القدس الشريف .. التاريخ والمكانة - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



الـنور الإسلامي العــام [القرآن الكريم] [اناشيد اسلاميه صوتيه ومرئيه] [السيره النبويه] [اناشيد اطفال] [ثقافة إسلامية]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
265  القدس الشريف .. التاريخ والمكانة
كُتبَ بتاريخ: [ 12-08-2017 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية عابر الفيافي
 
عابر الفيافي غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363
قوة التقييم : عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز عابر الفيافي قمة التميز


وقفة مع المكان والمكانة والمسمى
محمد أبو مليح *



تحتل القدس مكانة مرموقة عند كل أصحاب الديانات، فهي عند المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام، وهي عند النصارى مهد المسيح ومكان مولده، وهي عند اليهود المكان الذي عاش فيه ملكهم وبني فيه هيكلهم، وإليها سيعود المسيح حتى يقودهم إلى سيادة العالم– على حد زعمهم – وهي في نفس الوقت ذات طبيعة تجعل كل من يريد ملكا ومالاً يطمع فيها. وهذه إطلالة على مكان ومكانة ومسمى المدينة المقدسة.

أولا : الموقع والمساحة
تقع القدس على خط عرض 31.52 درجة شمالاً، وعلى خط طول 35.13 درجة شرق غرينتش، وتقع على هضبة ممتدة جنوب السلسلة الجبلية الفلسطينية على ارتفاع 750 مترًا فوق سطح البحر المتوسط وتبعد عنه 33 ميلاً، وعلى ارتفاع 1150 مترًا فوق سطح البحر الميت وتبعد عنه 15 ميلاً، وتنحصر المدينة بين تلين مستطيلين يسيران متوازيين من الشمال إلى الجنوب وسط هضبة اليهودية الوسطى، ولها أربع قمم أولها في الشمال الغربي وتسمة قمة أكرا وارتفاعها 790م، والغربية صهيون 777م، وفي الشرق قمة سوريا 744م أما في الشمال الشرقي فتقع صخرة بزيتا، وهي استمرار للتل الشرقي نحول الشمال.
وأثر هذا الموقع على مناخ مدينة القدس حيث يكثر المطر في أكتوبر وحتى مايو، ويندر بين سبتمبر ويونيو، ومتوسطه السنوي 25.5 بوصة، وبالقدس 18 مرصدًا لتسجيل الأمطار، وكثيرًا ما يتساقط الجليد من ديسمبر حتى مارس، ويندر في أبريل، ويتكون بكثرة في يناير ليلاً، لكنه يذوب نهارًا، والمدى الحراري من 25 ـ 102ف، ومتوسط درجة الحرارة في يوليو (الصيف) 77 ف وفي يناير 43 ف، ومدى الرطوبة الجوية كبير وفي الربيع والخريف تهب رياح السيردكو، التي تنفذ للمدينة المقدسة من الفتحة الجنوبية الشرقية آتية من صحراء موآب في الجنوب، وتسود الرياح الشمالية الغربية الجافة. لكن نسيم البحر يجلب معه الرطوبة إليها.
وقدرت مساحة المدينة سنة 1945 بحوالي 19 كيلو مترًا مربعًا.
وكان العرب يمتلكون منها قبل ـ 1948م ـ 88.5% من المساحة الكلية للمدينة، واليهود 11.5% فقط من القدس القديمة، وفي المدينة الجديدة كان للعرب 53.8% من المساحة ولليهود 26.1% وللحكومة الإنجليزية 2.9% ونسبة 17.1% طرق وميادين عامة وسكك حديدية.

ثانيًا : مكانة القدس
لم تحظ مدينة من المدن ولا مصر من الأمصار في العالم كله بما حظيت به مدينة القدس من المكانة العالية في نفوس كل أجناس البشر، فهي مدينة جمعت آثارًا مقدسة منذ أربعة آلاف سنة، وهذه الآثار كان لكل جنس من الأجناس حكاية مع أثر أو أكثر منها.
وتتناول في عجالة مكانة القدس عند كل من المسيحيين واليهود ثم عند المسلمين.

أولاً ـ عند المسيحيين:
للقدس مكانة مرموقة عند المسيحيين، فهي المكان الذي يحجون إليه، وبها ولد السيد المسيح، ولهم بها ارتباط روحي عال جدًا فقد عاش المسيحيون فيها منذ قرون عديدة تعود إلى زمن السيد المسيح فعندهم ما يسمى بدرب الآلام وهو مقدس عند كل الطوائف المسيحية لاعتقادهم أن السيد المسيح قد صار فيه حاملا صليبه عندما اقتاده الجنود الرومان لصلبه تنفيذًا لأوامر الوالي الروماني بيلاطس.
ويقودل د. ميخائيل مكسي إسكندر في كتابه (القدس وبيت لحم) .. دراسة جغرافية وتاريخية وأثرية يقول : (وقد تعرضوا ـ أي المسيحيين للمتاعب الكثيرة هناك ولا سيما من اليهود ومن غيرهم، وقد اغتصب الصليبيون – في الغزو الأوروبي لبيت المقدس – أملاك المسيحين العرب وكنائسهم، إلى أن أرجعها لهم القائد العربي صلاح الدين الأيوبي، الذي وثق في أمانتهم وأعطاهم دير السلطان، وكانت شئونهم الروحية تدار بمعرفة المطرانية السريانية، إلى أن تم رسامة أول مطران قبطي للقدس وتخومها سنة 1236م).

ومن ممتلكات الأقباط بالقدس :
1 ـدير السلطان وبه كنيستا الملاك، والأربعة كائنات الروحية الغير متجسدة.
2 ـدير أنبا أنطونيوس، شمال شرقي كنيسة القيامة، وبه كنيستان باسم القديسين أنطونيوس وهيلانة.
3 ـدير مارجرجس بحارة الموارنة قرب باب الخليل.
4 ـخان الأقباط للحج منذ عام 1829 في حارة النصارى.
5 ـكنيسة العذراء بالجثيمانية (بجبل الزيتون).
6 ـ هيكل على جبل الزيتون.
7 ـكنيسة باسم ماريوحنا، خارج كنيسة القيامة.
8 ـهيكل باسم الملاك ميخائيل ملاصق للقبر المقدس من الغرب.
هذه الأملاك في مدينة القدس فقط وتوجد لهم أملاك أخرى خارج المدينة ليس هنا مكان ذكرها لالتزامنا بمنهج الدراسة.

ثانيا : عند اليهود :
ينقسم اليهود في مشاعرهم تجاه القدس إلى قسمين: الأول منهما يرى أنها مدينة عادية، بل ويمكن الاستغناء عنها بأخرى ومن هؤلاء زعيم الصهيونية نفسه تيودر هرتزل، حيث من الثابت أنه قبل اقتراح السياسي البريطاني الكبير (تشمبولين) في إعطاء اليهود وطنا قوميا في أوغنده بوسط إفريقيا، لولا أن غلاة الصهيونية ثاروا عليه، بل واعتدوا على مساعده (ماكس نوارداو) بالرصاص، واتهموا هرتزل نفسه بالخيانة لولا أنه تراجع تماما عن موقفه فتراجعوا هم أيضا.
الفريق الآخر هم الغلاة منهم وهم يرفعون دائمًا أصواتهم ويترنمون بنص من المزامير (مزمور 137/605) والذي يقول : (إن نسيتك يا أورشليم فلتشل يميني، وليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أرفع أورشليم على قمة ابتهاجي).
ولكن ومع ذلك فإن الجانبين لا مانع لديهم نهائيا أن يعتدوا على المدينة المقدسة بل يعتبرون القتل والذبح والتدمير فيها قربة إلى الله.

وأما أهم مقدسات اليهود في القدس :
فمن الثابت أنه ليس لليهود بالقدس سوى بعض الكُنس (مفردها كنيس) وهي حديثة البناء نسبيًا، وكذلك بعض القبور.
ويرجع تاريخ بناء أول كنيس إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وجميعها يقع في الحي اليهودي بالقدس القديمة، وهو الحي المعروف بحارة اليهود، ومنها، قدس الأقداس، طبرت إسرائيل، توماتوراة، بيت إيل، مدراش، طابية، مزغاب لاوخ)).
ولليهود مقبرة خاصة بهم فيها أربعة قبور مميزة وهي : قبر النبي زكريا، وقبر يعقوب، وقبر أبشالوم، وقبر يهوشافاط.
أما بالنسبة لحائط المبكى الذي يقدسه اليهود، فالاعتقاد السائد الخارجي عندهم أنه البقية الباقية من سور أورشليم القديم، وأنه الحائط الخارجي للمعبد الذي رجمه هيردوس (18ق.م)، ودمر جانبًا منه تيطس (70م)، وأتى على ما تبقى منه هدرياتوس (135م)، ويقوم اليهود بزيارته وتقبيله وقراءة بعض النصوص التوراتية والتلمودية إلى جواره، وكذلك البكاء على مجدهم الضائع.

ثالثًا: عند المسلمين
ارتبط المسلمون بالقدس ارتباطًا وثيقًا وعقائديًا ظاهرًا، وذلك لما لها من المكانة في دينهم، ولحث النبي (صلى الله عليه وسلم) على الرباط فيها وتذكيره (صلى الله عليه وسلم) بفضائلها ومما جعل للقدس هذه المكانة في نفوس المسلمين عدة أمور منها:
1 ـ أنها مدينة الإسراء والمعراج، وهذه الذكرى لها حب وارتباط عاطفي شديد في قلوب المسلمين، حيث كانت تسرية عن نبيهم (صلى الله عليه وسلم)، والثانية أنها فرض فيها عليهم ركن من أركان دينهم وهو الصلاة، ولذا فهي تمثل جزءًا من عقيدة المسلمين.
2 ـ أنها أرض الأنبياء، والمسلمون يعتبرون أن ميراث كل الأنبياء هو ميراث لهم؛ لأن نبيهم هو النبي الخاتم، والإسلام حث المسلمين على أن يؤمنوا بهؤلاء الأنبياء السابقين لنبيهم، ولذا فكل مقدس عند أي ديانة أخرى أي خاص بنبي من الأنبياء هو مقدس كذلك عند المسلمين.
3 ـ القدس كانت قبلة المسلمين الأولى، والتي يتوجهون إليها وهم يعبدون ربهم.
4 ـ تبشير النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن أرض القدس هي أرض الرباط إلى يوم القيامة فعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (يا معاذ إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات. رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة).
وعن أبي إمامة الباهلي (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله عز وجل وهم كذلك، قالوا يا رسول الله: وأين هم ؟ قال بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
5 ـ أن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر، ففي حديث ميمونة بنت سعد مولاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قالت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال أرض المحشر والمنشر.
6 ـ القدس عاصمة الخلافة الإسلامية القادمة:
عن ابن عساكر عن يونس بن ميسرة بن حابس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( هذا الأمر (يعني الخلافة) كائن بعدي بالمدينة، ثم بالشام، ثم بالعراق ، ثم بالمدينة ثم ببت المقدس فإذا كان بيت المقدس فثمة عقر دارها، ولن يخرجها قوم فتعود إليهم أبدًا).
ولهذه الأمور فقد ارتبط المسلمون بالمدينة المقدسة أيما ارتباط.

وعن آثار المسلمين هناك :
1 ـ المسجد الأقصى.
2 ـ مسجد قبة الصخرة.
3 ـ حائط البراق
4 ـ فضلا عن أن كل أرض القدس هي مقدسة عن المسلمين.
5 ـ وبالإضافة إلى أن كل آثار الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم هي مقدسة عند المسلمين كما سبق ذكره.

رابعًا: الأسماء القديمة للقدس:
تذكر معاجم الكتاب المقدس أقدم اسم للمدينة في (نصوص الطهارة) المصرية في القرن التاسع عشر قبل المسيح بصورة (يورشاليم) أو (أورشاليم) وقد يظن البعض أن (أورشاليم) اسم عبري، أو اسم اختاره العبريون لمدينة القدس، لكن الحقيقة المؤكدة على خلاف هذا تماما، فـ أورشاليم اسم كنعاني : من لغة كنعانية، واختارهلها الكنعانيون، ودخل عليه بعض التحريف على لسان العبرانيين، فهو في الأصل (أورسالم)، أي مدينة سالم، أو مدينة إله السلام، ولكن تحول السين إلى شين على لسان العبريين.
وقد أوردت آثار الأمم القديمة المكتشفة هذا الاسم بصور مختلفة، فالأواني المكتشفة من عهد سنوسرت الثالث (القرن 19 ق.م) تسميها (أورشاليموم)، ورسائل تل العمارنة (القرن 14 ق.م) تنطقها (يوروساليم) وأما مخطوطات سنحاريب الآشورية فقد أوردت اسم القدس هكذا : (يوروسليمو).
وقد سبق اسم (يبوس) إلى الوجود كل الأسماء التي حملتها المدينة، حيث نسبها البناة الأوائل إلى أنفسهم.
ومن الأسماء القديمة أيضا (القدس)، وقد ورد لدى المؤرخ والرحالة اليوناني الشهير هيرودوت (484 ـ 425 ق.م) هكذا : (قديتس).
وللقدس أسماء عديدة فهي : صهيون ، ومدينة داود ، وأريئيل، وموريا، وإيلياء وتنطق إيليا، ونادرا إليا، أو بيت المقدس، ولكل اسم من أسماء قصة وحكاية قلكثرة الغزاة على المدينة كثرت أسماؤها وتعددت فكل غاز كان يسميها باسم والجامع أو العامل المشترك بينهما هذه الأسماء أنها كلها مقدسة كل اسم كان مقدسا عند من أطلقوها وذلك دليل على مكانتها.




hgr]s hgavdt >> hgjhvdo ,hgl;hkm hgavdt hgr]s





توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس

كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس… نبذة تاريخية(*)



تعتبر مدينة القدس من أقدم المدن التاريخية في العالم، حيث يزيد عمرها عن (45) قرنًا، وهي مهد الديانات السماوية الثلاثة، اليهودية والنصرانية والإسلام.
وقد عرفت القدس بأسماء عديدة على مر العصور كان أهمها، يبوس، أورشاليم، إيليا كابتولينا، إيلياء، بيت المقدس، القدس، القدس الشريف .
يبوس هو الاسم الأقدم الذي عرفت به القدس قبل حوالي (4500) سنة، وذلك نسبة لليبوسيين الذين ينحدرون من بطون العرب الأوائل في الجزيرة العربية، ويعتبر اليبوسيون السكان الأصليون للقدس، فهم أول من سكنها حينما نزحوا إليها مع من نزح من القبائل العربية الكنعانية حوالي سنة (2500 ق.م)، حيث استولوا على التلال المشرفة على المدينة القديمة وبنوا قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية من يبوس عرفت بحصن يبوس الذي يعرف بأقدم بناء في القدس، وذلك للدفاع عن المدينة وحمايتها من هجمات وغارات العبرانيين والمصريين (الفراعنة).
وكما اهتم اليبوسيون بتأمين حصنهم ومدينتهم بالمياه، فقد احتفروا قناة تحت الأرض لينقلوا بواسطتها مياه نبع جيحون (نبع العذراء) الواقع في وادي قدرون (المعروفة اليوم بعين سلوان) إلى داخل الحصن والمدينة .
كما عرفات القدس بأورشالم نسبة إلى الإله (شالم) إله السلام لدى الكنعانيين، حيث ورد ذكرها في الكتابات المصرية المعروفة بألواح تل العمارنة، والتي يعود تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد.
وظلت يبوس بأيدي اليبوسيين والكنعانيين حتى احتلها النبي داود عليه السلام (1409ق.م)، فأطلق عليها اسم (مدينة داود)، واتخذها عاصمة له، ثم آلت من بعده لابنه الملك سليمان، وازدهرت في عهده ازدهارًا معماريًا كبيرًا، وفي هذه الحقبة سادت الديانة اليهودية في المدينة .
وفي سنة 586 ق.م دخلت القدس تحت الحكم الفارسي عندما احتلها نبوخذ نصر وقام بتدميرها ونقل السكان اليهود إلى بابل .
وبقيت القدس تحت الحكم الفارسي حتى احتلها الإسكندر المقدوني في سنة 332 ق.م. وقد امتازت القدس في العهد اليوناني بعدم الاستقرار خاصة بعد وفاة الإسكندر المقدوني حيث تتابعت الأزمات والخلافات بين البطالمة (نسبة إلى القائد بطليموس الذي أخذ مصر وأسس فيها دولة البطالمة) والسلوقيين (نسبة إلى القائد سلوقس الذي أخذ سورية، وأسس فيها دولة السلوقيين)، الذي حاول كل منهما السيطرة على المدينة وحكمها .
وفي سنة 63ق.م استطاع الرومان أن يحتلوا القدس على يدي قائدهم بومبي، وفي سنة 135 ميلادية قام الإمبراطور الروماني هادريانوس بتدمير القدس تدميرًا شاملاً، حيث أقام مكانها مستعمرة رومانية جديدة أسماها (إيليا كابتولينا).
وظلت تعرف القدس بإيليا أيضًا في العصر البيزنطي (330-636م)، ذلك العصر الذي اعترف فيه بالديانة المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية البيزنطية، عندما اعتنقها الإمبراطور قسطنطين، وفي عهده قامت أمه الملكة هيلانة ببناء كنيسة القيامة سنة 335 م .
وفي سنة 614م استولى الفرس للمرة الثانية على القدس وقاموا بتدمير معظم كنائسها وأديرتها، وظلت تحت الحكم الفارسي حتى استردها هرقل منهم سنة 627 م فظلت تحت الحكم البيزنطي حتى الفتح الإسلامي.
ولما كان الإسلام دينًا عالميًا لا يقتصر على العرب، فقد وقع على كاهل العرب والمسلمين نشره في كافة البلدان، فكانت الفتوحات الإسلامية وكانت فلسطين من أول البلدان التي سارت إليها الجيوش الإسلامية، وبعد هزيمة الروم في معركة اليرموك أصبح الأمر سهلاً بالنسبة للمسلمين للوصول إلى القدس وفتحها، وفي سنة 15 هجرية / 636 ميلادية دخل الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب القدس صلحًا، وأعطى لأهلها الآمان من خلال وثيقته التي عرفت بالعهدة العمرية .
وبقدوم المسلمين إلى القدس تبدأ حقبة جديدة في تاريخها، حيث توالت سلالات الخلافة الإسلامية على حكمها تباعًا، فحكمها بعد الخلفاء الراشدين: الأمويون، والعباسيون، والطولونيون، والأخشيديون، والفاطميون، والسلاجقة .
هذا وظلت تعرف القدس باسم إيلياء وبيت المقدس منذ الفتح العمري وحتى سنة 217 هجرية، عندما بدأت تعرف باسم القدس لأول مرة في التاريخ الإسلامي وذلك بعدما زارها الخليفة العباسي المأمون سنة 216 هجرية وأمر بعمل الترميمات اللازمة في قبة الصخرة المشرفة، وفي سنة 217هجرية قام المأمون بسك نقود حملت اسم (القدس) بدلاً من إيليا، ومن المحتمل أنه قام بذلك تأكيدًا لذكرى ترميماته التي أنجزها في قبة الصخرة
وعليه تكون القدس قد سميت بهذا الاسم منذ بداية القرن الثالث الهجري، وليس كما يعتقد البعض بأن ذلك يعود إلى نهاية الفترة المملوكية (القرن التاسع الهجري)، وتبلور فيما بعد حتى صار يعرف في الفترة العثمانية باسم (القدس الشريف).
وفي سنة 492هجرية / 1099 ميلادية احتل الصليبيون القدس وعاثوا فيها فسادًا وخرابًا دونما اكتراث لقدسيتها ومكانتها الدينية، فارتكبوا المجازر البشعة في ساحات الحرم الشريف، وقاموا بأعمال السلب والنهب وحولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة ومكان لسكن فرسانهم ودنسوا الحرم الشريف بدوابهم وخيولهم حينما استخدموا الأروقة الموجودة تحت المسجد الأقصى والتي عرفت بعدهم بإسطبل سليمان، الأمر الذي يتناقض تناقضًا تامًا مع تسامح الإسلام الذي أكده وترجمه عمر بن الخطاب عندما دخل مدينة القدس .وما أن ظهر الحق وزال الباطل، حتى فتح الله على السلطان صلاح الدين الأيوبي بنصره على الصليبيين في معركة حطين سنة 583هجرية/ 1187 ميلادية، فحرر فلسطين وطهر القدس وخلصها من الصليبيين وردها إلى دار الإسلام والمسلمين .
وظلت القدس بأيدي المسلمين، تحكم وتدار من قبل السلالات الإسلامية التي جاءت بعد الأيوبيين، فكان المماليك والعثمانيون حتى سقطت بأيدي البريطانيين سنة 1917


توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً




القدس في عهد الكنعانيين و العبرانيين (966 ق.م)
د. نبيل الفولي



حديث الوثائق القديمة:
وهناك وثائق أخرى ذات أهمية أكبر في هذا السياق، وهي رسائل تل العمارنة المصرية المكتوبة بالخط المسماري على ألواح عتيقة، وترجع في تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ أي إلى عصر أخناتون (1372 – 1354 ق.م). وقد اكتُشفت هذه الألواح سنة 1887م على يد فلاحة مصرية لم تعرف قيمتها، ونُقل ما نجا منها (حوالي 370 لوحا) إلى متاحف العالم في القاهرة وبرلين ولندن وبلجيكا وروسيا وإستانبول وباريس وغيرها!!
لكن العواصف السياسية اشتدت من جديد عقب عودة الحملة، فخرج بعض الأمراء على الفرعون، وتوغلت قبائل “خبيري” من جديد في الأماكن المأهولة والمدن المعمورة، حتى فرضوا الضرائب على مدن عديدة كـ “غزة” و”عسقلان”..
كانت هذه بعض حلقات من تاريخ مدينة القدس العتيقة، لكنها ليست أقدم ما في هذا التاريخ، فالزمن التقريبي لنشأة القدس يرجع إلى حوالي ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
هجرات عربية إلى الأرض المباركة
والحقيقة التي لا مجال للشك فيها أن ما يُسمَّى الآن باسم “بلاد الشام”، قد عُمِر منذ أزمان بعيدة بسلالات عربية، كالآموريين والكنعانيين والفينيقيين، وطرأت عليهم هجرات أخرى صغيرة في أزمنة متأخرة نسبيا من بلاد ما بين النهرين وجزر البحر المتوسط، واختلطت هذه الأجناس فيما بينها بصورة هائلة في زمن طويل، لكن اكتساب هذه البلاد لاسم مثل: كنعان، وفينيقية (منذ زمن قديم) يؤكد غلبة العنصر الذي تمثله هذه الأسماء.
لكن إخوانهم الكنعانيين (الذين يشاركونهم في أصول واحدة) كانوا قد سبقوهم إلى سُكنَى هذه الأرض، وثبّتوا أقدامهم فيها، إلا أنهم اختاروا المواطن الداخلية (غير الشاطئية) في عموم سوريا؛ ليقيموا فيها مدنهم ومنازلهم، وهو ما قد يعكس عدم ارتباطهم بالبحر في مواطنهم الأولى..
والكنعانيون هؤلاء هم بناة القدس الأوائل، وعلى وجه الدقة نقول: إن اليبوسيين – وهم فرع كنعاني – قد أقاموا البناء الأول للقدس قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام تقريبا. وقد وجدهم بنو إسرائيل مستقرين في فلسطين منذ زمن طويل حين دخلوا أورشاليم في القرن العاشر قبل الميلاد تقريبا.
وعن عموم الكنعانيين ذكر المؤرخون أنهم ظلوا “خلال ألفي سنة جسرا بين مدن الحضارة على الفرات والنيل، ومنهم أخذ اليونان الحروف، ونقلوها إلى العالم. وتأثر الإسرائيليون بحضارة الكنعانيين، فأخذوا حروفهم التي كُتب بها العهد القديم، وتأثروا بأسلوبهم الشعري وبموسيقاهم وبدينهم”.
العرب يبنون القدس (يبوس) لأول مرة
فهذه المدينة واحدةٌ من أشهر المدن التي عَمَرها الإنسان، وموطنٌ قُدِّر له أن يشهد من الأحداث ما لم تشهده إلا قلة نادرة من المدن، وهو ما لم يكن لليبوسيين به علم وهم يشيدون مدينتهم.
واختار اليبوسيون لمدينتهم مكانًا حصينًا يرتفع عما حوله من الأرض، وشيدوا لها حصنا لحمايتها، واختاروا لها أيضًا موقعا حيويا؛ ليتيسر لهم الانتفاع بمميزات تجارية وخيرات طبيعية تتيحها مدينة تقبع في هذا المكان، فبنيت القدس (يبوس) – مع مدن كنعانية أخرى – على طريق المياه بين الشمال والجنوب، وأُقيمت على مرتفع الضهور (وهو التل الجنوبي الشرقي في القدس القديمة القائمة الآن داخل السور) قرب عين ماء جيحون (نبع العذراء)، وحُفر تحت الجبل نفق تُنقَل من خلاله مياه النبع إلى الحصن.
وليس بين أيدينا وصف محدد لشكل المباني والشوارع ولا مواد البناء التي أُقيمت بها “يبوس” القديمة، لكن الحفائر في مدن فلسطين القديمة دلت على أن بيوتها كانت صغيرة متراصَّةً، وعادة تُقام في سفح تل، أو هي نفسها كهف في سفح التل، وترتفع البيوت طابقا واحدا، وهي إما من الطين أو الحجر العادي. أما شوارع المدينة من داخلها فهي ضيقة جدًا وملتوية، ولا توجد بها ميادين، وعند مدخلها “السوق” حيث تقام المحكمة، وتعقد العقود، وتعلن التشريعات.
يظن البعض أن “أورشاليم” اسم عبري، أو اسم اختاره العبريون لمدينة القدس، لكن الحقيقة المؤكدة على خلاف هذا تماما، فـ “أورشاليم” اسم كنعاني: من لغة كنعانية، واختاره لها الكنعانيون، ودخل عليه بعض التحريف على لسان العبرانيين، فهو في الأصل “أور سالم”؛ أي مدينة سالم، أو مدينة إله السلام، لكن تحولت السين إلى شين على لسان العبريين.
وقد سبق اسمُ “يبوس” إلى الوجود كلَّ الأسماء التي حملتها المدينة، حيث نسبها البناة الأوائل إلى أنفسهم.
عثر علماء الآثار في مصر على قبور ونقوش كثيرة ترجع إلى الأسرة الفرعونية السادسة (حوالي سنة 2420 – 2280ق.م)، سجل بعضُها معلومات عن أقدم حملة حربية في التاريخ المعروف لنا، شارك فيها جيش وأسطول بحري من مصر، وقد كانت هذه الحملة في عهد الملك بيبي الأول، وأُرسلت لإخماد ثورة مشتعلة ضد الحكم المصري في فلسطين بناحية الكرمل..
وهذه القوة في مواجهة ثورة داخلية تدل على أنها ليست محاولة لإخماد الثورة القائمة فحسب، بل هي أيضًا عمل لإرهاب من يفكر – مجرد تفكير – في الثورة، مما يعني أن فلسطين كانت مسرحًا لثورات متتابعة..
وهناك قصة فرعونية شهيرة بطلها أمير يُدعَى “سنوهيت”، ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، تكشف عن معيشة بدوية كانت تحياها فلسطين في هذا الزمن، فالقبيلة هي صاحبة السيطرة، وتنافسها بقية القبائل على المنافع، ومن شأن هذا أن يسبب متاعب لحكام مصر، فكان لابد من إخضاع المنطقة لهم، أو ضمان ولاء أمرائها.
يقول سنوهيت: “لما أخذ البدو يخرجون عن الطاعة، ويقاومون رؤساء الصحارى كبَحتُ جِماحهم، وذلك لأن أمير فلسطين قد جعلني عدة أعوام رئيس جيشه، وكل بلاد سرت إليها قد طردتها من مراعيها وآبارها، ونهبت ماشيتها، وأسرت أهلها..”.
إنها حياة بدوية لا يستقر فيها الولاء لأحد، فكان الفراعنة يضمنون تبعية فلسطين بولاء أمراء المدن لهم – ويبدو أنهم كانوا كثيرين – لكن هؤلاء الأمراء كانوا يتعرضون لهجمات متتالية من البدو، لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد، فكان لابد من مساندة الفراعنة لأتباعهم. كما أن هؤلاء الأمراء أنفسهم كانوا ينقضون ولاءهم للحكومة المركزية في مصر أحيانا.
مهما يكن، فقد كانت القدس طوال ارتباط فلسطين بمصر جزءًا من مسرح الأحداث المصري، فأميرها إما أن يكون مواليا لفرعون مصر يستحق المعونة والمساعدة، وإما أن يتزعم معاداة مصر والخروج على سلطانها فيستحق اللعن حتى في الطقوس الدينية!!
وفي أحد النقوش الفرعونية القديمة سجل أحد ضباط سنوسرت الثالث (يدعَى سبك خو) ما يؤكد توجيه هذا الفرعون حملة عسكرية إلى فلسطين، وأنه عسكر بمكان يسمَّى “سكمم” بوسط فلسطين، كما عُثر على آثار فرعونية في “مجدو” وغيرها من مناطق فلسطين ترجع إلى هذه الفترة الزمنية (القرن التاسع عشر قبل الميلاد)، مما يؤيد الرأي القائل بسيطرة مصر على القدس وما سواها في هذا التاريخ.
وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كانت الغارات البدوية على أمراء المدن التابعين لمصر تزداد، فكانت الاستغاثات وطلبات النجدة تتابع، وممن أرسلوا يطلبون النجدة من أخناتون (1372 – 1354 ق.م) أمير “يوروساليم” (القدس) “عبدي خيبا”، الذي حذر الفرعون بقوة من سقوط المدينة في يد قبائل “خبيري” الشرسة. ولكن ظروف مصر حينئذ حالت دون إنقاذ الموقف.
اتفقت الأمم على الثناء على شخصية النبي إبراهيم (عليه السلام) وادعى كثيرون من أهل الأديان نسبتهم إليه.
أولاثانياثالثارابعاخامسا – السفر والترحال جزء من تكوينه، وترجمةٌ من تراجم تضحيته في سبيل دينه الذي يسعى إلى ترسيخ جذوره في المجتمعات البشرية التي أمكنه أن يصل إليها.
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ</strong>والمفهوم من سياق حياة سيدنا إبراهيم أنه صار مع تقدمه في السن شخصية مشهورة وسط الأقوام الذين جاورهم (الكنعانيون) في الأرض التي باركها الله (القدس وما جاورها)، فرجل أُلقي في النار على مرأى ومشهد من جموع غفيرة من الناس، ونجا منها مع التهابها وتأججها الشديد، ثم هجر قومه وأهله من أجل عقيدته إلى بلاد بعيدة، واستمر في أداء الرسالة نفسها التي آذاه قومه لأجلها، ثم هو أيضا يهاجر إلى مصر بزوجته سارة، فيحاول الملك أخذها لنفسه، ولكن حال الله بين الملك وبين هذا بمعجزة باهرة – رجل كهذا لابد أن تنتشر سيرته في كل مكان، خاصة قصصَه مع الملوك والكبراء في بلاده (ما بين النهرين) أو في مصر..
ومن خلال الحصر القرآني في قوله تعالى [في سورة تحمل اسم النبي إبراهيم نفسه]: (<strong>ولكن ما دوره الذي سيقوم به في أرض هجرته؟ وهل سيكتفي من عمله بالدين بما مضى؟ بالقطع لابد أن مهمة جديدة قُدِّرت لأجلها هجرة الخليل ( عليه السلام ) وهي: التأسيس لقواعد أرضيةٍ جديدةٍ، سكانُها أقل طغيانا من جبابرة ما بين النهرين، وموقعُها أيسر توصيلا بشرق الأرض وغربها، تنطلق منها الدعوة إلى الله فيما يُستَقبل من الزمان. وهذا ما تم بالفعل حين أسكن نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) فرعا من ذريته في مكة، وفرعا آخر في الأرض المباركة بالقدس..
وحين يحتج أحد برسالة لوط ( عليه السلام ) الذي سكن في قرى سدوم، عند موضع البحر الميت، بالقرب من عمه – أو قريبه – إبراهيم، وكانت دعوته في أهل هذه البلاد الغريبة عنه في أصلها – لن نجد صعوبة في أن نقول: إن لوطا هاجر مع عمه قبل أن يكلَّف بالنبوة والرسالة، وما كُلِّف بها إلا وهو يعلم لغة هؤلاء الذين أُرسل إليهم، سواء أكانوا في أصولهم نازحين من وطنه، أو كانوا من الكنعانيين سكان فلسطين، وصاهرهم هو وتعلم لغتهم من طول الجوار.
من المعروف أن القرآن ليس كتاب تاريخ يتتبع من كل حدث تفصيله، بل هو كتاب منهج مرسوم بقلم العناية الإلهية لهداية البشرية إلى أقوم سبيل وأهدى طريق، ولا مانع من أن تجد فيه – إلى جانب ذلك – حكايات تاريخية وإشارات من علوم الفلك والطب وغيرها..
واستفادةً من الحديث: “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” (قال العجلوني في كشف الخفاء: رواه أبو داود عن أبي هريرة، قال في المقاصد: وأصله صحيح) – استفادة من هذا الحديث يمكن أن نذكر بعض المعلومات التي أوردها العهد القديم عن نبي الله إبراهيم، ولا تخالف صريح القرآن.. وهذا يعني أننا سنتعامل مع هذا الحديث على أن معنى “التحديث” عن بني إسرائيل ليس هو فقط رواية قصصهم هم، ولكنه أيضا نقل ما يروونه في كتبهم عموما:
يذكر العهد القديم أن إبراهيم ( عليه السلام ) أول ما أقام في أرض كنعان أقام في شكيم (نابلس) (سفر التكوين 12: 6)، وهي تقع شمال القدس ورام الله، “ثم نَقَل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل [تقع بين أورشليم ونابلس].. ثم ارتحل إبراهيم ارتحالا متواليا نحو الجنوب” (سفر التكوين 12: 8 – 9)، وفي مجاعة مفاجئة هاجر إلى مصر، ثم عاد إلى جنوب أرض كنعان، ومنها إلى بيت إيل (سفر التكوين 13: 1 – 2)، ثم “نقل أبرام خيامه وأتى وأقام عن بلُّوطات مَمْرا التي في حبرون [هي الخليل]” (التكوين 13: 18).
وفي حبرون كان لإبراهيم عهد – لا ندري كنهه – مع الأموريين (التكوين 14: 14). ويبدو أنه كان عهد جوار، فلم يكن للنبي الكريم من السلطان ما يناوئ به الأمراء من حوله، حتى يعقد معهم عهدًا فيه الندية التي تكون بين بعض الملوك وبين بعضهم الآخر، مع ثقتنا التامة بأن هذا العهد – إن صح – فهو عهد يحفظ لإبراهيم كامل كرامته.
أظهر العهد القديم إبراهيم ( عليه السلام ) في صورة مقاتل مغوار، فذكر أن ملك عيلام (مملكة كانت وراء نهر دجلة شرق مملكة بابل) وحلفاءه هاجموا ملوك الأموريين (وهم من أصل كنعاني) – الذين بينهم وبين إبراهيم عهد – وأسروا لوطًا وأخذوا أملاكه، ولم يكن إبراهيم – كما تذكر الرواية – موجودا حينها، وحين رجع صحب ثلاثمائة وثمانية عشر عبدا له متمرنين على القتال، وانقض على عدوه ليلا، فكسرهم، واسترجع لوطا وأملاكه ومن معه (التكوين 14: 1- 16). وعند عودته كرّمه ملك “شاليم” (قد تكون هي أورشاليم) ملكي صادق – وكان كاهنا – وباركه (التكوين 18).
وبعد هذه العودة المظفَّرة التي يذكرها العهد القديم، يُذكر الوعد الذي نشأت حوله مشكلات تاريخية كبيرة، ففي سفر التكوين “قطع الرب مع أبرام ميثاقًا قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات” (15: 18).
اشترى إبراهيم مغارة في الخليل دفن فيها سارة، ثم دُفن فيها هو عندما مات.
الوراثة في بيت إبراهيم
وقول القرآن: (<strong>) (سورة النساء: 54) – ليس هذا الملكُ إلا النبوةَ والقبولَ عند الناس بعيدِهم وقريبِهم، فمُكِّن لهم في النفوس قبل أن يُمكَّن لهم في الأرض.
ولعلنا نحس رسوخ هذا المعنى من التوارث في ذرية إبراهيم بالأرض المباركة، حينما نقرأ قصة زكريا ( عليه السلام ) فبعد أن كبرت سنه، ورأى أنه لا يوجد من قومه من يصلح لوراثته في الدعوة إلى دين الله، دعا قائلا: (<strong>) (سورة الأنبياء: 89).
لقد كان فسادهم البالغ إيذانا بأن تتحول الدفّة منهم إلى الفرع الإبراهيمي الذي سترت صحراء الجزيرة العربية سيرته زمنا طويلا، فبعث الله نبيا من بني إسماعيل، هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي ورث هو وأتباعه – مهما تكن أصولهم العِرقية وقومياتهم وأوطانهم – بلاغَ الدعوة إلى العالمين.. وعلى شرط الالتزام الصحيح بالدين وعدهم الله بالتمكين..
أول بناء للمسجد الأقصى:
لا يتوافر نص صحيح الثبوت حول تاريخ البناء الأول للمسجد الأقصى إلا هذا الحديث الشريف، لكن زمن بناء المسجد الحرام لأول مرة غير مصرَّح به هنا، وبالتالي نتساءل: متى كان بناء المسجد الأقصى لأول مرة علما بما ثبت في الحديث صحيح من بنائه بعد المسجد الحرام بأربعين سنة؟
ليست هناك رواية صحيحة وصريحة حول بناء الكعبة المشرَّفة قبل نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) هذه هي معلوماتنا، وهي نفسها – بالتأكيد – معلومات الصحابة الذين سأل أحدُهم (أبو ذر) رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) عن اسم أول مسجد بُني على الأرض. ولو كانت لديهم معلومات أخرى حول بناءٍ آخر أقدم من هذا سمعوها من الرسول – صلى الله عليه وسلم – لتناقلت الأجيال ذلك عنهم؛ خاصة لما للبيت من مكانة، ولأن مناسبة الحج التي تأتي في كل عام من شأنها أن تثير الذاكرة لتخرج من مكنونها ما يخص البيت الحرام.
حين يجيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا ذر عن أن المسجد الحرام هو أول بيت وُضِع للناس، فلن تكون المعلومة مكتملة إذا كان أبو ذر والصحابة لا يعلمون للبيت الحرام بناء قبل بناء إبراهيم.
حين أشار القرآن إلى أولية بناء المسجد الحرام كمكان خُصِّص ليقيم الناسُ فيه الصلاة، سبق ذلك بالحديث عن ملة إبراهيم ( عليه السلام ) وتلاه بالحديث عن “مقام إبراهيم”.. يقول تعالى: () (سورة آل عمران: 95 – 97). وهذا يزيد في ترجيح أن المرة الأولى لبناء المسجد الحرام هي التي بناه فيها إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام.
إن قيل: هل يمكن أن تعيش البشرية من أيام آدم إلى أيام إبراهيم (عليهما السلام) بلا مساجد؟ جاء الرد: نعم، على اعتبار أن المساجد أماكن مخصصة للعبادة وحدها.
معنى هذا أن نرجّح بناء المسجد الأقصى – لأول مرة – بعد بناء إبراهيم للمسجد الحرام بأربعين سنة.
هناك روايات غير ثابتة الصحة تسند البناء الأول للمسجد الأقصى إلى إبراهيم، وأخرى مثلها تقول بأن يعقوب هو الباني الأول للمسجد الشريف.
هجرة بيت يعقوب من الأرض المباركة
وقد أصاب المنطقةَ جدب شديد، نجت منه مصر بمشورة فتى مبارك هو يوسف بن يعقوب ( عليهما السلام ) وكان الفتى قد ساقه القدر – في القصة المشهورة – إلى مصر بعد أن سعى إخوته إلى إبعاده عن أبيه، ففتح الله له أبواب التمكين في الأرض حين أوّلَ وهو في السجن رؤيا للملك أنقذت البلاد من سبعة أعوام من الجفاف، وأتاحت للبلاد المجاورة لمصر فرصة الحصول على الأرزاق..
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
واليهود يُظهرون يعقوب ( عليه السلام ) في كتبهم على أنه شخص مخادع أناني، فقد استغل جوع أخيه التوأم عيسو، واشترى منه بكوريَّته (أي شرف ومكانة البِكْر) بخبز وعَدَس مطبوخ!!! (التكوين 25: 29 – 34)، وأوهم يعقوبُ – كما يورد العهد القديم – أباه إسحاق الشيخ الكليل البصر بأنه هو عيسو لينال البركة بدلا منه!!! (التكوين: 27).
وأما القرآن فيقول عن يعقوب وأبويه: () (سورة ص: 45 – 47).
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ

* * * * *

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في عهد العبرانيين (966 ق.م)
سوف نتناول في السطور التالية فترة من أهم الفترات في تاريخ المدينة المقدسة؛ هي التي عتمد عليها في كل ما الآن من أحقية في فلسطين، وغيرها من الافتراءات والأكاذيب. التالي:
1- العبرانيون من مصر إلى فلسطين

<a name="_1-_العبرانيون_من_مصر_إلى_فلسطين"> 2 ـ القدس من خروج موسى من مصر إلى دخول داود فلسطين
3 ـ القدس وأعمال يوشع الحربية
4 ـ طالوت يقود بني إسرائيل في معركة فاصلة
5 ـ القدس في عهد الملك داود
6 ـ القدس في عهد الملك سليمان
خرج العبرانيون من مصر حوالي عام (1220 ق.م) بقيادة موسى عليه السلام، متجهين نحو أرض فلسطين، ولما حاولوا في بادئ الأمر دخول البلاد من ناحيتها الجنوبية قاومهم الفلسطينيون، وحالوا دون تحقيق هدفهم من دخول البلاد، وعندئذ توجهوا إلى جبال مؤاب والمناطق الواقعة شرقي الأردن.

