآن أو تأويل آيات القرآن بما لا تحتمله اللغة العربية، أو أن تكون أعماله مخالفة لصريح القرآن. فكيف يجرؤ مسلم بتكفير مسلم لمجرد الاختلاف في فهم معاني القرآن الكريم.
و الذي أريد أن أؤكده هنا أن القضايا الخلافية لا يمكن أن تكون أصلا من أصول العقيدة، لأن أصول العقيدة لا يمكن أن تُبنى عَلَى ما اختلف في تأويله من آيات القرآن ولا عَلَى الأحاديث الأحادية أو المرسلة, وَإنَّمَا تُبنى عَلَى المتفق عَلَى معناه من كتاب الله تعالى، وعلى الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا تعارض نصا ثابتا.

[1]) حادي الأرواح ابن القيم:ص. 405 ابن كثير للطباعة والنشر 1991

[2]) الحق الدامغ أحمد الخليلي

[3] الحق الدامغ أحمد الخليلي





الولاية والبراءة والوقوف
أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على الحب في الله للمتقين الأبرار والبراءة والكره والبغض لأعداء الله من العصاة والكافرين والمنافقين هكذا على وجه العموم، لكن الإباضية توسعوا في تطبيق هذه المبادئ أكثر من غيرهم حيث أنهم يقسمون الولاية والبراءة إلى قسمين أساسيين هما:
  • ولاية الجملة وبراءة الجملة
  • لولاية والبراءة الشخصيتان.
ثم يطبقون هذه المبادئ عمليا.
تعريفات
ولاية الجملة: هي الحب في الله لكل من آمن بالله واتبع هداه منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة فهؤلاء هم أولياء الله ويجب على المسلم أن يحبهم ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة.
براءة الجملة: هي البغض في الله لكل من أشرك به أو أنكر وجوده أو كفر أو أعرض عن رسالاته بارتكابه للمعاصي وإصراره عليها دون أن يتوب، فهؤلاء جميعا يجب على المسلم أن يبغضهم ويبرأ إلى الله منهم.
الولاية الشخصية: هي الحب والولاء والرضا والاهتمام بالمصالح والدعاء بالرحمة والمغفرة لكل من ثبت عندك وفاؤهم بدين الله شخصا شخصا، سواء ثبت ذلك بالقرآن أو بالسنة أو بخبر العدول من المسلمين أو بالمعرفة الشخصية، ويشمل هذا الأنبياء المذكورة أسماؤهم في القرآن الكريم ومن عرفت من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الصالحين، وكل من تعرف من أصدقائك وأقاربك، فتقول: اللهم إني أُشهدك أني أحب فلان.
البراءة الشخصية: تعني البغض لكل من ثبت كفره ونفاقه ممن ورد ذكره في القرآن أو بخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أو ممن سمعت عنه أو عرفته من الظالمين والمجرمين والكفار و العصاة، فتقول في حق هؤلاء : اللهم إن أبرأ إليك من فعل فلان. وقد ورد عن عمر رضي الله عنه قوله: (من رأينا فيه شرا تبرأنا منه).
الوقوف: وبين الولاية والبراءة توجد حالة تسمى "الوقوف" فإذا لم يثبت عندك تقوى شخص ما فيجب أن تقف فيه فلا تحبه ولا تبغضه، أي لا تتولاه ولا تتبرأ منه وهذا ما يسمي بالوقوف، وهو حكم مبني على الجهل بالشخص. قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)[1]، ومن الوقوف يمكن أن تنتقل إما إلى الولاية وإما إلى البراءة. فإذا تعرفت على شخص مصادفة لا تدرى هل هو مؤمن وَفِيّ أو عاص فيجب أن تَقْفُ فيه حتى إذا عاشرته وعرفته وتأكدت من التزامه وصلاحه حينئذ تتولاه وتحبه وبذلك تكون قد انتقلت من الوقوف إلى الولاية. وحكم الولاية هو ما ثبت عندك بعلم فلا يجوز أن تنتقل منه إلا إذا ثبت لك ضده. فإذا ثبت عندك بيقين أن هذا الرجل الذي كنت تحبه وتتولاه قد انتهك حرمات الله وارتكب من المعاصي ما يوجب البراءة فإنك تنتقل من الولاية إلى البراءة فتتبرأ منه وتعلن بغضك وكراهيتك له من أجل المعصية التي ارتكبها. ولو تاب وصلح وثبت عندك صلاحه فإنك تنتقل من حكم البراءة إلى حكم الولاية وهكذا.
الولاية والبراءة في القرآن الكريم
يقول الشيخ بيوض رحمه الله (والولاية والبراءة الشخصيتان مرتكزتان على أسباب دينية, فهما ليستا نظاما من النظم الاجتماعية، إنما أصلهما ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بولاية المؤمنين بعضهم لبعض وبالبراءة من الكفار والمنافقين، والآيات الواردة في هذا كثيرة جدا منها قوله تبارك وتعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء)[2]، ويقول تبارك وتعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[3]، وفي شأن البراءة يقول الله عز وجل: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)[4].
أهمية الولاية والبراءة في المجتمعات الإسلامية
وتعتبر الولاية والبراءة الشخصيتين من أهم قضايا العقيدة في الفكر الإسلامي لأنها تفرق بين معاملة المؤمنين الملتزمين بدينهم وبين العصاة والكفار والمنافقين, وهذا ما تفرد به الإباضية اعتمادا على النصوص المتقدمة وعلى قول الله تعالى في سورة التوبة (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)[5]، وعلى قصة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك حين هجرهم النبي (ص) وصحابته حتى تاب الله عليهم.
يقول عدون جهلان -رحمه الله- (ولعل الولاية والبراءة من الأصول التي درسها الإباضية بعمق وانفردت عما سواها من الفرق بالقول بولاية الشخص وبراءة الشخص بحكم الظاهر ولذلك نجد دراسات مستفيضة لفقهاء الإباضية وعلمائها حول هذه المسألة، ففصّلوا القول في شروط الولاية والبراءة ووجوبها وبينوا بشكل دقيق الجهات التي تتم بها كل من الولاية والبراءة الشخصية كما حددوا بدقة من تجب فيه الولاية والبراءة سواء في الجملة أو في الشخص، وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام الإباضية بهذا الجانب لم ينحصر في نطاق الاجتهاد الفقهي والنظر العقلي فحسب وإنما تعداه إلى الميدان العملي والتطبيق الفعلي فتجسدت هذه الآراء والأحكام في واقع الحياة اليومية داخل المجتمعات الإباضية)[6].
فمن حيث معاملة مثل هؤلاء العصاة فيقول الشيخ بيوض: (إذا بلغنا عن شخص ما معصية ولكنها خاصة بنفسه ليس فيها ضرر كبير للمجتمع ولا هتك للحرمات جهارا بحيث لم ينزع جلباب الحياء عن نفسه فإن مثل هذا يترك لا يعلن عنه البراءة ما لم يجاهر بمعصيته، ففي الناس عصاة كثيرون نعاملهم معاملة دنيوية بالبيع والشراء والأخذ والعطاء ونعتقد بالقلب أنهم عصاة ونترك أمرهم إلى الله. أما إذا كان العاصي قد جاهر بمعصيته بحيث تحدث ضررا في الناس فهذا يجب إعلان البراءة منه في المساجد، وهنا يدخل الاعتبار الاجتماعي للمحافظة على المجتمع فلو علمنا -مثلا- أن إنسانا يشرب الخمر في بيته أو في حانة ولم تظهر منه عربدة في الطرقات سكتنا عنه ولا تعلن براءته على رؤوس الملأ غير أننا نبغضه في قلوبنا لأنه عاص لله، ولكنه إذا مر في شارع وهو معربد يسب الله وينطق بالهجر أو يكشف عن عورته فهنا يجب إعلان البراءة منه في المساجد وفي مجتمعات المسلمين حتى يقاطع تمام المقاطعة حفاظا على سلامة المجتمع، وقل مثل هذا في السرقة والزنى وسائر الفواحش)[7].
التطبيق العملي لمبدأ الولاية والبراءة
يقول الشيخ علي يحي معمر: (إن المجتمع الإسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم ثم يسكتون عنه فيدعونه فيهم محبوبا قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار والتكفير، إن كانت المعصية مما يتحلل منه بالتكفير، فليس من الحق أبدا أن نتغاضى عن أولئك الذين يرتكبون المعاصي ونضعهم في صف واحد مع المؤمنين الموفين، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته, وأن لا نساوي بينه وبين الموفي، وأن لا نعطيه من المحبة وطلب المغفرة وحسن التعامل ما نعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية ويرجع إليه في كل كبيرة وصغيرة، ويقف عند حدوده لا يتخطاها)[8].
وقد مارس الإباضية تطبيق هذه المبادئ عمليا فسجلت كتب التاريخ عند الإباضية البراءة من العصاة - علنا في المساجد - بعد نصحهم وإرشادهم فلا يتعامل معهم بقية المسلمين حتى يتوبوا. فعندما يثبت على شخص ما ارتكاب معصية تعلن منه البراءة حتى يتوب، ويتبع ذلك كإجراء تأديبي، هجرانه، أي مقاطعته اجتماعيا فلا يتعامل معه أحد، فلا يكلم ولا يحضر جماعة، ولا يؤاكل، ولا يجالس . فيجد نفسه معزولا عن المجتمع فيضطر إلى التوبة لتعود إليه مكانته، وعندها يستطيع أن يعيش بين المسلمين كواحد منهم.
وأخف من حكم البراءة ما سمي بالخطة والهجران الذي عمل به العزابة في المغرب وهما يطبقان على كل من يخالف العرف العام للبلد أو الاتفاقات المعمول بها تحت رعاية العزابة، أو مخالفة السلوك المتبع في قضية من القضايا وبهذه الاعتبارات فإن الهجران قد نال كثيرا حتى من كبار العلماء.
وقد جرى في بعض العهود توسع في تطبيق الهجران فلم يقتصر فيه على من ارتكب المعاصي المعروفة، وإنما يطبق على من يخالف السيرة المتعارف عليها، وعلى من يرتكب ما يعتقد أنه يحط من قيمة الشخص أو يسبب مضرة للأفراد أو انحلالا وتفككا في المجتمع. وقد طبقت الخطة والهجران حتى على بعض العلماء، وقد ذكر الشيخ على يحي معمر[9] أمثلة عديدة من المواقف، ومن أمثلة ذلك العلامة ابن خلفون[10]، فقد خالف علماء عصره في بعض المسائل ونظرا لتشدد بعض العلماء وتمسكه برأيه طبقت عليه الخطة وبقي في الهجران عدة سنوات، قيل أنها بلغت اثنتي عشرة سنة، ومنها موقف العلماء من سليمان بن عبد الله بن بكر فقد أفتى هذا الشيخ بمسألة مخالفة للمعمول به بتاجديت[11]، فأخرجه الأشياخ إلى الخطة وجاء سليمان ليتوب بين أيديهم فلم يقبلوا منه إلا بعد سنوات ذلك لأنهم قالوا أن الفتوى قد انتشرت ولا تتم التوبة حتى يبلغ خبر رجوع الشيخ عن فتواه إلى كل من بلغته الفتوى الخاطئة.
كان من نتيجة تطبيق نظام الولاية والبراءة أن الإباضية استطاعوا حفظ مجتمعاتهم من البدع والخرافات التي تجدها عند غيرهم فلم تدخل الصوفية أو الزندقة أو البدع المتعلقة بالشرك إلى المجتمعات الإباضية التي تم فيها تطبيق مبدأ الولاية والبراءة الشخصيتين وبذلك كانت المجتمعات الإباضية من أكثر الفرق تمسكا بآداب الدين والتزاما بتعاليم الإسلام، وتورعا عن الشبهات. بهذا يشهد تاريخ الإباضية وبهذا يشهد كل من عاشرهم أو عاش بينهم. ورغم أن هذا النظام قد اندثر بعد دخول الاستعمار إلى بلاد المسلمين ومحاولته القضاء على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، إلا أن آثار تطبيق هذا النظام لا زالت قائمة. فالإباضية على وجه العموم لا زالوا من أكثر المسلمين تمسكا بآداب الإسلام وتعاليمه وأكثرهم ابتعادا عن المعاصي والشبهات، بذلك تشهد كتب السير عند الإباضية كما يشهد بذلك كل من عاش بينهم وعرفهم عن قرب.
ولو أن المجتمعات الإسلامية سواء كانت دولا أو قبائل أو جماعات أو عائلات أخذت بهذا النظام بعد تعديله بما يتناسب مع واقع العصر لاستطاعت أن تحل كثيرا من المشاكل التي نراها في كثير من الدول الإسلامية، ومنها مشاكل الشباب على اختلاف أنواعها من التدخين والمخدرات وعدم الاهتمام بالصلاة والتشبه بالأجانب إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع.
المراجع
1) سمر أسرة مسلمة - علي يحي معمر
2) الفكر السياسي عند الإباضية - عدون جهلان
3) فتاوى الشيخ بيوض - جمع وترتيب بكير بالحاج
4) قواعد الإسلام - إسماعيل الجيطالي

[1] القرآن الكريم، سورة الإسراء ، آية 36

[2] القرآن الكريم، سورة الممتحنة، آية 4

[3] القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 71

[4] القرآن الكريم، سورة المجادلة، آية 22

[5] القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 114

[6] عدون جهلان , الفكر السياسي عند الإباضية ص. 58

[7] بكير بالحاج -فتاوى الشيخ بيوض

[8] علي يحي معمر - الإباضية في موكب التاريخ - الحلقة الأولى

[9] علي يحي معمر : الإباضية في الجزائر

[10] ابن خلفون: أبو يعقوب بن خلفون - من علماء القرن السادس الهجري كان غزير العلم واسع الأفق ، حاضر البديهة، ساطع الحجة. اختلف مع علماء عصره في بعض المسائل. وصل لنا من كتبه أجوبة ابن خلفون - حققه الدكتور عمروالنامي

[11] تاجديت : قرية من قرى الجزائر كانت حافلة بالعلماء


الأسماء والصفات
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، ففهِمَه الصحابة حقَّ الفهم، واعتنوا به أشدَّ العناية، فحرصوا علَيه من أجل العمل به، فتدبروا آياته حتَّى أشربوا حب القرآن، فكان همهم الأكبر هو نشر دين الله، ونصر شريعته، فاقتدوا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يوجههم إلى ما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وَمِمَّا تعلموه منه أن لا يخوضوا في الآيات المتشابهات، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الذِينَ فيِ قُلَوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَاوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ, إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فيِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ أُولُواْ الاَلْبَابُ﴾ (آل عمران: 7).
لذلك لم تطرح الكثير من المسائل في عهد الصحابة رضوان الله عليهم لعدة أسباب منها:
1. أنهم كانوا يفهمون القرآن على سليقتهم العرَبيَِّة وفطرتهم السليمة، دون تكلف وتعقيد.
2. كان همهم العمل والجهاد ونشر الدين، ولم يقعدوا للمجادلات والمناظرات.
3. لم يختلطوا كثيرا بالثقافات والفلسفات الأخرى.
لهذه الأسباب وغيرها لم تطرح العديد من القضايا في عصرهم، خاصة إذا علمنا الحذر الشديد الذي كانوا يتحلون به عند خوضهم في آيات الله سبحانه وتعالى، وأبرز مثال على ذلك قول أبي بكر الصديق: «أي أرض تُقلُّني، وأيُّ سماء تظلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي».
ومع ذلك فقد وقع منهم بعض الكلام في مثل هذه القضايا، بحكم احتكاكهم بأهل الكتاب في المدينة، إِلاَّ أَنَّهُم لم يسترسلوا فيها لِما ورد فيها من التحذير الشديد.
وعندما اختلط أصحاب الثقافات السابقة بالمسلمين، انتشرت بين أوساطهم أفكار لم تكن معهودة عند السلف، ومن أبرز هذه الأفكار، فكرة الكلام في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر، وحقيقة النفاق، وهل هنالك منزلة بين الإيمان والكفر، وما مصير مرتكب الكبيرة؟، وحقيقة الشفاعة، وهل الله يرى أم لا يرى؟، وهل الجنة مخلوقة أم لا؟، وهل النار تفنى أم لا؟، وما مصير أصحاب النار؟، وما حقيقة القرآن، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟، ونحو ذلك من المسائل التي كان يَحذر منها الصحابة كثيرا لِما ينشأ منها من الجدال الذي يُؤَدِّي إلى الفرقة والشقاق بل التفسيق والتكفير، فقد كانت هناك بوادر لمثل هذه المسائل في عهد الصحابة، إلا أَنَّها خمدت في مهدها لانشغالهم بما هو أهم من ذلك بكثير، وهو الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله، وحماية ثغور الإسلام من الأعداء الذين كانوا يتربصون بهم من كُلّ جانب كما سلف ذكره.
وعندما انتشرت هذه الفلسفات الواردة على الفكر الإسلامي، اضطر المسلمون أن يتخذوا تجاهها مواقف، وكانت هذه المواقف تعبر عن رؤيتهم إلى النصوص الشرعية، وكيفية التعامل معها، فقد كانت هنالك أمور اتفق المسلمون عليها، وأمور اختلفوا عليها.
ونحن سنتناول في هذه المقالة مسألة: «الأسماء و الصفات»، ونبين موقف الإباضية نحو هذه المسألة المختلف فيها؛ لكن قبل البدء لا بأس أن نشير إلى أن سبب النزاع في المسألة هو اختلافهم في فهم الآيات المتشابهة، وكذلك اختلافهم في فهم وتأويل بعض الأحاديث الواردة في صفات الله عز وجل.
ولقد قسَّم علماء العقيدة التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
1. توحيد الربوبية: هو توحيد فعل الله عز وجل، بمعنى أن الذي يرزق هو الله، وأن الذي يخلق هو الله. وهذا القسم لم ينكره أحد حتَّى كفار قريش، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُوفَكُونَ﴾ (العنكبوت: 61)، وقال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نـَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَرْضَ مِنم بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلَ اَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت: 63)، وقال ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَمْرُ﴾ (الأعراف: 54)
2. توحيد الألوهية: وهو توحيد فعل العبد لله، بمعنى أن الإنسان لا يتوجه بأعماله إِلاَّ لله؛ فلا يتوكل إِلاَّ عليه، ولا يدعو غيره، ولا يصلي إِلاَّ إليه، ولا يشرك غيره في أي عمل يقوم به، قال الله تعالى: ﴿قُلِ اِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَآيْ وَمَمَاتِيَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162)؛ و هو إخلاص العمل لله تعالى دون غيره، وهو الفرق الجوهري بين المسلم والكافر.
وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم على هذين القسمين من التوحيد، لكنهم اختلفوا في القسم الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات.
3. توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه، ونفي الصفات التي نفاها عن نفسه.
وجوهر الخلاف في هَذِه القضية هو: هل الصفة شيء زائد عن الذات، أم هي عين الذات؟.
والإباضية يقسمون الصفات إلى ثلاثة أنواع:
1. صفات واجبة: كالوجود، والوحدانية، والأزلية، والأبدية، والقدرة، والحياة، والعلم؛ فالله موجود, والله واحد، وهو حي لا يموت، عالم قدير، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الشورى:11)
2. صفات مستحيلة: كالحدوث، والعدم، والفناء، والجهل، والعجز، ومشابهة الأجسام المخلوقة؛ فالله لا يفنى ولا يبيد، وليس بعاجز، ولا يشبه أحدا من خلقه، لأن هذه الصفات صفات ضعف، وهي من صفات المخلوقين، ولذلك فهي مستحيلة في حق الله تعالى.
3. صفات جائـزة: وهي كُلّ ما لا يترتب عليها وعلى عدمها نقص في حَقّ الله تعالى، فيوصف بها حين يفعلها، ولا يوصف بها إذا لم يفعلها لجواز فعلها أو تركها، كالخلق والإفناء والإعادة؛ فالله يخلق من يشاء متى يشاء كما شاء، ويرزق من يشاء متى شاء كما يشاء، وكما أَنَّهُ يحيي ويميت ويُمرِض ويشفي من يشاء متى يشاء كما يشاء، وهذه أفعال الله في خلقه؛ وجميع أفعال الله تعالى هي صفاته الجائزة التي لا يدرك الإنسان كنهها.
وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، فيها ذكر لبعض صفات الله تعالى، كقوله: ﴿اللهُ لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم﴾ (البقرة: 255)، فهو حي و قيوم، وكقوله: ﴿وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام: 18)، ولا خلاف بين المسلمين في صفة القاهر، ولا الحكيم، ولا الخبير، ولا الحي ولا القيوم، ونحو ذلك من الصفات الظاهرة الدلالة.
والإشكال الكبير الذي وقع بين المسلمين هو في الآيات التي ظاهرها التشبيه، مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ﴾ وقوله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ﴾، وقوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبـِّكَ فَإِنـَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ فما المقصود بالاستواء؟ وما المقصود بيد الله؟ ووجهه؟ وعينه وغيرها من الصفات؟، هل لله وجه وهل له يد، وهل له عين؟ وهل يستوي مثل استوائنا نحن المخلوقين؟؟.
هنا وقع الخلاف بين المسلمين، إلى:
الفريق الأَوَّل: يؤمن بظواهر الآيات والأحاديث الواردة في صفاته تَعَالى، ويرون الإيمان بها إيمانا بالله ودليلا عَلَى القول بتوحيده تَعَالى، ويسمون المؤولين لها إلى غَير معنى الجسمية بالمعطلة، أي معطلة صفات الله، فيقولون: إِنَّ لله يدا، ووجها، وعينا، ويستوي: بِمعنى يجلس، ويستثني البعض ويقول: له يد لا كأيدينا، ووجه لا كوجوهنا، وعين لا كأعيننا، وهكذا، وهذا الرأي يوهم أن الله يشبه مخلوقاته في امتلاكه لهذه الأعضاء، وهو غني عنها..
ويروون أحاديث في: أَنَّ الله خلق آدم عَلَى صورته، وأَنَّ له أصابع، وساقا، وقدما، وأَنَّه يضع قدمه عَلَى نار جهنم أَو عَلَى جهنم، فتقول: قط، قط. وأن له مكانا، وأَنَّه ينتقل من مكان إلى مكان، وأَنَّه ينزل إلى السماء الدنيا آخر كُلّ ليلة، وينزل في ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، وأَنَّه يضع قدمه عَلَى جهنم فتقول: قط قط، وغيرها من الأحاديث التي يعتمدون عليها..
الفريق الثاني: يزيد إلى ما مضى أشياء لا تليق بجلال الله عند أَي فرد له ذرة من العقل، حيث يقولون بأنَّ الله يضحك ويجلس، ويتعب ويرتاح، وينزل ويصعد.. وغير ذلك من الأقوال تَعَالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الفريق الثالث: وهم الذين يردون كُلّ ما ورد في الأسماء والصفات من كتاب الله وَالسنَّة الصحيحة المتواترة إلى محكم قوله تَعَالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الشورى:11)، وقاعدة: «لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء».
وحِرصُ الإباضية والمعتزلة وأهل البيت على التنزيه المطلق لله تعالى، جعلهم يؤوِّلون الآيات والأحاديث التي يفهم منها تشبيه الله بخلقه بِما يتناسب مع جلال الله وقدرته، وهذا المفهوم يُخالف مفهوم المتمسِّكين بظاهر معاني الآيات الذين يقولون: إِنَّه يجب أن نفهم الآيات على ظاهرها، دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل أو تأويل, ولا ينبغي أن نُعمِل فيها عقولنا أو نُؤوِّلها على غير معناها الظاهر.. ومن هذا نشأ الخلاف في قضية الأسماء والصفات.
فمنهم من يثبت لله صفات كصفات المخلوقين دون تكييف أو تمثيل أو تأويل؛ فيقول: إِنَّ الله استوى على العرش بذاته، وأَنَّه يَنزل كُلَّ ليلة في ثلث الليل الأخير نزولا يليق بِمقامه، وأنَّ له يدا ووجها، وقبضة وأصابع، وساقا ويمينا وجنبا كما ورد في ظاهر الآيات والأحاديث.
وإذا كانت بعض آيات الصفات يُمكن أن تفهم على ظاهرها بدون تشبيه أو تعطيل أو تكييف أو تأويل، فإن بعض هذه الآيات لا يُمكن إِلاَّ أن تُؤوَّل؛ فمثلا: قول الله تعالى: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ (الشمس: 13) وقوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ (القمر: 14)، وقوله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ (القلم: 42)، وقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم﴾ (التوبة: 67)، فكلُّ هذه الآيات وغيرها لا يُمكن أن تؤخذ بِمعناها الظاهري، فلابد من تأويلها.
فالمعنى الظاهري للآية الأخيرة يفهم منه نسبة النسيان إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكذلك آية ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾، وآية ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ﴾ (طه: 39)، فَإِنَّ العين هنا لا بد من تأويلها. وإذا أوَّلنا هذه الآية بِما يتناسب مع جلالة الله وعظمته فَإِنَّ كُلّ الآيات المتعلِّقة بصفات الله عز وجل يجب تأويلها بما يتناسب مع جلال الله تعالى، وبما تحتمله اللغة العربية، ومن هذه الكلمة الاستواء في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىا﴾ (طه: 5) فالاستواء يؤوَّل بمعنى الاستيلاء والاستعلاء، ولا يعنى الاستقرار.
وكذلك تؤوَّل أحاديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في صفات الله تعالى بنفس الكيفية.
فحديث النزول المشهور الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل رَبّنا كُلّ ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل؛ فيقول: "هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له»، يجب تأويله بِما لا يَتعارَض مَع جلالِ الله وعظمته؛ لأَنَّ الله مطَّلِع علينا في كُلّ وقت وحين، ويعلم عنَّا أكثر من علمنا بأنفسنا؛ فهو يقول للشيء كن فيكون، ولا يحتاج أن ينزل نزولا حقيقيا كُلّ ليلة ليغفر للتائبين والمستغفرين.
وإذ افترضنا ذلك كما يقول المتمسكون بظاهر الحديث أن الله ينزل نزولا حقيقيا يليق بجلال قدره في ثلث الليل الآخر؛ فإنه من المعلوم أن الأرض كرويَّة، وفي كُلّ لَحظة يوجد وقت السحر في مكان ما مِن لأرض التي نعيش عليها، وعليه فإنَّ الله ينزل في كُلّ لَحظة في مكان ما من هذا العالم، و هذا أمر لا يمكن أن يُتصوَّر أو حتَّى يفكَّر فيه؛ لهذا التصور جعل بَعض العقول في هذه القرون المتأخرة ترفض الاعتقاد بكروية الأرض، وتكفر كُلّ من قال بذلك، بعد إثبات ذلك بالأدلة العلمية والنصية.
فتأويل هذا الحديث وغيره من الأحاديث والآيات المتشابهة هو المخرج الوحيد للمسلمين من الوقوع في تشبيه الله بخلقه، وبنسبة صفات خلقه إليه.
أمثلة للصفات التي أَوَّلَها الإباضية
ومن أمثلة الصفات التي أَوَّلها الإباضية: صفة النفس والوجه والعين واليد والقبضة والتجلي الواردة في آياتٍ كثيرة من القرآن الكريم.
النفس: قال الله تعالى: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلآَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ (المائدة: 116)؛ فالنفس لا تكون إِلاَّ للمخلوقين لأَنَّ بِها يَحيون، ومعنى الآية: أي تَعلم غَيبي ولا أعلم غَيبك،
وفي قول الله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ (آل عمران: 28)، أي يُحذركم عُقوبته.
وفي قوله تَعَالى: ﴿ كَتَبَ عَلَىا نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 12)، أي على ذاته، كقوله: ﴿ اِنَ اَحْسَنتُم أَحْسَنتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ﴾ (الإسراء: 7).
الوجه: إذ لا يجوز أن يكون لله وجه، كما يعقل من وجوه الأجسام؛ لأَنَّهُ تعالى ليس بجسم، ولا يجوز عليه التبعيض، فقول الله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾(البقرة: 115).
وقوله: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَىا وَجْهُ رَبـِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 27)، وكذلك قول الله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ﴾، أي أن كُلّ ما في الوجود يفنى ولا يبقى إِلاَّ الله تعالى.
أما قوله تعالى: ﴿ إِنـَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ (الإنسان: 9)، فمعناها إِنَّمَا نطلب ثواب الله ورضاه.
العين: العين في اللغة على عدَّة معان؛ فهي: العين المركبة في الرأس، وتأتي بمعنى الحفظ، وبمعنى الجاسوس؛ أما العين المركبة في الرأس فَهي منفيَّة عن الله تعالى، ولذلك تُؤوَّل الآيات الواردة التي فيها كلمة العين على مقتضى المعاني الأخرى للعين، فقول الله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾، وقوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ﴾ فهي تؤوَّل بمعنى الحفظ والعلم.
الاستواء: في صفات الله بمعنى الاستيلاء والاستعلاء والقهر والغلبة، وعند غَير الإباضيَّة بمعنى الاستقرار، وبما أنَّ الاستقرار يوهم تشبيه الله بخلقه، فَإِنَّ الإباضية استبعدوا هذا الفهم، وَاتَّفَقوا على أن الاستواء معناه الاستيلاء والْمُلك كما في فهمه العرب عند نزول القُرآن، وذلك في قول الشاعر:
قَد استوى بشر على العــراق بغير سيف أو دم مُهــراق
العرش: عندما نقرأ قول الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىا﴾ لا يَنبغي أن نفهم منه أن الله مستقر عليه؛ لأَنَّ هذا تشبيه فلابد مِن تأويل الاستواء على معنى الاستعلاء والغلبة والقهر، ومثل هذا قولنا: «بيت الله» لا يعنى أن الله يسكن فيه.
يقول صاحب قاموس الشريعة في معنى العرش: «العرش خَلق من خَلق الله تعالى فوق السماء السابعة، يختبر به ملائكته، وهو موضوع للتسبيح، والتحميد، والثناء والمدح، والشكر، والعرش في السماء كبيت الله الحرام في الأرض؛ فأهل الأرض مكلفون بأن يطوفوا بالبيت طوافا وتمسحا وتقبيلا للحجر الأسود، وكذلك الملائكة في السماء يطوفون حول العرش»، وهذا يكفينا في معنى العرش وأي معنى آخر يوهم التشبيه حتى إمرار الآية كما هي يؤول إلى التشبيه والحلول.
وختاما: فإِنَّ المسلمين وإن اختلفوا في فهمهم لآيات الصفات الواردة في القرآن الكريم، لَكِنَّهم متفقون على وجوب تنزيه الله تعالى عن كُلّ نقص، وإن أهم ما يجب أن يعتقده المسلم في مسألة الصفات أنَّ الله ليس كمثله شيء، كما ذكر في القرآن الكريم، وهذا يعني أن كُلَّ صفة لمخلوق ليست من صفات الله تعالى، لأَنَّ المخلوق محدود بالعدم، لم يكن موجودا قبل أن يُخلق، ولن يكون موجودا بعد أن يَموت، فحياته محدودة، ومحتاج إلى غَيره.. وواجب على كُلّ مسلم أن ينزه الله تعالى عن جميع النقائص، وينسب إليه كُلَّ صفات الكمال.
وَكُلّما اعترضته آية أَو حديث صحيح في صفاته تَعَالى، أَو اعتراه شَيء في قلبه؛ فليقل كما قال تَعَالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.






يتبع بإذن الله

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

كُتبَ بتاريخ : [ 11-14-2010 ]
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



قضية خلق القرآن
في فترة من فترات الترف الفكري في عهد الدولة العباسية أثير في أوساط المسلمين سؤال شغل علماء المسلمين وحكامهم سنوات طويلة واختلفوا فيه اختلافا كبيرا حتى أنهم كفروا بعضهم بعضا، وهذا السؤال هو: هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ والذي أثار هذا السؤال كما تقول بعض المصادر هو رجل يهودي تظاهر بالإسلام اسمه شاكر الديصاني. ونظرا لأن هذه القضية ليست من أصول الدين ولا ينبني عليها عمل فسأكتفي فيها بذكر بعض الملاحظات والتعليقات، ومن أراد مزيدا من التفصيل فيها ليعرف أقوال العلماء ووجه الخلاف فيها فليرجع إلى كتاب الحق الدامغ للشيخ أحمد الخليلي[1].
1- إنّ هذه القضية لم تكن معروفة في عهد النبي (صلى الله عليه و سلم ) ولا في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم حتى نهاية الدولة الأموية، كما أن القرآن الكريم لم يتحدث عنها وكذلك السنة النبوية وهي ليست من الأمور الاعتقادية التي لا يتم الإيمان إلا بها ولا ينبني عليها أي عمل والخوض فيها وخصوصا في هذا العصر من الأمور التي يجب أن ينهى عنها، ويكفينا ما أجمع عليه المسلمون بأن القرآن كلام الله تعالى ونحن مطالبون بحفظه وفهمه وتدبره والعمل به.
2- إن هذه الفتنة حدثت في العراق في بداية القرن الثالث الهجري وكانت في بدايتها معركة جدلية بين بعض علماء المعتزلة والحاكم العباسي من جهة وبين الإمام أحمد بن حنبل وبعض من أتباعه من جهة أخرى. ولم يشترك فيها الإباضية لا من قريب ولا من بعيد, ففي الوقت الذي أثيرت فيها هذه القضية كان الإباضية في معزل عن هذا الجدل الفكري الذي شغل المسلمين سنوات عديدة.
3- دام الجدل في هذه القضية قرابة عشرين عاما(218-234) وتوالى على الحكم العباسي في هذه الفترة المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل في بداية عهده. وقد أعلن المأمون وهو الخليفة العباسي بوجوب الاعتقاد بخلق القرآن وأجبر الناس والعلماء على التصريح بذلك، وامتحن الناس والعلماء. وقصة الإمام أحمد بن حنبل في هذا معروفة ومشهورة. الغريب أنه في ذلك الوقت كان شغل الناس محصورا فقط في : هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ ولم يطرح أحد من العلماء السؤال الذي هو أهم منه وهو: هل يجوز للحاكم أو الخليفة أو غيره أن يكره أحدا من الناس على الاعتقاد بأمر مختلف فيه. فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه (لا إكراه في الدين)، فكيف يحق لأي إنسان أن يكره الناس ويجبرهم على الاعتقاد بخلق القرآن أو غيره، فكتب التاريخ لم تذكر أن أحد من العلماء وقف ليقول للمأمون ومن معه : لا يجوز لكم أن تكرهوا الناس على الاعتقاد، كما أنه لم نقرأ في كتب التاريخ أن وقف أحد من هؤلاء العلماء لينكر الفساد واللهو المتفشي في المجتمع الإسلامي بصفة عامة وفي بلاط الدولة بصفة خاصة في ذلك الوقت. فكيف يسكت العلماء عن هذا الفساد ويهتموا بقضية فرعية من قضايا الدين. إن كان هذا يدل على شيء فإنه يدل على وجود أيدي خفية تسعى لبث الفرقة بين المسلمين حتى جرتهم إلى مثل هذا الجدل الذي لا هدف منه.
4- في الوقت الذي كان الجدل في هذه القضية على أشده كان للإباضية إمامة بالمغرب، عرفت في كتب التاريخ بعد بالدولة الرستمية، وقد شهد لها التاريخ بالعدل والاستقامة وإقامة الدين والحرية الفكرية وتعدد المذاهب والآراء والدعوة إلى الله كما هو مفصل في كتب للتاريخ[2]، كما كانت في تلك الفترة إمامة في عُمان توالى عليها عدة أئمة انتُخِبوا بالشورى وحكموا بالعدل.
5- إن اعتقاد المأمون بخلق القرآن لم يأت عن جهل أو إيحاء من ابن أبي دؤاد[3] كما تقول بعض كتب التاريخ - لإبعاد الشبهة عن المأمون - وإنما عن يقين واقتناع لأن كل كتب التاريخ تذكر أن المأمون كان قد حفظ القرآن ودرس الحديث واللغة والأدب والشعر، وفي الوقت الذي كان فيها أهل الحديث يحدثون كان يجتمع عليه التلاميذ، وقد صنع له منبرا كما صنع لهم وحَدّث كما حدّثوا، فهذا يدل أنه صاحب علم وأن اجتهاده لم يأت من فراغ وليس من الخطأ أن يقتنع بأن القرآن مخلوق أو غيرها من القضايا التي اختلف فيها العلماء، وإنما الخطأ الذي وقع فيه والذي يجب أن ينبه عليه من قبل العلماء هو إجباره الناس على الاعتقاد بما يعتقده هو. وكان واجبُ العلماء في ذلك الحين أن يركزوا في نقاشهم وبحثهم وردودهم علي قضية إجبار الناس على الاعتقاد بخلق القرآن وليس على قضية: هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟
6- عندما وصلت أخبار هذه الفتنة إلى الإباضية في عُمان والمغرب بدؤوا في نقاشها وبما أنهم لم يشتركوا في تلك الفتن ولم يقعوا تحت العواطف فكان بحثهم في القضية موضوعيا لأنهم انطلقوا من قاعدة الحجة والدليل وليس من باب التكفير والإكراه والضغائن والأحقاد. وهم أيضا اختلفوا فيها ولهم فيها رأيان معتمدان في المذهب، والاختلاف ناتج عن معنى كلمة القرآن. هل هو علم الله وكلامه الذاتي أم هو المصحف. فمنهم من قال بأن القرآن مخلوق، ومنهم من قال بأنه غير مخلوق ولكن لم يكفر أحد منهم الآخر كما حصل في العراق. فعلماء الإباضية في المغرب اتفقوا على أن القرآن مخلوق, أما في عُمان فقد اختلف العلماء في خلق القرآن ذلك الوقت في بداية الأمر وخصوصا بين محمد بن محبوب بن الرحيل وبين محمد بن هاشم واستمر النقاش فيها فترة من الزمن وعندما خافوا من الفتنة والانشقاق اجتمعوا في مدينة دما (السيب حاليا) واتفقوا على الاكتفاء بما كان عليه السلف وهو الكف عن التصريح بخلق القرآن أو عدمه[4].
7- ليس من مصلحة المسلمين اليوم إثارة مثل هذه القضايا من جديد والأفضل لهم الكف عنها وعن غيرها من القضايا التي لا طائل من ورائها، إذ لم يثبت أن قال أحد من الصحابة أو التابعين أن القرآن مخلوق كما لم يقل أحد منهم أنه قديم، بل إن الآثار المتواترة عنهم أن القرآن كلام الله، وفي هذا كفاية لجمع الأمة من جديد. والمشكلة في عمومها فلسفية كلامية أُقحمت فيها العامة إقحاما وأجبر فيها العلماء على قول واحد ولولا ذلك لما كانت مشكلة أصلا.
[1] أحمد الخليلي: الحق الدامغ

[2] عن الدولة الرستمية أنظر إبراهيم بحاز : الدولة الرستمية - دراسة في الأوضاع الاقتصادية والحياة الفكرية. الجزائر 1993

[3] أبي دؤاد: قاضي المأمون

[4] الحق الدامغ - أحمد الخليلي


حوار حول خلق القرآن

التقيت في أحد الأيام بأحد الإخوة من زنجبار وحدثني بقصة حصلت له مع رجل كان يجلس بجانبه في رحلة جوية بين جدة والقاهرة قال: بعد ان تعارفنا وتحدثنا في كثير من المواضيع سألني سؤالا محرجا فقال لي إلى أي مذهب تنتمي. قلت له أنا إباضي.
قال: إذا أنت من الخوارج.
قال: فغضبت غضبا شديدا ولكني كظمت غيضي ورردت عليه بهدوء قلت :وما دليلك أننا من الخوارج
قال: لعدة أسباب
قلت هاتها
قال: أولا أنكم تقولون بخلق القرآن
قلت له: إن كل الآشياء التى نتعامل معها ونعرفها إنما هي مخلوقة فكل ما في الكون مخلوق والله خالق كل شيء وماذا تقول أنت
قال لا أقول بخلق القرآن.
إذن ما ذا تقول
قال: أقول قديم
قلت: ماذا تقصد بقديم ..... فسكت

قلت له ما معنى قرآن؟ هل هو الكتاب المطبوع الذي بين يدينا أم الحروف أم كلام الله
. اذا كان القصد بالقرأن الكتاب بما يحويه من كلمات وحروف وحبر فهي أشياء لايشك عاقل أنها مخلوقة وإذل كان المقصود بالقرآن كلام الله فهو كلام الله دون أن نزيد على ذلك كون كلام الله مخلوق أو غير مخلوق.

ومع ذلك نقول أن الإباضية لم ي
نفردوا بالقول بخلق القرآن بل أن كثيرا من علماء السنة أنفسهم يقولون بخلق القرآن.

إن قضية خلق القرأن ليس قضية شرعية ينبني عليها حكم شرعي يترتب عليه ثواب وعقاب بل هي قضية فلسفية قابلة للتأويل وتحتمل أكثر من فهم وكل ع
الم فسرها حسب وجهة نظره
وهل قول الإباضية بأن القرآن مخلوق إذا تعارض مع قول غيرهم يخرجهم من الملة؟ أعتقد أن الأمر فيه شيئ من الإجحاف ولإذا كان هذا حقا فهذا ينطبق على كل قضية اختلف في تأويلها الناس

أنني أدعوا كل المتنطعين الذين الذين يبحثون عن القضايا الخلافية وتكبيرها أن يهدؤا قليلا ويعلموا أن الناس قد تغيرت أفهامها وأن على كل من يقول شيئا لا يكفيه أن يقول قال فلان أو علان ولو كان هذا الفلان شيخ الاسلام أو أحد الإئمة فقولهم إن لم يكن دليله قويا مقنعا يعتد به

إن
امتحان أحمد ابن حنبل في هذه القضية لا يعني أن قوله كان الحق وإن صبره على الأذى لا يقوي رأيه لكن القضية سياسية بحثة فلو افترضنا أن العكس كان .

ماذا لو كان
الحاكم العباسي (المتوكل) متبني الرأي الأخر وأحمد ابن حنبل تبني راى خلق القرآن وعذب وأوذي وسجن على هذا القول ألا يكون راي الحنابلة وأهل السنة ومن جاء بعدهم أن القرآن مخلوق

ثم أن الذي سجن وعذب ههو خليفة المسلمين أي أن الرأي الرسمي للدولة الاسلامية هو الق
ائل بخلق القرآن فهل خليفة المسلمين في ذلك الوقت خارج من الملة أو من الخوارج أو لديه خلل في العقيدة.
نسأل الله السلامة والعفو والعافية


عقيدة التوحيد للشيخ اسماعيل الجيطالي


قال مولّفها: ينبغي أن يلقَّن الصبي هذه العقيدة مشروحة في أوَّل نشأته، حتّى يحفظها حفظاً، وهي هذه:


إنَّ الله تعالى أوجب على كلِّ بالغ سالمٍ عاقل من الآفات أن يعتقد: أنَّ الله سبحانه إله واحد لا شريك له، منفرد لا نِدَّ له، قديم لا أوَّل له، مستمرُّ الوجود لا آخر له؛ ليس بجسم مصوَّر ولا بجوهر مقدَّر؛ ولا يماثل الأجسام ولا يتجزَّأ بالانقسام؛ ولا تحلُّه الجواهر والأعراض؛ ولا تعتريه الخواطر والأغراض، ولا تحويه الأقطار والجهات، ولا تكتنفه الأرض ولا السموات؛ منزَّه عن التمييز والانتقال، مقدَّس من الزوال؛ حيُّ قادر جبَّار قاهر، لا يعترضه قصور ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، له ملك الملكوت والعزَّة والجبروت، منفرد بالخلق والاختراع، متوحِّد بالإيجاد والإبداع، عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السموات.
لا يعزب عنه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماوات، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، يعلم حركة الخواطر وما يختلج في مكنون الضمائر، عالم بما كان وبما يكون من ظاهر ومكنون، يعلم ذلك بنفسه وبذاته، لا بعلم متجدد قائم بالذات، تعالى الله عن حلول المعاني والصفات، وهو تعالى مريد للكائنات، مدّبر للحادثات، خالق لجميع الموجودات وأفعالِها، مقدِّر لأرزاقها وآجالها؛ لا يقع كفر ولا إيمان، ولا نكر ولا عرفان، ولا سهو ولا نسيان، إلاَّ بقضائه ومشيئته وحكمه وإرادته، لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه.

لم يزل قادراً مريداً في الأزل لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدَّرها لها، فوجدت في أوقاتها كما قدَّرها، من غير تقدُّم ولا تأخُّر، بل وقعت على وفق علمه وإرادته.


وهو سبحانه سميع لا تخفى عليه الأصوات، بصير لا تغيب عنه الألوان، لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دقَّ؛ يرى من غير حدقة ولا أجفان، ويسمع من غير أصمغة ولا آذان، كما يعلم من غير قلب ولا جنان، وهو تعالى متكلم بلا شفة ولا لسان.
أمر بالطاعة والإحسان، ناه عن الإساءة والعصيان؛ وأعدَّ على طاعته ثواب الخلد والجِنان، متوعِّد على معصيته عقاباً بين أطباق النيران.


وإنَّه تعالى حكيم في أفعاله، عادل في حُكمه، متفضِّلٌّ بالإنعام، متمِّيزٌ بالإحسان، لا يظلم الناس شيئاً، ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون، لا يسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون.
وأنّه تعالى بعث رسوله النبي الأمين، محمدبن عبد الله خاتم النبيين إلى الجنِّ والإنس أجمعين، فنسخ بشريعته جميع الشرائع المتقدِّمة إلاَّ ما لا ينسخ، من التوحيد ومكارم الأخلاق، فختم به الأنبياء، وفضَّله على جميع أوليائه من الأنبياء والأصفياء، ومنع سبحانه كمال التوحيد الذي هو قوله: لا إله إلاَّ الله، ما لم تقترن به الشهادة لرسول الله، وألزم الخلق تصديقَه في جميع ما قاله وأخبر عنه: من أنَّ الموت حقٌّ، وأنَّ البعث حقٌّ، وأنَّ الحساب حقٌّ، وأنَّ الجنة حقٌّ، وأنَّ لله جملة الأنبياء والرسل، وجملة الملائكة والكتب، والإيمان بالقضاء والقدر، وولاية أولياء الله من الأوَّلين والآخرين، والعداوة لأعدائه من الإنس والجنِّ أجمعين، ومعرفة الشرك وأحكامه، ومعرفة كبائر النفاق، وفرز كبائر الشرك من كبائر النفاق، ومعرفة تحريم دماء المسلمين وأموالهم، وسبي ذراريهم بالتوحيد الذي معهم، ومعرفة تحليل دماء المشركين وأموالهم وسبي ذراريهم، بالشرك الذي معهم، ومعرفة الملل وأحكامها، واعتقاد العبودية لله بجميع أوصافها.








من قضايا العقيدة






من المباحث اللغوية والمصطلحات الشرعية التي تناولتها أقلام أكثر علماء الإسلام، وَاتَّفَقت نظراتهم فيها حينا واختلفت حينا آخر، هي معاني كلمات: الكفر، والإيمان، والإسلام، والشرك، والنفاق، والعصيان، والكبيرة.
وللإباضية في هذه المواضع مفاهيم كما لغيرهم، فكل المذاهب تأخذ أحكامها من كتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولكن قد يختلفون في طرق الاستنباط.
ومن هذه المفاهيم ما يلي:
? الإيمان والإسلام والكفر.
? كفر النعمة.
? الوعد والوعيد.
? الولاية والبراءة والوقوف.
? خلود العصاة في النار.
? الشفاعة.
وهذه القضايا مرتبطة ببعضها البعض، وتكمل بعضها بعضا، و يترتب عليها التعامل بين الناس.
مفهوم الإيمان:
يرى الإباضية أن النطق بالشهادتين وحده لا يكفي لأن يكون الإنسان مسلما، بل يلزم أن يترجم هذا القول والاعتقاد إلى عمل صالح، فالإسلام اعتقاد وقول وعمل، ولا يتم إسلام المرء إِلاَّ بهما معا. فالاعتقاد: هو الإيمان الخالص بالله وملائكته وكتبه ورسله. والقول: هو النطق بكلمة الشهادة، والعمل: هو الإتيان بجميع الفرائض، واجتناب جميع المحرمات، والوقوف عند الشبهات.
فطبيعة الإسلام تقتضي من الفرد المسلم أن يؤمن بالله ورسله، ثُمَّ يصرح بلسانه بهذا الإيمان، وبعدها يندفع للعمل بما جاء في هذه الرسالة التي آمن بها. ﴿ وَمَنَ اَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾ (فصلت) والثواب والعقاب في الآخرة منوطان بالإيمان والعمل معا، وليس بالإيمان ولا بالقول فقط دون ارتباطها ﴿ يَـآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَاَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَـقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ(3)﴾ (الصف). ولقد كان رسول الله (ص) يقول وهو يدعو الناس إلى الإسلام في مَكَّة: «أيها الناس، قولوا لا إله إِلاَّ الله تفلحوا» وكفار قريش كانوا يعلمون أَنَّها ليست كلمة تلاك بالألسن ولو كانت كذلك لقالوهَا، وعصمت دماؤهم، وَإنَّمَا هي التزام بمقتضى هذه الكلمة، وانقياد كامل لله ورسوله، وهم غير مستعدين لذلك، ولذلك فلم يؤمن إِلاَّ من أدرك المعنى الحقيقي للكلمة. وعلى هذا الأساس يفهم قول النبي (ص): «من قال لا إله إِلاَّ الله دخل الْجَنَّة». فمن قال: «لا إله إِلاَّ الله مُحمَّد رسول الله» عليه أن يعمل بمقتضاها، وهذا الذي عليه الإباضية، أَمَّا غيرهم فإن الذي يقرأ في كتب الإيمان والعقائد يجد عدة تفسيرات لهذا الحديث تترد بين رأي الإباضية، وبين من يأخذ بظاهر الحديث، ويقول: إِنَّ كلمة التوحيد كافية لدخول الْجَنَّة.
ومن هذا نفهم أَنَّهُ لا يختلف مفهوم الإسلام عن مفهوم الإيمان عند الإباضية إذَا تفرقا، فكلاهما شيء واحد من الناحية الشرعية، أَمَّا من الناحية اللغوية فمعنى كُلّ منهما واضح، فالإسلام: يعني الانقياد، والإيمان: يعني التصديق.
يقول الشيخ علي يحي معمر: «لو ألقيت نظرة إلى العالم الإسلامي الذي يموج بملايين البشر، يشهدون أن لا إله إِلاَّ الله وأن مُحمَّدا رسول الله، ويفخرون بأنهم مسلمون لأذهلتك النتيجة. تجد أحدهم يقول: لا اله إلا الله مُحمَّد رسول الله، لكن قلبه ممتلئ بحب غير الله، وجوارحه تتسابق إلى ما نهى الله عنه. فما وزن المسلم الذي لا يقرب الصلاة، أو لا يؤدى حق الله في ماله، وما وزن المسلم الذي ينفق الأموال في كُلّ سبيل إِلاَّ سبيل الله، ويشترك في كل مشروع إِلاَّ مشروع الخير، ويغشى كل مجلس إِلاَّ مجلس الذكر.
إنك تستطيع أن تجد آلاف الصور لملايين من البشر كُلّها تخالف ما أنزل الله، وهؤلاء كلهم محسوبون على الإسلام.
إن عشرة آلاف من المسلمين عندما كان الإسلام إيمانا وقولا وعملا استطاعوا أن يهدوا الملايين إلى دين الله بسلوكهم قبل أن يهدوهم بأقوالهم وأسيافهم، واستطاع أولئك الآلاف القليلة أن يثبتوا حكم الله قويا مزدهرا في بلاد الله وإن كان أهلها على غير الإسلام، لأَنَّ أولئك القلة كانوا مسلمين حقا بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم»[1].
كيف يحكم الإسلام على هؤلاء الناس الذي يؤمنون بالله ورسوله قولا، ويخالفون أوامر الله ورسوله عملا، وكيف يتعامل الفرد المسلم والمجتمع المسلم معهم. وما مصير هؤلاء في الآخرة. هذا ما سيأتي بيانه، ولكن قبل ذلك يلزم أن نبين أقسام الناس في الدنيا والآخرة وأقسام الذنوب.
كفر النعمة:
ينقسم الناس في الدنيا إلى مسلم وكافر.