وتعتقد طائفة كبيرة من دارسي الحضارات القديمة أن العبرانيين كانوا أحد عناصر هذه القبائل، ويقولون : (لم يكن الخبيرو طائفة لها لغتها الخاصة أو جنسيتها الخاصة، بل كانوا ـ على ما يظهر ـ قوما أرخوا لساقهم العنان، يتألفون من سلالات مختلفة، ويحمل معظمهم أسماء سامية).
السلبيةويبدو أن القدس حين خرج بنو إسرائيل من مصر كانت ـ مع بعض المدن حولها ـ خاضعة لقوم من الكنعانيين يدينون بالولاء لفراعنة مصر ولدينا في القرآن بعض أوصاف هؤلاء القوم من وجهة نظر أتباع موسى ( عليه السلام ) فحين أمرهم بدخول الأرض المقدسة ليقيموا فيها شريعة الله تعالى قالوا له : (إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ(سورة آل عمران 22)
.. وقد بالغت الإسرائيليات في وصف هؤلاء القوم وبيان ضخامة أجسامهموالمتوقع أن يكون هذا تهويلا من جانب بني إسرائيل الذين ولم يتعودوا المشاركة في الحروب، إذ كان المصريون يمنعونهم من المشاركة في القتال مخافة أن ينقلبوا عليهمولم يكن هؤلاء الجبارون إلا الجماعات الكنعانية المتحكمة في حواضر فلسطين، وارتبط تاريخهم بها منذ زمن بعيد.
خالفوا يعتقد أن الفترة المشار إليها في هذا العنوان تمتد (على الأكثر) من حوالي منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وقد حفظت لنا الآثار المصرية القديمة أن الفرعون أمنحوتب الثاني (1436 ـ 1411 ق.م) واصل غزوات سابقيه من ملوك الأسرة الثامنة عشرة في فلسطين وسوريا، وعثر حديثا في (منفيس) على نصب تذكاري سجل فيه أمنحوتب أنه اسر 3600 من أفراد (خبيرو) وهي لفظة قريبة من كلمة (عبري) ولكن ليس من الضروري أن يكون هؤلاء الأسرى من العبرانيين (بني إسرائيل)فـ (خبيرو) كان يشير إلى عدة قبائل ـ منهم بنو إسرائيل ـ يسكنون فلسطين ومناطق أخرى.

وفي عهد رعمسيس الثاني (1301 ـ 1235 ق.م) قامت حرب طاحنة في (قادش) بينه وبين مملكة (خيتا) (تقع عاصمتهم في أواسط آسيا الصغرى ـ تركيا الآن)، وانتصر المصريون، فحرض الخيتيون عليهم كل أمراء فلسطين، وشجعوهم على الثورة على الفرعون، فاضطر رعمسيس للقيام بحملة لتسكين التمرد، بدأها بعسقلان. وقد سجل مشهد على جدران معبد الكرنك الهجوم على هذه المدينة، التي ابتدأ منها رعمسيس الثاني إعادة السيطرة على فلسطين كله.
كان رفض بني إسرائيل الدخول إلى الأرض المقدسة كما أمرهم موسى ( عليه السلام ) إيذانا بعقوبة إلهية تنزل بهذا الجيل منهم، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة، قال الله تعالى : (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الفَاسِقِينَ(سورة المائدة :26)</strong>ومعنى هذا أن الأربعين سنة هذه سيتلوها شيء جديد غير ما كان أثناءها، وكان هذا هو السعي إلى دخول الأرض المقدسة.
واسمهويذكر المفسرون عن يوشع أيضا أنه أحد الرجلين اللذين وافقا موسى على دخول الأرض المقدسة.
ًًًإذن، لم تصل خطا يوشع ببني إسرائيل إلا إلى سيطرة جزئية على فلسطين، وبقيت القدس ومدن أخرى في يد الكنعانيين إلى أيام داود ـ عليه السلام.
لقد أورد القرآن الكريم قصة طالوت والجنود، وبها الكثير من العبر والعظات.
ً ًًيخبرنا التاريخ أنه في حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد تعرضت أرض كنعان لغزو من شعب ينتمي إلى جزيرة كريت، استوطن الشواطئ الكنعانية من غزة إلى يافا، وتسميه الآثار المصرية القديمة (بلست) و الآشورية (بالستو) وقد قدر لهذا الشعب أن تأخذ أرض (فلستيا) وجاء الرومان بمزاجهم الأوروبي فعدوا (فلسطين) اسما رسميا لأرض كنعان.
تذكر الروايات أن داود نصب ملكا على العبرانيين في عام (1004 ق.م) بعد أن كان محاربا بين جند الملك شاؤول وكان يقيم في مدينة حبرون (الخليل) ولما استقر له الحكم أراد أن يتخذ لنفسه موقعا أكثر تحصينا فوجد مطلبه هذا في مدينة بوس فهي وعرة المسالك للقادم من الأردن أو من البحر أو من الجنوب على حد سواء، وهي مسورة غير مكشوفة للغزاة، كما أن المدينة كانت تتوسط مواقع القبائل اليهودية وكانت اثنتي عشرة قبيلة متفرقة في البلاد وبذلك يتمكن من السيطرة على جميعها.
داود ومن خلال خدعة حربية أن يجتاز أسوا المدينة عام (966 ق.م).كانت تتمتع بوجود حكومة فيها وصناعة وتجارة وحضارة متقدمة، فاتخذها عاصمة ملكة وأسماها مدينة داود كما جعل اليهودية الديانة الرسمية في البلادحيث جعل هناك نوعا من الاتحاد بين القبائل اليهودية في مملكة واحدة، وتابعه لحكم مركزي واحد.
_عليه السلام_وتقول الرواية أن الملك سليمان رأى أن يكون على وفاق مع فرعون مصر فصاهره وتزوج من ابنته وبذلك تمكن من بسط نفوذه وحكمه إلى جهات العقبة وسيناء وسورية وقد يكون امتد من دان إلى بئر السبع على حسب القول المشهور عند اليهود.
لكن النص التوراتي لم يعطي أية تفاصيل أخرى عن فرعون مصر، ولذلك افترض المؤرخون أن حما سليمان هو الفرعون سيامون آخر فراعنة الأسرة الواحدة والعشرين، لأن الفرعون شيشنق الذي خلفه حسب ما ورد في التوراة كان من أعداء سليمان واستقبل خصمه يربعام عندما لجأ إليه، لكن النصوص المصرية المتوفرة من عصر الفرعون سيامون لا تذكر شيئا عن سليمان ولا عن مملكته، وكذلك الأمر بالنسبة للفرعون شيشنق حيث أن سلاجته لم تأتي على ذكر الملك سليمان ولا عن مدينة أورشليم ولا عن وجود مملكة قوية موحدة في فلسطين.
وكانت أهم إنجازات الملك سليمان في مدينة القدس حسب ما أوردته الروايات التاريخية :
<strong> أنه بنى لنفسه قصرًا ملكيًا خاصًا به استغرق بناؤه ثلاث عشرة سنة.
<strong> يقال بأن الملك سليمان شرع في بناء الهيكل الذي اشتهر في التاريخ باسم هيكل سليمان في العام الرابع من حكمه وأنه أنجز في سبع سنوات (960 ـ 953 ق.م) وتشير الروايات التاريخية أن الهيكل بقي قائما منذ أن تم بناؤه في عهد الملك سليمان عام 953 ق.م إلى أن تم تدميره نهائيا في عهد البابليين على يد نبو خذ نصر عام 586 ق.م وذلك خلال حملته الثانية على القدس، حيث أخذ زينات الهيكل ومحتوياته ثم دمره تدميرا نهائيا. ولم يتمكن الأثريون من إيجاد أي أثر له على الإطلاق في المكان الذي يقال أنه بني عليه.
<strong> قام الملك سليمان بتحديد بناء ما كان هناك من أسوار للمدينة.
<strong> أن الملك سليمان عمل على إنشاء وفتح المخازن التجارية في المدينة لتمد القوافل المتنقلة بين بلاد الرافدين ومصر غير مدينة القدس بما تحتاجه من المواد التموينية.
ولما توفي سليمان تولى الملك من بعده ابنه رجيعام عام (923 ق.م).تشير الروايات التاريخية المعتمدة على النصوص التوراتية أن الوحدة المؤقتة بين القبائل اليهودية التي حققها داود وسليمان خلال حكمهما كانت معرضة في كثير من الأحيان للانهيار، إذ كان الخلاف اقتصاديا بالدرجة الأولى بين أهل الشمال الذين عملوا في الزراعة وأهل الجنوب الرعاة، وكذلك الخلاف بين طقوس الشماليين الكنعانية الطراز وطقوس الجنوبيين التي عبد الإله يهوه، كل ذلك أدى إلى تحين الطرفين الفرصة للانقسام.
حيث تشير الروايات اليهودية أناجتمعوا حب1 ـك““2 ـتشير الروايات التاريخية أن هذه المملكة لم تكن تزيد على بضعة مئات من الكيلومترات المربعة حول مدينة القدس. كما تشير النصوص أن عرش يهوذا شهد عددا من الملوك يماثل عدد ملوك إسرائيل الشمالية وهو تسعة عشر ملكا، غير أن المملكة الجنوبية دامت نحو قرن وثلث القرن أكثر من مملكة إسرائيل الشمالية.
وحسب النص فرعون مصر شيشنق استغل فرصة تقسيم المملكة اليهودية وزحف إلى مملكة يهوذا حوالي عام 920 ق.م. واحتل أورشليم ونهب خزائنها وقفل راجعا إلى مصر حاملا معه كنوز الهيكل والقصور كغنائم فكانت تلك أول الغزوات التي شهدتها مملكة يهوذاإلا أن سجل الحملة الوحيدة لشيشنق على آسيا لم يأتي على ذكر مدينة أورشليم ولا عن أية مدينة مهمة من مدن يهوذا.
وهكذا كانت تسير الأمور من سيء إلى أسوأ في المملكتين، ولم يكن لمملكتي يهوذا أو السامرة أي سلطان على الأجزاء الباقية من فلسطين

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 5 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس بعد عهد العبرانيين والعصر الروماني
رضوى نبيل *



1.بيت المقدس قبيل الغزوين الآشوري والبابلي

3.سيطرة مصرية جديدة على القدس

5.الفرس وحلقة جديدة في تاريخ القدس

7.القدس تحت حكم البطالمة

9.الصراع البطلمي السلوقي على القدس

11.الفراعنة يعيدون غزو فلسطين

عليهما السلام في فلسطين وبعض النواحي المحيطة بها – دولةً استثنائية في مكانها؛ إذ المعهود في تاريخ هذه المنطقة هو تبعيتها لدولة قوية في بلاد ما بين النهرين (العراق) أو في مصر، لذلك لم يمر على موت سليمان سوى بضع سنوات حتى غزا الفرعون شيشنق فلسطين حوالي عام 920 ق.م.
وقد سجل “شيشنق” أحداث حملته على فلسطين على جدران معبد الكرنك، فنقش هناك صورا للأسرى وهم يُذبَحون أمام آمون، وقائمة (قد تَلَف أكثرها) بالأماكن التي غزاها الفرعون. وتكشف هذه النقوش عن أن حملة شيشنق لم تقتصر على جنوب فلسطين – كما يوحي خبر العهد القديم – بل امتدت إلى الشمال، وقوّى ذلك أنه عُثر في شمال فلسطين على نقش مصري قديم عليه اسم “شيشنق”..
ويسجل مؤرخو التاريخ الفرعوني “أن مصر قد عاشت قرنين من الزمان على الغنائم التي حملها شيشنق من فلسطين، ولا أدلَّ على ذلك من العمائر التي أخذ في إقامتها ملوكُ هذه الأسرة (الثانية والعشرين)، مما يدل على بسطة في المال وسعة في الرزق..”. وهذا يعني فقد بني إسرائيل للكثير من الكنوز والثروات التي خلّفها داود وسليمان ( عليهما السلام ) مبكرا.

2.لم يكن هدف شيشنق الأول من حملته على فلسطين (حوالي سنة 920 ق. م) أن يضع يده عليهاوحسب رواية العهد القديم، فقد مكث رحبعام بن سليمان في حكم مملكة يهوذا (وعاصمتها القدس) سبع عشرة سنة، حيث مات بعد حملة الفرعون شيشنق باثنى عشر عاما، وتتابعت ذريته في حكم المملكة الجنوبية حتى بلغوا تسعة عشر ملكا، حكم بعضهم شهورا، وتجاوز حكم بعضهم نصف قرن من الزمان..</p> ًإذن كان الجو مهيّئا لسقوط المملكتين اليهوديتين (إسرائيل ويهودا)، فقد عمت الفُرقة والتشرذم والتقاتل الداخلي، وانتشر بين عامة الناس وخاصتهم الفسادُ الخلقي والانحراف عن أوامر الدين، حتى كانت القدس نفسها ساحة مفتوحة للانحراف في العقيدة والشعيرة والخلق..
وكان من الطبيعي أن يحاول ملوك آشور السيطرة على مملكة يهوذا وعاصمتها القدس، أو على الأقل ضمان ولاء ملوكها لهم، وقد تعرضت أورشليم للكثير من المخاطر أثناء هذا الصراع.
(محمد عزة دروزة: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم صـ 232، وسليم حسن: مصر القديمة 9/ 526 وغيرها)
المحاولات الآشورية للسيطرة على القدس

<h2 style="direction:rtl;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt 0;">كثيرون لم يكن من مصلحتهم أن تستقر للآشوريين قدم في فلسطين، فقد اعتاد حكام مصر القريبون أن تكون هذه البلاد تابعة أو موالية لهم، ولن يرضيهم أن يقوم فيها سلطان قوي لغيرهم، كما كان هناك منافس لملك بابل “سنخرب” (أو سنحاريب) اسمه (مروداخ بلدان) على عرش المملكة، ويهم هذا المنافس أن يصنع القلاقل لخصمه في كل ناحية..
وطَرد الثائرون الأمراءَ الموالين للآشوريين في جنوب فلسطين، حتى تسلّم حزقيا في أورشليم “بادي” – أميرَ “إكرون” الموالي لآشور – مقيَّدا بالسلاسل والأغلال..
ولقي سنحاريبُ قادةَ الثورة ضده، وعاقبهم بقسوة بالغة، وفكّ أسر حاكم “إكرون” الموالي له من أورشليم، لكن بقيت أورشليم نفسها تحت الحصار سنة 701 ق.م أبيّة على الغزاة، فعجزوا عن اقتحامها، واكتفوا من يهودا بمدنها الأخرى دون عاصمتها المقدسة.
“أما حزقيا اليهودي، فإنه لم يخضع لنيري، وقد وضعت الحصار على ست وأربعين من مدنه القوية وحصونه المسوَّرة وعلى القرى الصغيرة المجاورة التي لا حصر لها، وفتحتها بوساطة بناء منحدرات من الطين مكينة ومنجنيقات نُصبت بالقرب من الجدران. هذا بالإضافة إلى هجوم المشاة الذين كانوا يستعملون الألغام والنقب والتقويض، وقد سقتُ منها 200150 نسمة صغارا ومسنين وإناثا، وكذلك خيلا وبغالا وحميرا وجمالا وماشية صغيرة وكبيرة يخطئها العد، واعتبرتها غنيمة.
وأنتجت هذه الحروب خرابا في مملكة “يهودا” بقي أغلب سنوات القرن السابع قبل الميلاد، وتحولت المملكة العبرية إلى تابع يدفع الجزية لملوك آشور.. ومن النقوش الأثرية النادرة التي تسجل هذه السيطرة الآشورية والتبعية العبرية نص يرجع إلى أيام الملك الآشوري آشوربنيبال (669 – 626 ق.م)، سجل فيه أخبار حملة له على سوريا وفلسطين ومصر، ومما جاء فيه: “وسلكتُ أقرب طريق لمصر والنوبة، وفي خلال سيري إلى مصر أَحضر إليّ اثنان وعشرون ملكا من ساحل البحر والجزر والبر، وهم: بعلو ملك صور، منسه ملك يودا (أي ملك يهودا وعاصمتها القدس)، وقاشجبري ملك إدوم… وهم خدَّام تابعون لي – أحضروا عطايا عظيمة لي، وقبلوا قدمي، وقد جعلت هؤلاء الملوك يتبعون جيشي على البر وعلى طريق البحر، ومعهم قواتهم المسلحة وسفنهم..”.
في الوقت ذاته ظهرت في بلاد الرافدين قوة جديدة، أسقطت دولة الآشوريين، ودمرت عاصمتهم الزاهرة “نينوى”، وهذه الدولة القوية هي الدولة البابلية، التي سيكون على يدها التدمير الأول والكبير للقدس. وقد عُثر في سقارة بمصر على رسالة آرامية من ملك إحدى مدن فلسطين، يذكر فيها تقدم البابليين في جنوب فلسطين.
سيطرة مصرية جديدة على القدس</h1> وقد كان نصيب الفراعنة المصريين في السيطرة والقوة طويلا، وإن تخللت مراحلَ القوة عندهم أزمنةٌ للضعف، وعاشت القدس موالية لهم زمنا طويلا، فكانوا من أطول الأمم في التاريخ سيطرة على القدس وفلسطين، وإن كانت هذه السيطرة في أحيان كثيرة على شكل موالاة وتبعية من ملوك فلسطين لفراعنة مصر..
وبذلك يكون ملك أورشليم هو الذي تعرض للجيش المصري الزاحف بمحاذاة الشاطئ، ولم يقصد غزو الداخل، لكن الهاجس المقلق من فقد الاستقلال، حرك يوشيا إلى هذه المعركة غير المتكافئة، فهُزم هزيمة قاصمة، فتمزق جيشه، ومات هو في جراحه..
ونتج عن هذه الحملة سيطرة مصر على سوريا وفلسطين، وبذلك خضعت القدس للمصريين من جديد، ولكنْ لفترة قصيرة.
نبوخذ نصر في القدس</h1> ذ صوكانت المشكلة في هذا الزمن بالنسبة للقوى الصغيرة (مثل قوة يهودا في القدس) هي أنه لابد لها من الانضمام إلى قوة كبيرة، تعلن ولاءها لها، وتصون لها مصالحها القريبة، وقد تتعرض القوة الصغيرة لمخاطر شديدة إذا هُزمت حليفتها الكبيرة..
ثم عاد “نخاو” إلى تحريض يواقيم على الثورة من جديد، فاستجاب له أيضا، وهنا كانت نهاية مُلك يواقيم، الذي صارت طريقة هلاكه مجهولة، وإن كان سفر أخبار الأيام الثاني يقول عنه: “كان يهوياقيم ابنَ خمس وعشرين سنة حين مَلَك، وملك إحدى عشرة سنةً في أورشليم وعمل الشر في عيني الرب إلهِه. عليه صعد نبوخذناصّر ملك بابلَ وقيّده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل” (36: 5 – 6).
لم يكن غريبا مع هذه التطورات أن يكون رد فعل “نبوخادنزر” عنيفا، لكنه بلغ مدى بعيدا جدا في عنفه، فزحف في جيش كبير ليُخضع الثائرين ضده، ويخرِّب أوطانهم تخريبا، وحاصر القدس، وفيها بقية ميراث داود وسليمان ( عليهما السلام ) وخاصة مسجد بيت المقدس.. وضُيِّق الخناق على المدينة المقدسة، لكن الحصار رُفع فجأة، فقد جاءت حملة مصرية معادية لـ “نبوخادنزر” وجيوشه، رفع البابليون الحصار عن القدس لمجابهتها..
لذلك حاول زدقيا الفرار ببعض خاصته، لكن جنود “نبوخادنزر” أدركوهم، وكان مصيرهم كالحا..
وعلى ألواحه الأثرية سجل ” نبوخنر” هذه الذكرى الكالحة قائلا: “بقوة نبوخذ نصّر ومردوك، زحفْتُ بجيشي نحو لبنان، فهزمْتُ الخبثاءَ الذين يقطنون الأعالي والمنخفضات، كما هزمْتُ شعبَ إسرائيل في بلاد يهوذا، وجعلتُ تحصيناتِها كومةً من الأنقاض، مما لم يسبقْ لملك أن فَعَلَه”.