أَمَّا المسلم فهو المؤمن التقي الموفي بدينه الحريص على إسلامه, القائم بالواجبات والمجتنب للمعاصي والسيئات، وهو الذي يرجو رحمة رَبِّه ويخشى عذابه ويتوب كُلَّ ما أذنب.

وأَمَّا الكافر: نوعان: كافر كفر شرك (الخارج من الملة) . وكافر كفر نفاق أو كفر معصية، وهو ما يطلق عليه الإباضية: كفر النعمة.
فالكفر بمعنى الشرك: لا يطلق إلاّ على من أنكر معلوما من الدَّين بالضرورة كوجود الله، أَو أشرك به غيره، أو أنكر شَيئًا الوحي أو الرسالة، أو البعث أو الحشر أو الحساب أو الجنة أو النار.
وكفر النفاق أو كفر النعمة: فيطلق على كُلّ من ارتكب كبيرة من الكبائر العملية كالسرقة والزنى والخمر، أو تركية كترك الصلاة وعدم صيام رمضان... وغيرها، والمذاهب التي لا تطلق الكفر على مرتكب المعصية الكبيرة، إِنَّمَا ذلك لأَنَّ الكفر عندهم مرادف للشرك[2].
وقد وردت كلمة الكفر بهذه المعاني في عدة آيات من القرآن الكريم، فأحيانا تأتي بمعنى الشرك، وأحيانا بمعنى كفر النعمة، كما وردت في أحاديث صحيحة عن النَّبِيّ (ص) ومن أمثلة ذلك من القرآن الكريم:
¨ قول الله تعالى: ﴿ لِيَـبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنـَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبـِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)﴾ (النمل)، ومعنى الكفر هنا: هو جحود نعمة الله تعالى وفضله وإحسانه.
¨ قول الله تَعَالىَ: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيـَةً كَانَتَ ـ امِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾ (النحل).
¨ قول الله تعالى: ﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)﴾ (آل عمران) والكفر هنا يعني: ترك الحج مع الاستطاعة.
¨ قول الله تعالى ﴿ وَمَن لـَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ(44)﴾ (المائدة)
ومن الأحاديث:
¨ قول النبي (ص) «من ترك الصلاة فقد كفر» وقوله أيضا: «بين العبد والكفر ترك الصلاة».
¨ قول الرسول (ص) : «الرشوة في الحكم كفر».
¨ قوله (ص) فيمن أتى كاهنا: «من أتي كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على مُحمَّد».
¨ قوله (ص) فيمن يتهاون بالصلاة: «من ترك الصلاة كفر».
¨ قول الله تعالى فيمن يتعامل بالربا: ﴿ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ اَثِيمٍ(276)﴾ (البقرة)
وكثير من هذه النصوص التي وردت بهذا المعنى، والتي إذا أمكن تأويل بعضها بالشرك أو بالردة، فإن بعضها الآخر لا يمكن تأويله إِلاَّ على كفر النعمة الذي هو بمعنى العصيان أو الفسوق، أو ما يطلق عليه أهل الحديث: «كفر دون كفر».
ففي كل الأمثلة السابقة لا يمكن أن نحصر كلمة «الكفر» على الخروج من الملة أو الشرك بالله، ولذلك يتبين تقسيم الكفر عند الإباضية إلى قسمين:
كفر شرك ، وكفر نعمة.
فكفر الشرك: مرتبط بأصول العقيدة، وهو مرادف للشرك.
أَمَّا كفر النعمة: فهو مرتبط بالأعمال، وكلاهما سماه القرآن كفرا كما في الآيات السابقة.
ولقد استغل بعض الكتاب المتحاملين على الإباضية - قديما وحديثا - إطلاق الإباضية كلمة الكفر على مرتكبي الكبائر من المسلمين، فقالوا بأن الإباضية يقولون بكفر مرتكبي الكبائر من المسلمين دون أن يبينوا معنى الكفر المقصود، ذلك لأَنَّهُم يفهمون معنى الكفر بأنه الكفر المرادف لكلمة الشرك: وهو الخروج من الملة، ومن ذلك يفهم القارئ من هذه الكتب كأن الإباضية يقولون: بأن مرتكب الكبيرة مشرك، وهذه مخالفة للحقيقة، بل من الشبه التي استغلت على مدى التاريخ للصد عن الفكر الإباضي, فكثير من الناس حين يسمعون أن الإباضية يحكمون بكفر عصاة الموحدين، يحسبون أن هذا الحكم إخراج للمسلمين من الدين، وحكمٌ عليهم بالشرك، وهذا ما ذهب إليه الخوارج، فالإباضية فرقة من الخوارج، وهكذا يبنون نتائج على مقدمات كاذبة مشوهة، فيتورطون في خطأٍ شنيع، وينسبون إلى فرقة من أحرص فِرَق الإسلام على قول الْحَقِّ واتباعه، ومن أشدها تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله، ينسبون إليها أقوالاً وآراءً هي أبعد عنها من الذين ينسبونها إليها، ولو رجع هؤلاء إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإلى سنة رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، ثُمَّ اطلعوا على كتب الإباضيَّة وناقشوها في أدلتها ومستنداتها، وعرضوها على الميزان الذي وضعه مُحمَّد (ص)، وفهموا المعنى الذي يقصده الإباضية من كلمة الكفر حين تطلق على الموحدين، إِنَّهُم لو فعلوا ذلك لوفروا على أنفسهم وصمة الجهل، وعلموا أن هؤلاء الناس يحاسبون أنفسهم على كُلّ دقيقة وجليلة، قبل أن يحاسبهم الناس، وأَنَّهم لا يقدمون على قول أو عمل، إِلاَّ إذا انبنى على آية محكمة أو سنة متبعة. وأعتقد أن ما تَقَدَّم يكفي لإيضاح المقصود من إطلاق كلمة الكفر على العصاة ويقصد بذلك كفر النعمة.
وقد يسأل سائل لماذا استعمل الإباضية كلمة الكفر على العصاة، ولم يستعملوا كلمة أخرى مثل الفسوق والنفاق، والسبب كما يقول الشيخ علي يحي معمر رحمه الله :
«أَوَّلاً: أَنَّها الكلمة التي أطلقها القرآن والسنة النبوية عليهم في كثير من المناسبات كما ذكرنا بعضها فيما سبق.
وثانيا: أن كلمة النفاق كان لها أثرا خاصا في تاريخ الإسلام، فقد اشتهر بها عدد من الناس في زمن رسول الله (ص)، آمنوا ظاهرهم ولم تؤمن قلوبهم. فكان القرآن الكريم ينزل بتقريعهم ويفضح بعضهم، ويتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، حتَّى اشتهروا بهذا الاسم، وعرفوا به قال تعالى ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنم بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمُ, إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)﴾ (التوبة)
ولقد استعمل الإباضية كلمة الكفر في وصف العصاة الذين يرتكبون الموبقات أو ما يشبهها، لأَنَّ الرسول (ص) حين وصف تارك الصلاة والراشي والمرابي وغيرهما بالكفر، ولم يحكم عليهم بالشرك أو الردة أو الخروج من الملة.
فاستعمل الإباضية كلمة الكفر في المواضع التي استعملها القرآن الكريم ورسول الله (ص) وفيما يشبهها، وهي تعني كفر النعمة كما هو واضح من الآيات والأحاديث السابقة.
ومن الجدير بالذكر أنه قد وافق الإباضية على إثبات كفر النعمة جماعة كبيرة من العلماء؛ منهم: البيهقي، وابن الأثير، وابن العربي، والحافظ ابن حجر، والعيني، والقسطلاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وابن عاشور، وغيرهم»[3].
يقول الشيخ على يحي معمر : «ولو حكم بالشرك أو الخروج من الملة على كل من ارتشى وكل من رابى وكل من صدق كاهنا أو عرافا، وكل من تهاون في صلاة أو حج فريضة لما بقي من المسلمين إِلاَّ العدد اليسير. ولو سرنا مع هذا المنطلق لحكمنا عَلَى جميع المسلمين بالشرك أو الردة لقوله (ص) : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، ولقد بدأ ضرب الرقاب بعده بقليل، ولم يتوقف حتَّى اليوم. بل إن رقاب المسلمين لتطير بأيدي المسلمين في كُلّ يوم حتَّى هذا العصر، ولا يبدو أنها ستتوقف، فهل نحكم على كُلّ هؤلاء بأنهم مشركون مرتدون. وهل نحكم على أولئك البسطاء السذج الذين يصدقون كُلّ شيء حتى العراف بأنهم مشركون مرتدون. فالإباضية عندما يطلقون كلمة الكفر على موحد فهم يقصدون به كفر النعمة، وهو ما يقصد به الفسوق أو النفاق أو العصيان عند غيرهم. فكفر النعمة والفسوق والعصيان كلمات ثلاثة تدل على معنى واحد، وهذه الكلمات الثلاثة أطلقت على المنافقين في عهد النبي (ص) كما أطلقت على الذين يجاهرون بالمعصية»[4].
كيف يحكم الإباضية على المسلم العاصي؟ وكيف يتعاملون معه؟
إنهم ينزلون العصاة المنزلة التي أنزلها الله تعالى لهم، ويتعاملون معه كما بين القرآن الكريم، وكما تعامل معهم الرسول (ص). نجد هذا واضحا جليا في تعامله مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فقد أمر النَّبِيّ أصحابه أن يعتزلوهم ولا يكلموهم حتَّى تاب الله عليهم.
وهكذا سار الإباضية على هذا النهج فكانوا يتبرؤون من العصاة، وهكذا يجب أن تكون معاملة المسلمين لمن يفسق عن أمر الله أو ينافق في دين الله، أو يكفر بنعمة الله، فإنها معاملة العاصي المنتهك الذي يجب إرشاده إلى وجوب الاستمساك بدينه ورجوعه إلى أوامر ربه، فإن أصرّ واستكبر برئ منه ومن عمله وجافاه المسلمون حتى يتوب.
إذن لاَ بُدَّ أن نفرق في المعاملة بين المؤمن المتقي، وبين العاصي المرتكب لما نهى الله عنه، والثواب والعقاب مرتبطان بالعمل، يقول الله تعالى في سورة السجدة: ﴿ أَفَمَن كَانَ مُومِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ(18) أَمَّا الذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَاوَىا نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(19) وَأَمَّا الذِينَ فَسَقُوا فَمَاوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَنْ يـَّخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(20)﴾.
فالمسلم العاصي والمجاهر بمعصيته يُنصح ويُدعى إلى التوبة والرجوع، فإن أبي تبرأ منه وجافاه المسلمون. وهذا ما يعرف عند الإباضية بالولاية والبراءة[5]، كما هو مفصل في مكان آخر من هذا الكتاب.
أقسام الذنوب
من المعلوم أن الذنوب أو المعاصي قسمان : كبائر، وصغائر.

فالكبائر جمع كبيرة: وهي كل ما عظم من المعصية مِمَّا فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، فالسرقة وشرب الخمر والزنا وقتل النفس التي حرم الله، والكذب وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف وترك الصلاة والامتناع عن دفع الزكاة وترك الحج مع الاستطاعة، وقطع الطريق والظلم، وإيذاء المسلمين وتخويفهم والفساد في الأرض، ونصرة الباطل والحكم بغير ما أنزل الله إلى غير ذلك من الأفعال المحرمة بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، كل ذلك من الكبائر، وهي التي يترتب على ارتكابها وعيد في القرآن أو في السنة، سواء شرع لها حد في الدنيا كالزنا والسرقة أو لم يشرع كأكل الربا والميتة ولحم الخنزير»[6].

أما الصغائر فهي ما دون الكبائر وهي الذنوب التي بين العبد وبين الله تعالى، وقد ذكر أبو مسلم الرواحي في نثار الجوهر نقلا عن قطب الأئمة أمثلة منها: الغمزة والهمزة والنظرة والهم بالمعصية والكذب على غير الله ورسوله حيث لا ضرر على أحد، والدخول بغير إذن، وأخذ حبة أو حطبة أو غير ذلك من مال الغير، ولبس ثوبه وركوب دابته أو سقي بدلوه. ويمكن أن يقاس عليها ما تشبهها. وهذه الذنوب هي التي قال الله تعالى فيها ﴿ إِن تَـجْتَنِبُوا كَبَآئِـرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا(31)﴾ (النساء) وهي التي يغفرها لله للعبد، وتكفرها الصلوات المكتوبة والصدقات والصوم وصلاة الجمعة.

أما الكبائر فلا تغفر إِلاَّ بتوبة صادقة.

ومنها فإن مرتكب الكبيرة المصرّ عليها والذي يموت يخلد في النار كما سيأتي بيان ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.

وقد وعد الله تعالى من عمل بطاعته الْجَنَّة، ولا خلف لوعده، وأوعد لمن عصاه النار إذا مات غير تائب من معاصيه وأصر عليها، ولا خلف لوعيده، ولا مبدل لقوله. قال تعالى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(29)﴾ (ق)، وقال : ﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)﴾ (آل عمران) فالوعد حق والوعيد حق، قال تعالى : ﴿ وَنَادَىآ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُم مَّا وَعَدَ رَبـُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُم بَيْنَهُمُ, أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44)﴾ (الأعراف).
فمن مات مؤمنا بالله تائبا، صادقا في توبته مخلصا لله في عمله، كان من أهل رضوان الله تعالى، ولا يؤخذ بما جناه قبل التوبة، ومن مات مصرا على شيء من معاصي الله، ولم يتب من المعاصي التي توجب التوبة، كان من أهل سخط الله، ولا ينتفع بما سبق من عمله. مصداقا لقول الرسول (ص): «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراعا فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراعا فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فالعاقبة بحسن الخاتمة وطالما أن المرء لا يدرى متى تكون نهايته فإن عليه أن يعمل الصالحات طول حياته، وإن أخطأ فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه قبل أن يسبق عليه الكتاب. وعندها لا تنفعه توبة ولا شفاعة. فمن يموت بغير توبة فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
أَمَّا الاعتقاد بأن الله يغفر الذنوب جميعا بدون توبة صادقة فإن هذا يجر إلى اللامبالاة بالمعاصي وتسويف التوبة، كما أنه مخالفة لكثير من الآيات القرآنية الكريمة.
أدلة خلود مرتكب الكبيرة في النار:
إن الإباضية تقول بخلود أهل الكبائر في النار وهي العقيدة التي نطق بها القرآن ودعمتها كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وهي واضحة كل الوضوح لمن تدبر في آيات القرآن. وقضية الخلود في النار من القضايا المتعلقة بالعدل الإلهي وبالوعد والوعيد، وما ينتج عنه من ثواب وعقاب. والأدلة على خلود العصاة في النار كثيرة في القرآن والسنة. فمن القرآن الكريم:
· قول الله تعالى في سورة هود ﴿ فَأَمَّا الذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ(106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبـُّكَ إِنَّ رَبـَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ(107) وَأَمَّا الذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبـُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ(108)﴾.
· قول الله تعالى في البقرة: ﴿ الذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، فَمَن جَآءَهُ, مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبـِّهِ فَانتَهَىا فَلَهُ, مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ, إِلىَ اللهِ، وَمَنْ عَادَ فَأُؤْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275)﴾. هذه الآية تتوعد آكلي الربا بالخلود في النار والربا كما هو معلوم من أكبر الكبائر.
· يقول الله تعالى في سورة يونس: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ اُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26) وَالذِينَ كَسَبُوا السَّـيِّـئَاتِ جَزَآءُ سَـيِّئَةِم بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنـَّمَآ أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا اُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(27)
· قال الله تعالى بعد آية الوصية في سورة النساء ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُّطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13) وَمَنْ يَّعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ نُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(14)﴾.
فليس أصرح من هذه الآية في أن من يعصي الله تعالى يخلد في جهنم، وهذه الآية لا تخص الكفار وإنما تخص من يتعدى حدود الله عموما. يقول الشهيد سيد قطب وهو يعلق على هذه الآية: «لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة في تشريع جزئي كتشريع الميراث، وفي جزئية من هذا التشريع؟ إن الآثار تبدو أضخم من الفعل لمن لا يعرف حقيقة الأمر وأصله العميق». ثم يجيب في شيء من التفصيل على هذا السؤال «بأن التشريع لله وحده، فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم، والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم، والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم وليس لغيره - أفرادا أو جماعات - شيء من هذا الحق إلا بارتكان إلى شريعة الله». ويخلص في النهاية إلى القول: «هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته.. ومن ثم يستوي أن يكون الخروج في أمر واحد أو في الشريعة كلها. وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي تتكئ عليها نصوص كثيرة في هذه السورة وتعرضها عرضا صريحا حاسما، لا يقبل المماحكة ولا يقبل التأويل. وهذه هي الحقيقة الكبرى التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام، وأين حياتهم من هذا الدَّين»[7].
· قول الله تعالى في سورة الانفطار: ﴿ إِنَّ الاَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ(15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِـبِينَ(16) ﴾ هذه الآية قسمت الناس يوم القيامة إلى قسمين: أبرار وفجار فالأبرار مصيرهم إلى الجنة وهم فيها خالدون، والفجار مصيرهم النار وهم فيها خالدون.
· قول الله تعالى في سورة الفرقان: ﴿ وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)﴾.
· قول الله تعالى في سورة الفرقان ﴿ وَالذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا _اخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَالِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69) اِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(70)
· قول الله تعالى ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ اُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26) وَالذِينَ كَسَبُوا السَّـيِّـئَاتِ جَزَآءُ سَـيِّئَةِم بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنـَّمَآ أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا اُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(27)
ومن السنة:

· روى البخاري ومسلم عن ابن عمر (رض) أن رسول اله (ص) قال: «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي. إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة».
· روي الترمذي وابن ماجة والحاكم عن عثمان (رض) أن رسول الله (ص) قال: «إن القبر أول منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه».
· روى أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم عن أنس (رض) أن رسول الله (ص) قال: «إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله. قيل كيف يستعمله قال: يفتح له عملا صالحا قبل موته ثم يقبضه عليه».
· روى الشيخان عن ابن عمر (رض) أن رسول الله (ص) قال: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم ينادى مناد: يا أهل الجنة خلود بلا موت. يا أهل النار خلود بلا موت. فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم».
· روى أحمد والبزار والحاكم والنسائي عن ابن عمر (رض) أن النبي (ص) قال : «لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر». وفي رواية أخرى ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : «مدمن خمر والعاق لوالديه والديوث»، وهو الذي يقر السوء في أهله.
· روى الشيخان عن رسول الله (ص) أَنَّهُ قال «من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة».
· روى البخاري عن رسول الله(ص) أنه قال: «من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الْجَنَّة».
· روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رض) أن رسول الله (ص) قال : «من تردى[8] من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ[9] بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».
· روى البخاري عن أبي هريرة (رض) أن رسول الله (ص) قال : «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار والذي يقتحم[10] يقتحم في النار».
· روى البخاري عن حذيفة (رض) أن رسول الله (ص) قال: «لا يدخل الجنة نمام وفي رواية قتات».
· روى البخاري عن ابن عمر (رض) أن رسول الله (ص) قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما».
· روى مسلم في صحيحه أن رسول الله (ص) قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».
والروايات كثيرة تارة تدل على الخلود بالنص عليه، وتارة بالجمع بينهن بين التأبيد، وأخرى بالتوعد بالحرمان من الْجَنَّة، أو حرمان شم ريحها.
ومحصل الأحاديث واحد وإن اختلفت ألفاظها، وهو أن مرتكب هذه الأعمال إن لم يتب قبل موته، فهو في نار جهنم مثله مثل الكافر إِلاَّ أَنَّهُ يجب أن نؤمن بأن الجنة درجات، وأن النار دركات، وأن أفضل درجات الجنة أعلاها وهي جنة الفردوس، وقد ورد في الحديث «اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى».
وأما النار فإن أشد الناس عذابا من في أسفلها قال تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الاَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَـجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾ (النساء) وأقل الناس عذابا من في أعلاها. نعوذ بالله من النار. وأن عذاب الناس يتفاوت كل حسب ذنوبه في الدنيا، ومن دخل النار فلن يخرج منها أبدا، ومن دخل الجنة فلن يخرج منها أبدا بصريح القرآن والسنة.
ولا توجد آية في كتاب الله تعالى تقول بخروج العصاة من النار بل إِنَّ آيات كثيرة تؤكد معنى التأبيد في جهنم للعصاة، وكلها آيات صريحة في دلالاتها قطعية في ثبوتها؛ وأما الأحاديث فقد وردت أحاديث في خلود العصاة في النار كما وردت أحاديث في خروج العصاة من المؤمنين من النار.
لكن إذا عرضنا هذه الأحاديث على كتاب الله نجد أنها أَوَّلاً: أحاديث أحادية، وثانيا: فإن هذه الأحاديث تعارض الكثير من الآيات القرآنية الصريحة، وغيرها من الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضا منها. وقضايا العقيدة لا تؤخذ إِلاَّ من القرآن الكريم، ومما تواتر من أحاديث النبي (ص)، أما الأحاديث الأحادية فلا يحتج بها في أمور العقيدة على رأي جمهور العلماء[11].
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أَنَّهُ عند قبض روح الإنسان، إما أن تقبضه ملائكة الرحمة، أو تقبضه ملائكة العذاب حسب أعماله في الدنيا.
فهذا المسلم العاصي الذي لم يتب من معصيته أيُّ الملائكة تقبض روحه؟ هل هي ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ فإذا كانت ملائكة الرحمة فلم يعذبه الله بذنبه في النار ثم يدخله الجنة, وإذا كانت ملائكة العذاب فقد سبق في علم الله أَنَّهُ من أهل الشقاء، فكيف يدخل الجنة بعد ذلك.
وكما ثبت من حديث النبي (ص): «أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». فالميت في قبره إما أن يكون سعيدا ينتظر قيام الساعة ودخول الجنة، وإما أن يكون شقيا يتمني عدم قيام الساعة حتى لا يعذب في جهنم.
ولقد عاب الله على الذين ورثوا الكتاب من قبلنا قولهم ﴿سيغفر لنا﴾ في قوله تعالى ﴿ فَخَلَفَ مِنم بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَاخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الاَدْنَىا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يـَّاتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاخُذُوهُ أَلَمْ يُوخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(169)﴾. كما عاب على بني إسرائيل قولهم في سورة البقرة: ﴿ وَقَالُواْ: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً، قُلَ اَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُّخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ, أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(80) بَلَىا مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)﴾. وقد فسر كثير من المفسرين أن معنى من أحاطت به خطيئته بمعنى مات على ذنبه أو خطيئته ولم يتب. فهذه آية صريحة في كتاب الله تبين أن مصير من لم يتخلص من ذنبه بالتوبة سيكون خالدا في النار مع الخالدين.
يقول الشيخ أحمد الخليلي في الحق الدامغ : «إن القول بتحول الفجار من العذاب إلى الثواب ما هو إلا أثر من آثار الغزو اليهودي للفكر الإسلامي، واستدل بقول الله تعالى في سورة البقرة ﴿ وَقَالُواْ: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً، قُلَ اَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُّخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ, أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(80) بَلَىا مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)﴾ ومن أمعن النظر في أحوال الناس يتبين له أن اعتقاد انتهاء عذاب العصاة إلى أمد، وانقلابهم بعده إلى النعيم جرأ هذه الأمة كما جرأ اليهود من قبل على انتهاك حرمات الدين والاسترسال وراء شهوات النفس، ولا أدل على ذلك من الأدب الهابط الذي يصور أنواع الفحشاء، ويجليها للقراء والسامعين في أقبح صورها وأبشع مظاهرها، وقد انتشر هذا الأدب في أوساط القائلين بالعفو عن أهل الكبائر، أو انتهاء عذابهم إلى أمد انتشارا يزري بقدر أمة القرآن، وغلب على المؤلفات الأدبية مطولاتها ومختصراتها كالأغاني، ومحاضرات الأدباء، والعقد الفريد، حتى كاد الأدب يكون عنوانا على سوء الأدب.
وقد صان الله من ذلك أدب الإباضية الذي رسخ في قلوبهم ما جاء به القرآن من أبدية عذاب أهل الكبائر كأبدية المطيعين المحسنين. ولو قلبت صفحات أدبهم لوجدتهم في شعرهم ونثرهم - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - لا يعرفون خمرا ولا مجونا».
[1] علي يحي معمر : الإباضية في موكب التاريخ.

[2] فتاوى الشيخ بيوض ترتيب بكير محمد الشيخ بالحاج

[3] مقال لأبي عاصم الراشدي

[4] علي يحي معمر: مرجع سابق.

[5] أنظر فصل الولاية والبراءة .

[6] الحق الدامغ - أحمد الخليلي

[7] الضلال- تفسير سورة النساء

[8] تردى : أسقط نفسه عمدا

[9] يتوجأ : يضرب بها نفسه

[10] يقتحم: يرمي نفسه في النار

[11] ينظر كتاب السيف الحاد للشيخ سعيد القنوبى


أسباب الاختلاف

· أسباب الاختلاف
· أصول الاستنباط عند الإباضية
· الخلافات في العقيدة
· الخلافات الفقهية
مقدمة
الخلاف سنة كونية وطبيعة بشرية وقد جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم في عدة مواضع منها قول الله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) وقوله: (ولا يزالون مختلفين)، ولعل أول خلاف حدث في التاريخ هو الخلاف الذي حدث بين قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام وأدى ذلك إلى قتل هابيل كما ذكر القرآن في سور ة النساء.
ومن الخلاف ما هو مقبول ومنه ما هو مذموم، فالخلاف المقبول هو الذي يكون سببه الاختلاف في الفهم والاجتهاد في فروع الدين، ولعل هذا هو الخلاف الذي عناه الرسول (ص) بقوله (اختلاف أمتي رحمة). وأما الخلاف المذموم فهو الذي يكون بسبب التعصب وإتباع الهوى ، وهذا الخلاف يسبب الفرقة والتباغض، ونرجو أن يختفي من واقع المسلمين.
أسباب الاختلاف
إن وجهات النظر بصفة عامة تختلف من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى جماعة ومن دولة إلى أخرى. وفي أي قضية من القضايا نجد أن درجة الاختلاف تتناسب مع درجة الوعي والتربية والمصلحة ودرجة التحضر والقوة والضعف فكل فرد أو فرقة ينظر إلى القضية الخلافية (أو غيرها) من زاويته الخاصة من خلال مصلحته وحسب ما تكوّن لديه من آراء, وبذلك يمكن القول بالنسبة للقضايا الخلافية إنه ليس هناك حق مطلق إنما كل رأي يملك قدرا نسبيا من الحق طالما أن الإخلاص وغاية الوصول إلى الحق هو ما يتصف به كل من المخالفين. وبالنسبة للقضايا الشرعية فبالإضافة إلى ما سبق فإن هناك أسبابا نتج عنها الاختلاف بين العلماء في كثير من الأحكام الشرعية نذكر أهمها باختصار :
1- الاختلاف في أصول التشريع، وبعض مصادر الاستنباط.
من أهم أسباب الاختلاف بين المذاهب هو الاختلاف في بعض الأصول الشرعية ومصادر الاستنباط، فرغم إجماع الأمة على أن القرآن والسنة والإجماع هي القواعد الأساسية لأصول الاستنباط، إلا أنهم اختلفوا فيما يأتي بعدها من الأصول فأبو حنيفة مثلا يقدم القياس على مرسل الحديث المرسل والإمام مالك يتوسع في الأخذ بالمصالح المرسلة ويقدم عمل أهل المدينة على القياس .
2- تعارض الجرح والتعديل في الراوي الواحد.
من المعلوم أن عدم ثبوت الحديث يكون إما بانقطاع في سنده أو جرح في أحد رواته، وقد اختلف المحدثون في ترجيح وعدالة بعض الرواة
. (ولعل أول ظاهرة تستوقف الناظر في كتب الجرح والتعديل، هي ظاهرة التعارض في أقوال النقاد من الجارحين والمعدلين في الراوي الواحد، حيث يوثقه بعضهم ويجرحه آخرون، بل إنك لترى التعارض في الحكم يصدر أحيانا في الراوي الواحد، حيث يروى عنه تعديله مرة، وجرحه مرة أخرى)[1]. ولعل الاختلاف القائم في مسألة رواية المبتدع وما تفرع منها، كان له أكبر الأثر في حكمهم على الراوي الواحد. ولعل حشر الإباضية ضمن طائفة المبتدعين كان من أهم الأسباب التي من أجلها أهمل علماء السنة كثيرا من
الأحاديث المروية عن رواة الإباضية.
ويقول أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ما نصه (وكان للاختلاف المذهبي دور في التعديل والجرح، فأهل السنة يجرحون كثيرا من الشيعة حتى أنهم نصوا على أنه لا يصح أن يُروى عن علي ما رواه عنه أصحابه وشيعته، إنما يصح أن يُروى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود، وكذلك كان الشيعة مع أهل السنة، فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت وهكذا. ونشأ عن هذا أن من يعدله قوم يجرحه آخرون. قال الذهبي (لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة) ومع ما في هذا القول من المبالغة فهو يدلنا على مقدار اختلاف الأنظار في الجرح والتعديل. ولنضرب على ذلك مثلا: محمد بن إسحاق أكبر مؤرخ في حوادث الإسلام الأولى قال فيه قتادة : لا يزال الناس في علم ما عاش محمد بن إسحاق، وقال فيه النسائي : (ليس بالقوي)، وقال سفيان: (ما سمعت أحدا يتهم محمد بن إسحاق)، وقال الدار قطني: (لا يُحتج به وبأبيه)، وقال مالك: (أشهد أنه كذاب) .... الخ.
ومثال آخر هو عكرمة مولى ابن عباس، وقد ملأ الدنيا حديثا وتفسيرا، فقد رماه بعضهم بالكذب وبأنه يرى رأي الخوارج وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء، ورووا عن كذبه شيئا كثيرا فرووا أن سعيد بن المسيب قال لمولاه "برد" لا تكذب علي كما كذب عكرمة على مولاه. وقال القاسم إن عكرمة بحرا من البحور وتكلم الناس فيه، وليس يحتج بحديثه. هذا على حين يوثقه آخرون ويعدلونه فابن جرير الطبري يثق به كل الثقة ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله، وقد وثقه أحمد بن حنبل واسحق بن راهويه ويحي بن معين وغيرهم من كبار المحدثين، فالبخاري ترجح له صدقه فهو يروي له في صحيحه كثيرا، ومسلم ترجح له كذبه فلم يرو له إلا حديثا واحدا في الحج ولم يعتمد عليه وحده وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير في الموضوع نفسه[2].
3- الاختلاف في فهم نص الحديث أو الآية
فقد يتفق العلماء في وصول الحديث وثبوته عندهم ولكنهم يختلفون في فهمهم لنص الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم : (لا يمس القرآن إلا طاهر) فهمه العلماء على عدة معان فكلمة طاهر قد تدل على طهارة الحدث الأكبر أو الأصغر وقد يراد بها من ليس على بدنه نجاسة. ومن ذلك اختلف العلماء في مس المصحف بدون وضوء فمنهم من أجازه، ومنهم من كره ذلك.
ومن أمثلة ذلك أيضا ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الأحزاب نزل عليه جبريل واستعجله بالذهاب إلى بني قريظة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه مستعجلا لهم : (لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريضة) فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال آخرون:(بل نصلي، لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك). فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم جميعا على فعلهم, رغم أن اجتهاد بعضهم أدى إلى تأخير الصلاة عن وقتها عمدا - أخذا بظاهر النص- وأدى اجتهاد غيرهم إلى مخالفة ظاهر النص.
4- الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص.
اختلف العلماء في تأويل الأحاديث وترجيح بعضها على بعض حسب اختلافهم في فهمها، ولكن لم ينكر أحد منهم الحديث، وعدم الأخذ به لا يعني إنكاره وعدم الاعتراف به فالإباضية عندما تركوا الأخذ ببعض الأحاديث في البخاري ومسلم أو في غيرها من كتب السنة لا يعنى إنكارهم لها، ولكن رجحوا عليها غيرها من الأحاديث أو الآيات على ذلك الحديث، وليس هذا خاصا بالإباضية إنما هذا ما فعله كثير من العلماء والأئمة. ومن أمثلة ذلك الإمام الشافعي الذي لم يأخذ بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم الذي يقول أن النبي (ص) لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو الذي قال: (ليس لأحد بلغته سُنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يدعها لقول أحد). فهل كان الإمام الشافعي منكرا للحديث الصحيح، كلا, ولكن استنباطه للحكم لم يعتمد فقط على ظاهر الحديث.
ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين
إن الاختلاف الذي يكون سببه ما ذكرناه لا ينبغي أن يحدث فرقة بين المسلمين بل يجب أن تتسع له صدور العلماء وأن يحسنوا الظن بالمخالف، لأن هذا الخلاف لا يمكن القضاء عليه، فهو موجود من بداية البشرية وسيستمر إلى قيام الساعة. ومن يظن أنه سيأتي اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون على رأي واحد - في فروع الفقه أو العقيدة - فهو واهم وذلك ضرب من الخيال، لأن الصحابة ومن بعدهم اختلفوا ولم يتفقوا على رأي واحد في كل مسألة ولا يمكن أن نكون أحسن منهم. وإن الذين يحاولون جمع الأمة الإسلامية على رأي واحد بترجيح بعض الآراء والأحاديث على غيرها ما هو إلا تعصب لأحد الأقوال المعروفة ولن يزيدوا الأمر إلا تعقيدا, لأن سلف الأمة من الصحابة والتابعين كانوا أكثر علما بهذه القضايا وأقرب إلى النبع الصافي ورغم ذلك فقد اختلفوا فيها. وكما يقول صاحب كتاب "أدب الخلاف" فإن (الأصل في علماء الإسلام ودعاته ورجاله أنهم لا يختلفون رغبة في الاختلاف، ولا حبا في النزاع، ولا يكون دافعهم الشهوة، وإنما بحثا عن الحق ورغبة في رضوان الله، وحينئذ فلا بد أن يكون لكل صاحب قول دليل، أو لكل أهل مذهب دليل يستدلون به، أو أدلة يستدلون بها، ولا يجوز لك أن تأخذ أدلة القول من المذهب أو الجماعة من خصومهم وممن يخالفهم ما دام يمكنك معرفة أدلتهم مباشرة، أو مشافهة، وإما من كتبهم،وإما بمراسلتهم، وإما من خلال نقل الثقات من تلاميذهم)[3].
نستنتج مما سبق أنه لا يوجد مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر في هذا الكون يقصد أن يخالف سنة النبي (ص) سواء كانت قولية أو فعلية لمجرد المخالفة. إن كل مسلم إما أن يكون مجتهدا أو مقلدا، وعموم الناس مقلدون، والمجتهدون قلة في جميع الأزمان والعصور. وبالنسبة للقضايا العقيدية وقضايا الفقه المعلومة ليس هناك من جديد يمكن أن يضيفه المجتهدون في هذا الزمان.
الخلاف بين الإباضية وأهل السنة
إن أصل الخلاف بين الإباضية وغيرهم من بقية الفِرَق الإسلامية إنما هو خلاف سياسي في قضايا الخلافة والشورى ترتب عليه من جانب الإباضية عدم اعترافهم بالدولة الأموية والدولة العباسية كخلافة إسلامية مما جعلهم ينتقلون إلى أطراف الدولة الإسلامية ويقيمون دولا خاصة بهم، بينما عاشت بقية المذاهب الإسلامية في ظل هذه الدول ومن جاء بعدها من الدول المتعاقبة التي حكمت بلاد المسلمين.
كما ترتب عليه من جانب أهل السنة رفض الفكر الإباضي والفقه الإباضي والرأي الإباضي منذ القرن الأول الهجري، ويرجع سبب ذلك إلى اعتبار الإباضية - الذين لم يكونوا على وفاق مع الأمويين - فرقة من فرق الخوارج من قبل المؤرخين الأمويين ونسبتهم إلى أهل البدع والأهواء من قبل المحدثين، فلم يؤخذ حديثهم ولم تقبل آراؤهم. بل إن المحدثين والفقهاء من أهل السنة قد رفضوا كل رأي جاء به المعتزلة والخوارج والشيعة منذ ذلك الوقت ولا زال هذا قائما إلى الآن. يكفي أن يقال هذا قول المعتزلة أو هذا قول الخوارج فيُرفض سواء كان حقا أو باطلا. فكونوا حاجزا فكريا بينهم وبين مخالفيهم ومنهم الإباضية.
والذي نرجوه في هذا الزمان الذي ارتبطت فيه مصالح الناس، وسهلت فيه المواصلات والاتصالات هو أن تزول هذه الحواجز الفكرية بين فرق المسلمين الثلاثة الإباضية والسنة والشيعة وأن يتم الاستفادة من الفكر الإسلامي والتراث التاريخي والحضاري عند كل الفرق. ولا يتم ذلك إلا بالمعرفة والتعارف والاعتراف - كما قال الشيخ علي يحي معمر رحمه الله.

لماذا لم تنتشر آراء الإباضية كما انتشرت غيرها من الآراء.
قد تبدو بعض آراء الإباضية غريبة على كثير من المسلمين من غير الإباضية وخصوصا الذين لم يتصلوا بالإباضية لا من قريب ولا من بعيد وإنما عرفوا الإباضية عن طريق كتب الفِرَق والمذاهب التي للأسف لم تنصف الإباضية، والتي لا زالت مرجعا لكل باحث ولذلك أسباب كثيرة ليس هذا مجال التفصيل فيها، إنما أذكر أهمها باختصار لأن التفصيل فيها يحتاج إلى كتاب منفصل ودراسة تحليلية وافية. ونأمل أن يقوم أحد الشباب المسلم بدراسة تحليلية لهذه الأسباب التي من أجلها أُبعد الفكر الإباضي عن أمة المسلمين منذ زمن بعيد. ومن هذه الأسباب :
1- اهتمام أهل الحديث بكتابي البخاري ومسلم وشروحهما وجعلهما كأساس للسنة.
2- وجد من الدول الإسلامية من يتبنى مذهبا معينا وأن ينقل آراءه ويكتبها وينشرها.
3- منع كتب الإباضية من دخول بعض الدول الإسلامية.
4- ظلم الولاة والحكام الذين تسلطوا على الأمة الإسلامية وسياستهم الجائرة التي طاردت كل من رفع صوته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكرّهوا الأمة فيمن يقول بجواز الخروج على الحاكم ووصفوه بالخروج من الدين.
5- قلة مصادر تاريخ الإباضية بذهاب كثير منها نتيجة التعصب والظلم والحسد وحرق المكتبات.
6- انحسار الإباضية إلى مناطق بعيدة عن مراكز السياسة.
7- نسبة الإباضية إلى الخوارج جعلت بقية المسلمــين يعرضون عن الفكر الإباضي ويرفضونه أصلا.
8- ضعف العلاقة الاجتماعية بين المجتمعات الإباضية وبقية المجتمعات الإسلامية.
9- ثقة بعض الكتاب المعاصرين العمياء بما كتبه الأقدمون حول الفرق ومن بينها الإباضية.
10- اعتبار الإباضية من الفرق المبتدعة الضالة مما أدى إلى تجنب المحدثين الرواية عنهم لأنهم اشترطوا فيمن يؤخذ عنه الحديث ألا يكون مبتدعا فقد جاء في مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين قال : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة: قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السّنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم).
وهذه القاعدة التي وضعت من زاوية ضيقة لم يتفق عليها علماء الحديث، فمنهم من رفض حديث المبتدع مطلقا (كالخارجي والمعتزلي) فقال : (لا يقبل من المبتدع أي حديث)، ومنهم من قال يقبل منه الحديث إلا إذا كان يدعو
إلى بدعته. ونتيجة لهذه القاعدة وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره لم يهتم علماء الحديث بالأحاديث التي دونها الإباضية كما لم يتعرضوا لرجال الإباضية بالجرح والتعديل.
فجمهور علماء الأمة الذين اهتموا بتتبع أحوال رواة الحديث واقتفاء آثارهم جرحا وتعديلا قد أهملوا أو أغفلوا ذكر رجال الإباضية في كتب الجرح والتعديل عدا ما قاله يحيى بن معين في كتابه التاريخ عن الربيع بن حبيب حيث قال: (الربيع بن حبيب يروي عن الحسن وابن سيرين وهو ثقة)[4].
بعد هذه المقدمة الضرورية يمكننا أن نقسم الخلاف بين الإباضية وغيرهم في أمور الدين إلى ثلاثة أقسام: الخلاف في العقيدة والخلاف في الفقه والخلاف الفكر.

[1] خلدون الأحدب - أسباب اختلاف المحدثين

[2] أحمد أمين -ضحى الإسلام: الجزء الثاني

[3] عوض القرني: أدب الخلاف ص. 17 دار الأندلس الخضراء ، جدة

[4] الربيع بن حبيب محدثا وفقيها عمرو بن مسعود الكاباوي




لماذا لا يرفع الإباضية أيديهم في الصلاة؟

أدلة الاباضية في أهم القضايا الفقهية التي تميز بها الإباضية عن غيرهم من المذاهب الإسلامية

مقدمة
رفع الأيدي في الصلاة لم يقل به أحد من علماء الإباضية، بل إن منهم من كرهه لاعتباره من الحركات المنافية للخشوع في الصلاة. ولهذا فقد تميز الإباضية منذ القرن الأول الهجري بعدم رفع أيديهم في الصلاة، أما المذاهب الأخرى فرغم ثبوت الرفع عندهم إلا أنهم مختلفون في حكمه فمنهم من أوجبه ومنهم من قال باستحبابه ومنهم من أجازه، كما اختلفوا أيضا في عدد مراته وتوقيته، هل هو قبل التكبير أو معه أو بعده،كما هو مفصل في كتب الفقه والحديث عندهم.
ومسألة الرفع هي من المسائل الجزئية في الفقه الإسلامي، وطرحها في هذا الوقت قد لا يأتي بجديد، كما أن الخلاف فيها قديم وهي من الخلافات الفرعية التي لا تمس العقيدة بشيء، ولا ينبغي أن تكون مثار خلاف ونزاع وجدال بين المسلمين؛ في وقت هم أحوج فيه إلى الوحدة والاجتماع والبعد عن الفرقة والاختلاف. لكن الدافع من طرحها الآن عدة أسباب منها:
أولا:- الإجابة على سؤال فقهي يتردد على ألسنة كثير من المسلمين من الإباضية وغيرهم. هذا السؤال هو: لماذا لا يرفع الإباضية أيديهم ولا يقبضونها في الصلاة؟ وما هي أدلتهم في ترك الرفع؟ ولماذا هم يختلفون عن بقية المذاهب في بعض جزئيات الصلاة، كالرفع عند التكبير، وترك التأمين والضم (وضع اليمنى على اليسرى)، وغيرها رغم وجود روايات في كتب الحديث استند عليها القائلون لهذه الجزئيات؟
ثانيا : إن بعض المعاصرين استغلوا كثرة الروايات الواردة في الرفع فوصفوا الإباضية بمخالفة السنة وإنكار الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهل حقا يخالف الإباضية سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل هم ينكرون أحاديث الرفع؟ هذا ما سوف يتم طرحه ومناقشته والإجابة عليه في هذا البحث.
ثالثا: انتشار تيارات في الأمة الإسلامية، تتعصب لرأيها وترفض الرأي المخالف، وتتبنى مبدأ التبديع والتفسيق لكل من يخالفهم. كما أنها تملك من الإمكانيات المادية والإعلامية ما مكنها من أن تؤثر في أفكار كثير من المسلمين الذين لم تتح لهم الفرصة للاطلاع على الفقه المقارن. ونظرا للآلة الإعلامية القوية التي يملكها بعض أصحاب هذا الفكر، والتي تتمثل في الكم الهائل من الأشرطة والكتب ومواقع الانترنت والفضائيات، فقد أدّى هذا إلى تهميش الفكر الإباضي ، بل تعدى إلى وصف أتباعه بأوصاف متعددة منها مخالفة السنة والابتداع.
رابعا: العزلة التي عاشها الإباضية على مدى التاريخ وجهل كثير من المسلمين بحقيقتهم وتاريخهم، بالإضافة إلى نسبتهم إلى أهل البدع والأهواء والخوارج من قبل المؤرخين وأهل الحديث قد أوجد فجوة فكرية بينهم وبين إخوانهم من بقية المذاهب، كان لهذا أثر كبير في عدم ذكر آراء الإباضية وأدلتهم حتى ولو كانت مستمدة من الكتاب والسنة، أو وافقت إحدى المذاهب الأخرى.
لقد أصاب الفكر الإباضي قدر كبير من التشويه من قبل المؤرخين القدامى وأصحاب المقالات ومن بعض علماء الحديث، نتيجة للفتن التي تعرضت لها الأمة الإسلامية في القرن الأول الهجري وللظروف التاريخية التي مرت على الإباضية، ولعل من أهم أسباب ذلك أن الإباضية الأوائل لم يكونوا على وفاق مع الأمويين بعد أن ألصقت بهم تهمة الخوارج والابتداع، ولعل هذا ما جعل أهل الحديث وفقهاء المدارس الأخرى يعرضون عن الروايات والآراء الإباضية إعراضا شبه تام.
فمن يقرأ في كتب الفقه عند غير الإباضية لا يجد ذكرا للرأي الإباضي إلا فيما ندر، ومن يطالع في كتب الحديث لا يجد إشارة إلى أي محدثين إباضية إلا قليلا. وهكذا تعاقبت الأجيال على جهل كامل بالفكر الإباضي نتيجة الاعتماد على ما كتبه المؤرخون وأصحاب المقالات من معلومات خاطئة عن الإباضية، قد لا يكون مقصودا لكنه موجود.
ومن أمثلة ذلك أن مسند الإمام الربيع وهو حجة الإباضية في الحديث والفقه لا زال مجهولا عند كثير من المهتمين بالحديث، ورغم أن أغلب الأحاديث الواردة في مسند الربيع مروية في كتب السنة، إلا أنه يوجد قديما وحديثا من ينكر وجود الكتاب، ومنهم من ينكر حتى وجود مؤلفه، وقد سئل أستاذ معاصر يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الحديث عن مسند الربيع بن حبيب فكان رده: سمعت عنه ولم أره. وسئل آخر وهو يشغل منصب رئيس قسم التفسير والحديث في إحدى الجامعات المعتبرة عن الربيع ومسنده فأجاب باستهزاء: من الربيع وما مسند الربيع؟.
وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب في هذا الزمان الذي سهلت فيه الاتصالات ولم يعد العلم مكتوما أو مجهولا أو خافيا على أحد، فعن طريق البحث في الانترنت أو الاتصال عن طريق الهاتف أو السفر يستطيع أي شخص أن يتأكد من أي معلومة في أي مكان على وجه الأرض في وقت قصير لا يتجاوز عدة ساعات. ولذلك فإنه لا يعذر عند الله من لا يتحرى الصدق والإخلاص في البحث أو في نقل أي معلومة، ولا يعد منصفا من يتجاهل أقوال وآراء من يخالفه في الفكر وهو يعلم أنها موجودة وقريبة.
وبقدر ما نتأسف عند سماع ردود كهذه من رجال كرسوا حياتهم ودراستهم لعلم الحديث، إلا أنه قد نلتمس العذر لبعضهم، لأنه ربما لم تتيسر لهم الظروف للاطلاع على فكر الإباضية. ثم إن التعتيم السياسي والتاريخي على مدى أكثر من ألف عام كان له بالغ الأثر في صد المثقفين والباحثين عن الاطلاع على فكر الإباضية عموما.
كما أنه لا بد أن نسجل هنا أن الإباضية أنفسهم يتحملون نصيبا من جهل الناس لهم بسبب تقصيرهم في نشر فكرهم والتعريف بمذهبهم فيما سبق من الزمان. ورغم الجهود التي قام بها أمثال العلامة السالمي، والشيخ سليمان باشا الباروني، والشيخ أبو اسحق اطفيش، وما تقوم به وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان وجمعية التراث في وادي ميزاب بالجزائر وغيرهما؛ إلا أن الكثير من الكتب الإباضية لا تزال مخطوطة، تنتظر من ينفض عنها غبار النسيان ويريها نور المطابع.
ومن جهة أخرى نذكر بكل أسف أنه يوجد من الباحثين والمفكرين والفقهاء المعاصرين من يعرف عن الإباضية تاريخا وفكرا وعقيدة ومع ذلك يحاول - عن قصد أو غير قصد - تهميش الفكر الإباضي والتعتيم عليه والرد عليه بطريقة غير موضوعية ولا علمية. ولا ندري سبب ذلك في هذا العصر الذي نتوقع فيه توفر الأمانة العلمية، والنقاش العلمي المتزن، والتفتح الفكري والعقلي.
ولعل سائلا يسأل: لماذا لم تنتشر آراء الإباضية قديما كما انتشرت غيرها من الآراء؟ والجواب أنه – بالإضافة إلى بعض ما تقدم - هناك أسباب كثيرة ليس هذا مجال التفصيل فيها، وإنما أذكر أهمها باختصار. ونأمل أن يقوم أحد الباحثين بدراسة تحليلية لهذه الأسباب التي من أجلها أُبعد الفكر الإباضي عن أمة المسلمين منذ زمن بعيد.
من هذه الأسباب :
1- اهتمام أهل الحديث بكتابي البخاري ومسلم وشروحهما وجعلهما كأساس للسنة.
2- اعتبار الإباضية من الفرق المبتدعة الضالة، مما أدى إلى تجنب كثير من المحدثين الرواية عنهم لأنهم اشترطوا فيمن يؤخذ عنه الحديث ألا يكون مبتدعا[1]. وكما تركوا الرواية عنهم تركوا ذكر كثير من رجالهم والقلة المذكورة لم تسلم في الغالب من الجرح[2] بسب انتمائها للفرق الضالة في زعم هولاء. وهذا بدوره جعل بقية المسلمين يعرضون عن الفكر الإباضي ويرفضونه.
3- قلة مصادر تاريخ الإباضية بذهاب كثير منها نتيجة التعصب والظلم والحسد وحرق المكتبات
4- تبني دولا إسلامية لمذاهب معينة تنقل آراءها وتنشرها.
5- منع كتب الإباضية من دخول بعض الدول الإسلامية.
6- ثقة بعض الكتاب المعاصرين العمياء بما كتبه الأقدمون حول الفرق ومن بينها الإباضية
7- انحسار الإباضية في مناطق بعيدة عن مراكز السياسية
8- ضعف العلاقة الاجتماعية بين المجتمعات الإباضية وبقية المجتمعات الإسلامية.
يأتي هذا البحث ليغطي جانبا مجهولا من الفقه اللاابضي وهو يتناول مسألة الرفع والقبض من منظور إباضي، وما هو محاولة لعرض بعض ما توصلتُ إليه من أدلة الإباضية في هذه المسألة، وليس قصدي من ذلك الرد على أحاديث الرفع والضم بقدر ما هو إثبات أن ترك الرفع والضم هو أحد الآراء الموجودة منذ القرن الهجري الأول.
يتكون البحث من أربعة فصول: الفصل الأول يتناول الاختلاف بين العلماء في مسألة الرفع. من حيث مشروعيته وعدد مراته ووقته. الفصل الثاني يبين أدلة الإباضية في ترك الرفع. والفصل الثالث عن الضم أو القبض في الصلاة وما قيل فيه. ثم فصل عن شبهة مخالفة السنة تليه خاتمة وملاحظات.
أرجو أن يكون هذا البحث مدخلا للتعرف على أدلة الإباضية في المسائل الخلافية عموما وفي رفع الأيدي وقبضها بصفة خاصة، وأنا أعلم يقينا أني لم أعط الموضوع حقه من البحث والدراسة ولكن أرجو أن يكون حافزا لغيري من المشتغلين بعلوم الفقه والحديث للتوسع فيه.
وأطمح أن يكون نشر آثار الإباضية دافعا لعلماء ومفكري الأمة الإسلامية للتعرف على فقه المذهب الإباضي ووضعه في مكانه الصحيح، من أجل توحيد صفوف المسلمين ولمّ شعثهم في عصرٍ هُم أحوج ما يكونون فيه للوقوف صفا واحدا لصد الغزو الفكري المتربص بهم في الداخل والخارج.
أسأل الله أن يلهمنا الرشد والتوفيق والهداية لأقوم طريق وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله من وراء القصد
جاء في مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين قال : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة: قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السّنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم). وتجدر الإشارة إلى وهذه القاعدة التي وضعت من زاوية ضيقة لم يتفق عليها علماء الحديث، فمنهم من رفض حديث المبتدع مطلقا (كالخارجي والمعتزلي) فقال : (لا يقبل من المبتدع أي حديث)، ومنهم من قال يقبل منه الحديث إلا إذا كان يدعو إلى بدعته.
[2] فجمهور علماء الأمة الذين اهتموا بتتبع أحوال رواة الحديث واقتفاء آثارهم جرحا وتعديلا قد أهملوا أو أغفلوا ذكر رجال الإباضية في كتب الجرح والتعديل عدا بعض الأقوال المتناثرة في بعض الكتب منها ما قاله يحيى بن معين عن الربيع بن حبيب حيث قال: (الربيع بن حبيب يروي عن الحسن وابن سيرين وهو ثقة. وقال أبوداود عن الوليد بن كثير " ثقة إلا أنه إباضي" وقال علي بن المديني عن أبي نوح صالح الدهان"ضعيف يرى رأي الاباضية" فضعفه لا لأجل روايته بل لإنتمائه الفقي والسياسي، لأنه كان ملازما لإمام الاباضية جابر بن زيد. – انظر الكابوي: الربيع بن حبيب محدثا وفقيها. والوهيبي: مقالات في السنة