<h1 style="direction:rtl;text-indent:-.25in;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt .5in 12pt 0;">6.منذ القرن السابع قبل الميلاد انتقل ميزان القوة في العالم القديم من مصر إلى دول آسيوية، نشأت في تواريخ متتالية أو متعاصرة، خاصة في بلاد الرافدين، وكانت دولة الفرس الأخمينيين أو الأخمينيسيينومن أهم مراحل حياة هذه الدولة: قضاء ملكها كورش (سيروس) الثاني على مملكة ميديا (في قلب إيران) سنة 553 ق.م؛ إذ ورث – وأسرته من بعده – عرش دولة واسعة، ولم تبق بعد الميديين قوة دولية تستطيع وقف التوسع الفارسي. ولم تكن قوة بابل ومصر حينها متجهة إلا إلى الأفول..
وتحالف المصريون وحاكمهم أحمس الثاني (= أمسيس) (570 – 526 ق.م) مع البابليين؛ باعتبارهم خصوما أقل خطرا من الفرس، فعقد أمسيس ما يشبه المعاهدة الدفاعية مع “نبونبد” ملك بابل وبعض القوى الدولية الأخرى، لكن كورش كان ينقضّ على من حوله، حتى دانت له آسيا الصغرى، ودخل بابل سنة 539 ق.م بلا حروب كبيرة، ونتيجة لهذا فشلت سياسة التحالفات المصرية، وتمهّد الطريق أمام كورش الثاني لدخول سوريا وفلسطين، وبذلك دخلت القدس في مرحلة تاريخية جديدة لها..
وقد اختار الفرس هذه السياسة الهادئة مع كل الأقوام الذين خضعوا لسلطانهم، حتى إنهم بعد أن هزموا الميديين تركوا جزءا كبيرا من إدارة إقليمهم في أيديهم، وأشركوا معهم بعض الفرس، كما أعطوا ما يشبه الحكم الذاتي للأقاليم التي خضعت لهم. ويرد المؤرخون ذلك إلى حكمة السياسة الفارسية، التي كان أصحابها يَعُدون أنفسهم أغرابا عن هذه الأقاليم، ولن يسهل لهم السيطرة على إمبراطوريتهم الواسعة جدا إلا بهذه الطريقة.
مهما يكن، فإن بعض الروايات تفيد أن البناء قد أعيد في عهد الملك دارا الأول (521 – 486 ق.م).
هذا، مع ملاحظة أن أحد المتخصصين في دراسة اللاهوت واللغة العبرية (و. أ. ل. إلمسلي – أحد محرري كتاب “تاريخ العالم”) يقول عن كاتب السفرين الأخيرين: “معلوماته عن الفترة الفارسية الأولى مبتورة مشوشة، بل إنه لا يمكن الاعتماد عليه حتى في روايته للأحداث التي وقعت بعد مائة عام من ذلك الوقت، وهي الفترة التي عاصرها نحميا. ورأيه في استعادة اليهود لمجدهم تسيطر عليه بوجه عام نظرية خاصة تجعل هذا الرأي مضللا أشد التضليل”.

<h1 style="direction:rtl;text-indent:-.25in;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt .5in 12pt 0;">7.هذه الحلقة من تاريخ القدس والعالم استكمال لسيطرة العنصر الآري، الذي مثله الفرس قبل ذلك، ولكن طريقة السيطرة هذه المرة ستكون بشكل آخر يستمر حتى الفتح الإسلامي (القرن السابع الميلادي) مع استثناءات قليلة؛ حيث سيطر الأوروبيون – من الإغريق والرومان كقوتين متفوقتين في العالم – انطلاقا من بلادهم، طوال هذه الفترة..
كانت القدس في هذه الأثناء خاضعة للفرس الأخمينيين، ويتولى إدارتها – فيما يُعتقد – يهود موالون للإمبراطور الفارسي، ففوجئ العالم بخروج فيليب (382 – 336 ق.م) – أمير مقدونيا ووالد الإسكندر – وتوحيده المدن اليونانية وما أحاط بها. ودبّر حينئذ للقاء الفرس، وهي الدولة الأقوى والأكثر نظاما وتحضرا في العالم وقتها، ولكنه اغتيل، ليحل محله ابنه الشهير الإسكندر المقدوني (356 – 323 ق.م)، الذي لم يعش طويلا، ولكنه أثر في تاريخ العالم تأثيرا كبيرا وعميقا، وأهم ما فعله هو إسقاط الدولة الفارسية الأخمينية في عهد ملكها دارا الثالث (380؟ – 330 ق.م)، حيث التقى الفريقان عند نهر إسوس (طرسوس القديمة) سنة 333 ق.م، وشرق نهر دجلة سنة 331 ق.م، وانتصر الإسكندر في المرتين، وانحل مُلك دارا..
وقد ارتكب الإسكندر فظائع في صُورَ وغزّة لمقاومتهما العنيفة له، وقد كانت “صور” أصعب مدينة لقيها الإسكندر في حروبه الطويلة في العالم؛ إذ امتد حصاره لها سبعة أشهر.
ولكن مدينة القدس نفسها ضعفت أهميتها التجارية والسياسية في هذه الأثناء، وسط هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، واكتفت القوافل التجارية بالمرور بالمدن الفلسطينية الأخرى ذات الموقع الأفضل والغنى الأكثر في المواد الخام.
لم يستطع هيراكليس – الطفل الصغير الذي تركه الإسكندر على العرش – ولا أريداوس – أخو الإسكندر ذو الإمكانات الضعيفة والذي سعى البعض إلى وضعه على العرش – أن يفعلا شيئا؛ لذلك تنازع الأمراء الإغريق من بعد القائد الراحل على السلطان، وكوّن بطليموس الأول دولة قوية في مصر، وفعل سلوقس مثلَه في بابل وأنطاكية، ونُسبت الدولتان (البطلمية والسلوقية) إلى الرجلين، وتبادلتا السيطرة على القدس، لكن السمت الإغريقي كان مشتركا بينهما..

<h1 style="direction:rtl;text-indent:-.25in;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt .5in 12pt 0;">8.أتاح الموت المبكر للإسكندر، دون أن يترك من بعده خلَفًا قويا، الفرصة لقواده أن يكوّنوا دولا مستقلة تتوارثها ذرياتهم، وكان بطليموس الأول ابن لاجوس – الصديقُ الحميم للإسكندر – من أهم هؤلاء القادة وأشهرهم؛ إذ قام كرسيُّ مملكته في مصر، وذلك بعد تناحر وتقاتل شديد بين أخلاف الإسكندر، أدى إلى اختفاء الأسرة المالكة تماما – إما بالقتل وإما بغيره – بعد بضع سنوات من موت الإسكندر.</p> إن كثرة الحروب في تلك الفترة، وتوالد الأحلاف بعضها ضد البعض الآخر – يجعل أحداثها متداخلة مختلطة، خاصة أن الحلفاء اليونانيين كانت تحدث بينهم شقاقات وخلافات متجددة، تؤدي إلى اندلاع الحرب بينهم. كما أن أسماء المشاركين في تلك الأحداث كانت كثيرة بشكل لافت للنظر.
لقد كانت القدس قبيل سنة 318 ق.م تحت سيطرة أمير مصر اليوناني بطليموس الأول لأول مرة، وقد دخلها – كما تشير بعض الروايات – يوم السبت، الذي يقدسه اليهود، مستغلا طقوسهم وعاداتهم في الامتناع عن العمل في هذا اليوم..
</strong>ًً</strong></strong></strong>
<h1 style="direction:rtl;text-indent:-.25in;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt .5in 12pt 0;">9.بقيت القدس في يد بطليموس سوتر أو بطليموس الأول بقية حياته (توفي سنة 282 ق.م) منذ سارع بالاستيلاء عليها سنة 301 ق.م، واستمر خلفاؤه من البطالمة هناك بشكل متواصل تقريبا طوال قرن كامل من الزمان..</p> وقد بقيت الطائفة اليهودية المنفية إلى الإسكندرية من أهم الطوائف اليهودية في العالم حينئذ، وكان لهم دور كبير في فلسفة الفكر الديني اليهودي؛ ليتوافق مع التراث الفلسفي والفكري لليونان..
ومن العجيب في هذه القضية أن يستجلب بطليموس الثاني أحبارا من “القدس” للقيام بهذه المهمة، وكان الأولى به أن يستعين باليهود القريبين منه في الإسكندرية، وكان الكثير منهم ذوي ثقافة ممتازة، كما لم تكن اللغة اليونانية قد أخذت موضعها المكين لدى سكان مدينة هامشية بالنسبة لليونانيين كالقدس، حتى يُكلَّف أهلها بهذه المهمة الثقيلة.
ويسجل المؤرخون أن اليونانيين كانوا من أبرع الأمم وأحرصها على صبغ حياة الشعوب التي يغزونها بصبغة الإغريق الثقافية، وعلى الرغم من أن القدس لم تكن حينئذ في القلب من عملية “الأغرقة” هذه – إن صح التعبير – فإن أحد الدارسين يسجل أنه “لم يمض قرن على موت الإسكندر حتى تأثرت هي أيضا بإغراء الهيلينية (وهي الثقافة والحياة الإغريقية) الذي لا مهرب منه، وهو إغراء مادي من ناحية، ففي وسعك أن تتصور التجار الإغريق يغدون ويروحون في أسواق أورشليم، والفرصةَ المتاحة لكل يهودي حاذق مغامر في المراكز التجارية الهيلينية العظمى التي تنتشر الآن من حوله.. ثم إنه إغراء اجتماعي – من ناحية أخرى – ذلك أن الهيلينية كانت بسبيلها إلى أن تصبح الهواء الذي يتنفسه الناس، ولم يمض طويل زمن حتى عرضت مفاتنها الاجتماعية، بل والرياضية جهارا أمام أعين الشباب الطموح في أورشليم..”.
والأثر البطلمي على عموم فلسطين سجلته مجموعة برديات اكتشفها الأثريون، وسميت “برديات زينون”، فقد أثبتت أن فلسطين كانت تمد مصر بزيت الزيتون والخيول العربية والأغنام والرقيق والفضة، وأوردت البرديات أسماء مدن فلسطينية اتخذت أسماء بيزنطية..
وأما القدس، فكان فيها وفيما حولها تجمع يهودي موالٍ تماما للبطالمة، ويدفع زعماؤه لهم الجزية. وظهرت بين اليهود موجة من التحرر من الدين بتأثير الفترة البطلمية. وقد حاول بطليموس الرابع توحيد الأديان مع اليهود، فجعل الرب الإغريقي ديونيسوس هو الجامع بين يهوه (الإله الخاص باليهود) وسرابيس (معبود الإغريق). وعلى الرغم من شناعة ذلك استجاب المتحررون الجدد من اليهود لبطليموس.

<h1 style="direction:rtl;text-indent:-.25in;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt .5in 12pt 0;">10.اعترافًا بفضله في إعانته على استعادة عرشه، لم يشأ سلوقس الأول أن يحارب بطليموس الأول حين سيطر على الإقليم السوري (والقدس جزء من قطاعه الجنوبي) عقب معركة إسوس سنة 301 ق.م، لكن العداوة بين الأسرتين ظلت تُتَوارَث وتنتقل من جيل إلى جيل، حتى وقعت سلسلة حروب طويلة في الصراع على هذا الإقليم </p> وهذا يشير إلى أن مدينة داخلية، ليست ذات موارد تُطمِع أحدا فيها (كالقدس) – لم تكن في هذا الزمن هي موضع التنافس والخلاف، بل دفع إلى كل هذه الحروب التنافسُ على المدن والشواطئ الغنية وذات الموقع التجاري المؤثر..
وبعد حوالي عشرين عاما تجددت الحرب بين البطالمة والسلوقيين (في عهد بطليموس الثاني وأنطيوخوس الثاني)، وانتهى الأمر سنة 252 ق.م بهدنة أخرى أبقت القدس وغيرها من أنحاء سوريا الكبرى في يد بطليموس الثاني.
ومن أهم ملوك السلوقيين الذين كانت لهم أعمال مهمة تتصل بالقدس:
</strong>
:أنطيوخوس الرابع (أبيفانس) كان حاكما متعصّبا للثقافة الإغريقية، حاول فرضها على الناس بالقوة، وكان يرى في متعصبي اليهود قوة مناهضة لمشروعاته تعطل فرض هذه الثقافة، فعمد – فيما تذكر الروايات – إلى تحويل بيت عبادتهم إلى بيت للأوثان، وتحريم بعض عاداتهم وشرائعهم، واضطهدهم بشدة. وسعى أبيفانس إلى إجراء آخر خطير، وهو تغيير اسم المدينة من “أورشليم” إلى “مدينة زيوس الأولمبي”، ولكنه فشل فيما نجح فيه الرومان من بعد حين أطلقوا على القدس اسم “إيلياء”.

<h1 style="direction:rtl;text-indent:-.25in;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:justify;margin:12pt .5in 12pt 0;">11.بدأت هذه الثورة ضد السيطرة اليونانية السلوقية سنة 167 ق.م، وقادتْها أسرة تسمى “الحشمونية”، قيل إن زعيمها كان كاهنا طاعنا في السن يسمى “ماتاثيوس”، ويُعينه خمسة أولاد له، منهم يهوذا الذي لُقِّب بـ “مكابيوس” (أي المطرقة)، وقد قاد قومه سنة 165 ق.م إلى انتصارات مفاجئة على حكام سوريا السلوقيين، حتى دخل بهم القدس، وطهر بيت العبادة من وثنية اليونان..</p> وحين اندلع القتال من جديد كانت اللقاءات ساخنة، حتى قُتل زعيم اليهود، برغم الانتصار الذي حققه أتباعه، في معركة عَدَسا سنة 161 ق.م، حيث كان اليهود قد طلبوا المعونة من الرومان.
وبعد اغتيال يوناثان استطاع أخوه سمعان قيادة قومه سنة 142 ق.م، حتى اعترف لهم ديمتريوس الثاني – ملك سوريا السلوقي – بحريتهم، وصار كاهنا وملكا في أورشليم.
وحاول بطالمة مصر في عهد عاهل أورشليم الإسكندر حنايوس (104 – 78 ق.م) السيطرة على الدولة اليهودية، لكن الهدف من الحرب لم يتحقق، ورجع البطالمة إلى حدودهم، على الرغم من الشقاق اليهودي الداخلي..
كان هذا مُؤْذِنا بكارثة قريبة تحل بهذا المجتمع المريض، الذي خالف تعاليم الأنبياء، ودنس أرض القدس بأنواع شتى من المنكرات، وأراق الدماء الحرام فوق الأرض التي شهدت أياما مجيدة من جهاد الرسل، ودعوتهم الخلق إلى الله.. وتمثلت هذه الكارثة في استيلاء القائد الرومي بومبي على القدس وفلسطين..










توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 6 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



[align=justify]
القدس في العهد الروماني

د. نبيل الفولي



– بداية العهد الروماني للقدس
– نبي الله زكريا في القدس
– فلسطين عند احتلال الروم لها
– القدس تحت حكم أنتي باتر الأدومي
– القدس تحت حكم هيرود الكبير
– أعمال هيرود العمرانية في فلسطين
– مولد المسيح عليه السلام
– القدس في القرون الأولى للميلاد
– القدس تحت حكم هيرود أغريبا
– التدمير الروماني للقدس
– هادريانوس يبني إيلياء (القدس)
– القدس والتحول الروماني إلى المسيحية
– القدس في حيازة الفرس الساسانيين
– البيزنطيون يستعيدون القدس

بداية العهد الروماني للقدس</span></span></h1> والقائد الذي بدأ معه التاريخ الروماني للقدس هو “بومبي”، وهو – كان خلال القرن الأول قبل الميلاد – أحد الثلاثة الكبار المتنافسين على السلطة في روما (كراسوس وبومبي ويوليوس قيصر)، وكان قد حقق لروما إنجازات مهمة؛ فشارك في القضاء على ثورة العبيد بقيادة سبارتكوس (73 – 71 ق.م)، كما طهر مياه شرق البحر المتوسط من القراصنة سنة 67 ق.م، كذلك سيطر على أرمينيا سنة 65 ق.م، وضمن ولاءها له ولشعب روما..
)..
زحف الرومان بقيادة بومبي على فلسطين سنة 63 ق.م، وحاصروا القدس، لكن المدينة التي استعصت على الآشوريين من قبل لم تكن فريسة سهلة، فقد اشتهرت طوال تاريخها بمناعة أسوارها، وقوة دفاعاتها، ومعاونة موقعها وظروفها الطبيعية لمن فيها على الدفاع عنها.. ومع أنه كان متوقعا بقوة أن تسقط القدس بصورة طبيعية في يد بومبي، لو اتبع في حصارها سياسة النَفَس الطويل، إلا أن الخيانة عجّلت بالقضية، فاقتحمها الرومان بخيانة داخلية من بعض اليهود..
وبهذا يبدأ التاريخ الروماني للقدس وفلسطين، والذي استمر زمنا طويلا، ومنح القدس سمتا جديدا، بقي مسيطِرًا إلى أن فتح المسلمون المنطقة، حيث التأم لأول مرة في التاريخ شمل عرب القدس القدماء – بعد اختلاطهم الكبير بالشعوب الغازية والنازحة – مع إخوانهم من عرب الجزيرة الذين حملوا إليهم مشعل الهداية الربانية.
</span>نبي الله زكريا في القدس</h1> كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
هنالك رغب زكريا ( عليه السلام ) في رزق الله وفضله، وكان قد طعن في السن، ويئس من مجيء الولد. وسجل القرآن على لسانه علامات الكبر والشيخوخة التي لحقته فقال الله – تعالى – عنه: () (سورة مريم: 4)، ولا شك أن وهن العظام واشتعال الرأس بالشيب يشيران إلى سن عالية لصاحبهما، ولعل هذا ما دفع ابن كثير إلى القول: ” قيل: كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة، والأشبه – والله أعلم – أنه كان أسن من ذلك”.
لقد صار بنو إسرائيل في القرن الأول قبل الميلاد جُزُرا متقاطعة، وأصبحت قلة قليلة منهم تسير على هَدْي التوراة الصحيحة التي نزلت على موسى ( عليه السلام ) والتي لا شك أن نسخا صحيحة منها كانت متوافرة حينئذ، لكن لم يكن ثمة اتفاق عليها بين طوائف العبرانيين – فيما يبدو.
وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياًّ
لقد كانت فترة تمزُّق جماعي، وفساد فردي واجتماعي، انقسم فيها مجتمع بني إسرائيل، ورفضوا الانصياع للتعاليم التي جاء بها الأنبياء، واستنجدت الطوائف اليهودية المتناحرة في القدس ويهودا بالعدو الروماني المتربص من قريب.
.. قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ ..</strong>لم يستطع زكريا ولا ابنه يحيى ( عليهما السلام ) صد طغيان بني إسرائيل، وبالتالي لم يستطيعا رد حكم السنن والنواميس الإلهية عنهم، فكانت هذه مرحلة انسلاخهم من الدين السماوي الذي أنزله الله، وتمت واكتملت مع بعثة المسيح عيسى ( عليه السلام )..
</span>فلسطين عند احتلال الروم لها</h1> وهذا يعني بالنسبة لفلسطين وأشباهها من البلاد التي دخلت تحت حكم الرومان وسلطانهم، أن الحكم الجديد سيكون – من الناحية الثقافية على الأقل – مواصَلة للمرحلة اليونانية بشقيها البطلمي والسلوقي، بل ربما قلنا: إن فلسطين وسوريا ومصر وغيرها من مناطق النفوذ اليوناني السابق هي الميادين التي هُزم فيها الرومان ثقافيا، وتلوّنوا بلون الفكر والثقافة اليونانية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أيهما ابتلع الآخر: الكنعانيون والفينيقيون – أهل البلاد الأصليون – أم اليونانيون – الغزاة؟
لقد خالف اليونان سُنَّة من سبقهم من الكلدان (البابليين) والآشوريين والفرس، حيث بدا هؤلاء دائمًا كطبقة غريبة ومميزة عن أهل البلاد التي يحتلونها، لكن اليونانيين منذ الإسكندر ركزوا على الاختلاط بهذه الشعوب ومصاهرتها؛ لينفتح الطريق أمامهم ثقافيًا وسياسيًا.
، وكذلك طريقةَ الحياة والسلوك والمعيشة الإغريقية، والتي انتشرت خاصة بين الفئات الأرستقراطية من الشرقيين، والذين تلقوا تعليمًا رفيعًا على يد أساتذة إغريق أو متأغرقين. ولم يكن انتشار الحضارة الإغريقية وقفًا على مناطق المدن ومراكز الحضارة والعمران، التي أسسها المستوطنون المقدونيون والإغريق، بل وصلت إلى المدن الآرامية والفينيقية والكنعانية. حتى بيت المقدس – أورشليم تسللت إليه الحضارة الإغريقية، فقد أصبح لكل مدينة في الشام دار للتريبة؛ أي جمانزيوم Gymnasion“وأمام هذا الاكتساح الجارف للحضارة الإغريقية تراجعت الحضارات السامية، سواء أكانت كنعانية أم آرامية أم عبرية؛ لتحتمي في معاقل لها في المناطق الريفية النائية، أو في مناطق المرتفعات الجبلية، وظلت في هذه المعاقل تدافع عن بقائها حتى بعد الفتح العربي.. ولم تلبث الحضارات الآرامية والكنعانية أن بدأت تتسلل لتمتزج بالحضارة الإغريقية، وساعد على ذلك اتجاه الإغريق إلى الزواج من آراميات وكنعانيات، فقد كان أغلب الجنود والمستوطنين بلا زوجات، ونادرا ما كانوا يجلبون زوجات من مقدونيا أو بلاد اليونان.. ونتيجة لذلك ظهر جيل من الآراميين المتأغرقين، أو الإغريق الآراميين، والكنعانيين الذين يجمعون بين الحضارتين لغة وعقيدة، ويتوجهون بالعبادة للآلهة الآرامية والكنعانية والفينيقية، بعد أن أضفوا عليها الصفات الإغريقية، مثل الأسماء والمظهر، وأطلقوا عليها أسماء إغريقية مثل زيوس الأولمبي..” ا.هـ.
كانت القدس حديثة عهد بالغزو الرومي لها حين تحولت الدولة الرومانية من جمهورية يحكمها السناتو Snatoدخلت قوات بومبي القدس سنة 63 ق.م، وأُلغيت الجمهورية في الدولة الرومانية سنة 30 ق.م، فكان بين الحادثين ثلث قرن، جرت فيه أحداث ضخمة؛ سواءٌ فيما يتعلق بالدولة الرومانية عامة، أم بالقدس وفلسطين خاصة..
واليهود لا يعدون الأدوميين منهم، بل هم – عندهم – من نسل عيسو أخي يعقوب ( عليه السلام ) وليسوا إسرائيليين، وإن أُخضعوا بالقوة منذ سنة 125 ق.م لاتّباع مذهب اليهود. وقد حكم فلسطين أنتيباتر الأدوميُّ ومن بعده ابنُه هيرود الكبير، وظل اليهود ينظرون إليهما نظرة ريبة وعدم اطمئنان، على الرغم من كل ما قدّماه لليهود من أعمال وخدمات، مع تظاهرهما باتباع اليهودية.
وفي أثناء ولاية أنتيباتر على فلسطين قُتل يوليوس قيصر (سنة 44 ق.م)، ولقي أنتيباتر نفس المصير في العام التالي، ليخلفه ابنه الثاني هيرود، الذي يُعَد واحدا من أهم حكام القدس القدماء وأوسعهم شهرة.
<h1 style="direction:rtl;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:right;margin:12pt 0;">مات أنتيباتر والد هيرود قتيلا سنة 34 ق.م، وهذا – بالتأكيد – يعني أن قياد فلسطين لن يسلس لهيرود – خليفته وابنه الثاني الذي كان نائبا له على الجليل – وبالفعل تذكر المرويات اليهودية أن البقية الباقية من البيت المكابي تعاونت مع طائفة الفريسيين تحت قيادة أنتيجونس المكابي لطرد الرومان وأعوانهم من القدس، ونجحوا في طردهم من جنوب فلسطين (مملكة يهودا السابقة)، واستقلوا بدولتهم من جديد، وكانت هذه آخر مرة تستقل فيها دولة يهودية في القدس حتى القرن العشرين الميلادي..
وناضل أنتيجونس المكابي ومن معه عن القدس، لكن الحصار استمر، ووقع القتال في الأطراف، حتى اقتحم هيرود المدينة، وجرى القتال في شوارعها وداخل مكان العبادة اليهودي الذي هدّمه القتال، وانتهت المقاومة تماما، وانفرد هيرود بالحكم سنة 37 ق.م.
كان هيرود يظهر أنه يهودي، وفي نفس الوقت ينشر بحماسة ثقافة الرومان في فلسطين، ويقيم معابد وثنية في القدس ومدن فلسطين؛ تقربا إلى سادته من الرومان. ويُنسب إليه إقامة الهيكل اليهودي آخر مرة.
المعاصرة إقامتها في فلسطين، فقال: “يحدثنا التاريخ أنه في أيام بيت هيرود كانت فلسطين دولة يهودية، لكن الثقافة القومية كانت موضع احتقار واضطهاد، وقد بذل البيت الحاكم قصارى جهده لبذر الثقافة الرومانية في البلد، وبعثروا موارد الأمة في بناء معابد الوثنية والمدرجات وما إلى ذلك. إن مثل هذه الدولة اليهودية سوف تنشر الموت والمهانة لشعبنا. إن مثل هذه الدولة لن تحقق القدر الكافي من السلطة السياسية التي تؤهلها للاحترام، بينما ستبتعد عن القوة الروحية الداخلية للعقيدة اليهودية. إن هذه الدولة المسخ ستتأرجح كالكرة بين جيرانها الأقوياء، وستحافظ على وجودها فقط عنأعمال هيرود العمرانية في فلسطين


ولكن التاريخ وعلم الآثار ينفيان صحة الزعم اليهودي تماما، فكل المرويات الإسلامية تؤكد أن مكان الحرم عند الفتح العمري للقدس كان خاليا من البناء، وقد حوَّله الرومان إلى “مزبلة” مهجورة. وقد سجل المؤرخون المسلمون ذلك في وقت لم يكن ينافسهم فيه أحد على امتلاك القدس، فلم يكونوا بحاجة إلى سَوق الأدلة والحجج على حقهم فيها. وأيضا ليس من العقل أن يظل هذا الجدار قائما وحده قرابة ستة قرون رومانية، دون أن يفكر أحد في هدمه، وقد كان هناك من حوافز العداوة بين اليهود والرومان ما يكفي لهدمه مرارا وتكرارا..
كان هيرود مولعا بأعمال البناء والتشييد على النمط الإغريقي، فجدد سور القدس، وبنى فيه أبراجا، ووسع المدينة حتى بلغت 140 أكرًا (الأكر مقياس للمساحة أقل من الفدان، ويساوي 4000م2 تقريبا)، وأقام في فلسطين مدنا كقيصرية، وشيّد الكثير من المعابد لآلهة اليونان والرومان، فعزَّز ما سعى إليه البطالمة والسلوقيون قبلَه من صبغ البلاد التي يحتلونها بصبغتهم.
أثناء حكم هيرود الكبير وُلد خاتمة أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم ( عليه السلام ) وقد وقع الغربيون في خطأ تاريخي كبير عند تحديدهم سنةَ ولادته، واضطر العالَم بعد ذلك إلى التسليم له، ففي سنة 532م دعا الراهب دينوسيس الصغير إلى التأريخ بميلاد المسيح ( عليه السلام ) وقدَّر الحساب بدون تدقيق، فأخطأ في بضع سنوات (يذهب البعض إلى أنها سبع والبعض الآخر إلى أنها أربع سنوات)، وحين أدرك الناسُ هذا الخطأ تعذّر عليهم التصحيح، فتركوه كما هو.
وكانت في القديم قرية تكتنفها الأودية العميقة من الشرق والغرب والجنوب.
يقول الله تعالى في سورة مريم: {} (سورة مريم: 16 – 31).

القدس في القرون الأولى للميلاد


ًوَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
كان هذا الحادث من كبار حوادث تاريخ القدس أثرًا في العالم؛ لما بُني عليه من عقيدة الفداء التي قامت عليها المسيحية كلها، بعد أن فسر بولس – المقتول حوالي سنة 67م – عقيدة المسيح تفسيرا آخر تماما غير ما كان يقوله المسيح – عليه السلام.
وكانوا قد ظنوا حينئذ أنهم متى أرادوا قتل نبي قتلوه، ولم يمنعهم من ذلك أحد، حتى الذي أرسله! ولكن الله تعالى كما افتتح حياة عبده الصالح “المسيح” بآية من آيات قدرته، فقد ختمها أيضا بآية من هذه الآيات، قال تعالى عن اليهود: {<strong>} (سورة النساء: 157 – 158).

القدس تحت حكم هيرود أغريبا</h1> وجدد الرومان ثقتهم في الأسرة الأدومية، ووجدوا في هيرود أغريبا – حفيد هيرود الكبير – مَن يصلح لولاية فلسطين. وكان هذا الرجل ممن تربوا في روما، وشربوا عادات الإمبراطورية، ونشأوا على الولاء لها.
أما هيرود أغريبا الأول، فقد ولته روما سنة 37م على بعض الأنحاء، ثم وسَّعت سلطته حتى نصّبته ملكا على فلسطين سنة 41م، ومع أنه – حسب الرواية التي لا ندري أنها صحيحة بغير شك – قد مات سريعا سنة 44م، حيث أكله الدود لادعائه الألوهية – مع ذلك فالمؤرخ اليهودي الشهير يوسفوس ينسب إليه أنه أقام سورا جديدا بالجهة الشمالية للقدس، وأدمج الطرف الجنوبي للتل الغربي في المدينة، فاتسعت كثيرا عما كانت عليه في عهد جده هيرود، حتى صارت مساحتها 310 أكرات (الأكر “Acreمقياس للمساحة أقل من الفدان، ويساوي 4000م2 تقريبا).
وإلى فترة حكم أغريبا الثاني يُنسَب إتمام بناء ما يسمى بالهيكل (سنة 64م)، الذي كان هيرود الكبير – جد أبيه – قد بدأ في إقامته سنة 20م.

</span>التدمير الروماني للقدس</h1> وفي الوقت نفسه كان الرومان يولون على فلسطين وجوها قبيحة سفاكة للدماء، فكان ذلك مدعاة لإثارة الكثير من القلاقل، خاصة في القدس.
هذا النفي مرحلة مؤقتة لابد أن تنتهي بالعودة اليهودية!!
وعند العودة إلى التدمير الروماني للقدس، سنجد أن الرومان قد ولوا على فلسطين وجوها قبيحة تسلطت على رقاب العباد، واهتمت بجمع المال والثروة، يقول المؤرخون عن أحدهم: “كان ألبينوس يقبل الرشوة من كل ناحية، ولا يترك في السجن سفاحا يستطيع أن يدفع له ثمن حريته، ويسمح للمتنافسين من رؤساء الكهنة أن يخوضوا معاركهم في الشوارع، ويجرب بنفسه التلصص وقطع الطريق. ولكن حتى ألبينوس هذا كان ملكا عادلا إذا قيس بخلفه جيسيوس فلورس (64 – 66م)، ذلك الذي بدأ بسلب الأفراد وقتلهم، ثم انتهى بتدمير المدن برمتها، ولم يكن على قطّاع الطرق جرم طالما ظفر فلورس بنصيبه من الغنيمة”!!
ولم يكتفوا بالبعد عن الحق، بل حاربوا أهله، وشنوا حربا على أتباعه أوقدوا نيرانها أكثر مما فعل الرومان، وكان اضطهاد المسيح ( عليه السلام ) وأتباعه من أبرز الأمثلة على ذلك.
اهتزت هيبة الرومان بهذه المذبحة وغيرها في أنحاء فلسطين، فوجهوا سنة 67م جيشا للانتقام عدته 60 ألف مقاتل، ويقوده فسباسيان – الذي سيصير إمبراطورًا على روما بعد عامين من بدء الحملة – واشتدت وطأة الجيش الزاحف، لكنه وجد صعوبات في طريقه، حتى وصل إلى أسوار القدس، وفي هذه الأثناء (سنة 69م) وقعت أحداث على مستوى الدولة الرومانية الكبيرة، تدخلت أثناءها فرق الجنود الرومان في سوريا، ووضعوا قائد الحملة فسباسيان إمبراطورا على الدولة الكبيرة.
انتهت هذه الأحداث – كما تذكر رواية يوسفوس المؤرخ اليهودي الذي شارك إلى جانب الرومان في معارك شمال فلسطين – انتهت بالاستيلاء على القدس في أغسطس سنة 70م، ولكن ميل المجموعات اليهودية إلى صنع القلاقل والثورات كان كامنا في نفوسهم، خاصة بعد أن نوى الإمبراطور الروماني إيليوس هادريانوس سنة 132م إقامة مدينة جديدة في القدس، تأخذ طابع الوثنية التي يعتنقها، وحال بين اليهود وبين تأدية طقوسهم التعبدية في القدس، فخرج رجل يهودي اسمه “بركحفا”، وادعى أنه المسيح الذي ينتظره اليهود، وتزعم الثورة ضد الرومان، واستطاع بالفعل طرد الرومان، وبقي مستقلا ثلاث سنوات، حيث جرد له هادريانوس حملة قوية استطاعت عام 135م أن تدمر مئات القرى، وتسقط عشرات القلاع، وتسحق بركحفا ومن معه، وتدمر المدينة المباركة (القدس) وبيت عبادة بني إسرائيل، حيث صارت المدينة خاوية على عروشها.
.
(د. عبد الحميد زايد: القدس الخالدة صـ 145 وما بعدها، وهامرتن وآخرون: تاريخ العالم؛ الفصل 69 صـ 655)
</span>هادريانوس يبني إيلياء (القدس)</h1> اختار إيليوس هادريانوس للإشراف على بناء مدينته الجديدة أحد رجاله المخلصين له، المسمى “روفوس تيمايوس”، واختار للمدينة اسم “إيليا كابيتولينا”؛ أي “مدينة إيليوس”؛ تخليدا لاسمه، وكان من عادة أباطرة روما أن يسموا المدن التي يشيدونها بأسمائهم، كما سيفعل قسطنطين الكبير عند بنائه القسطنطينية في القرن الرابع للميلاد.
يقول أحد الباحثين عن هادريانوس: إنه “بنى معبد جوبيتر على أنقاض المعبد القديم، وأقام تمثالا لنفسه أمام المعبد، كما أقام أيضا معبدا لفينوس.. وبُنيت أسوار إيليا لتضم المدينة القديمة الحالية، واستثنى منها مدينة داود، في القسم الجنوبي للحافة الشرقية، وكذلك جبل صهيون الحالي على التل الجنوبي الغربي”.
وقد بقي اسم إيلياء علما على المدينة المباركة طوال الفترة الرومانية والبيزنطية، واستخدمه العرب والمسلمون، وورد في بعض أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه سرعان ما اختفى في أعقاب الفتح الإسلامي، وحلت محله الأسماء العربية الإسلامية المشرقة، مثل: القدس، وبيت المقدس..
هذا التحول من الوثنية إلى المسيحية جاء حسب تأويل شاول (بولس) للرسالة السماوية، لا كما جاء بها عيسى ( عليه السلام ) لكنه كان تحولا من كبار التحولات في تاريخ أوروبا والشرق، وكان له تأثير مهم في تاريخ القدس..
وما دام المسيح قد وُضع هذا الموضع، فلابد أن تكون للأماكن التي يعتقد المسيحيون أنه عاش فيها قداسة خاصة، فعدوا إيلياء كلها مدينة مقدسة “مدينة الرب”، وجعلوها موضعا يحجون إليه من أرجاء الدنيا، وإن بقيت بعض المدن – حسب قرارات مجمع نيقية سنة 336م – في منزلة أهم منها وأكثر قداسة، وهي: روما وأنطاكية والإسكندرية، حيث قامت في كل واحدة منها بطريركية كبيرة، في حين بقيت القدس مجرد أَسقُفِّيّة، حتى جاء مجمع خلقدونيا المسكوني سنة 451م، فرفع إيلياء “القدس” والقسطنطينية إلى درجة البطريركية.
وأشهر الشخصيات التي شاركت في إقامة الصروح المسيحية في القدس هي “هيلانة” – والدة قسطنطين الكبير – التي عُدَّت قديسة لهذا السبب، فيذكر المؤرخون أن مكاريوس – مطران إيلياء – قابل الإمبراطورة هيلانة، وحدثها عن الحالة السيئة للمدينة، ولابد أنه ذكّرها بأنها “مدينة المسيح”، فقامت الإمبراطورة بزيارة تاريخية إلى القدس سنة 326م، واطلعت على حالها من قريب، وعاينت مع المطران مكاريوس ما ظنا أنها أماكن ارتادها المسيح، أو كانت له فيها بعض المواقف، وبنت كنيسةَ القيامة في الموضع الذي ظنا أنه المكان الذي دُفن فيه المصلوب، واعتقدا أنه قام منه بعد الدفن. وقد شكك دارسو العهدين القديم والجديد في دقة هذا الاختيار، فقالوا: “توجد في أورشليم أماكن كثيرة يربطها التقليد بحوادث في حياة يسوع المسيح، ولكن لا يمكن التثبت إلا من القليل منها على وجه التحقيق.. ويقول التقليد إن كنيسة القيامة مقامة فوق مكان الصلب ومكان قبر يسوع المسيح، ولكن يظن بعض العلماء أن موضع هذين المكانين غير معروف، ويقول بعض العلماء: إن موضعهما يقع إلى الشمال من الأسوار الحالية”.
القدس في حيازة الفرس الساسانيين