المبحث الأول - الاختـلاف في مسألـة الرفـع
تمهيد
اختلف أهل العلم من المذاهب الأربعة في رفع الأيدي في الصلاة على عدة أوجه: أولا من ناحية مشروعيته، وثانيا في عدد مراته وثالثا في وقته. فمن ناحية مشروعيته منهم من قال باستحبابه، ومنهم من أجازه، ومنهم من نهى عنه، وقد تناولت العديد من كتب الفقه والحديث عند أهل السنة مسألة رفع الأيدي ولا يتسع المجال في هذا البحث الصغير للتوسع في ذكر ما قيل في الرفع في مختلف الكتب لكني اقتصر على بعض الأحاديث الواردة في الموضوع وعلى ما ذكره ابن حجر العسقلاني في" فتح الباري" لأنه اختصر أقوال من سبقوه من العلماء .
1- الاختلاف في حكم الرفع
نقل ابن حجر عدة أقوال في حكم الرفع منها قول النووي :أجمعت الأمة على استحباب رفع الأيدي في تكبيرة الإحرام ، ثم قال بعد أسطر: أجمعوا أنه لا يجب شيء من الرفع. كما نقل قول ابن عبد البر: "أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة". ونقل أيضا عن صاحب التبصرة عن مالك أنه لا يستحب. ونقل عن ابن المنذر عن الزيدية أنه لا يجوز رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ولا عند غيرها. ونقل عن القفال عن أحمد بن يسار أنه أوجبه، وإذا لم يرفع لم تصح صلاته[1].
فهذه بعض أقوال العلماء في حكم الرفع، وهي تتراوح بين الاستحباب والجواز وعدم الجواز والوجوب. وهذا الاختلاف يدل على أنه أمر زائد عن الصلاة، وليس سنة دائمة للرسول e. ولو كانت كذلك لما تباين الحكم فيها إلى هذه الدرجة.
2- الاختلاف في عدد مرات الرفع
أما عدد مرات الرفع فقد اختلفوا فيها على عدة أقوال، ودليل كل منهم يستند على أحد الأحاديث المروية في كتب السنة. ومن هذه الأقوال:
أ- الرفع عند تكبيرة الإحرام فقط. وقد رُوي من عدة طرق أشهرها رواية عبد الله بن مسعود ورواية البراء بن عازب رضي الله عنهما. فعن عبد الله بن مسعود عند أبي داود والترمذي وأحمد بن حنبل قال: «ألا أصلي بكم صلاة رسول الله (ص) ، فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة.»[2] ورواه أيضا الإمام مالك في المدونة الكبرى كمارواه الدارقطني[3] والبيهقي[4] بلفظ «وصليت مع النبي (ص) وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح». ورُوي من طريق البراء بن عازب «أن رسول الله (ص) كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود». وروى مثله أبوهريرة.
والرفع عند تكبيرة الاحرام هو مذهب الإمام مالك وأتباعه. ففي المدونة الكبرى قال الإمام مالك: (لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة، لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة، يرفع يديه شيئا خفيفا، والمرأة في ذلك بمنزلة الرجل)، قال ابن القاسم[5] : (كان رفع اليدين ضعيفا إلا في تكبيرة الإحرام )[6]، وذكر القرطبي في تفسيره لسورة الكوثر بعد ذكر الخلاف في رفع اليدين قول ابن القاسم: (لم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام. قال: (وأَحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام )[7].
وهذا القول هو نفسه قول الإباضية. ويفهم من هذا أن الإباضية لم ينفردوا بترك الرفع وإنما هو أحد أقوال متقدمي المالكية.
ب - الرفع عند تكبيرة الإحرام وقبل الركوع وعند الرفع من الركوع ودليلهم الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر، وكذلك مسلم عن مالك ابن الحويرث، ونصه عند البخاري «رأيت رسول الله إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وكان لا يفعل ذلك في السجود»[8].
ج - الرفع عند تكبيرة الإحرام وقبل الركوع وعند الرفع من الركوع وعند القيام من السجدتين لحديث علي بن أبي طالب عند أبي داود والترمذي وأحمد ونصه: «عن علي بن أبي طالب عن رسول الله (ص) أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر. »[9]
د - الرفع عند المواضع السابقة وعند كل رفع وخفض وقيام وسجود وقعود كما ذكر ابن حجر نقلا عن الطحاوي في المشكل من طريق نصر بن علي عن عبد الأعلى بلفظ «كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك»"[10]. ورغم أن ابن حجر علق على هذه الرواية بأنها شاذة إلا أنه ذكر بعد التعليق أن الحديث رُوي بطرق أخرى فقال: رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن المذكور، وكذا رواه هو وأبو نعيم من طرق أخرى عن عبد الأعلى كذلك.
إذن لدينا خمس روايات مختلفة في عدد مرات الرفع تتراوح بين الرفع مرة واحدة والرفع في كل تكبيرة من تكبيرات الصلاة يصل فيها عدد مرات الرفع إلى ست وعشرين مرة في الصلاة الرباعية. فأي من هذه الروايات هي السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم؟
3- الاختلاف في وقت الرفع
اختلف القائلون بالرفع في توقيت الرفع. هل هو مع التكبير؟ أو أن التكبير يسبق الرفع؟ أو العكس. ففي حديث ابن عمر رفع يديه ثم كبر، وفي حديث مالك بن الحويرث كبر ثم رفع يديه وعن وائل بن حجر رفع يديه مع التكبير. وقد ذكر ابن حجر الرفع عند التكبير في رواية وائل بن حجر، وذكر تقديم الرفع عن التكبير وعكسه في حديثين أخرجهما مسلم الأول عن ابن شهاب الزهري والثاني عن مالك ابن الحويرث ثم قال وفي المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء.
مما سبق يتضح أن عدد روايات الرفع كثيرة وغير متفقة، فإذا أضفنا إليها روايات وضع اليد اليمنى على اليسرى والخلاف في موضع اليدين؛ هل توضع فوق السرة أو تحتها أو على الصدر؟ اجتمع لدينا عدد كبير من الروايات في هيئة الصلاة التي تتكرر عدة مرات في اليوم والليلة.
ومن خلال الروايات السابقة، لو تصورنا عمل الرسول (ص) في الصلاة لوجدنا أنه كان يصلي بإحدى الحالات الآتية:
· كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام مرة واحدة ثم يرسل يديه. وهم المشهور عند المالكية
· كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام مرة واحدة ثم يضع اليمنى على اليسرى. وهو رأي أبي حنيفة وأتباعه.
· كان يرفع يديه عند التكبير ثم يضع اليمنى على اليسرى. ثم يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع ولايرفع عند السجود. وهو رأي الحنابلة.
· كان يرفع يديه عند التكبير ثم يضع اليمنى على اليسرى. ثم يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع وعند السجود. وهو رأي بعض الوهابية[11]
· كان لا يرفع يديه لا عند التكبير ولا في غيره ولا يضع اليمنى على اليسرى. وهو رأي الإباضية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : أي من هذه الروايات هي السنة؟ ولماذا اختلفت الأمة الإسلامية في مسألة مثل هذه تكررت آلاف المرات في عهد رسول الله (ص) وفي زمن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم من التابعين؟
فمن المعلوم أن الصلاة فُرضت على المسلمين بمكة قبل الهجرة، عاش بعدها النبي (ص) في المدينة عشر سنوات صلى فيها إماما بالصحابة رضي الله عنهم ما لا يقل عن خمسة عشر ألف صلاة غير السنن والنوافل، ثم حج النبي (ص) حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وحضر معه أكثر من مائة ألف صحابي من مختلف البقاع فصلى بهم في أيام الحج ثم خطب فيهم خطبته المشهورة، وبعدها بقليل إنتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وترك لنا الحديث المتواتر الذي يقول (صلوا كما رأيتموني أصلي)[12] ورغم ذلك، اختلف المسلمون في هيئة الصلاة وهي أكثر عبادة كررها النبي (ص) في حياته.
ويحق لكل مسلم أن يتساءل ما هي الهيئة الصحيحة التي كان يصلي بها الرسول ومن بعده من الصحابة والتابعين؟ هل هي هيئة واحدة أم أنه صلى بهيئات مختلفة؟ فكل مسلم يريد أن يحرص على السنة لينال أجر الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم). فهل كان النبي يرفع يديه في أول أمره ثم نهى عن الرفع بعد ذلك؟ أم أنه كان لا يرفع في البداية ثم رُوي عنه الرفع، وإذا كان يرفع فهل كان يرفع مرة واحدة عند التكبيرة الأولى فقط، أو كان يرفع كلما كبر؟
الحقيقة المطلقة في علم الله، لكن بما أن جميع هذه الروايات وردت وتناقلتها الألسن في مجالس العلم، فلا يجوز لأحد إنكار ما صح منها، لكن لكل مسلم الحق في الأخذ بما اقتنع به من رأي، أو أن يقلد أحد المذاهب المعروفة دون أن يصف غيره بإنكار حديث أو مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.


ابن حجر، فتح الباري، شرح صحيح البخاري الجزء الثاني،كتاب الآذان، ص 278 ، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الثالثة -2000م
[2] سنن أبي داود – كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، رقم 748 ،1 \199. سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن النبي (ص) لم يرفع إلا في أول مرة، رقم 257، 2\40. مسند أحمد، رقم 4211، 1\441 (م أ)

[3] سنن الدارقطني، كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح......، رقم 25، 1\295 (م أ )

[4] البيهقي: السنن الكبرى، كتاب الصلاة، باب ملم لم يذكر الرفع إلا عند الافتتاح، رقم 2365، 2\79 ( م أ ).

[5] ابن القاسم: عبد الرحمن بن القاسم، من تلاميذ الإمام مالك بن أنس ، توفي بمصر سنة 191 هـ

[6] مالك بن أنس، المدونة الكبرى ص 107 – دار الفكر بيروت 1998

[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ، تفسير سورة الكوثر، المجدل العشرون، ص 222

[8] صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا رفع، رقم 703 1\258 . صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الاحرام ... رقم 391، 1\293 ( م أ )

[9] سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، رقم 748، 1\199. سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل، رقم 3423، 1\258. مسند أحمد، رقم 717، 1\93 (م أ ).

[10] ابن حجر فتح الباري، شرح صحيح البخاري الجزء الثاني،كتاب الآذان، ص 278 ، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الثالثة -2000م
[11] راجع الألباني – صفة صلاة النبي

[12] صحيح البخاري كتاب الآذان، باب الآذان للمسافر، رقم 605، 1\226. مسند أحمد، 5\53(م أ)





المبحث الثاني - أدلة الإباضية في ترك رفع الأيدي في الصلاة
نظرا لعدم اتفاق العلماء على هيئة واحدة في الرفع، ووجود أحاديث في النهي عنه، فإن جميع علماء الإباضية – متقدميهم ومتأخريهم - يرون أن رفع الأيدي في الصلاة ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو عمل زائد عن الصلاة، نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة وردت في مسند الإمام الربيع كما وردت في صحيح مسلم وغيره، كما سيأتي بيانه.
ولأن هذه المسألة من فروع الفقه وليست من أركان الصلاة، فإن أهم كتب الفقه عند الإباضيةلم تتعرض لهذه المسألة بالتفصيل فكتاب الايضاح للشماخي وقواعد الاسلام للجيطالي وهما من علماء الإباضية في المغرب لم يتعرضا إلى الخلاف في هذه المسألة رغم أن منهم من ذكر الخلاف الوارد في المسائل الأخرى كالخلاف في البسملة والقنوت وقراءة السورة في الركعتيتن الأوليين من صلاتي الظهر والعصر والتأمين.[1]
يقول الشيخ محمد بن يوسف اطفيش: "ولا قائلا برفع اليدين منا معشر المغاربة الإباضية عند الإحرام فمن رفعهما أو إحداهما قبل الشروع فيها صحت صلاته أو قبل الفراغ فسدت بناء على أن الإحرام منها وصحت بناء على أنه ليس منها أو بعد الفراغ فسدت". وقال الشيخ خميس من مشارقة أصحابنا رحمه الله: ويكره الإحرام قبل التوجه عندنا ورفع اليدين عنده ووضعهما على السرة والإشارة بالإصبع والتورك على اليسرى ولا بأس قيل على من فعل ذلك. وغيرنا يراها سنة.[2]
وبعد أن ذكر الشيخ اطفيش أقوال العلماء من المذاهب الأخرى المستندة على بعض الأحاديث، قال: وهذه الأحاديث كلها لم يصح سندها عندنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا جابر بن زيد رحمه الله روى عن سبعين من الصحابة وأكثر الأخذ عنهم؛ منهم أبو هريرة وابن مسعود وعمار وأنس وغيرهم كابن عباس، بل قال حويت ما عندهم من العلم إلا البحر الزاخر ابن عباس فإني لم أرو جميع ما عنده. ولم يثبت رفع اليدين عنده في الإحرام ولا في خفض ولا في رفع ولو صح عنه صلى الله عليه وسلم لرواه عنهم ولرآهم يفعلونه. وجابر بن زيد ثقة عند قومنا كما هو عندنا وإذا كان الأمر هكذا ولم يصح السند في رفع اليدين كان رفعهما إلى المنع أقرب لأنه زيادة عمل في الصلاة ومناف للسكون في الصلاة[3]
أما علماء المشرق فإن الشيخ نور الدين السالمي أورد الرفع من ضمن مكروها ت الصلاة. قال: "رفع اليدين عند الإحرام مكروه ناقض للصلاة عندنا لأنه زيادة عمل في الصلاة، وهو ينافي الخشوع المأمور به أو ينقصه".[4]
ويقول العلامة سلمة بن مسلم العوتبي " أجمع أصحابنا على ترك رفع اليدين في الصلاة لأشياء صحت عندهم في ذلك."[5] ونقل قول أبي الحسن البسيوي:" ولم نر أسلافنا يعملون ذلك ولم نرهم يفسدون صلاة من فعله، ومن فعله لم نره يفسد صلاة من لم يفعله" ونقل أيضا قوله " عندي أن العمل في الصلاة بغير معنى الصلاة لا يجوز، ورأيت رفع اليدين في الصلاة عمدا ليس هو من الصلاة، وقد جاء النهي عنه"[6] .
هذاوقد أجاز الإباضية الصلاة خلف من يرفع، قال الشيخ أحمد بن عبد الله الكندي: "أجاز المسلمون الصلاة خلف من يفرد الاقامة، ومن يسر ببسم الله الرحمن الرحيم، وخلف من يرفع يديه في الصلاة للتكبير، وخلف من يسلم مرتين، ولم يروا في ذلك زيادة ولا نقصان فيها"[7] .
وللاباضية أدلة اعتمدوا عليها في ترك الرفع وهي تنقسم الى قسمين: أدلة شرعية وأدلة عقلية.
1- وجود روايات تنهى عن الرفع:
جاء النهي عن الرفع في عدة أحاديث رواها أئمة الحديث منهم الإمام مسلم والنسائي وأبو داود، كما رواه الإمام الربيع بن حبيب ونكتفي براوية الإمام الربيع في الجامع الصحيحورواية الإمام مسلم في صحيحه.
أ - رواية الإمام الربيع :أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كأني بقوم يأتون من بعدي يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس. »[8]
ب- : رواية الإمام مسلم: « حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حَلَقًا فَقَالَ مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ، قَالَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ. وحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ و حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَا جَمِيعًا حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ. »[9]
فهذا الحديث الذي ينهى عن الرفع ثابت عند الإباضية وغيرهم، ورغم وضوح معناه، إلا أن القائلين بالرفع اعترضوا بأن النهي عن الرفع مقيد بحالة الرفع عند السلام وقد رواه حديثا غير واحد من المحدثين منهم البخاري في جزء رفع اليدين ومسلم في صحيحه[10]، لكن المتأمل فيما اعترضوا به يجد أن كلمة السلام لم ترد إطلاقا في هذا الحديث بل وردت في حديث آخر وأنه لا يمكن أن يكون الحديثان حديثا واحدا، فلا يثبت التقييد لأن ظاهر هذا الحديث ينهي عن مطلق الرفع في الصلاة بما فيه الرفع عند السلام.
2- وجود روايات تذكر التكبير في الصلاة بدون ذكر الرفع
وردت أحاديث في الصحاح عمن رُوي عنهم الرفع في البخاري ومسلم وغيرهما ولاذكر فيها للرفع، منها:
أ- الحديث المشهور باسم " المسيء في صلاته" الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وغيره« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلّى فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فرجع يصلي كما كان صلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" (ثلاثا) فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها»[11].
وهذا الحديث هو الأصل الذي بنيت عليه صحة الصلاة ولذلك قال بعض العلماء إن ما ذكر في هذا الحديث فهو واجب وما سواه فهو غير واجب. والرفع لم يذكر في هذا الحديث وكذلك وضع اليد اليمنى علي اليسرى. فلو كان الرفع والقبض من أعمال الصلاة لبينهما الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل.
ب - وفي صحيح مسلم أيضا من أكثر من طريق حديث عن أبي هريرة يتحدث عن التكبير ولا ذكر فيها للرفع. وهذا نص إحدى الروايات:
«حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بن جريج أخبرني بن شهاب عن أبي بكربن عبد الرحمن أنه سمع أبو هريرة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام الى الصلاة يكبر حين يقوم. ثم يكبر حين يركع ثم يقول "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم "ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي ساجدا. ثم يكبر حين يرفع رأسه. ثم يكبر حين يسجد. ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس". ثم يقول أبو هريرة إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»[12]. وهذا الحديث رواه أيضا النسائي
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن يحي بن يحي قال: « قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال: والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»[13] .
فالروايتان السابقتان عن أبي هريرة خاليتان من الرفع عند التكبير رغم أن الأولي مروية عن ابن شهاب الزهري الذي روى حديث الرفع عند التكبير في الإحرام والركوع والرفع من الركوع، كما أن أبا هريرة (رضي الله عنه) الذي رُوي عنه الرفع عند التكبير الأول والركوع والرفع منه رُوي عنه أيضا الرفع مرة واحدة.
ج - روى أبو داود في باب من لم يذكر الرفع عند الركوع[14] عن مسدد « أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الصلاة رفع يديه مدا. ومسدد هو نفسه روى حديثا في سنن أبي داوود عن وائل بن حجر في الرفع في أكثر من موضع. »[15]
د – روى أبو داود أيضا عن سالم البراد قال: « أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم رفع رأسه حتى استقر كل شيء منه ففعل مثل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة فصلى صلاته". ثم قال هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. »[16]