وقد استطاع الفرس في مراحل الصراع المتتابعة الاستيلاء على مدن مهمة، كدمشق (سنة 610م)، ولكن وعورة الطرق الشامية، والوقتَ الطويل الذي كانت تقضيه الجيوش في حصار المدن – أخّرا السيطرة الفارسية على القدس إلى سنة 615م، حيث وقعت بأرض فلسطين تلك المعركة التي أشار إليها القرآن الكريم في صدر سورة الروم، وذكر أن الروم بعد هزيمتهم ستَرْجَح كِفَّتهم على الفرس في لقاء حربي آخر لن يتأخر موعده عن بضع سنين (أي 9 أو 10 سنوات على الأكثر).. يقول تعالى: {الم. غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيَغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد..} (سورة الروم: 1 – 4).
ولكن لم تمر سوى بضعة شهور حتى كان نصارى بيت المقدس يثورون ضد الفرس، ويقتلون قادتهم، ويسيطرون على القدس من جديد.. وهنا جاء قائد فارسي آخر (هو شاه ورز) ليستعيد المدينة من الروم، فضرب عليها الحصار، ووجد من اليهود عونا جديدا وكبيرا على هدم الأسوار، حتى نجح بعد تسعة عشر يوما من الحصار في دخول القدس، ووقعت مقتلة عظيمة في صفوف الروم (مايو سنة 615م)، هلك فيها كثير من الرهبان والراهبات..
وكانت المفاجأة أن الوفاق لم يدم بين الفرس واليهود، فأُبعد اليهود عن القدس، ورضي الفرس أن يعيد النصارى إعمار كنائسهم ففعلوا، وسُجِّل ذلك في خطاب تاريخي من رئيس الجماعة المسيحية في فلسطين “مودستوس” إلى “كومتاس” – نظيره في أرمينيا – فقال: “لقد جعل الله أعداءنا أصدقاء، وأنزل الرحمة والرضوان في قلوب غزاتنا، على حين أن اليهود الذين اجترءوا على معاداة هذه الأماكن الشريفة وإحراقها قد شردهم الله من البلد المقدس، وقُدِّر عليهم ألا ينزلوا به ولا يروه، وقد أُرجعت فيه بيوت العبادة إلى سابق عزها ومجدها.. لقد عادت كل كنائس بيت المقدس إلى سابق سيرتها؛ تصلي فيها القسس، ويسود السلام على مدينة الله وما حولها”.
<h1 style="direction:rtl;line-height:150%;unicode-bidi:embed;text-align:right;margin:12pt 0;"><a name="_البيزنطيون_يستعيدون_القدس"><span class="MsoHyperlink">لم تتوقف حوافر الخيول الفارسية عن السياحة فوق أرض الروم وغزوها عند حدود الشام، بل امتدت إلى مصر، ووصلت إلى آسيا الصغرى وساحل البوسفور المواجه للقسطنطينية نفسها. ومع أن الفرس أتاحوا للنصارى فرصة ممارسة شعائرهم وإعمار كنائسهم في القدس، إلا أن كسرى عمد إلى إذلال رءوس الروم، حتى القيصر هرقل نفسه، وأرسل إلى هرقل مع أحد رسله يقول: “قل لمولاك إن دولة الروم من أرضي، وما هو إلا عاص ثائر وعبد آبق، ولن أمنحه سلاما حتى يترك عبادة الصليب ويعبد الشمس”!!
وقد كان المسلمون ومشركو مكة على السواء يرقبون الموقف، ويتابعون أخبار الأحداث وتطوراتها في حرب طاحنة متوقعة، فقد ذكر القرآن أن الروم سيعودون بعد هزيمتهم الأولى ليذوقوا طعم النصر، وتراهن بعض المسلمين وبعض المشركين على من سينتصر، ومال كل فريق إلى تشجيع طرف من الطرفين؛ فأما المشركون فمالوا إلى الفرس لمشابهتهم لهم في وثنيتهم، وأما المسلمون فمالوا إلى الروم أهل الكتاب مثلهم.
وقد غمرت السعادة والفرحة هرقل والروم، خاصة لاستعادتهم ما يسمى “الصليب المقدس”، وسار هرقل على قدميه حاجا من حمص إلى بيت المقدس، حيث قرر أن يكون احتفاله بالنصر الكبير على الفرس، وليعيد الصليب المذكور إلى كنيسة القيامة. وقيل إن كتاب النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل يدعوه وقومَه إلى الإسلام – قد وصل إلى يد هرقل أثناء هذه الرحلة.

<font size="5">

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 7 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في صدر الإسلام
د. نبيل الفولي



القدس عند المؤرخين في صدر الإسلام
الكثير من المصادر الإسلامية تناولت القدس: تاريخَها ومنزلتها وفضائلها، سواءٌ أكان ذلك على صورة مؤلفات خاصة بالمدينة المقدسة، أم ضمن مؤلفات عامة.
والنوع الأول مثل: “فضائل بيت المقدس” لأبي العباس الوليد بن حماد الرملي (ت 300هـ تقريبا)، وبنفس العنوان لهبة الله بن صصري (ت 586هـ)، ولأبي الفرج بن الجوزي (ت 597هـ)، ولبهاء الدين بن عساكر (ت 600هـ).. وقال صاحب “كشف الظنون”: “تواريخ القدس منها: إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، والأنس في فضائل القدس، والأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، والجامع المستقصَى في فضائل المسجد الأقصى، وباعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس – وهو ملخص الجامع والروض المغرس في فضائل بيت المقدس – وفتوح بيت المقدس، وقدح القسي في الفتح القدسي، ومثير الغرام إلى زيارة القدس والشام..”.
وأما أمثلة المؤلفات الإسلامية العامة التي تعرضت للقدس، فمنها: “تاريخ الأمم والملوك” لمحمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)، و”فتوح الشام” للواقدي (ت 207هـ)، و”كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية” لأبي شامة (ت 665هـ).. إلخ.
والملاحظ أن هذه الكتب حين تتناول تاريخ القدس قبل الإسلام، تكتفي بسرد الروايات اليهودية حول صلة الأنبياء وعلاقة بني إسرائيل بهذه المدينة. وهذه المرويات اليهودية بها كثير من النقص والتحريف، وبالتالي لا يبدو التاريخ من خلالها دقيقا.
والمؤرخون المسلمون فعلوا هذا لأسباب منها:
أولا لم يجدوا أمامهم مصادر تؤرّخ للقدس قبل الإسلام سوى ما جاء في مرويات بني إسرائيل.
ثانيا لم يكن هنالك صراع على القدس وهويتها بين اليهود والمسلمين، حتى يمحص المسلمون المرويات، وينفوا الخطأ الكبير الذي شاع، وهو أن تاريخ القدس هو نفسه تاريخ اليهود!!
ثالثا كان من عادة مؤرخي المسلمين المتقدمين أن يثبتوا المرويات كما هي، ومعها سندها، ولكن جاء بعدهم مَن لم يكتفِ بنزع الأسانيد، فروى هذه الحوادث بلا نقد، وكأنها جميعا تاريخ حقيقي لا يرقى إليه شك.
ونتيجة لما سبق انتشرت مجموعة من المرويات غير الصحيحة حول القدس وفضائلها، وكأن ما ثبت وتأكد بالقرآن والسنة من فضل هذه المدينة المباركة غير كاف!! وأغلب هذه الروايات المختلَقة تخص أماكن معينة من القدس بأنها هي التي شهدت الحادث الفلاني، دون أن تكون هناك رواية صحيحة تثبت هذا، ومن هذه الأماكن: وادي النمل (الذي شهد ما قصه القرآن من حكاية النملة مع جيش نبي الله سليمان)، ومحراب داود.. إلخ.
ويبدو أن الحرص على هذا الربط يرجع إلى عادة بيزنطةَ المسيحية في تقديس الأماكن التي يظنون – مجرد ظن لا تحقيق له – أنها ترتبط بأحداث في حياة المسيح عيسى (عليه السلام) حيث يبنون الأديرة والكنائس، فانتقل التأثير بصورة لا شعورية إلى غيرهم.
وقد أثبت المؤرخ الحافظ ابن كثير جذرًا مهمًّا لكثير من الاعتقادات الشائعة عند عامة المسلمين حول القدس، مثل أن هذا المكان هو واد في جهنم، وهذا موضع الصراط، وأن هذا هو كذا وكذا مما يتصل بأمور الآخرة، وليس لذلك أصل.. يقول ابن كثير – وهو يتحدث عن عظمة البناء الذي أقامه الأمويون فوق صخرة بيت المقدس: ” وافتتن الناس بذلك افتتانًا عظيمًا، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئا كثيرا مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة وقدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا”. ولا زالت هذه الأفكار ثابتة راسخة عند كثير من الناس إلى اليوم!!
معرفة عرب الجزيرة بالقدس قبل الإسلام
لم تكن أمِّية العرب في الجزيرة لتحول دون معرفتهم بالعالم من حولهم، فكانوا يعرفون الهند والصين ومصر والحبشة، ولكن معرفتهم بالشام والعراق كانت أوسع وأعمق، خاصة أن هاتين الجهتين استقبلتا الكثير من الهجرات العربية المتتابعة طوال التاريخ، وقامت فيهما وعلى أطرافهما ممالك عربية (المناذرة في الحِيرة والغساسنة في أطراف الشام) توالي الفرس والروم.
وكان عرب غرب الجزيرة أعرفَ بالشام ومدنها من العراق وحواضرها، ولم يكن قرب المسافة وحده هو الذي أنتج هذه العلاقة، بل كان نشاط التجارة بين غرب الجزيرة والشام أدعى لترددهم عليها، وطوافهم بأنحائها، فكانت قريش – مثلا – تعد قوافلها الصيفية لتتجه إلى الشام سنويا، فعرف الكثيرُ من القرشيين – وغيرهم من العرب – أحوال حواضر الشام ومدنها، خاصة الواقعة في الجنوب، ومنها إيلياء: بيت المقدس، وغزة التي “كانت وجه متجرهم”؛ أي مقصدهم في تبادل السلع والمتاجرة بأموالهم.
وقد حُفظت لنا بعض الروايات الصحيحة لدخول العرب بيت المقدس قبل أن يعم الإسلام الجزيرة العربية، ففي صحيح البخاري أن أبا سفيان بن حرب أخبر: “أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، في المدة التي كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش (أي في صلح الحديبية عام 6هـ)، فأتوه وهم بإيلياء..”، وفي رواية لابن إسحاق قال أبو سفيان: “فقال هرقل لصاحب شرطته: قلِّب الشام ظهرا لبطن، حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه. فوالله إني وأصحابي بغزة، إذ هجم علينا فساقنا جميعا..”.
وكان هرقل يريد أن يسألهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم) وحاله فيهم، بعد أن تلقى منه رسالة تدعوه وقومَه إلى الإيمان بالله وحده والدخول في الإسلام.
ولا شك أن الاهتمام الخاص الذي كان يوليه الروم للقدس كان من أسباب شهرتها ومعرفة العرب بها، خاصة أن النصارى كانوا يأتون من بلاد عديدة ليحجوا إلى كنائس القدس، مما يشبه – في بعض الوجوه – حجَّ العرب إلى البيت الحرام في مكة.
وربما سمع العرب من اليهود (الذين سكنوا في اليمن والمدينة وخيبر وفدك وتيماء) أشياء عن القدس، أعطتهم انطباعا خاصا عن قَدْر هذه المدينة، وما سبق للأنبياء من عيش في رحابها، وادعاء اليهود أنها مدينتهم التي وُعدوا بها.
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم) بالتأكيد يعرف إيلياء (القدس) قبل بعثته كما يعرفها قومه، خاصة أنه شاركهم في الأسفار التجارية الصيفية إلى الشام.
وقد حاولت قريش أن تستخدم خبرتها ومعرفتها بالقدس لتثبت كذب النبي ( صلى الله عليه وسلم) حين أخبرها بإسراء الله به إلى المسجد الأقصى، لكن الله تعالى أيده.. قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم): “لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِس،ِ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا اللَّهُ لِي بَيْتَالْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْه” (رواه البخاري وأحمد).
وفي رواية لأحمد أنهم قالوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم): فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ. قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. قَالَ وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ!!
ويروى أيضا أنهم قالوا: يا محمد، صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه؟ وكيف هيأته؟ وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من سافر إليه، فذهب ينعت لهم..”.
وفي معرفة العرب بالقدس قبل الإسلام يقول أحد أهل العلم: “وحكم تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى: أن قريشا تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفونه، مع علمهم أنه ( صلى الله عليه وسلم) لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة عليهم”.

النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) في القدس
أكّد الإسلام على التواصل بين الأنبياء والرسل، وأنهم جميعًا متفقون في الأصول والأسس، وكل نبي يأتي ليكون جزءًا من بناء واحد يجمعه هو وإخوانَه من النبيين، وهو بناء دلّ أصحابُه الخلقَ على الله، وعاشوا حياتَهم فوق الأرض عِيشة شريفة طيبة، بلا استعلاء ولا استكبار، ولا مخاصمة للخلق من أجل الدنيا.
قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء: 25).
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم): ” مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطيفون بها ويقولون: هلاّ وُضِعَت هذه اللبنة” (رواه البخاري ومسلم).
ويتبع هذه الصلةَ رباطٌ آخر يصل بين البيوت التي أقامها الأنبياء لعبادة الله تعالى، فأولها بيت إبراهيم (المسجد الحرام)، وبعده المسجد الأقصى، ثم المسجد النبوي بالمدينة المنورة.
وقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتؤكد هذه المعاني، وتعبر – فيما تعبر عنه – عن هذه الصلات بين الأنبياء من أولهم إلى خاتمهم، وكذلك بين مسجد مكة ومسجد القدس.
هذه الرحلة – التي تأكدت بالقرآن الكريم والسنة المتواترة – جرت قبل الهجرة إلى المدينة، لكن لم يُحدَّد بالضبط تاريخها، فمن قائل إنه بعد البعثة بنحو من عشر سنين، ومن قائل إنه قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، أو بستة عشر شهرا.
قال ابن كثير: “على قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول”.
وقد ذكر حديثٌ في فضائل شهر رجب أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب، ولكن ابن كثير قال عنه: “لا يصح سنده”.
وفائدة هذا أن نعرف: من كان يسيطر على القدس حين دخلها النبي ( صلى الله عليه وسلم) ليلا في صحبة الملائكة، فلم يملك أحد أن يصدَّه عنها، وصلى بالأنبياء في أرض المسجد الأقصى؟
لقد سيطر الفرس على القدس من سنة 615م (= 6 من البعثة) إلى سنة 628م (= 6هـ)، وهذا يعني أن رحلة الإسراء المباركة تمت والقدس تحت سيطرة الفرس الساسانيين، وكأنه استهزاء بالوثنية وأتباعها.
في هذه الرحلة سافرالنبي ( صلى الله عليه وسلم) ليلا من بيت الله الحرام، بوسيلة سفر غير معتادة تسمى “البراق”، حتى وصل إلى المسجد الأقصى، وهناك ربط البراقَ في الحَلْقة التي يربط فيها الأنبياء، وعرض عليه المَلَكُ جبريل خمرا ولبنا، فشرب اللبن، وترك الخمر، فقال له جبريل: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُك”. وأمَّ رسول الله الأنبياء، وكلهم أعلى مقاما من الشهداء، فهم عند ربهم أحياء، كما أن الأرض لا تأكل أجسادهم، فصلى بهم بأرواحهم وأجسادهم، وهم يشهدون له بصدق رسالته ونبوته.
وبعد أن انتهى من جزء الرحلة الأول “الإسراء”، كانت القدس محطةً لانطلاقه ( صلى الله عليه وسلم) في المرحلة الثانية “المعراج”، حيث الصعود في رحلة تكريمية وتكليفية له ولأمته إلى السموات العلى وسدرة المنتهى.
ورحلة الإسراء والمعراج هذه أعطت القدس لدى المسلمين أهمية عظيمة؛ لأن الله تعالى اختارها مقصدا للإسراء وبداية انطلاق للمعراج، فتأكد من ذلك خصوصيتها بالفضل ورفيع المنزلة من دون بقاع كثيرة من الأرض.
(ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 108 – 109)

هل كان المسجد الأقصى قائمًا كبناءٍ عند الإسراء؟
لهذا السؤال أهميته؛ لأن المعروف اليوم هو أن بيت العبادة الذي ورثه بنو إسرائيل عن نبي الله سليمان ( عليه السلام ) قد حطمه الرومان تماما (للمرة الثالثة والأخيرة) سنة 135م، وفي المقابل نجد بعض الأحاديث الصحيحة تروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وصف لقريش “المسجد” الذي أُسري به إليه، وأوضحُ من ذلك قول القرآن الكريم: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (سورة الإسراء: 1).
ولتوضيح هذه المسألة نذكر ما يلي:
أولا لا يُشترط في كلمة المسجد أن تدل على بناء له سور يحيط به، فالمسجد الحرام كان لأول عهده بغير سور، والمسجد الأقصى لا يراد به بناء معين في هذه الأرض المباركة، وإنما يُقصَد به الحرم القدسي كله، ويضم الآن مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى – الذي بناه عمر بن الخطاب أول مرة بعد الفتح – كما يضم أبنية أخرى. ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الإسراء إلى المسجد الأقصى لا يعني بالضرورة أن يكون انتقالا إلى بناء يسمى بهذا الاسم.
ثانيا الروايات الصحيحة لحديث الإسراء أكثرها يشير إلى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) وصف لقريش “بيت المقدس”، وهو على الراجح البلد وليس المسجد؛ لأن قريشا لن تصل خبرتها بالقدس ومعالمها إلى حد أن تعرف الوصف التفصيلي للمسجد الأقصى كبناء، إلا إذا كان هذا المسجد فخما ضخما يجذب الناس إليه، وفي هذا العهد لم يكن في الأقصى بناء كهذا البناء. وقد يكون وصف لهم المسجد بالفعل، ولكن كمكان له مداخل ومخارج، وليس كبناء له صفات معينة..

عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِي اللَّه عَنْه – قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: “لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْه” (رواه البخاري وأحمد).

وفي رواية ابن عباس عند أحمد: “قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ، وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم): فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ. قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ – أَوْ عُقَيْلٍ – فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. قَال: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَاب”. واستعمال لفظ المسجد هنا على لسان قريش غريب، ليس لأنهم لم يكونوا يستعملونه، ولكن لأن استعمالهم له يعني هنا أنهم كانوا يربطون بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى كأماكن متحدة في هدفها وغايتها، وهذا بعيد جدا.

بيت المقدس.. القبلة الأولى لأهل الإسلام
الصلاة من الفرائض الأساسية في شرائع الأنبياء، وأخذت في الرسالة الخاتمة موقعا بارزا. واستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، فلا تصح الصلاة – فريضة كانت أو نافلة – بغير استقبال القبلة لمن قدر على ذلك.
وإذا كانت الصلاة في الإسلام بتلك المكانة، واستقبال القبلة بهذه المنزلة منها، فلابد أن تكون القبلة المختارة لصلاة المسلم مكانا ذا خصوصية وتميز عن سواه من الأماكن.. وقد كان بيت المقدس هو القبلة الأولى لأهل الإسلام، فظل المسلمون يستقبلونه في صلاتهم بوجوههم وصدورهم حتى بعد الهجرة بستة عشر – أو سبعة عشر – شهرا، وقيل إنه كان قبلة الأنبياء جميعا.
وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم) يحب أن تكون الكعبة هي قبلته، فكان أثناء صلاته في مكة يتجه إلى بيت المقدس، ويجعل الكعبة معترضة أمامه.. وفي المدينة زاد رجاؤه أن تصبح القبلة إلى المسجد الحرام، حتى استجاب الله تعالى له، وصارت الكعبة هي القبلة الثابتة للمسلمين إلى يوم الدين منذ منتصف شهر شعبان من العام الثاني للهجرة.
ولأهمية هذا الحادث سجله القرآن الكريم، يقول الله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (سورة البقرة: 144).

وعن البراء بن عازب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته البيت، وأنه صلى أول صلاة إلى الكعبة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم) قِبَلَ (أي ناحية) مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت” (رواه البخاري).

ومن المفهوم للعقلاء أن تحويل القبلة عن المسجد الأقصى لا يعني التقليل من شأنه، أو الرغبة عنه، بل هو عود بهذا المسجد إلى الموضع الذي يمثل ينابيع النبوة الحنيفية (المسجد الحرام) الرامزة إلى التوحيد، والجامعة بين أنبياء بني إسرائيل وبين خاتم الأنبياء.

تبشير النبي بفتح القدس
سبقت فتحَ بيت المقدس مقدماتٌ وبشائر من النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم) أنعشت آمال الفاتحين، وزادت المجاهدين ثباتا ورسوخَ قدم، فكانوا يطئون بحوافر خيولهم أرضا يعرفونها جيدا، ومن لم ير هذه الأرض منهم من قبل بعينيه، فقد عرف وصفها من خلال إسراء النبي ومعراجه، ومن نافذة البُشرى المحمدية بالفتح..
ففي أثناء غزوة تبوك (العام التاسع للهجرة) بشر النبي( صلى الله عليه وسلم) أصحابه باجتماع المساجد الثلاثة تحت راية أهل التوحيد، فعن عَوْف بْن مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ – حتى أحصى ستة أشياء (رواه البخاري).
وكانت غزوة تبوك هذه من مقدمات فتح القدس؛ إذ لفتت أنظار المسلمين إلى الشام كله، وسبقتها غزوة مؤتة في العام الثامن للهجرة، كأول صدام حربي بين المسلمين والروم، ثم جاءت جيوش المسلمين أيام أبي بكر وعمر حتى فتحت القدس والشام كله.
القدس والصحب الأُول
هناك أحكام عديدة طبقها المسلمون على البلاد التي فتحوها، وقد توقف أغلب هذه الأحكام على وقوع الفتح صلحًا أو حدوثه قهرًا، وحرص الفقهاء والمؤرخون المسلمون على بيان الصفة التي فتحت بها مختلف الأمصار والبلدان، ومن ذلك فتح بصرى بالشام وصفد وطبرية بفلسطين صلحا، وفتح رامهرمز بفارس والموصل والإسكندرية بالعراق ومصر عنوة وقهرا. وبيت المقدس يحسب ضمن البلدان التي فتحت على المسلمين صلحا، وذلك في سنة ست عشرة للهجرة.
حين نجح المسلمون في تصفية الوجود الرومي في جميع نواحي فلسطين، ما عدا القدس والرملة، صار الروم محصورين في هاتين البقعتين، وتهاوت آمالهم في الحصول على أمداد أو معونات من إخوانهم خارج فلسطين، فانسحب أرطبون والرومان متجهين إلى مصر، وطلب أهالي القدس والرملة الصلح مع المسلمين، وراسلوا عمرو بن العاص لذلك، على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بنفسه لتسلم مفاتيح المدينة المقدسة.
تذكر الروايات أن أهل القدس حين راسلوا عمرو بن العاص على التسليم، ذكروا له أن صفة الرجل الذي يفتح بيت المقدس كما تقول كتبهم تنطبق على صفة عمر لا صفة عمرو. ويبدو أنهم أرادوا تكريم المدينة المباركة بهذا، وإعطاءها خصوصية في الفتح ليست لغيرها.

وبالفعل قدم صاحب رسول الله العظيم عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس، ودخلها في كوكبة من الصحابة ورجال الفتح، ليتسلم المدينة من بطريقها صفرونيوس، ونزل على جبل المدينة الشرقي (جبل زيتا) ..

وكانت لحظة رائعة هذه، إذ ورث أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم) أرض الأنبياء، ووصلوا حاضر الموحدين بماضيهم، فعلوا ذلك لا بكبر وجبروت، ولا بظلم وتعال، وإنما بإيمان كالرواسي الرواسخ وخلق يسمو على الصغائر والتوافه، وعدل يترفع عن مجاملة شريف أو الجور على فقير.
وكتب أمير المؤمنين الفاروق بمنطقة الجابية في الشام كتاب الصلح بين السملمين وبين المقدسيين.
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب :
هو ثاني الخلفاء الراشدين وأول من تلقب بأمير المؤمنين، ولقبه النبي الكريم بالفاروق، وتمت له البيعة بالخلافة يوم وفاة أبي بكر الصديق سنة 13 هـ / 634م، وهو أول من وضع للعرب التاريخ الهجري وكانوا يؤرخون بالوقائع، وهو أول من دون الدواوين في الإسلام واتخذ بيت مال للمسلمين.
شهدت خلافة عمر بن الخطاب أشد المراحل حسما في تقرير مصير فلسطين، فقد أخذت حشود البيزنطيين تتجمع في منطقة اليرموك للقضاء على المسلمين، فعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد وولي قيادة الجيوش لأبي عبيدة بن الجراح.
ولما التقى الجمعان في معركة اليرموك في ذات العام 13هـ / 634م وتم النصر المبين للمسلمين وهزم جيش الروم شر هزيمة، أرسل أبو عبيدة بالبشارة إلى عمر بن الخطاب، فرد عليه عمر أن يوجه شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص إلى الأردن وفلسطين.
في سنة 15 هـ / 636م وبعد معركة أجنادين نجح المسلمون بقيادة عمرو بن العاص في فتح العديد من مدن الشام وفلسطين، فتوجه القائد أبو عبيده بن الجراح نحو مدينة القدس لحصارها وفتحها، وصادف حصار المسلمين لمدينة بيت المقدس أيام الشتاء والبرد، فظن الروم أن المسلمين لا يقدرون عليهم في ذلك الوقت، إلا أن حصار أبي عبيدة للمدينة استمر أربعة أشهر كاملة، وما من يوم إلا ويقاتلهم قتالا شديدا.
ويصف الطبري الوضع في كتابه قائلا : (فلما وجد الروم أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم ولم يجدوا لهم طاقة بحربه وحصاره قالوا له نصالحك على مثل ما صالح عليه مدن الشام من أداء الجزية والخراج، على أن يكن تسليم المدينة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .. فقبل أبو عبيدة ذلك).
كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب قائلا : (بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد، فإن أقمنا على أهل إيلياء، فظنوا أن لهم في مطاولتهم فرجًا فلم يزدهم الله إلا ضيقًا ونقصًا وهزالاً وذلاً، فلما رأوا ذلك سألوا أن يقدم عليهم أمير المؤمنين فيكون هو الموثوق لهم والكاتب. فخشينا أن يقدم أمير المؤمنين فيغدر القوم ويرجعوا فيكون مسيرك ـ أصلحك الله ـ عناءً وفضلاً، فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم ليبقلن وليؤدن الجزية، وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة، ففعلوا فإن رأيت أن تقدم فافعل، فإن في سيرك أدرًا وصلاحًا، أتاك الله رشدك ويسر أمرك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

دعا عمر كبار المسلمين إليه، وقرأ عليهم كتاب ابي عبيدة، فقال عثمان بن عفان (إن الله قد أذل الروم، وأخرجهم من الشام، ونصر المسلمين عليهم، وقد حاصر أصحابنا مدينة إيلياء وضيقوا عليهم .. فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستحقر، فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطون الجزية.
وقال علي بن أبي طالب (عندي غير هذا الرأي وأنا أبديه لك، فقال عمر وما هو يا أبا الحسن ؟ فرد علي قائلا : إن القوم قد سألوك، وفي سؤالهم ذلك فتح للمسلمين، وقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام، وإني أرى إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك. فخرج عمر من المدينة قاصدا بيت المقدس بعد أن استخلف على المدينة علي بن أبي طالب.
فكان أول عمل قام به الخليفة عمر بن الخطاب لدى وصوله إلى بيت المقدس هو أن أعطى أهلها العهد التاريخي المعروف بالعهدة العمرية.
العهدة العمرية:
اختلفت الروايات التاريخية حول من أعطى الأمان من جانب المسلمين لأهل إيلياء (القدس)وحول من قام من أهل إيلياء بأخذ الأمان، ثم تختلف بعد ذلك في مضمون العهد وشروط الأمان. فقد قيل أن العهد أعطي على يد القادة المسلمين في بلاد الشام، وقيل أنه كان على يد الخليفة عمر بن الخطاب كما ذكر الطبري في كتابه عن خالد وعبادة قالا : صالح عمر أهل إيلياء بالجابية (وهي منطقة بالشام) وكتب لهم فيها الصلح، ومن ثم فتحوها له. لكن ما تجمع عليه غالبية المصادر التاريخية أن الذي أعطى الأمان وكتبه لهم هو الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه، وأشهد عليه قادة المسلمين.

أما من قام بأخذ الأمان من أهل إيلياء، فقد قيل أنه البطريرك صفرونيوس وذلك كما ذكر الواقدي في كتابه (حينما بلغ عمر سور المدينة مد البطريرك عنقه ونظر إليه وقال: هذا والله الذي صفته ونعته في كتبنا، حينئذ خرج البطريرك يتبعه الأساقفة والقسيسين والرهبان إلى حيث يقف الخليفة عمر، فخف عمر للقائهم وقد حياهم بالسلام ثم تحدثوا في شروط التسليم، وكتب لهم وثيقة الأمان. وقيل أن الذي تولى مصالحة المسلمين هم العامة من أهل إيلياء، في حين يقول اليعقوبي (والمجمع عليه النصارى).

أما بخصوص العهد فقد اختلف العديد من المؤرخين في نص الوثيقة، فاليعقوبي يقدم نصا للوثيقة جاء فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم، وكنائسكم لا تسكن ولا تخرب، إلا أن تحدثوا حدثا عاما). وأشهدوا شهودا عليها.

أما ابن البطريق فقد جاء نص العهد على النحو التالي (إني قد أمنتكم على دمائكم وأموالكم وذراريكم وصلاتكم وبيعكم ولا تكلفوا فوق طاقتكم .. ومن أراد أن يلحق لأمنه فله الأمان وأن عليكم الخراج كما على مدائن فلسطين.).
لكن ما أورده الطبري في كتابه فقد جاء بشكل مفصل، وقد أجمع عليه كثير من المؤرخين وهو على النحو التالي :
(بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من المان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم. ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطو الجزية كما يعطى أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية).
كتب وحضر سنة 15هـ،، وشهد على ذلك:
خالد بن الوليد
وعبدالرحمن بن عوف
وعمرو بن العاص
ومعاوية بن أبي سفيان
وبعد أن تم لعمر بن الخطاب فتح بيت المقدس، أول عمل قام به هو زيارة كنيسة القيامة وفي أثناء الزيارة حان وقت الصلاة، فاشار عليه البطريرك صفرونيوس أن يصلي في داخلها : قائلا مكانك صل، لكن عمر أبى وخرج من الكنيسة وصلى في مكان قريب منها لجهة الجنوب، وبعد أن أتم صلاته قال للبطريرك : (آذن لي أيها الشيخ، أنني لو أقمت الصلاة في كنيسة القيامة لوضع المسلمون عليها الأيدي من بعدي في حجة إقامة الصلاة فيها، وإني لأبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها وأنتم لها أحق وأولى)، ثم طلب من البطريرك أن يريه مكان الهيكل، فوجد المكان مهجورا إلا من بعض الآثار البالية لمبان قديمة يرجع عهدها إلى أزمنة بعيدة، ولم يكن هناك أي نواع من أنواع البناء وإنما كان المكان مغطى بالأقذار لأنهم كانوا قد اتخذوا موضعا لجمع قمامات المدينة، فأخذ عمر يعمل على رفعها من مكانها ويلقيها في الأودية ثم اقتدى به قادة المسلمين ورؤساء الجند حتى طهروا المكان، ثم خط بها محرابا من جهة الشرق وهو موضع مسجده فتقدم وصلى هو وصحبه.

مسجد عمر(15هـ / 636م):
بعد أن من الله على المسلمين بفتح بيت المقدس وبسط السيادة الفعلية على المدينة، شرع الخليفة عمر ببناء أول مسجد في المدينة عرف بالتاريخ باسم مسجد عمر.
هناك خلاف بين المؤرخين في تحديد الموقع الذي بنى عليه المسجد في ساحة الحرم القدسي. فقد ذكرت بعض الروايات أنه بني في موقع الصخرة أو قريبا منه، لكن معظم الدلائل تشير إلى أنه بني في موقع المسجد الأقصى الحالي.
فقد قال المؤرخ كلير مونت جانو (أن المسجد الذي بناه عمر كان في نفس الموضع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى في يومنا هذا.
كما قال الأستاذ كرزويل ( أن المسجد الأقصى قد بناه عبدالملك بن مروان مكان مسجد الخليفة عمر).
كما وصلت من القرن الأول للهجرة رواية شاهد عيان وصف المسجد باقتضاب وهو المطران أركولفوس الذي زار القدس في عهد خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة 51هـ / 670م وقال إن المسجد كان مبنيًا من ألواح الخشب وجذوع الأشجار وكان بناؤه بسيطا ومربع الشكل ويتسع لثلاثة آلاف من المصلين.
ولما كانت المساجد في صدر الإسلام تبنى من الخشب واللبن ومن بعض المواد الأخرى التي لا تتحمل البقاء كثيرًا لذلك لم يبق أي أثر للمسجد الذي بناه الخليفة عمر، وقد زالت معالمه تماما منذ القرن الأول للهجرة.
وهكذا بدخول الإسلام والمسلمين لمدينة القدس تغير الطابع الحضاري للمدينة بشيوع العقيدة الإسلامية واللغة العربية فيها، وحل السلام والأمن محل الفوضى والإرهاب، ويذكر الواقدي في كتابه فتوح الشام أن المدة التي اقام بها عمر بن الخطاب في بيت المقدس كانت عشرة أيام.ودخل ساحة الحرم القدسي الشريف، وكانت أرضا مهجورة لا أثر فيها لعبادة، بل حولها الروم إلى مزبلة، نكاية في اليهود الذين تعاونوا مع الفرس حين احتلوا فلسطين، فراح أمير المؤمنين ينظف المكان بثوبه، ويكنس ما فيه بيده، وأمر بإقامة مسجد بسيط هناك، جدده من أمراء المسلمين فيما بعد، وهو ما نطلق عليه الآن اسم (المسجد الأقصى) وهو جزء من الحرم القدسي الشريف.

عمرو بن العاص وجيشه والصراع على القدس
دائمًا ينسب فتح بيت المقدس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب( رضي الله عنه )، ويُنسى أشخاص آخرون كان لهم دور كبير في هذا الفتح، وحق لعمر أن ينسب الفتح إليه، فهو الأمير الذي كان يحشد الجيوش للقتال، ويختار لها القادة والجهات التي سيتوجهون إليها، ويناقشهم في خطط الحرب وتدابيرها، كما أنه قدم من مدينة رسول الله إلى بيت المقدس وتسلم مفاتيح المدينة المباركة.
لكن ذلك لا يلغي أدوار عظماء آخرين شاركوا في هذا الفتح مباشرة، وأدت جهودهم العسكرية الجبارة إلى اندحار الروم، واضطرار أهل بيت المقدس إلى التسليم للمسلمين، وعلى رأس هؤلاء العظماء: عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ الذي أمره أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ على الجيش المكلف بفتح فلسطين ..
خرج عمرو من المدينة ومعه ثلاثة آلاف جندي، فيهم كثير من المهاجرين والأنصار، وظل أبو بكر يتبعه بالقوات حتى بلغوا سبعة آلاف وخمسمائة جندي. كما أمره الخليفة على من يتطوع معه من قبائل بلى وعذره وسائر قضاعة وما جاورها. وسلك عمرو بجيشه طريق المعرفة، مارا على أيلة، ثم إلى فلسطين ـ بعد أن ودعه الخليفة وأوصاه.
وفي اليرموك (سنة 13 هـ، أو سنة 15هـ، على خلاف بين المؤرخين) كان عمرو بقواته أحد الأضلاع المهمة التي قاتلت الروم حتى النصر، وهو الذي بشر المسلمين بهذه النتيجة من أول المعركة، حيث نزل الرومان في مكان ضيق يسمى (الواقوصة) علىضفة نهر اليرموك، واتخذوا وادي النهر ـ وهو معبر صعب بين جبلين ـ خندقا يحتمون به، فقال عمرو بن العاص : (أبشروا أيها الناس، قد حصرت ـ والله ـ الروم، وقلما جاء محصور بخير).
كذلك عاون جيش عمرو إخوانهم في جيش شرحبيل بن حسنة في فتح بيسان ـ وكانت ضمن فتوح الأردن ـ لتحرير البشرية من تسلط القياصرة.
وفي معركة أجنادين (بلدة وبيت جبرين من أرض فلسطين) قاد عمرو بن العاص جموع المسلمين حتى انتصروا، بعد أن ذهب بنفسه إلى الأرطبون ـ قائد الروم ـ متنكرا في صورة رسول .. روى الطبري قائلا : (نزل عمرو وشرحبيل على أهل بيسان، فافتتحاها وصالحا أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بغزة وأجنادين وبيسان، وسار عمرو وشرحبيل إلى الأرطبون ومن معه وهو بأجنادين، واستخلف على الأردن أبا الأعور، فنزل بالأرطبون ومعه الروم، وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورا وأنكاها فعلا .. وتتابت الأمداد من عند عمر إلى عمرو.
وبعد أن يروي قصة ذهاب عمرو بنفسه متخفيا كرسول إلى الأرطبون، لمعرفة تحصيناته وسماع كلامه بنفسه، وخداعه له بذكاء وفطنة ـ يقول الطبري في روايته : (فخرج عمرو من عنده، ورأى أن لا يعود لمثلها، وعلم الرومي أنها خدعة اختدعه بها، فقال : خدعني الرجل، هذا أدهى الخلف! وبلغت خديعته عمر بن الخطاب فقال : لله در عمرو !! وعرف عمرو مأخذه فلقيه، فاقتتلوا بأدجنادين قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، وانهزم أرطبون إلى إيلياء (القدس)، ونزل عمرو أجنادين، وأفرج المسلمون الذين يحاصرون بيت المقدس لأرطبون، فدخل إيلياء ..
وهناك شعر للصحابي زياد بن حنظلة ـ رضي الله عنه ـ في ذلك حيث يقول :
ونحن تركنا أرطبون مطردا
إلى المسجد الأقصى وفيه حسور
عشية أجنادين لما تتابعوا
وقامت عليهم بالعراء نسور
عطفنا له تحت العجاج بطعنة
لها نشج نائي الشهيق غزير
فطمنا به الروم العريضة بعده
عن الشام أدنى ما هناك شطير
تولت جموع الروم تتبع إثره
تكاد من الذعر الشديد تطير
وغودر صرعى في المكر كثيرة
وعاد إليه الفل وهو حسير

مهما يكن، فإن سنة 15هـ لم تأت إلا وقد أصبحت كفة القوات الإسلامية في فلسطين راجحة، حيث انكسر الجانب الأعظم من قوات الأمير الرومي لفلسطين (الأرطبون) وأصبح الفريقان يستعدان لجولة أخرى ساخنة حول (إيلياء) القدس.

الصراع على القدس:
في معركة أجنادين حشد الروم في القدس والرملة حشودا عسكرية كبيرة، لحماية هذين الموضعين المهمين، وفتح جبهات قتالية عدة يتشتت المسلمون بينها. وأدرك المسلمون خطورة هذا عليهم، فأرسل عمرو بن العاص قوات تشغل روم إيلياء(القدس) عن المشاركة في الحرب، وقوات أخرى إلى الرملة لنفس الهدف، كما شاغل معاوية بن أبي سفيان روم قيسارية عن مساندة الأرطبون. ونجحت هذه الخطة في حماية ظهور المسلمين، ومنع الإمدادات عن الأرطبون وقواته الكبيرة أصلا، فجاء النصر المبين للمسلمين ..

وبعد أجنادين اتجهت الأنظار إلى بيت المقدس مباشرة، لكن عمرو بن العاص لم يشأ أن يتجه إليها إلا بعد أن يفتح ما حولها من المدن أولا. ولعله أراد بذلك أن يهزم الروم في جهات فلسطين الأخرى، حتى تكون هناك معركة فاصلة واحدة، بدلا من أن تكثر الجيوب التي تتجمع فيها فلول المهزومين، وتكلف المسلمين كثيرا.

كذلك كسب عمرو بهذا التمهيد لفتح القدس والرملة، أنه جعل الروم فيهما كأنهم في جزر منعزلة، لا تجد من يعينها بجند، أو يمدها بسلاح.