والروايات السابقة تتوافق مع ما رواه أبوغانم الخراساني عن الربيع بن حبيب قال (حدثني أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام الى الصلاة كبر حين يقوم فيها، وإذا ركع كبر، وإذا طأطأ راسه في السجود كبر وإذا رفع رأسه من السجود كبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا كله )[17]
يُفهم من هذه الأحاديث أن الرفع ليس من الأعمال الأساسية في الصلاة، وأن الذي لا يرفع يديه مع التكبير ليس مخالفا لسنة أو منكرا لحديث كما يقول البعض، بل إن الذي يرفع يديه هو الذي يخشى عليه أنه خالف الأصل لورود النهي عن الرفع كما تقدم.
3- الاختلاف في مفهوم السنة
يرى الإباضية أن اصطلاح السنة يقصد به كل قول أو عمل أو تقرير صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت خلاف فيها. أما الروايات المختلف فيها أو في نسبتها الى الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تدخل تحت إطار السنة الواجب العمل بها .
يقول الشيخ علي يحيى معمر رحمه الله: (إن الأعمال التي صدرت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) في بعض العبادات لسبب عارض، أو فعلها ولم يعد إليها، أو لم يثبت أنه داوم عليها، لا يعتبروها سنة، وإنما يرونها واقعة حال يمكن الإتيان بها في ظروف مشابهة فقط ، ومنها:القنوت في الصلاة، ورفع الأيدي عند التكبير والجهر بكلمة آمين بعد الفاتحة في الصلاة، وزيادة (الصلاة خير من النوم في أذان الفجر).[18].
يُفهم من قول الشيخ علي يحي معمر أن سنن الصلاة هي الأعمال التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت الاختلاف فيها، ومن أمثلة ذلك: المضمضة والاستنشاق وأوقات الصلوات وعدد الصلوات في اليوم، وعدد ركعات الصلاة. كل ذلك من المتواتر العملي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرف خلاف فيها. أما الرفع فإن الاختلاف فيه يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه دواما يجعله يصل إلى مرتبة السنن المؤكدة.
4- القول مقدم على الفعل و النهي مقدم على الأمر
من القواعد الفقهية المقررة عند الفقهاء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله. يقول الشيخ علي يحي معمر "إذا تعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله، ولا يمكن الجمع بينهما، فالقول أقوى لأنه أساسا موجه إلينا أما عمله فيحتمل الخصوصية"[19]. ومن أمثلة ذلك ما رواه النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال" من أدركه الصبح وهوجنب فلا يصوم "[20] والذي يعارضه الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة وأم سلمة أن رسول الله ص كان يدركه الفجر وهو جنب "[21]. فالإباضية يعملون بحديث أبي هريرة بناء على قول النبي صلى الله عليه وسلم. أما غيرهم فأغلبهم يأخذون بحديث عائشة رغم أنه قد يحتمل الخصوصية. كما أن الأخذ بالقول هو نوع من الاحتياط.
وكذلك الرفع، فإذا ثبت أن النبي رفع يديه في الصلاة ، وثبت أيضا أنه نهى عن الرفع، فالأخذ بالنهي أولى. لأن النهي مقدم على الأمر وهو أيضا من القواعد الفقهية لقوله صلى الله عليه وسلم"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا"[22]
فحديث النهي عن الرفع واضح وصريح بينما الأحاديث المروية في الرفع ليست صريحة، فكل روايات الرفع ، إما هي من أقوال أو أفعال الصحابة، أو قول الصحابي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أو ما شابه ذلك. فلم يثبت حديثا صريحا يأمر بالرفع كما ورد في النهي عنه.
5- الأخذ بمبدأ الاحتياط – الاكتفاء بالأصل خروجا من الخلاف
الاحتياط من المبادئ التي التزم بها الإباضية في العبادات والمعاملات منذ القرون الأولى. فهم يحتاطون في أمور الصلاة عامة وفيما يتعلق بالطهارة التي هي أساس الصلاة خاصة. ومن أجل هذا المبدأ فقد وصفهم بعض مخالفيهم بالتشدد في الدين وخصوصا فيما يتعلق بالطهارة للصلاة والشواهد على هذا كثيرة في الفقه الإباضي. ومن أمثلة ذلك القنوت في الصلاة، فبعض العلماء يرى أن القنوت في الفجر بينما يرى غيرهم أن القنوت في الوتر، أما الإباضية فلا يرون القنوت. كما يعتبرون الدم ناقضا للوضوء، ويقولون بإعادة الصلاة إذا تأكد المسلم أنه صلى في ثوب نجس، بينما من غيرهم من يرى أن الدم لا ينقض الوضوء، ولا إعادة على من صلّى بثوب نجس، إلى غير ذلك من الاحتياطات. كل ذلك خوفا من الوقوع في الشبهة أو مخالفة السنة.
يقول الشيخ أحمد الخليلي: "واعلم أن مسلك أصحابنا في الصلاة الاحتياط بعدم الأخذ إلا بالروايات التي لا يحوم حولها أي ريب في المسائل المختلف فيها لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام الذي يلي العقيدة مباشرة، والمحققون من العلماء على اختلاف مذاهبهم لا يقبلون الحديث الآحادي كحجة في المسائل الاعتقادية، لعدم إفادته القطع، فكانت الصلاة المجاورة للعقيدة في الترتيب حرية بالحيطة، على أن من العلماء من قال في صلاة أصحابنا إنها ثابتة بالإجماع، لأن ما يتركونه من الأعمال فيها مختلف فيه عند غيرهم."[23]
فترك الرفع هو الأصل كما ورد في الأحاديث السابقة، وهو لا ينقص من أعمال الصلاة ولا يبطلها، كما أن الرفع قد يدخل المسلم في مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الرفع للحديث المتقدم ذكره، ويخشى منه عدم قبول الصلاة. وهذا من الاحتياط.
6- إجماع العلماء على صحة الصلاة بدون الرفع
مع كثرة الأحاديث الواردة في الرفع، فإن الفقهاء قالوا أن الرفع ليس شرطا في صحة الصلاة. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري[24] نقلا عن ابن عبد البر: "أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة". والإمام أبو داود رغم ميله إلى الرفع في أكثر من موضع كغيره من أهل الحديث إلا أنه أفرد بابا خاصا بعنوان "الرخصة في ترك ذلك".
وهذا يدل على أنه ليس شرطا في صحة الصلاة، ولا يعتبر ركنا من أركانها، وليس من السنن المؤكدة، بل إن العديد من الفقهاء يذكرونه في المستحبات. يقول ابن عبد البر "رفع اليدين أو إرسالهما كل ذلك من سنن الصلاة"
فابن عبد البر ما كان ليقول هذا لو كان يعلم أن ترك الرفع مخالفةٌ للسنة، ولكنه وجدكثرة الجدال في هذه المسألة فأصدر هذا الحكم، رغم أن القول الذي قاله يحتاج أيضا إلى نظر فلا يمكن أن تكون السنة شيئين متناقضين.
7- تحفظ الإباضية على بعض أحاديث الرفع
كثير من الأحاديث المروية في الرفع فيها اضطراب في متنها أوسندها وقد قام الشيخ أحمد بن سعود السيابي بمناقشة بعض من هذه الأحاديث في رسالة "الرفع والضم في الصلاة" كما أن بعض علماء الإباضية، تحفظوا على الأحاديث المروية عن ابن شهاب الزهري ومنها الحديث الذي رواه عن ابن عمر في الرفع. وسبب التحفظ يرجع الى ارتباطه بحكام بني أمية. وقد أنكر كثير من العلماء حتى من غير الإباضية اتصال ابن شهاب الزهري بالأمويين وكتبوا له يلومونه على ذلك. قال الإمام أبو يعقوب الوارجلاني في كتابه الدليل والبرهان "فكتب إليه عشرون ومائة من الفقهاء يؤنبونه ويعيرونه بما فعل، منهم جابر بن زيد، ووهب بن منبه، وأبو حازم الفقيه، فقيه المدينة وأمثالهم وقد وقفت على كتب هؤلاء الثلاثة إليه"[25]
7- اشتهار الإباضية بالصدق
شهد المخالفون للاباضية بأنه لم يعرف عنهم الكذب في الحديث عن رسول الله (ص). وقد روى عن بعض العلماء - منهم ابن تيميه - أن الخوارج من أصدق الناس في الحديث[26]. لأنهم يعتبرون الكذب من الكبائر التي يخلد صاحبها في النار إن لم يتب. ويقصدون بالخوارج هنا "الإباضية" لأنه من المعروف أن الخوارج لم يهتموا برواية الحديث أوالفقه لانشغالهم بالحروب عن العلم.
8- الرفع الوارد في الأحاديث قد يكون قبل النهي عنه
نظرا لورود الأحاديث المختلفة في الرفع فيمكن الجمع بين الروايات المختلفة في الرفع بالقول إن الرفع المذكور في الأحاديث كان قبل النهي عنه، وأن الرسول كان في أول أمره يرفع يديه في الصلاة، إما مرة واحدة في تكبيرة الإحرام ، أو عدة مرات في مواضع أخرى، ونقل عنه الصحابة هذه الأحاديث، ولكنه في آخر الأمر نهى عن الرفع لحديث جابر بن سمرة الذي تقدم ذكره.
9- الإباضية من أول المذاهب الإسلامية تَكَوّنا: فالإمام الأول للإباضية هو جابر بن زيد، ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعاش في البصرة التي كانت مركز الإشعاع العلمي في ذلك الوقت، كما عاصر كثيرا من الصحابة والتابعين و أخذ العلم على كثير منهم، كأم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم.
رُوي عنه أنه قال: "أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم إلا البحر". ولم يثبت عند الإباضية أن جابر بن زيد أو تلاميذه رفعوا أيديهم في الصلاة أو أمروا بالرفع. فلو كان رفع اليدين أو وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة من السنن المؤكدة التي أجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم لكان أول من عمل بهما جابر بن زيد، ولو عمل بهما لنقلهما عنه تلاميذه وأشهرهم أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة، الذي تتلمذ عليه حملة العلم إلى المشرق وحملة العلم إلى المغرب وخراسان، الذين انتشروا في الأمصار منذ بداية القرن الثاني الهجري. فترك الرفع انتقل بالتواتر العملي منذ القرن الأول الهجري جيلا عن جيل حتى وقتنا هذا.







[1] الجيطالي، إسماعيل، قواعد الإسلام، تحقيق الشيخ بكلي عبد الرحمن، الجزء الأول، فصل التوجيه، ص 266.

[2] اطفيش، محمد بن يوسف، شامل الأصل والفرع، الجزء الثاني ص 63 طبعة وزارة التراث القومي والثقافة 1984

[3] اطفيش، المصدر السابق ، ص 65

[4] السالمي، نور الدين، معارج الآمال على مدارج الكمال، الجزء الثامن، ص 277-278 ن طبعة وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنه عمان 1983

[5] العوتبي، سلمة بن مسلم، كتالب الضياء، 5\151

[6] العوتبي، سلمة بن مسلم، كتالب الضياء، 5\153

[7] أحمدبن عبد الله الكندي، المصنف

[8] الفراهيدي، الجامع الصحيح،كتاب الصلاة ووجوبها، باب في الإمامة والخلافة في الصلاة، رقم 213. ج1|ص 58 مكتبة مسقط

[9] صحيح مسلم،كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة رقم 430، ج1|ص 322

[10] البخاري، رفع اليدين في الصلاة، رقم 79،90- صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر والسكون في الصلاة رقم 431، ج1|ص 322

[11] صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم... رقم 757 ، ج1|207- صحيح مسلم، كتاب الصلاة،باب وجوب قراء الفاتحة، رقم 397، ج1|298

[12] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، رقم 392. 1|293 . سنن النسائي، كتاب الافتتاح، باب التكبير للركوع رقم 1032، 2|181 (م أ)

[13] صحيح مسلم، نفس الاحالة السابقة

[14] سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع، رقم 753، ج1|200

[15] سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب رفع الأيدي في الصلاة، رقم 726، ج 1|193

[16] سنن أبي داود، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، رقم 863، 1\228. (م أ )

[17] أبو غانم الخراساني " المدونة الصغرى" ج 1 ص 25

[18] علي يحي معمر، الإباضية مذهب اسلامي معتدل ، ص 48، الطبعة الخامسة ،مكتبة الضامري للنشر والتوزبع

[19] معمر، الإباضية مذهب إسلامي معتدل ص 47

[20] النسائي، السنن الكبرى، كتاب الصيام، باب ما لا ينقض الصوم، رقم 2924، 2\176 . سنن ابن ماجة، كتاب الصيام، باب ما جاء في الرجل يصبح جنبا وهو يريد الصيام، رقم 1702، 1\543 ( م أ )

[21] صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنبا، رقم 1825، 2\679 ( م أ ).

[22] الفراهيدي: الجامع الصحيح (مسند الربيع)، كتاب الحج، باب في فرض الحج، رقم 394، 2\100.صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله (ص) رقم 6858، 6\2658. صحيح مسلم كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم 1337، 2\975 ( م أ ).

[23] أحمد بن حمد الخليلي : الفتاوى " ( الكتاب الأول ) ص 223 - 224

[24] ابن حجر، فتح الباري، باب الأذان، باب رفع اليدين ص..

[25] الوارجلاني، الدليل والبرهان ،1\20 . اطفيش: شرح النيل 16\258

[26] ) مصطفى السباعي ،.السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

كُتبَ بتاريخ : [ 11-14-2010 ]
 
 رقم المشاركة : ( 5 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً




المبحث الثالث - مسألة القبض أو الضم أو وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

1- تمهيد

وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة أو ما يسمى بالقبض أو الضم أو الكفت هي من الأعمال التي اعتبرتها بعض المذاهب من السنة، لكن الإباضية والمالكية خالفوهم في ذلك لعدم ثبوت الروايات لديهم فيها.

وقد كتب في هذا الموضوع أكثر من واحد من علماء المالكية منهم:

1- الشيخ محمد عابد مفتي المالكية بمكة في "القول الفصل في أدلة السدل"

2- مختار بن امحيمدات الداودي الباسكني الشنقيطي في "مشروعية السدل في الفرض"

3- الشيخ محمد بن الخضر الشنقيطي في "إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض"

2- الخلاف في وضع اليمنى على اليسرى

اختلف أهل العلم في وضع اليد اليمني على اليسرى في الصلاة كما اختلفوا في الرفع. فقد رَوَى وضع اليمنى على اليسرى طائفة من أهل العلم، وبهذا الرأي أخذ أتباع أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، وقد روي إرسال اليدين عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي، ويقول ابن عبد البر إن إرسال اليدين ووضع اليمنى على اليسرى كل ذلك من سنن الصلاة.[1]

أما المالكية فلهم في وضع اليمنى على اليسرى ثلاثة أقوال: أولا: توضع في النفل فقط. ثانيا : توضع في الفرض والنفل. ثالثا: لا توضع في الفرض ولا في النفل[2] وهو المعمول به عند متقدمي المالكية، لكن الملاحظ أن كثيرا من متأخري المالكية قد تأثروا بالمذهب الوهابي وبدؤوا يقبضون أيديهم في الصلاة.

واختلف القائلون بالقبض في الموضع الذي توضع فيه اليد. فقد رُوي وضع اليمنى علي اليسرى فوق الصدر عن علي بن أبي طالب. ورُوي وضعها فوق السرة عن سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل. ورُوي وضعها تحت السرة عن أبي هريرة وسفيان الثوري وإسحاق.[3]

أما الإباضية فإنهم منذ عهد الإمام جابر بن زيد في القرن الأول الهجري، لا يقبضون أيديهم في الصلاة، فقد ثبت لديهم أن الأحاديث الواردة في القبض ليست من القوة والصراحة بأن تكون سنة من سنن الصلاة الواجب العمل بها، وقد ناقش هذه الروايات الشيخ أحد بن سعود السيابي في "الرفع والضم في الصلاة".[4]

3- أدلة القائلين بالقبض

استند القائلون بالقبض على عدة أحاديث. قيل: إن القبض رُوي عن ثمانية عشر صحابيا واثنين من التابعين، لكن المعترضين على هذه الأحاديث قالوا: إن كل الأحاديث الواردة في القبض لا تخلو من مقال. قال مختار الداودي:( وقد يحتج باستحباب القبض أنه رُوي عن ثمانية عشر صحابيا واثنين من التابعين. وسأخصهم لك بالتفصيل والتبيين، وذلك بما قال في طرقهم أئمة السلف – إن شاء الله تعالى – ليتبين لكل منصف أن السنة لا تثبت بمثل هذه الأدلة).[5] وقد تتبع الداودي هذه الأحاديث، واحدا واحدا مبينا العلة في كل منها.

ويقول الشيخ محمد عابد" وبالجملة فأحاديث القبض ليس أكثرها صحاحا ولا حسانا ولا سالما من الضعف، بل كلها بين موقوف ومضطرب وضعيف[6].

ومن أقوى الأحاديث التي رويت، والتي استند عليها القائلون بالقبض، ثلاثة أحاديث، نذكرها مع ما قيل فيها.

هذه الأحاديث هي:

1- حديث سهل بن سعد

«حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم لا أعلمه إلا ينمي ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم». رواه البخاري و أحمد[7] ،

قال الشيخ محمد عابد" إن القبض لم يرو من طريق صحيح ليس فيه مقال إلا من طريق سهل بن سعد المروي في الموطأ[8] والبخاري ومسلم[9]، وليس في البخاري غيره."[10]

ويقول عن هذا الحديث " وهو مع كونه لا غبار عليه في صحة إسناده لا أوّلا ولا آخرا إلا أن الداني قال في أطراف الموطأ هذا الحديث معلول لأنه ظن من أبي حازم لقوله لا أعلمه، ورده ابن حجر بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه لكان في حكم المرفوع.[11]

ويقول مختار الداودي معلقا على الحديث" ففي هذا الحديث ثلاث جمل: جملة للصحابي سهل (رضي الله عنه) ,وجملتان للتابعي أبي حازم. فأما جملة سهل(رضي الله عنه) وهي: "كان الناس يؤمرون .." فإن سهلا لم يسند الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما بناه للمجهول، وقد اختلف أئمة السلف في حكم بناء الصحابي الأمر للمجهول على قولين: الأول في حكم المرفوع والثاني على أنه موقوف. ثم فصّل الداودي في من قال بالرفع والوقف. ثم تطرق الى قول أبي حازم وذكر الاختلاف فيه[12].

أما الشيخ محمد الخضر فيقول: "ما ذكروه من الأحاديث ليس فيه حديث صحيح سالم من الطعن."[13]، ثم بين العلة في حديث سهل بن سعد، وذكر الاختلاف في رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه على الصحابي سهل بن سعد رضي الله عنه.

2- حديث وائل بن حجر

« عن علقمة بن وائل ومولى لهم أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر أنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد ثم أتيتهم بعد ذلك في زمان فيه برد شديد فرأيت الناس عليه جل الثياب تحرك أيديهم تحث الثياب» أخرجه مسلم[14].

وقد تكلم في هذا الحديث كثير من العلماء كما هو مفصل في الكتب المذكورة وخصوصا في سماع علقمة من أبيه. قال الترمذي: سألت البخاري: هل سمع علقمة من أبيه وائل؟ فقال: "إن علقمة ولد بعد موت أبيه بستة أشهر"، قال النووي في تهذيب الأسماء إن رواية علقمة عن أبيه مرسلة وأما المولى الذي مع علقمة فمجهول لا يعرف.[15]

3- حديث عبد الله بن مسعود

«عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى». أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة[16] وأخرجه الدارقطني من طريق أحمد بن شعيب قال أنبأنا عمر بن علي أنبأنا عبد الرحمن أنبأنا هشيم عن الحجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يحدث عن عبد الله بن مسعود[17].

يقول الشيخ محمد عابد : "مدار رواياتهم كلها عن الحجاج بن أبي زينب وقد نقل في الميزان عن ابن المديني أنه ضعيف. وقال النسائي ليس بالقوي وقال الدارقطني ليس هو بقوي ولا حافظ وقال أحمد أخشى أن يكون ضعيفا. نعم قال يحي بن معين: لا بأس به وفي سنده أيضا عبد الرحمن بن إسحق الكوفي وهو ضعيف. قال البخاري فيه نظر، واتفقوا أنه لا يقول هذه الكلمة إلا فيمن كان ضعيفا باتفاق كما ذكر ابن خلدون وغيره. [18]

يقول الشنقيطي معلقا على الحديث: ( رواه أبو داود من طريق محمد بن بكار عن هشيم بن بشير عن الحجاج بن أبي زينب عن أبي عثمان عن ابن مسعود رضي الله عنه من طريق هشيم ومن بعده. وقد اقتصر الذهبي في الميزان (4|412) على أن محمد بن بكار مجهول وأما هشيم بن بشير ففي الميزان (5|431) وتقريب التهذيب (2|296) كثير التدليس الخفي وأما الحجاج بن أبي زينب فقد ضعفه المديني والنسائي وأحمد والدارقطني كما في الميزان (1|462) . ومع ضعف سند حديث ابن مسعود فإن متنه لا يصح لأن ابن مسعود من كبار المهاجرين، فلا يصح أن يجهل هيئة فعل من أفعال الصلاة التي يتكرر اقتداؤه فيها بالنبي ص خمس مرات كل يوم أن لو كان الفعل من هيئاتها فلا ينبغي لأحد أن يتهمه بهذه الغباوة.[19] ) انتهى

الأحاديث الثلاثة السابقة هي من أصح وأقوى الأحاديث في موضوع القبض، وقد ذكرنا اختصار ما قال فيها أهل العلم. أما بقية الأحاديث فهي كما قال الشيخ عابد ما بين موقوف ومضطرب وضعيف.

4- أدلة الإباضية في السدل

أما الإباضية فلا يعرفون القبض منذ الإمام جابر بن زيد في القرن الأول الهجري، ولم يرد ذكره في أي كتاب من كتب الفقه عندهم، ورغم معرفتهم بالروايات المتعددة إلا أنهم رأوا أن الأحاديث الواردة فيه ليست من القوة والصراحة بأن تكون سنة من سنن الصلاة الواجبة.وقد ناقش روايات الرفع الشيخ أحد بن سعود السيابي في رسالة سماها الرفع والضم في الصلاة طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بوزارة الأوقاف،كما علمت أن أحد الباحثين يقوم الآن بتحقيق أحاديث الرفع والضم تحقيقا علميا في كتاب نأمل أن سيصدر قريبا إن شاء الله.

ولا يقتصر القول بالسدل على المالكية والإباضية وإنما رُوي عن كثير من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب،وسعيد بن جبير ومجاهد، والحسن البصري، والنخعي ،وابن سيرين مما يدل أن القبض لم يكن معروفا لديهم[20]، كما روي عن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير[21] بأنه كان يسدل يديه في الصلاة.

و يمكننا أن نستنتج آراء الإباضية من خلال ما سبق ومن أدلة الإباضية في ترك الرفع. ونلخصها فيما يلي:

أ- الأصل في الصلاة هو السدل، والقبض شيء زائد عنها، ونظرا لاختلاف العلماء فيه فقد أخذ الإباضية بالأصل وتركوا ما عداه.

ب- الاختلاف يدل على الجواز، ولعل أصوب ما قيل في هذا الأمر قول ابن عبد البر" إرسال اليدين أو ضمهما كل ذلك من سنن الصلاة"

ج-روى الإمام مالك أحاديث القبض في الموطأ، ومع ذلك لم يعمل بها هو ولا أغلب أتباعه، فقد اختلف علماء المالكية الأوائل في القبض على ثلاثة أقوال حسب ما ذكر القرطبي[22]، لكن الذي استقر عندهم أنهم لم يعملوا به. وهذا يدل أن جميع الأقوال كانت موجودة ولكن لم ينكر أحد من السلف على غيره مخالفته للسنة، لدرجة أن الإمام مالكا نفسه رفض طلب أبي جعفر المنصور أن يلزم المسلمين بأحاديث الموطأ، فقد روى ابن عساكر بالسند إلى مالك بن أنس قال: (لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه، فحادثني وسألني فأجبته فقال إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها - يعني الموطأ - فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونه إلى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال: فقلت يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم، وعملوا به، وإن ردهم عما اعتقدوه تشديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به).

إنّ الذي يفهم من كلام الإمام مالك أنه رُويت روايات مختلفة في فروع الفقه يعارض بعضها بعضا، فلم ينكرها أو يضعفها أو يرجح عليها ما رواه في الموطأ، ولكن ترك الناس يعملون بما وصل إليهم من رواية وعلم مما يعتقدون أنه الحق. ولو كان الإمام مالك ممن يحب الدنيا أو الشهرة لطار قلبه فرحا بهذا العرض الذي جاءه من أمير المؤمنين.

وهذا الخُلُق الذي كان عند الإمام مالك هو نفسه الذي كان عند الصحابة ومن بعدهم من التابعين، وأمثاله من السلف الصالح وهو الذي نرجو أن يتخلق به علماء المسلمين ومفكروهم ومثقفوهم في هذا العصر، ولا يتعصبوا لآرائهم دون اعتبار لبقية العلماء المخالفين لهم في الرأي.

لقد كان من نتيجة هذا الخلق الكريم الذي تحلى به الإمام مالك أنه لم يصل إلينا خلاف بين المسلمين الأوائل إلا شيئا يسيرا، بينما نجد الخلاف شديدا فيما تلا ذلك من أجيال عندما دُوّن الحديث وبدأ من يرجح بعض الأحاديث على غيرها، وفقا لما اقتنع به من مفاهيم وقواعد.

د – إن الدارس للتأريخ ليدرك أن القبض لم يكن مشهورا في القرون السابقة كشهرته الآن، فلم يكن مشهورا في الأندلس، وكذلك في بلدان المغرب العربي:ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، وموريتانيا. وكذلك مصر والسودان، حيث كان المذهب المالكي هو الغالب. ولا يزال معظم سكان هذه البلدان إلى وقت قريب، لا يرفعون أيديهم إلا مرة واحدة ولا يضعون اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. لكن بعد انتشار المذهب الوهابي نظرا للإمكانيات المادية والقوة الإعلامية التي يملكها، دفع كثيرا من المنتسبين إلى المالكية والإباضية إلى الاقتناع بالقبض وذلك لجهلهم بأدلة مذاهبهم.

وقد كان للسياسة دور كبير في تسيير الفقه. فقد تبنّت الدول المتعاقبة على حكم بلاد الإسلام مذاهب معينة وحكمت بمقتضاها. فقد كان مذهب أبي حنيفة في المشرق، ومذهب مالك في المغرب من أوسع المذاهب انتشارا، لأنه أتيحت لكل من المذهبين دولة تتبناه وتنشره. وقد تبنت الدولة العباسية مذهب أبي حنيفة ومكنت له. فعندما تولى أبو يوسف رئاسة القضاء في عهد هارون الرشيد كان يولي القضاء لأتباع مذهبه، فاضطرت العامة إلى أحكامهم وفتاويهم. وانتشر المذهب الحنفي في مصر في زمن العباسيين، إلى أن استولى عليها الفاطميون، فنشروا المذهب الإسماعيلي، ومنعوا التفقه على مذهب أبي حنيفة، لأنه مذهب الدولة العباسية، وسمحوا بالتفقه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي، وقد عمل الأمويون في الأندلس على نشر المذهب المالكي، والأيوبيون على نشر المذهب الشافعي والسعوديون علي نشر المذهب الحنبلي. ورغم أن مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك كانا من أوسع المذاهب انتشارا في السابق، إلا أنه في السنوات الأخيرة نتيجة لسهولة الاتصالات والإمكانيات المادية والإعلامية لبعض الدول والمؤسسات فقد انتشر المذهب الوهابي في كثير من بلاد المسلمين .



القرطبي،الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة الكوثر، جزء 20، ص،221

[2] المرجع السابق، نفس الصفحة

[3] القرطبي،الجامع لأحكام القرآن، تفسير سورة الكوثر، جزء 20، ص،221

[4] السيابي، الرفع والضم في الصلاة، منشورات وزارة الأوقاف، سلطنة عمان

[5] الداودي، مشروعية السدل في الفرض، ص 16

[6] محمد عابد، القول الفصل في تأييد سنة السدل، ص 8

[7] صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى، رقم 707، 1\259. مسند أحمد رقم 22900، 5\336، ( م أ )

[8] الأصبحي،مالك بن أنس، الموطأ، كتاب الصلاة، باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، رقم 376، 1\159 ( / أ ).

[9] عند مسلم الحديث من طريق وائل بن حجر، وليس سهل بن سعد. صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الاحرام، رقم 401، 1\301.

[10] محمد عابد، القول الفصل في تأييد سنة السدل ، ص3

[11] محمد عابد، القول الفصل في تأييد سنة السدل ، ص3

[12] الداودي، مشروعية السدل في الفرض، ص 20

[13] الشنقيطي، محمد الخضر،إبراحم النقض، ص 25

[14] صحيح مسلم، نفس الاحالة السابقة

[15] الشنقيطى ، مشروعية السدل .. ص 31

[16] سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، رقم 755، 1\200. سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب في الامام إذا رأى الرجل قد وضع شماله على يمينه، رقم 888، 2\126سنن ابن ماجة، كتاب الصلاة، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، رقم 811، 1\266 . ( م أ )

[17] سنن االدارقطتي، كتاب الصلاة، باب في أخذ الشمال باليمين في الصلاة، رقم 12، 1\286 . ( م أ ).

[18] محمد عابد، القول الفصل في تأييد سنة السدل، ص 8

[19] مختار الشنقيطي، كراهة القبض ..ص 16

[20] الداودي، مشروعية السدل في الفرض، ص 75

[21] الشوكاني، نيل الأوطار، كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال، 2\201، ( م أ ).

[22] ) القرطبي ، تفسير سورة الكوثر


المبحث الرابع - شبهة مخالفة السنة



رغم أن أدلة الإباضية في ترك الرفع مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أدلة تاريخية وعقلية كما ذكرنا. ومع ذلك نقرأ ونسمع من يقول إن الإباضية لعدم أخذهم بأحاديث الرفع هم مخالفون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وينكرون الأحاديث الصحيحة التي رويت في البخاري ومسلم.

ولا أظن أنه يوجد مسلم في هذا الكون، من الإباضية أو من غيرهم يتعمد أن يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم أو عمله أو سنته لمجرد المخالفة، وإنما كل مسلم يعمل بما اقتنع به من رأي أو دليل أو يتبع مذهبا من المذاهب المعروفة.

وقد أنكر بعض الفقهاء والكتاب على الإباضية تركهم الأخذ بالأحاديث الواردة في البخاري ومسلم في مسألة الرفع وغيرها من المسائل الخلافية، وهم يدركون جيدا أن ترك الأخذ بالحديث ليس إنكارا للحديث ولا مخالفة للسنة، والفقيه الذي يرجح عملا على عمل أو حديثا على حديث إنما يفعل ذلك بناء على ما تواتر لديه من قول أو عمل، وما اعتمد عليه من أصول التشريع والاجتهاد الذي قد يختلف من فقيه إلى آخر، وينطبق هذا على كل مسألة اختلف فيها الأولون.

ولو تتبعنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا عدة أحاديث رواها الإمام البخاري أو الإمام مسلم أو غيرهم وقد جرى العمل على خلافها عند أهل السنة. ومن أمثلة ذلك ما يلي:

صلاة السفر : فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر .وفي رواية (يصلي ركعتين) فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا. وفي البخاري أيضا عن أنس بن مالك (رض) قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا. قال: عشرا. وعنه أيضا قال: (صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين) [1]. وذو الحليفة هو المكان الذي يحرم منه الحجاج من المدينة المنورة وهو يبعد عن المدينة مسافة قصيرة ومع هذه الأحاديث الصحيحة والصريحة نجد أن الذي جرى العمل به عند أغلب أهل السنة أن مسافة السفر أربعة وثمانون كيلومترا وأن السفر إذا زاد عن أربعة أيام جاز للمسافر أن يتم الصلاة. وهذا العمل يخالف ظاهر الحديث الصحيح المذكور ، ومع ذلك فلا نقول إنهم يخالفون السنة، لكن نقول أنهم بنوا حكمهم على روايات أو اجتهادات أخري.

صلاة التراويح : كانت إلى وقت قريب تصلي في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة عشرين رغم تضعيف العلماء[2] للحديث المروي عند ابن أبي شيبة عن ابن عباس. أما الآن فهي تصلى ست عشرة وفي كلا الحالتين فإن هذا العمل يعتبر مخالفة واضحة لحديث صريح في البخاري ومسلم عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.[3]

صلاة الضحى: ففي مسلم عن عائشة(رض) أنها سئلت: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى. قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه[4]. وفي حديث آخر قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبحها. وفي حديث ثالث سُئلت كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء.[5]

فهذه الأحاديث مروية في صحيح مسلم وهي في موضوع واحد وهو صلاة الضحى ويبدو كأنها متعارضه، والمسلمون اليوم منهم من يصلي الضحى ومنهم من لا يصليها بناء على إحدى الروايات، ولم ينكر أحد على آخر فعله أو اتهمه بمخالفة السنة.

الشرب قائما: روى أهل الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما كما رووا عنه أنه شرب قائما. ففي صحيح مسلم عدة أحاديث تنهى عن الشرب قائما منها حديث قتادة عن أنس (رض) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائما. قال قتادة فقلنا لأنس فالأكل؟ قال: ذلك أشر وأخبث.[6] كما روي أيضا عن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله : (لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسي فليستقىء)، أي يتقيأ، وفي مقابل هذا رُويت أحاديث تقول بجواز الشرب قائما. ففي البخاري ومسلم عن ابن عباس (رض) قال: (سقيت النبي من زمزم فشرب وهو قائم). وفي الترمذي عن ابن عمر قال: (كنا نأكل على عهد رسول الله ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام). فمن الذي يخالف السنة هل الذي يشرب قائما أو جالسا؟ ولم نسمع أن مسلما اتهم آخر بمخالفة السنة لكونه شرب قائما.

هذه بعض الأمثلة العملية التي مما اختلف فيها الناس. ومسألة الرفع يجب ألا تخرج عن هذا الإطار وهو جواز الرفع لمن شاء أن يرفع وعدم الرفع لمن رأى أن عدم الرفع أولى. كما أنه إن شاء صلى الضحى أو تركها وله الخيار أن يصلى التراويح ثماني ركعات أو ست عشرة ركعة، أو عشرين أو أربعة وعشرين ، ولا يجب أن يوصف من فعل هذا أو ذاك بمخالفة السنة.

وينسحب هذا الحكم على كل مسألة خلافية لم يتفق فيها المسلمون في الصلاة كالجهر بالبسملة والقنوت وقراءة السورة في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر والتسليم وغيرها من المسائل الفرعية التي اختلف فيها الأولون.

وفي ظني أن اتهام الإباضية بمخالفة السنة لم يأت لتركهم الرفع أو عدم العمل بحديث معين وإنما هو أولا نظرا للجهل بأصول الفقه الإباضي ونتيجة لظروف تاريخية و سياسية قديمة تركت بصماتها في كتب عند أهل السنة.

صحيح البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، رقم 1030، 11031، \376 . كتاب المغازي، باب مقام النبي (ص) بمكة زمن الفتح، رقم 4047، 4\1564 .( م أ )

[2] ) صلاة التراويح - للألباني وكذلك فتح الباري.

[3] )صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان ، رقم 1909، 2\708. صحيح مسلم،كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، رقم 738، 1\509 ( م أ )

[4] أي من سفره

[5] ) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها، رقم 717-719، 1\497.

([6]صحيح مسلم،كتاب الأشربة،باب كراهية الشرب قائما، رقم 2024،3\1601.



ملاحـظـات وتعـليـقـات



مسألة الرفع كمسألة خلق القرآن شغلت علماء المسلمين الأوائل سنوات عديدة كل يحاول إثبات صحة رأيه. ومن أكثر المسائل التي كثر فيها الخلاف مسألة هل الرفع مرة واحدة أم عدة مرات؟ وقد علق أحد محققي سنن الترمذي على هذه المسألة بقوله" وقد جعل الحفاظ المتقدمون هذه المسألة – مسألة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع - من مسائل البحث الخلاف العويصة، وألف فيها بعضهم أجزاء مستقلة، ثم تبعهم من بعدهم في خلافهم، وتعصب كل فريق لقوله، حتى خرجوا بها عن البحث إلى حد العصبية، والتراشق بالكلام، وذهبوا يصححون بعض الأسانيد أو يضعفون، انتصارا لمذهبهم، وتركوا – أو كثير منهم سبيل الإنصاف والتحقيق."[1]

وتأكيدا لما سبق، فبينما كنت أجمع المعلومات لهذا البحث قرأت بعض الأشياء الغريبة التي تتعلق بالخلاف في مسألة الرفع، فأحببت أن أذكرها هنا وأعلق عليها وأترك للقارئ أن يفهمها كما يشاء.

1- حرص كثير من المحدثين على إثبات أن الرفع أكثر من مرة أنه هو السنة التي يجب إتباعها، بناء على الحديث المروي عن ابن عمر (رضي الله عنه) الذي يذكر الرفع عند الركوع وبعد الركوع، لكنهم اصطدموا بحديث عبد الله بن مسعود الذي يقتصر على الرفع في التكبيرة الأولى فقط، وقد نال حديث عبد الله من النقد الرفع ما تجاوز النقد العلمي الموضوعي إلى اتهام عبد الله بن مسعود(رضي الله عنه) بالنسيان ، واستدل بعض العلماء بدليل النسيان ليثبت أن حديث ابن عمر الذي رواه البخاري أقوى من حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي، قال الزيلعي[2] في نصب الراية نقلا عن صاحب التنقيح: (ليس في نسيان ابن مسعود ما يستغرب، فقد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد، وهما المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه مثل التطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي ما لا يختلف العلماء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي ما لم تختلف العلماء فيه من وضع المرفق على الساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم" وما خلق الذكر والأنثى" وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا، كيف لا يجوز أن ينسى مثله في رفع اليدين)[3].

الحقيقة أن ما سبق من وصف عبد الله بن مسعود بالنسيان لأمر غريب وعجيب. وإذا صح هذا فهو يدل على مدى التعصب الذي بلغ إليه بعض العلماء في مسألة فرعية مثل مسألة الرفع. وإذا كان هذا قد قيل في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فلا يستغرب أن ترد أقوال الإباضية أو غيرهم في أي مسألة من المسائل الخلافية.

إن الذي بلغنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وبيعة الرضوان والمشاهد كلها. كما شهد معركة اليرموك بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويكرمه وهو خادمه وصاحب سره ورفيقه في حله وترحاله، وهو من كبار علماء الصحابة وحفاظ القرآن، فهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مُلىء من رأسه إلى أخمص قدميه علما)، وقال فيه عمر بن الخطاب (رض) (وعاء مُلىء علما) وهو الذي يقول عن نفسه: (ما من آية في كتاب الله إلا وأنا اعلم متى نزلت وكيف نزلت وفيمن نزلت) فكيف يوصف بعد ذلك بنسيان عدة أمور منها المعوذتان وكذلك الرفع في كل تكبيرة في الصلاة. وهو أمر عملي يتكرر يوميا خمس مرات.

2- مما روى من أدلة الرفع ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن الحاكم وأبي القاسم بن منده أن ممن روى الرفع العشرة المبشرون بالجنة كما قال أن شيخنا أبو الفضل (لعله يقصد شيخ بن حجر) تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين صحابيا. ولكنه لم يذكر أسماءهم كما أنه لم يبين هل المقصود الرفع مرة واحدة أم عند المواضع الأخرى، وقال أيضا: وقد ذكر أيضا قول البخاري إن الرفع رواه سبعة عشر صحابيا. ولكن الإمام البخاري لم يذكر في صحيحه إلا رواية عبد الله بن عمر ومالك بن الحويرث رضي الله عنهم.

لكن الإمام البخاري صنف كتابا آخر بعنوان "رفع اليدين في الصلاة"[4]. ومع تشدد البخاري في نقل الأحاديث لدرجة أن صحيحه يعتبر من أصح الكتب، إلا أنه لم يلتزم في هذا الكتاب المنهج الذي التزم به في صحيحه من حيث صحة الأحاديث، فنقل فيه كل ما وصل إليه فيما يتعلق بموضوع الرفع، فاختلط فيه الصحيح والضعيف والمرفوع والمقطوع من الحديث. والسبب من تأليف الكتاب - فيما يبدو لمن يقرأ الكتاب - هو الرد على الحنفية الذين يقولون بأن الرفع مرة واحدة فقط.

وقد قام بديع الدين الراشدي بتحقيق هذا الكتاب، ونقل فيه قول البيهقي عن العراقي : أن الذين رووا الرفع من الصحابة بلغوا خمسين صحابيا. ثم جاء من تكلم في الرفع من بعد ذلك واستدل بأن الرفع رواه خمسين صحابيا منهم العشرة المبشرين بالجنة، فظن كثير من العوام أن هذه الروايات في صحيح البخاري.

والحقيقة أن دعوى الخمسين صحابيا الذي رووا الرفع تحتاج إلى إثبات، لأن الذي يرجع إلى كتب الحديث يجد أن مجموع أحاديث الرفع كلها في الكتب التسعة بلغت أكثر من مائة وخمسة وثلاثين حديثا منها الصحيح والضعيف والمكرر والزيادات والروايات المتشابهة. أما الأحاديث المشهورة في الرفع فرواتها من الصحابة – حسب ما وجدت - إثنا عشر صحابيا [5] , ليس فيهم ممن عُدّ من المبشرين بالجنة إلا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وهذا ما جعلنا نتساءل عن صحة قول من يقول إن أحاديث الرفع رواها أكثر من خمسين صحابيا منهم العشرة المبشرين بالجنة. فلم أجد في كتب السنة المشهورة – على حد علمي - أي حديث من أحاديث الرفع رُوي عن أبي بكر الصديق، أو طلحة بن عبيد الله، أو الزبير بن العوام، أو سعيد بن زيد، أو سعد بن أبي وقاص.

أتمنى أن يقوم أحد الباحثين بتحقيق أحاديث الرفع المذكورة في كتاب رفع اليدين للبخاري، ويبين حقيقة هذه الدعوى من عدمها.

سنن الترمذي،ما جاء أن النبي لم يرفع إلا في أول مرة، ص 41

[2] جمال الدين الزيلعى، نسبة الى زيلع وهي بلدة على ساحل الحبشة ، توفي بمصر سنة 762 هـ

[3] جمال الدين الزيلعي، نصب الراية لأحاديث الهداية ، الجزء الأول صفحة ص 400 – دار إحياء التراث العربي الطبعة الثالثة 1987

[4] البخاري، رفع اليدين في الصلاة، تحديق بديع الدين الراشدي ، دار ابن حزم، 1996

[5] ) الصحابة الذي رويت عنهم أحاديث الرفع هم: أنس بن مالك، البراء بن عازب، أبو هريرة ،جابر بن عبد الله، عائشة ، أبي حميد الساعدي، عبد الله بن عمر،عقبة بن عمر، عمير بن حبيب،مالك بن الحويرت، وائل بن حجر ، و علي بن أبي طالب.


خـلاصة البـحـث



أرجو أن أكون قد وفقت في إبراز بعض من أدلة الإباضية في مسألة الرفع الضم، وبناء على ما تقدم، يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

1- إن ترك رفع اليدين في الصلاة وإرسالهما هو الرأي الذي استقر عليه فقهاء الإباضية والذي جرى العمل به منذ القرن الأول الهجري حتى وقتنا الحاضر، ولم ينقل عن علمائهم الأوائل الاختلاف فيه. وهذا الرأي ليس جديدا ، فقد كان من قبل ظهور المذاهب الأربعة، ومن قبل البداية في تدوين الحديث أو تصنيفه ومن قبل أن يختلف المسلمون في هذه المسألة أو غيرها كما أن الصلاة بدون رفع اليدين صحيحة بإجماع الأمة.

2-إن الإباضية عندما لا يرفعون أيديهم في الصلاة، لا يقصدون مخالفة السنة، كما يظن البعض وإنما هو إتباع للسنة بناء على ما صح عندهم من أحاديث واقتداء بأئمتهم المتقدمين ، وعلى أدلة عقلية وتاريخية، وأخذا بمبدأ الاحتياط والخروج من الخلاف دون الإخلال بأركان الصلاة المجمع عليها.

3- الإباضية لا ينكرون على من يرفع، أو يقبض، ولا يعتبرونه مبتدعا ولا مخالفا للسنة ولا يمنعون الصلاة خلف من يرفع، ولو ثبت لديهم أن الرفع من السنن المؤكدة التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا أحرص الناس على العمل به. فمن رأى ترك الرفع والضم فصلاته صحيحة بالإجماع، ومن اطمأن إلى الرفع فرفع يده في التكبيرة الأولى أو غيرها أخذا بإحدى الروايات، فصلاته صحيحة كذلك. وكلاهما مأجور إن شاء الله تعالى.

4- التعامل مع المسائل الخلافية كمسألة الرفع أو الضم أو غيرهما من المسائل الأخرى يجب أن يكون من منطلق البحث العلمي الموضوعي الهادف والنية الخالصة من أجل الوصول إلى الحق بعيدا عن الاتهامات بمخالفة السنة أو الابتداع في الدين.

وأخيرا، أسأل الله تعالى أن يجمع شمل المسلمين على الخير، و يعينهم على مجاهدة أنفسهم والشيطان، وأن يبعد عنهم الخلاف وأهله والشر وأهله إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وصل اللهم وسلم وبارك على رسولك الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.




من مصادر التشريع عند الإباضية



مصادر التشريع عند الإباضية كما يقول الشيخ علي يحي معمر هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس، والاستدلال ويندرج تحته الاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة. وبعض علماء الإباضية يطلقون على الإجماع والقياس والاستدلال كلمة الرأي فيقولون أن مصادر التشريع هي القرآن والسنة والرأي وبسبب ذلك أخطأ بعض ممن كتب عنهم فظن أنهم ينكرون الإجماع.

ومن أصولهم التشريع ما يلي:

*

إذا تعارض قول الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وعمله، ولا يمكن الجمع بينهما، فالقول أقوى لأنه أساسا موجه إلينا أما عمله فيحتمل الخصوصية. ومن أمثلة ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال" من أصبح جنبا أصبح مفطرا" والذي يعارضه الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة أنه كان يصبح جنبا وهو صائم. فالإباضية يأخذون بحديث أبي هريرة بناء على هذا الأصل، وهو الأحوط ، أما غيرهم فيأخذون بحديث عائشة بحكم أنه في البخاري وهو عمل النبي (صلى الله عليه وسلم )
*

الحديث الأحادي لا يحتج به في أمور العقائد لأنه يوجب العمل ولا يوجب العلم فلا تبني عليه المعتقدات لأن المعتقدات يجب أن تنشأ عن الحجج اليقينية القطعية ولا تنشأ عن الحجج الظنية ونتيجة لذلك فقد اختلفوا مع المذاهب الأخرى في بعض فروع العقائد. ومنها رؤية الله تعالى في الآخرة وخلود مرتكب الكبيرة في النار إن لم يتب كما سيأتي تفصيله فيما بعد.
*

الأعمال التي صدرت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) في بعض العبادات لسبب عارض، أو فعلها ولم يعد إليها، أو لم يثبت أنه داوم عليها ، لا يعتبروها سنة، وإنما يرونها واقعة حال يمكن الإتيان بها في ظروف مشابهة فقط ، ومنها:القنوت في الصلاة، ورفع الأيدي عند التكبير والجهر بكلمة آمين بعد الفاتحة.
*

أساس العقيدة في الله تبارك وتعالى هو التنزيه المطلق فلا يشبهه ولا يشبه شيئا من الخلق وما جاء في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة مما يوهم التشبيه فانه يؤول بما يفيد المعنى ولا يؤدى إلى التشبيه ويبتعدون كل البعد عن وصفه تعالى بما يوهم التشبيه ويثبتون له الأسماء الحسنى والصفات العليا كما أثبتها لنفسه.





حكم القنوت في الصلاة




إجابة عن سؤال للشيخ سعيد بن مبروك القنوبي


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد ذهب أصحابنا - رضوان الله عليهم - إلى أن القنوت منسوخ في فريضة الفجر كغيرها من الصلوات ، ووافقهم على ذلك جماهير العلماء ، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وسائر أصحابهم وابن المبارك والليث بن سعد وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى الأندلسي ، وإليه ذهب من التابعين الأسود والشعبي و الحسن وسعيد بن جبير وعمر بن ميمون والنخعي وطاوس والزهري ، وهو مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي على الصحيح عنهم وابن مسعود وابن عباس وابن عمرو وابن ****ير وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن أبي بكر وآخرين ، ونسبه الإمـام الترمـذي إلى أكثر أهـل العلم . وهـو الحـق ؛ وذلك لأنه من كلام الناس ، وكلام الناس ممنوع فيها بعد نسخه بنص سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كما ثبت ذلك عن جماعة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقد روى مسـلم وأبو عوانة والبخاري في " جزء القراءة خلف الإمـام " وفي " خلق الأفعال " والنسائي وأبو داود والدارمي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والطحاوي في " شرح المعاني " والطبراني والبيهقي والطيالسي والخطيب في " الموضح " وآخرون من طريق معاوية بن الحكم السلمي قال : بينا نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه ، ما شأنكم تنظرون إليّ ؟! ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني فإني سكت ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كرهني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : (( هذه الصلاة لا يصلح فيها شــيء من كلام الناس وإنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) .
وروى البخاري ومسلم وأبو عوانة والنسائي وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني في " الكبير " والطبري في تفسيره والبيهقي والخطابي في "غريب الحديث" والبغوي وأحمد بن حنبل ، عن زيد بن أرقم قال : (( كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية } وقوموا لله قانتين { فأمرنا بالسكوت )) . زاد مسلم وغيره )) ونهينا عن الكلام )) .
وروى أحمد والنسائي والشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحميدي والطيالسي والطبراني في " الكبير " وأبو داود وابن حبان والبيهقي والبغوي والطحاوي في " شرح المعاني " ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما أن جئنا من أرض الحبشة سلمت عليه فلم يرد علي ، فأخذني ما قرب وما بعد فجلست أنتظره فلما قضى الصلاة قلت : يا رسول الله إنك كنت ترد علينا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله يُحدث من أمره ما شاء ، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة )) . ورواه أيضاً البخاري ومسلم وابن خزيمة والدارقطني وآخرون بلفظ )) إن في الصلاة لشغلاً )) ، وله ألفاظ أخرى .
فهذه الأحاديث تدلنا دلالة واضحة جلية على أن كلام الناس منسوخ في الصلاة ، وهي عامة تشمل كل كلام للناس ، ولا يمكن قصرها على أسباب ورودها إذ لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ كما هو محرر عند أرباب الأصول ، كما أنه لا يمكن تخصيص هذه العمومات بذكر فرد من أفرادها ، إذ إن العام لا يجوز تخصيصه بذكر فرد من أفراده كما هو مذهب جمهور أهل الأصول .
ومن الأدلة الدالة على المنع من القنوت :
ما رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والـطيالسـي وابن أبي شيبة والطحاوي في " شرح المعاني " وابن حبان والطبراني والبيهقي والبغوي في " شرح السنة " وغيرهم من طريق أبي مالك الأشجعي قال : قلت لأبي يا أبه إنك قد صليت خلف رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ابن أبي طالب هاهنا بالكوفة نحواً من خمس سنين كانوا يقنتون ؟ ، قال : أي بني مُحدث . وفي رواية قال : صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت ، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت ، وصليت خلف عمر فلم يقنت ، وصليت خلف عثمان فلم يقنت ، وصليت خلف علي فلم يقنت ، ثم قال : أي بني بدعة . قال الترمذي : حديث صحيح ، وقال الحافظ في " التلخيص " : حسن .


هذه أهم أدلة المانعين ، وهي أدلة واضحة صريحة كل الصراحة ، ولم يأت من قال بخلاف ذلك بما تقوم به حجة ، وأقوى ما عندهـم حـديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً يدعو على المشركين ثم تركه ، وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا . وهذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة ولا عبرة بتصحيح من صححه ؛ وذلك لأن في إسناده الربيع بن أنس ، قال ابن حبان : الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه ، لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً ، والراوي عنه هنا أبو جعفر المذكور ، وأبو جعفر هذا ضعيف من جهة حفظه ، كما نص على ذلك جماعة .
وأما بقية الأدلة التي ذكروها فلا دليل فيها البتة على ما قالوه ، لأن غاية ما فيها ثبوت القنوت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا نزاع في ذلك ، وإنما النزاع في بقائه ، والله أعلم .

سعيد بن مبروك القنوبي




القراءة في الظهر والعصر



لماذا يقتصر الاباضية على قراءة الفاتحة فقط في جميع ركعات الظهر والعصر.

سؤال يتردد كثيرا على لسان كل مسلم أو مسلمة سواء من الاباضية أو غيرهم، وهذا السؤال منشأوه الحرص على اتباع السنة وأن تكون الصلاة كاملة فهل السنة في قراءة السورة في الركعتين من الظهر في والعصر أم السنة في ترك القراءة.

ونظرا لورود روايات مختلفة في هذه القضية فالاباضية يرجحون الاحوط دائما في كل قضية اختلفت يها الروايات ولم يتفق المسلون الأوائل عليها مثل هذه القضية وقضية الرفع والتأمين وغيرها. فالاحوط هو ترك المختلف فيه الى المتفق عليه والمتفق عليه أن الصلاة صحيحة بالاجماع.

وقد أورد العلامة أبو مسلم الرواحي في كتابه "نثار الجوهر"[1] بحثا طويلا في عدة صفحات في هذه القضية رجح فيه قول الإباضية بعد أن ناقش كل الأحاديث الواردة في قراءة السورة بعد الفاتحة، فليرجع إليه من شاء في إيضاح هذه المسألة.

وفيما يلي بعض أقول العلماء الاباضية في هذه القضبة

يقول الشيخ عامر الشماخي في كتاب الإيضاح: (أجمع الناس على أن صلاة الظهر والعصر لا جهر فيهما ورأينا كل ركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب يسر بها، لا في ليل ولا في نهار، ألا ترى إلى صلاة الجمعة وصلاة العيدين يجهر فيهما بالقراءة لأجل السورة ولو كان ذلك نهارا، ولذلك رجح أصحابنا قول من لم يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، إلا بفاتحة الكتاب والله أعلم .وقد روى ابن ماجة حديثا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يقرأ فيهما كما يؤيده أن السورة شُرع لها الإنصات من قبل المأموم ويتعذر الإنصات لما يسر به.

الشيخ أحمد الخليلي فيقول إجابة على هذا السؤال : (دليل أصحابنا في عدم قراءة ما عدا الفاتحة في الظهرين حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه ابن ماجة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يقرأ فيها, ويعتضد ذلك بالقياس على سائر الركعات السرية التي لا يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب، كما يؤيده أن السورة شرع لها الإنصات من قبل المأموم ويتعذر الإنصات لما يسر به والله أعلم.

رأي الشيخ سعيد بن مبروك القنوبي

استدل الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم . على عدم مشروعية القراءة في الظهر والعصر بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمر وسكت فيما أمر وما كان ربك نسيا " رواه الإمام البخاري في صحيحه.

وبحديثه الآخر الذي رواه النسائي وأبو داود والطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عبدالله بن عبيد الله بن عباس قال: دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم فقلنا لشاب منا سل ابن عباس أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال : لا ، فقيل : لعله كان يقرأ في نفسه؟ فقال : خمشاً هذه شر من الأولى ، كان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به .

ورأوا أن الأحاديث التي أستدل بها القائلون بمشروعية القراءة لا تخلو من كلام في أسانيدها أو متونها ولو على مذهب بعض العلماء ولا سيما أن القراءة ليست بواجبة عند القائلين بها حتى أن ابن حبان حكى اتفاق العلماء على ذلك ، وذكر النووي في الأذكار وغيره أن تاركها لا يشرع له سجود السهو .

وعلى كل حال فالمسألة بحاجة إلى شيء من البحث والتمحيص وليس هذا موضع ذلك والله تعالى أعلم.

أما الشيخ بيوض رحمه الله فقد أجاب بما يلي على سؤالين في هذه القضية

الســــــــــــــؤال:

هل الواجب في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر قراءة الفاتحة فقط أم الفاتحة وسورة؟

الجــــــــــــــواب:

إن الخلاف في القراءة ومقدارها في ركعات صلوات الفرض في صلاة الفرد وصلاة الجماعة كثير ومشهور، ودونك ما قاله صاحب الإيضاح عن مذهب الإباضية في ذلك في باب القراءة في الصلاة بالجزء الأول صـ: 473: غير أن الذي أخذ به علماءنا رحمهم الله أن لا يقرأ في الركعتين الأوليين من الأولى، والعصر بغير فاتحة الكتاب، والدليل معهم إجماع الناس على أن صلاة الظهر والعصر لا جهر فيهما، ورأينا كل ركعة لا يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب يسر بها لا في ليل ولا في نهار، ألا ترى إلى الصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، يجهر فيهما بالقراءة لأجل السورة ولو كان ذلك نهاراً، ولذلك رجح أصحابنا قول من لم يقرأ في الركعتين الأوليين من الأولى والعصر، إلا بفاتحة الكتاب والله أعلم، انتهى والمسألة فرعية خلافية فلا تجوز التخطئة فيها.

الســــــــــــــؤال:

ما الدليل على عدم مشروعية قراءة شيء من القرآن بعد قراءة الفاتحة في صلاتي الظهر والعصر؟

الجــــــــــــــواب:


دليل أصحابنا في عدم قراءة ما عدا الفاتحة في الظهرين حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الذي رواه ابن ماجه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يقرأ فيها، ويعتضد ذلك بالقياس على سائر الركعات السرية التي لا يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب، كما يؤيده أن السورة شرع لها الإنصات من قبل المأموم ويتعذر الإنصات لما يسر به. والله أعلم.




[1] ) أبو مسلم الرواحي : نثار الجوهر ص. 443-452 الجزء الأول.




حكم آمين في الصلاة



للشيخ سعيد بن مبروك بن حمود القنوبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل من اهتدى بهديه من بعده أما بعد

فقد ذهب أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم إلى عدم مشروعية قول " آمين " في الصلاة وذلك لأن آمين من كلام الناس وكلامهم ممنوع فيها بعد نسخه بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت ذلك عن جماعـة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم فقد روى مسلم وأبو عوانة والبخاري في "جزء القراءة خلف الإمام " وفي " خلق الأفعال " والنسائي وأبو داود والدارمي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والطحاوي في "شرح المعاني" و الطبراني و البيهقي والطيالسي والخطيب في " الموضح " وآخرون من طريق معاوية بن الحكم السلمي قال : بينما نحن نصلي مع رسول الله إذ عطـس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أُمِّيَاه ما شأنكم تنظرون إليَ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلمـا رأيتهم يصمتونني فإني سكت فلما صلى رسول الله فبأبي هو وأمي ما رأيت معلـماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوالله ما كَهَرَني ولا ضربني ولا شتمني قال : "هذه الصـلاة لا يصلح فيها شـيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".

وروى البخـاري ومسلـم وأبو عــوانة والنسائي وأبـو داود والترمذي وابن خـزيمة وابن حبان والطبراني في ( الكبير) والطبري في ( تفسيره ) والبيهقي والخطابي في ( غريب الحديث ) والبغوي وأحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال : "كان الرجل يكلـم صاحبه في عهد النبي في الحاجة في الصـلاة حتى نزلت هذه الآية وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت" ، زاد مسلم وغيره ونهينا عن الكلام" وروى أحمد والنسائي والشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والحميدي والطيالسي والطبراني في " الكبير " وأبو داود وابن حبان والبيهـقي والبغـوي والطحاوي في " شـرح المعـاني " عـن ابن مسعود قال :كنا نسلم على النبي وهو في الصلاة فيرد علينا فلما أن جئنا من أرض الحبشة سلمت عليه فلم يـرد عليَ فأخذني ما قرب وما بعد فجلست أنتظـره فلما قضى الصلاة قلت : يا رسول الله إنك كنت ترد علينا فقال : "إن الله يحدث من أمره ما شاء وأن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" ورواه أيضا البخاري ومسلم وابن خزيمة والدار قطني وآخرون بلفظ " إن في الصلاة لشغلا" وله ألفاظ أخرى .

فهذه الأحاديث تدلنا دلالة واضحة جلية على أن كلام الناس منسوخ في الصلاة وهي عامة تشمل كل كلام للناس ولا يمكن قصرها على أسباب ورودها إذ لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ كما هو محرر عند أرباب الأصول كما أنه لا يمكن تخصيص هذه العمومات بذكر فرد من أفرادها إذ أن العام لا يجـوز تخصيصه بذكر فرد من أفراده كما هو مذهب جمهور أهل الأصول وبـذلك يبطل ما يدَّعيه القائلـون بمشروعية التأمين من أن هذه الأحاديث محمولة على تكليم الناس بعضهم لبعض لا على مطلق الكـلام على أنه لو كان ما يدَّعونه صحيحاً لما جاز الإستدلال بهذه الأحاديث على النهي عن الكلام في الصلاة إذا كان الإنسان لا يكلم أحداً وهذا مخالف للإجماع كما هو واضح لا يخفى وأما دعوى من يدَّعي بأن آمين دعاء والدعاء جائز بل مطلوب في الصلاة فيكون ذلك مخصّصاً لأحاديث النهي فهي دعوى فارغة وذلك لأنـه لم يقل أحد بجواز الدعاء في أي موضع في الصلاة وإنما ذلك في مواضـع محصورة على ما في بعضها من خلاف وأما القياس على التشهد فهو قياس باطل إذ لا توجد علة جامعة بينهما حتى يصح القول بالقياس على أنـه قد ثبت الأمر بالتشهد حتى بعد نسخ الكلام كما في حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس رضى الله عنهما .

وأما القول بأنه لا يمكن نسخ المتقدم بالمتأخر إذا كان المتقدم خاصا والمتأخر عاماً فهـذا مسلَّم به إذا لم توجد علة تقتضي دخول ذلك الخاص في هذا العام أما إذا وجدت علة أو قام دليل على الدخول فالخاص يمكن نسخه بالدليل العام في هذه الحالة كما هو ظاهر من صنيع العلماء ولذلك أمثلة كثيرة لا داعي لإيرادها هنا وهي لا تخفى على من له أدنى إطلاع على سنـة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا واضح بالنسبة إلـى دخول آمين في النهي عن الكلام في الصلاة إذ لا يمكن النهي عن كل فرد من أفراد الكلام أو أنه يطول به الكلام فاستعمل رسول الله عبارة عامة فـي النهي عن الكلام في الصلاة ثم بين الجائـز فيها ولم يذكر آمين في ذلك فلو كان هذا النهي لا يشمل كل كلام الناس لما كانت هنالك حاجة إلى هذا البيان وهـذا كله على تقدير صحة ما استدلوا به من الأحاديث الدالة على مشروعية التأمـين وفي صحتها نظـر لا يخفى على متأمل منصف وإليك ما استدلوا به مـع بيان ما فيه من عـلل :

حديـث على بن أبي طالب قال : "سمعـت رسول الله إذا قال : ولا الضالين قال : آمين" رواه ابن ماجة ، وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شعبة : ( ما رأيت أحداً أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى ) وقال ابن حبان : (كـان فاحش الخطأ رديء الحفظ فكثرت المناكير في روايته ) وقال الدار قطني : (كان رديء الحفظ كثير الوهم ) وقد ضعفه غير هؤلاء .


-1

عن ابن عمـر رضي الله عنهمـا أن رسـول الله كان إذا قال : ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته. ومثله عن أبي هريـرة رواهما الدار قطني وفيهما بحر السقا قال البخاري : ( ليس هو عندهم بقوى يحدث عن قتادة بحديث لا أصل له من حديثه ولا يتابع عليه ) وقال النسائي : ( ليس بثقة ولا يكتب حديثه ) وقـال ابن حبان : (كان ممن فحـش خطؤه وكثر وهمه حتى استحـق التـرك ) وقال السعدي : ( سـاقـط ) وقال ابن زريع : (كان لاشيء ) وقال ابن معـين : ( ليس بشيء ) وقال أبو حاتم : (ضعيف ) وقال أبو داود والدار قطني : ( متروك ) وذكره ابن عبد البر في جملة من ترك حديثه .



-2

عن أبي هريرة قال : كان رسـول الله إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال : " آمين " رواه الدار قطني وابن حبان والحاكم والبيهقي وقال الحاكم : ( صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ ) ووافقه الذهبي وقال ابن القيم في أعـلام الموقعين : ( رواه الحاكم بإسناد صحيح ) وحسنه الدار قطني في السنن وأعله في العلل ، وهو الحـق لأن في إسناده إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي بن الزبريق قال النسائي : ( ليس بثقة ) وقال أبو داود : ( ليس بشيء ) وكذَّبه محدِّث حمص محمد بن عوف الطائي فقد روى الآجري عن أبـي داود أن محمـد بن عون قال : ( ما أشك أن إسحاق بن زبريق يكذب ) وقال الحافظ في التقريب : ( صدوق يهـم كثيرا ) وشيخه في هـذا الحديث عمرو بن الحارث الحمصي قال الذهبي : ( لا تعرف عدالته ) ، ولا عبرة بتوثيـق ابن حبان له فإنه معروف عنـه توثيق المجهولين كما نبَّه على ذلك جماعة منهم ابن الصلاح والصلاح العلائي وابن حجر في اللسان والنكت على ابن الصلاح والكوثري والمعلمي وصاحب المنار .



-3

عن أبي هريرة قال : (ترك الناس التأمـين وكان رسول الله إذا قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال : آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد) رواه ابن ماجة ورواه أبـو داود بدون قولـه : (فيرتج بها المسجد) وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده ، وهو حديث موضـوع لأن في إسناده بشـر بن رافـع قال أحمد : ( ليس بشـيء ضعيـف في الحديث ) وقال أبو حاتم : ( ضعيف الحديث منكـر الحديث لا نرى له حديثا قائما ) وقال البخاري : ( لا يتابـع في حديثه ) وقال ابن حبان : ( يأتي بطامات عن يحيى ابن أبي كثير موضوعه يعرفها من يكن الحديث صناعته كأنه المتعمد لها ) وقال ابن عبد البر في الكنى : (هو ضعيف عندهم منكر الحديث ) وقال في كتاب الإنصاف : ( اتفقوا على إنكار حديثه وطرح ما رواه وترك الاحتجاج به لا يختلف علمـاء الحديث في ذلك ) ، وشيخه في هذا الحديث ابن عم أبي هريرة قال ابن القطان : ( لا يعرف له حال ولا روى عنه غير بشر ) وقال الذهبي في الميزان : ( لا يعرف ما حدث عنه سوى بشر بن رافع ) وقال البوصيري في الزوائد : ( لا يعرف ) .



-4

عـن أبي هـريرة أيضا أن رسـول الله قال : "إذا أمَّـن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفـر له ما تقدم من ذنبه" وفـي رواية إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهـم ولا الضاليـن فقـولوا : آمين … الخ " .

والجواب : أن هذا الحديث ضعيف وإن كان إسناده صحيحا وذلك أنه جاء في رواية بلفـظ "إذا قال الإمام آمين فأمنوا" وجاء في رواية أخرى "إذا قال القارئ آمين فأمنوا" وجـاء في رواية "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهـم ولا الضالين فقولوا آمين" وجاء في بعض الروايات "إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء … الخ " من غير أن يذكر الراوي أن ذلك فـي الصلاة أو في غيرها ، وجاء في بعض الروايات قـوله : "فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" بعد قوله : فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد ، وجاء في رواية بعد قول آمين كما تقدم بل ولم يأت ذكر قوله فإذا قال الإمام آمين … الخ في بعض الروايات ؛ وهذا الاضطراب يكفي للحكم على هذا الحديث بالضعف لمن تدبَّر وأنصف ومن نظر في كتب التخريج وتأمل كلام العلماء وجدهم يردُّون كثيراً من الأحاديث ويحكمون باضطرابها بما هو أقل من هذا الاضطراب والله أعلم .



-5

عن بلال قال : "يا رسول الله لا تسبقني بآمين" رواه أبو داود .

والجواب : أن هذا الحديث مرسل والمرسل من قسم الضعيف عند الجمهور كما أوضح ذلك الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وذلك لجهالة الواسطة المحذوف قال الحاكم في الأحكام قيل : ( أن أبا عثمان - وهو الراوي لهذا الحديث عن بلال - لم يدرك بلالاً ) وقال أبـو حاتم الرازي : ( رفعه خطأ ورواه الثقات عن عاصم عن أبي عثمان مرسلا ) وقال البيهقي وقيل : ( عن أبي عثمان عن سلمان قال : قال بلال وهو ضعيف ليس بشيء ) . اهـ



-6

عن أم الحصين رضي الله عنها أنها صلَّت خلف رسول الله فلما قال : ولا الضالين قال : " آمين " فسمعته وهي في صف النساء . رواه الطبراني .

والجواب : أن هذا الحديث ضعيف جداً لأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي قال أبو زرعه : ( ضعيف الحديث ) وقال أبو حاتم : ( ضعيف الحديث مخلـط ) وقال البخاري : ( تركه يحيى وابن مهدي وتركه ابن المبارك وربما ذكـره ) وقال الجوزجاني : ( واهٍ جـداً ) وقال النسائي : ( ليس بثقـة ) وقال مـرة : ( متروك ) وقال ابن حبان : ( كان فصيحا وهو ضعيف يروي المناكير عن المشاهير ويقلب الأسانيد ) وقال القطان : ( لـم يزل مخلطا كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب ) ، وذكره الفسوي في باب من يرغب عن الرواية عنهم .



-7

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال : "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" رواه ابن ماجة قال البوصيري في الزوائد : ( هذا إسناد صحـيح رجاله ثقات احتج بجميع رواته ) كذا قال ، وسهيل بن أبي صالح - أحد رجال هذا الحديث - وإن أحتج به مسلم فهو مختلف فيه . روى العقيلي عن يحيى أنه قال : ( هو صويلح وفيه لين ) وذكره ابن حبان وقال : ( يخطئ ) وذكره البخاري في تاريخه وقال : ( كان لسهيل أخ فمات فوجد عليه فنسيَ كثيراً من الحـديث ) وروى الدوري عن ابن معـين أنه قال : ( ليس حديثه بحجة ) ، وقال الحاكم بعد كلام : ( ثم قيل في حديثه بالعراق أنـه نسيَ الكثير منه وساء حفظه في آخر عمره ) .

ثم أن هذا الحديث إذا صح فلا حجة فيه على التأمين في الصلاة البتة إذ لا ذكر لذلك فيه ، نعم جاء في رواية عند أحمد "وحسد اليهود للمسلمين فـي ثلاث رد السلام وإقامة الصفوف وقولهم خلف إمامهم في الصلاة آمين" لكن في إسناد هذه الرواية علي بن عاصم الواسطي وهو ضعيف جداً وقد كذب وأتهم قال ابن المديني : (كان كثير الغلط وكان إذا غلط فرد عليه لا يرجع ) وقال صالح بن محمد : ( ليس هو عندي ممن يكذب لكنه يهـم وهو سيء الحفظ كثير الوهم يغلط في أحاديث يرفعها ويقلبها وسائـر حديثه صحيح مستقيم ) ، وسـئل عنه يزيد بن هارون فقـيل له على بن عاصم : ( إيش حاله عندكـم فقال : مازلنا نعرفه بالكـذب ) وقال محـرز عن يحيى بن معين : ( كذاب ليس بشيء ) وقال يعقـوب عن يحيى : ( ليس بشيء ولا يحتج به ) ؛ قلت ما أنكرت منه قال : ( الخطأ والغلط ليس ممن يكتب حديثـه ) وقال البخاري : ( ليس بالقـوي عندهم ) وقال مرة : ( يتكلمون فيه ) وقال الدار قطني : ( يغلط ويثبت على غلطه ) ؛ ثم أن هذا الحديث مضطرب فقد روى على حسب ما ذكر من الروايتين السابقتين وروى "حسد اليهود على قـوله اللهم ربنا ولك الحمد" وروى بلفظ "لم تحسدنا اليهود بشيء ما حسدونا بثلاث التسليم والتأمين واللهم ربنا ولك الحمد" إلى غير ذلك من الروايات .



-8

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين) رواه ابن ماجة .

وهذا الحديث باطل لأن في إسناده طلحة بن عمرو الحضرمي المكي وهو متروك . قال ابن معين : ( ليس بشيء ) وقال أحمد : ( لاشيء متروك ) وقال النسائي : ( متروك الحـديث ) وقال أيضـا : ( ليس بثقـة ) وقال الجوزجاني : ( غـير مرضي في حديثه ) وقال البخاري : ( ليس بشيء كان يحيى بن معين سيئ الرأي فيه ) وقال ابن سعد : (كان كثير الحديث ضعيفا جداً ) وقال ابن الجنيد : ( متروك ) وقال ابن حبان : ( كان ممن يـروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب ) ؛ على أن هـذه الرواية لا دليل فيها على أن المـراد بالتأمين التأمين في الصلاة بل هو صـريح في أنه خـارج الصلاة وذلك واضح من قوله : "فأكثروا من التأمين" وذلك لأن التأمين محدود في الصلاة عند القائلين به فكيـف إكثاره ؟ وأيضاً فأين كان اليهود ينتابون المسلمين في الصلوات الجهرية ؟ وبذلك يتبين بطلان الاستدلال بهذا الحديث ولله الحمد والمنّه .



-9

عن أبي موسى الأشـعري أن رسـول الله ... إلى أن قال وإذا قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين . رواه مسلم وأبو عوانه .

وجوابه : أن في إسناد هذا الحديث قتادة وهو مدلس وقد عنعن .. فهو ضعيف .



-10

عن أبـي هريرة من طريق نعيم بن المجمر أنه قال : "صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسـم الله الرحمـن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال : آمين ، فقال الناس : آمين .. الحديث " وفي آخره قال : "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة بالنبي" ، و هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة ؛ كما أوضح ذلك ابن الجوزي والزيلعي بما يكفي ويشفي فمن شاء ذلك فليرجع إليهما .



-11

عن وائل بن حجر قال سمعت النبي قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقال : " آمين " ومدَّ بها صوته ، وفي رواية "وخفض بها صوته" روى الأولى أحمد وأبو داود والترمـذي وابن حبَّان والدارقطني ، وروى الثانية أحمد وابن مـاجة والدارقطـني ولفـظ ابن ماجة "فسمعناها" .

والجواب : أن هذا الحديث مضطرب فلا تقوم بمثله حجة ؛ وذلك أنه رواه سفيان بلفظ ومدَّ بها صوته وتابعه على ذلك العلاء بن صالح وهو ضعيف ومحمد بن سلمة وهو ذاهب الحديث كما قال الجوزجاني ، وقد قال ابن مهدي عن حديث سفيان : ( أشد شيء فيه أن رجلا كان يسأل سفيان عن هذا الحديث فأظن سفيان تكلم ببعض والرجل ببعضه ) ، ورواه شعبـه بلفظ " وخفض بها صوته " وهي من طريق علقمة عن أبيه وقد أختلف في سماعه من أبيه وفي رواية عن ابن عنبس عن وائل من دون ذكر علقمه وفي رواية عن ابن عنبس عن علقمة عن أبيه أو عن وائل ورواه ابن ماجة من طريق عبد الجبّار عن أبيه قال النووي في شرح المهذب : ( الأئمة متفقون على أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه ) ، وقال جماعة : ( إنما ولد بعد أبيه بستة أشهـر ) ، قلت : وقال بعضهم : ( أنه سمع من أبيه وهو ضعيف جداً ) ، ورواه الطبراني بلفظ "رأيت النبي دخل في الصلاة فلما فرغ من فاتحة الكتاب قال : آمين ثلاث مرات" وقد جاء بغيـر هذه الألفاظ والخلاصة أن الرواة قد اختلفوا في هذا الحديث من حيث كيفية التأمين وعـدد المرات والاتصال والإرسال وبذلك يتبين لكم اضطراب هذا الحديث ومن المقرر في الأصول والحديث أن الحديث المضطرب من قسم الحديث الضعيف والله أعلم .



-12

عن الزُّهـري كـان رسول الله يقول : " آمين " . هذه الرواية مرسلة أو معضلة وكل منهما من باب الضعيف فلا تقوم بها حجة .



-13

عن سلمان عند الطبراني ولا يحضرني لفظه الآن .

والجواب : أن في إسناد هذا الحديث سعيد بن بشير وهو ضعيف ليس بحجة قال الميموني : ( رأيت أبا عبدالله يضعف أمره ) وقال ابن معين : ( ليس بشيء ) وفي رواية : ( ضعيف ) ، وقال سعيد بن عبد العزيز : ( كان حاطب ليل ) وقال النسائي وأبو داود : ( ضعيف ) ، وقال ابن حبان : (كـان رديء الحفظ فاحش الخطأ يروي عن قتادة مالا يتابع عليه وعن عمرو بن دينار ما ليس يعرف من حديثه .



-14

هذا ما استدلوا به على إثبات قول آمين في الصلاة وقد بينا ما فيه بحمد الله تعالى وأما ما ذكره الشوكاني عن ابن الوزير من أن حديث التأمين قد جاء عن أم سلمة وسمرة فنطالب من يحتج بهما أن يظهر لنا إسنادهما حتى يمكننا الحكم عليهما بما تقتضيه القواعد المعتبرة ومن المعلوم المتقرر في علمي الأصول والجدل أن على من أراد أن يحتج برواية أن يبـين إسنادها حتى يتمكن خصمه من الكلام على تلك الرواية أو يسلِّم له ؛ هذا ومن العجيب أن القائلين بمشروعية التأمين قد اختلفوا فيه كثيراً فقيل : (هو للمقتدي والإمام كليهما) ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما وقيل : (هو للمقتدي فقط) ، وإليه ذهب أبو حنيفة في رواية الحسن ومالك في رواية ابن القاسم وهذا كله في الجهرية وروى عن مالك : (لا يؤمن الإمام مطلقا) ؛ ثم اختلفوا هل المشروع فيه الجهر أو الإخفاء ؟ .

فذهب إلى الأول الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق ونسبه القاضي حسين إلى الشافعي في الجديد وذهب إلى الثاني أبو حنيفة ومالك وفي رواية عنه وقال الشافعي في الجديد : (يجهر بها الإمام ويخفيها المأموم) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه ليس عندهم دليل صحيح ولا حسن فـي هذه القضية وإلا فمن المستبعد جداً أن يخفى ذلك مع أن النبي قد صلى بأصحابه أكثر من عشرة أعوام وقد صرح بعض محققيهم بأنه : لم يرد عن رسول الله حديث صحيح في الجهر بآمين وصرح آخرون بأنه : لم يثبت عنه في الإسرار حديث.

قال النيموي في آثار السنن : (لم يثبت الجهر بالتأمـين عن النبي ولا عـن الخلفاء الأربعة وما جاء في الباب فهـو لا يخلو مـن شيء) . اهـ وقد ذكر غير واحد من الشافعية ؛ أنه لم يثبت في الإسرار حديث ، وكذلك حكوا إجماع الصحابة على الجهر قال المبارك فوري في التحفة بعد كلام : فكان إجماع الصحابة على الجهر بالتأمين . اهـ

وكذلك ذكـر الحنفية بأن الإسرار قول الخلفاء الأربعة وجمهور الصحابة وأنه لم تثبت روايـة عن هؤلاء في الجهر ؛ وإذا تقـرر ذلك تبيـن لك أنه لم يثبت عنهم شيء في الجهر ولا في الإسرار ومعنى ذلك في حقيقة الواقع أنه لم يثبت في السنة ولا عن أحد من الصحابة القول بالتأمين والحمد لله حق حمده .

هـذا ما يحضرني الآن وقد كتبته على عجل وأعتذر عن سوء الخط وعن عدم الإطالة وعسى أن أكتـب رسالة خاصة بهـذا الموضوع وموضوع القنوت وأسال الله تعالى أن يكون قريباً جداً وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



تنبيه :
يغلق نظراً لضخامة الموضوع

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أدخل , لفهم , الاباضي , الاباضية , الإباضية , حقيقة , والمذهب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ملخص عن الإباضية عابر الفيافي نــور عـلـمـاء الأمــة 9 05-24-2012 01:54 PM
الآن ...الموسوعة الإسلامية الإباضية الشاملة ..أكثر من 600 عنوان !! عابر الفيافي المكتبة الإسلامية الشاملة 11 03-19-2012 09:09 AM
كتب إباضية للتحميل عابر الفيافي المكتبة الإسلامية الشاملة 11 07-23-2011 05:28 AM


الساعة الآن 07:57 AM.