افتتح جيش عمرو ـ في هذا التمهيد ـ مدنا كثيرة، منها : يافا ورفح وغزة وسبسطية ونابلس ولد وتبنى وعمواس وبيت جبرين ومرج عيون..

وجاء الدور على الجولة الساخنة حول القدسن وقد انفسح المجال أمام المسلمين، وسيطروا على أكثر فلسطين، ودانت لهم سوريا، وضاقت السبل أمام الروم، وانحصروا في الرملة وبيت المقدس، كما ضاق أهل القدس (ذوو الأصول العربية القديمة مع خليط من الروم واليونانيين) ـ ضاقوا بأمر الحرب، فراسلوا المسلمين على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه لتسلم بيت المقدس.
القدس في عهد عثمان وعلي:
تولى عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ الخلافة في الأيام الأولى من سنة 24 للهجرة، وثبت معاوية بن أبي سفيان في ولايته بالام، فظلت القدس تحت إدارة معاوية طوال عهد أمير المؤمنين عثمان.
ولم يتأكد وجود أعمال محددة لعثمان في القدس، غير أن المقدسي ـ الجغرافي الشهير ـ قال عن (سلوان) : هي (محلة في ربض مدينة بيت المقدس، تحتها عين عذبة، تسقى جنانا عظيمة وقفها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ على ضعفاء البلد، تحتها بئر أيوب).
ومع أن المقدسي يورد كلامه السابق بطريقة توحي بالوجود الفعلي لهذه (الجنان) في عهده، إلا أن ياقوت الحموي يقول : (ليس من هذا الوصف اليوم شيء، لأن عين سلوان محلة في وادي جهنم في ظاهر البيت المقدس لا عمارة عندها ألبتة، إلا أن يكون مسجدا أو ما يشابهه، وليس هناك جنان ولا ربض، ولعل هذا كان قديما، والله أعلم).
ووجود مثل هذه الحدائق ليس مستبعدا، وخاصة أن المقدسي ـ كما يسجل ياقوت نفسه : (أعرف ببلده، وإن كان قد تغير بعد بعض معالمها).
وأما علي بن أبي طالب، فلم يتيسر له أن يحكم الشام في خلافته، للنزاع الشهير بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، الذي كان أميرا على الشام منذ زمن طويل، ولا ندري صحة هذا القول المنسوب إلى علي ـ رضي الله عنه ـ (نعم المسكن عند ظهر الفتن بيت المقدس، القائم فيه كالمجاهد في سبيل الله، وليأتين على الناس زمان يقول أحدهم : ليتني تبنة في لبنة من لبنات بيت المقدس. أحب الشام إلى الله تعالى بيت المقدس، وأحب جبالها إليه الصخرة، وهي آخر الأرض خرابا بأربعين عاما).
ولعل أبا عمرو الشيباني (توفي 94هـ تقريبا وهو ابن 120 سنة) لاحظ تقلب الأحوال منذ عهد أمير المؤمنين على إلى أيام عبدالملك بن مروان، وعدم اجتماع المسجد الحرام والمسجد الأقصى في يد أمير واحد، فأطلق هذه العبارة القاسية : (ليس يعد من الخلفاء إلا من ملك المسجدين : المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس الشريف).

صحابة في بيت المقدس
كان الصحابة – رضي الله عنهم – زينة الجيوش الفاتحة أيام أبي بكر وعمر وعثمان، وقد حرص القادة على احترامهم وتكريمهم، واهتموا بوجودهم ضمن قواتهم، فقد كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق أن يخرج في نصف جيشه إلى الشام، وأن يخلّف على النصف الباقي المثنى بن حارثة، وقال أبو بكر لخالد: لا تأخذن نجدا (أي شجاعا مقداما) إلا خلّفت له نجدا، فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك”. وأحضر خالد أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وأخذهم لنفسه، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الشجاعة ممن لم يكن له صحبة، ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: “والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابةأو بعض النصف، وبالله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنى تعريني منهم”!! فلما رأى خالد ذلك بعدما تلكأ عليه عوَّضه منهم حتى رضي.
وقد سعدت القدس بصلة بعض الصحابة بها، وسعدوا هم كذلك بهذه الصلة، فمنهم من كان في صفوف جيش عمرو الذي حاصرها، ومنهم من رافق أمير المؤمنين عمر حين دخلها فاتحا، ومنهم من شهد على كتاب الصلح الذي كتبه عمر بين المسلمين وبين أهل بيت المقدس، ومنهم من زارها وأهلّ بالعمرة والحج منها، ومنهم من أقام ومات ودُفن في ثراها..
لكن أشهر الصحابة صلة بالقدس، وأكثرهم تأثيرا في تاريخها هم:
عمر بن الخطاب (ت 23هـ) الذي فُتح أكثر الشام في خلافته، وتسلم مفاتيح القدس بنفسه، تبعا لرغبة أهلها الذين رأوه مثالا للعدل والإنصاف.
ثم أبو عبيدة عامر بن الجراح (ت 18هـ) القائد العام لجيوش الشام الفاتحة، وأحد المرافقين لأمير المؤمنين عند مصالحة أهل بيت المقدس، وفي رواية الواقدي أن أبا عبيدة هو الذي حاصر الروم في القدس وراسلوه في الصلح.
ثم عمرو بن العاص (ت 43هـ) فاتح فلسطين وبطل أجنادين، حاصر الروم في بيت المقدس حتى استسلموا، وشهد الفتح مع عمر، وكان أحد الشهود على كتاب الصلح.
ومن الصحابة الذين كانت لهم صلة ببيت المقدس كذلك:
خالد بن الوليد (ت 21هـ) مكّنت أعماله الحربية للمسلمين في فلسطين وسوريا والأردن، وحضر فتح بيت المقدس مع عمر، وشهد على كتاب الصلح.
ثم معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) شارك في بعض فتوح فلسطين كقائد صغير (فتح قيسارية وعسقلان)، ودخل القدس في دخلة عمر إليها، وشهد على كتاب الصلح الذي أمضاه أمير المؤمنين للمقدسيين – وستأتي أشياء أخرى عنه.
وعبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ) كان موضع ثقة عمر، وصحبه في فتح بيت المقدس، وشهد على كتاب الصلح مع أهلها.
وهناك من الصحابة من أهلّ بالحج والعمرة من بيت المقدس، مثل: سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ)، وعبد الله بن عباس (ت 68هـ)، وعبد الله بن عمر (ت 73هـ)، الذي يُروَى عنه أيضا أنه قال: “لولا أن معاوية بالشام لسرني أن آتي بيت المقدس فأُهلّ منه بعمرة، ولكن أكره أن آتي الشام فلا آتيه فيجد علي، أو آتيه فيراني تعرضت لما في يديه”.
ومنهم من أقام بها حتى مات ودُفن في ترابها، والمشهور هنا صحابيان هما:
1 – عبادة بن الصامت (ت 34هـ): أول من ولي قضاء فلسطين من الصحابة، عاش في بيت المقدس، والمشهور أنه مات بها ودفن في ثراها، وكان له قبر معروف هناك، إلا أنه صار مجهولا بسبب احتلال الصليبيين للقدس حوالي تسعين عاما.
2 – شداد بن أوس الأنصاري (ت 58هـ): سكن بيت المقدس ودُفن فيها، وكان له عقب هناك، ويُروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له: “ألا إن الشام ستُفتح، وبيت المقدس سيُفتح – إن شاء الله تعالى – وتكون أنت وولدك من بعدك أئمة بها – إن شاء الله”. وسجل مجير الدين الحنبلي (ت 927هـ) أن “قبره ظاهر ببيت المقدس يُزار في مقبرة باب الرحمة تحت سور المسجد الأقصى”.
وهناك صحابة كثيرون لهم صلة ببيت المقدس، لكنّ مَن سبق ذكرهم هم الأشهر في هذا المجال.

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 8 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في السياسة الأموية
د. نبيل الفولي



– بناء المسجدين بالحرم القدسي الشريف
– بيت المقدس: زلازل وترميمات
القدس في السياسة الأموية
ولعل هذا ما دفع بعض رواة التاريخ إلى أن يزعم أن عبد الملك بن مروان أراد من بناء مسجد قبة الصخرة صرفَ الناس عن المسجد الحرام!! ومعنى هذا أن سياسة الأمويين تجاه القدس جعلتهم يستغلونها استغلالا سياسيا لتأكيد شرعية حكمهم، ولكن هذا لم يثبت بهذه الصورة، وإن ثبت بصور أخرى ستأتي.
بدأ معاوية بن أبي سفيان بأخذ البيعة من الناس على الخلافة في بيت المقدس، ولعله أراد بأخذها هناك أن يؤكد شرعية هذه البيعة، حيث يأخذها في مكان طاهر مبارك، وسار على هذه الخطوة خليفتان آخران من بني أمية وهما: الوليد بن عبد الملك وأخوه سليمان.
إن وصف مدينة القدس في زمان بني أمية يكشف عن اهتمامهم بها وبأسوارها وبناياتها، فقد “كان للقدس يومئذ سور، وكان على ذلك السور أربعة وثمانون برجًا، وله ستة أبواب، ثلاثة منها فقط يدخل الناس منها ويخرجون: واحد غربي المدينة، والثاني شرقيها، والثالث في الشمال.
“وكان فيها مسجد مربع الأضلاع، بُني من حجارة وأعمدة ضخمة نقلت من الأطلال المجاورة. وهو يتسع لثلاثة آلاف من المصلين…

بناء المسجدين بالحرم القدسي الشريف

والمؤرخون المسلمون يروون قصة البناء هكذا:
وكانوا “يبخرون القبة والمسجد من الليل، وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة والسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القمارى المغلف بالمسك، وفرشاها والمسجدَ بأنواع البسط الملونة، وكانوا إذا أطلقوا البَخور شُمَّ من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويُعرَف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة.
حتى“ولما فرغ رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه، فَضَل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال، وقيل ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما: قد وهبته لكما، فكتبا إليه: إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حليّ نسائنا! فكتب إليهما: إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب. فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث”.
“وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعا وعرضه أربعمائة وستون ذراعا”.
والمستشرقون يكررون مرارا أن البنائين البيزنطيين وتلاميذهم من سريان الشام هم الذين شيدوا قبة الصخرة، يستبعدون بذلك أن تكون للمسلمين في هذا الوقت المبكر أي قدرة على الإبداع المعماري.. ومما لا شك فيه أن المسلمين وهم يبنون قبة الصخرة تأثروا بفنون الأمم السابقة عليهم، خاصة البيزنطيين، واستفادوا من الخبرات القريبة منهم في هذا المجال، ولكنهم أبدعوا شيئا فيه جِدَّة، فلم يكونوا مقلدين تماما، وأنتجوا بناء لم يكن له في الدنيا مثيل في هذا الوقت – كما يؤكد المؤرخون المسلمون في وصفهم له.
“وكان فيه من العمد ستمائة عمود من رخام، وفيه من المحاريب سبعة، ومن السلاسل للقناديل أربعمائة سلسلة إلا خمسة عشر، منها مائتا سلسلة وثلاثون سلسلة في المسجد الأقصى، والباقي في قبة الصخرة الشريفة، وذرع السلاسل (أي طولها) أربعة آلاف ذراع، ووزنها ثلاثة وأربعون ألف رطل بالشامي.
“وفيه من القباب خمس عشر قبة سوى قبة الصخرة. وعلى سطح المسجد من شقف الرصاص سبعة آلاف شقفة وسبعمائة، ووزن الشقفة سبعون رطلا بالشامي، غير الذي على قبة الصخرة.
ًكبيرًاوقد استعمل الأمويون بعض ساكني القدس من اليهود والنصارى لخدمة المسجد (الحرم)، فكان فيهم عشرة من اليهود لكنس ما يصيب المسجد “في المواسم والشتاء والصيف ولكنس المطاهر التي حول الجامع”، كما كان فيهم عشرة من النصارى “لعمل الحصر، ولكنس حصر المسجد، وكنس القناة التي يجري فيها الماء إلى الصهاريج، وكنس الصهاريج أيضا”.






توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 9 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



[align=justify]
القدس في عهد العباسيين
محمد أبو مليح *



________
<strong>بعد نجاح العباسيين في انتزاع الحكم من الأمويين سنة 132هـ / 750م، اتخذوا مدينة بغداد عاصمة لخلافتهم، ومنذ ذلك التاريخ خضعت فلسطين لحكمهم ومن ضمنها مدينة بيت المقدس.
،،وهكذا بعد أن كانت منطقة جنوب الشام تعتبر الإقليم الأول في العهد الأموي والأكثر حظوة ورعاية لم تعد كذلك في عهد العباسيين، إذ لم تخسر مركزها وأهميتها فحسب بل صارت ولاية ثانوية ويشك العباسيون في ولائها، ولهذا لم يعطوا حكمها إلا لأمراء البيت العباسي، وغالبا ما كان يضاف حكم فلسطين ومن ضمنها بيت المقدس والأردن إلى دمشق أو إلى مصر.
</span>
1 ـ أبو جعفر المنصور : تولى الخلافة في الفترة (136هـ / 754م ـ 158هـ / 775م).

ًاهتم الخليفة أبو جعفر المنصور اهتماما خاصا بتعمير المسجد الأقصى، خاصة بعد حدوث الزلزلة الأولى التي حدثت في عهده وهدمت بعض أقسامه. حيث يقول المقدسي: (وأما المسجد الأقصى فهو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة .. وقد بنى عليه عبد الملك بحجار صغار حسان وشرفوه وكان أحسن من جامع دمشق، ولكن جاءت زلزلة في دولة بني العباس، فطرحت المغطى إلا ما حول المحراب، فلما بلغ الخليفة خبره قيل له لا يفي برده إلى ما كان عليه بيت مال المسلمين، فكتب إلى أمراء الأطراف وسائر القواد أن يبني كل واحد منهم رواقا فبنوه أوثق وأغلظ صناعة مما كان).
فقال: ما عندي شيء من المال، ثم أمر بقلع الصفائح الذهبية والفضية التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دنانير ودراهم وأنفقت عليه حتى فرغ).

2 ـ المهدي بن المنصور : تولى الخلافة في الفترة (158هـ /775م ـ 169هـ / 785م).

أما المقدسي فقد قال : (بنى المسجد هذه المرة بعناية فائقة وأنفقت عليه أموال طائلة، وكان البناء يتكون من رواق أوسط كبير يقوم على أعمدة من رخام، وتكتنفه من كل جانب سبعة أروقة موازية له وأقل منه ارتفاعا.

3 ـ المأمون بن المهدي : تولى الخلافة في الفترة (198هـ / 813م / 218هـ / 833م)

<a name="_تولى_الخلاف"> تومن عمليات الترميم التي أجريت على قبة الصخرة في عهد العباسيين، هو ما أمرت به أم الخليفة المقتدر بالله حوالي سنة 301هـ / 913م بإصلاح قبة الصخرة وأمرت بتزويد كل باب من أبوابها بمدخل خشبي فخم. وفي ربيع سنة 216هـ / آيار 831م أمر الخليفة المأمون ببناء الأبواب الشرقية والشمالية للحرم القدسي الشريف. كما أجرى البطريرك في القدس في عهده بعض الإصلاحات في القبر المقدس.
وما أن توفي الخليفة المأمون حتى أخذت حالات التمرد والثورات تشتعل ضد نظام الحكم في مناطق متعددة من الدولة العباسية المترامية الأطراف من أهمها جنوب بلاد الشام ومصر. وفي الوقت الذي كان مركز الخلافة في العراق يعاني من الفوضى العسكرية وضعف السلطة المركزية واضطراب الأوضاع الاقتصادية العامة، كانت منطقة جنوب بلاد الشام ومصر تدخل في عهد من النشاط الاقتصادي والقدرة السياسية التي تمثلت في ظهور أسر حاكمة محلية مستقلة كآل طولون ثم آل الإخشيد.
ركزت سياسة العباسيين على أن تظل الدولة الإسلامية الكبيرة دولة واحدة، يحكمها خليفة واحد. ومع أنهم حتى منذ البداية لم ينجحوا في هذا تماما، إلا أن الشام أخذت من الخلفاء الأول للدولة العباسية اهتماما كبيرا.
يحكي التاريخ أن الخليفة أبا جعفر المنصور خرج سنة مائة وأربعين حاجا إلى بيت الله الحرام، ثم توجه إلى المدينة بعدما أدى فريضة الحج، ومنها توجه إلى بيت المقدس، فصلى في مسجدها، وفي هذه الزيارة عاين المنصور الدمار الكبير الذي أصاب المسجد الأقصى، بسبب زلزال تعرضت له المنطقة سنة مائة وثلاثين، وتسبب في وفاة أولاد الصحابي شداد بن أوس (رضي الله عنه)، وأثر في بناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة، في وقت كان الصراع فيه محتدما بين العباسيين والأمويين، ولم يكن هنالك من الاستقرار لما يسمح بترميم المسجد العظيم، فأمر المنصور بذلك بعد الزيارة والمشاهد، وحين وجد أن هذا المشروع يحتاج إلى نفقات كبيرة، أخذ ما على القبة والأبواب من ذهب، وسك منه نقودا أنفقها على عمارة المسجد. وكان المسجد طويلا فأمر أن ينقص من طوله، ويزاد في عرضه.
وفي سنة أربع وخمسين ومائة خرج المنصور من جديد إلى الشام، ومضى إلى بيت المقدس، والظاهر أن هذا كان آخر عهده بالمدينة المباركة، فلم يزر القدس بعدها حتى توفي سنة 158هـ.
والمؤرخون يروون أنه لما دخل (المهدي دمشق يريد زيارة القدس، نظر إلى جامع دمشق فقال لكاتبه أبي عبيد الله الأشعري : سبقنا بنو أمية بثلاث : بهذا المسجد الذي لا أعلم على وجه الأرض مثله، وبنبل الموالي، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبدا. ثم لما أتى بيت المقدس فنظر إلى (قبة) الصخرة وكان عبد الملك بن مروان هو الذي بناها ـ قال لكاتبه: وهذه رابعة).
ومنح الرشيد وفدا قدم إليه من أوروبا ـ من عند (شارلمان) ـ مفاتيح كنيسة القيامة ـ أكبر أثر نصراني في القدس ـ فكان هذا علامة أخرى على التسامح الذي ميز الحكم الإسلامي عموما في تعامله مع أهل الذمة.

<font size="5">

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 10 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في العصر الفاطمي
مصطفى الصواف



وصف المسجد الأقصى أيام الفاطميين
سجل الفاطميين في القدس
القدس في عهد الفاطميين
الصراع الفاطمي السلجوقي على القدس
القدس في عهد السلاجقة الأتراك
في سنة 359هـ بدأت القدس تاريخها الفاطمي، وشغل هذا التاريخ أكثر من قرن من عمر الزمان، وأنهته الهجمة الصليبية الشرسة، والتي أحدثت تطورات عميقة في داخل العالم الإسلامي، أطيح أثناءها بالدولة الفاطمية تماما.
وقد سعى الفاطميون إلى دمج القدس في نطاق دعوتهم إلى المذهب الشيعي الباطني للدولة فبثوا فيها (الدعاة) وأنشئوا فيها دارًا علمية لتعليم مذهبهم. ورعوا المسجد الأقصى، واهتموا بعمارته وعلاجه مما يلحقه من اضرار من جراء الزلازل وغيرها.
وقد وصف المدينة في هذا العصر (في أيام العزيز بالله الفاطمي سنة 380هـ) ابنها الرحالة شمس الدين المقدسي، فكال لها الثناء والمدح كيلا، وكشف عن بعض العيوب فيها، فقال : (بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، وقصبات كثيرة أصغر منها كإصطخر وقاين والفرما، لا شديدة البرد وليس بها حر، وقل ما يقع بها ثلج. وسألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء فقلت : سجسج لا حر ولا برد شديد. قال : هذه صفة الجنة.
(بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمعنقتها نظير، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب.
ثم حكى قائلاً : (كنت يومًا في مجلس القاضي المختار أبى يحيى بن بهرام بالبصرة، فجرى ذكر مصر، إلى أن سئلت : أي بلد أجل ؟ قلت : بلدنا. قيل : فأيها أطيب ؟ قلت : بلدنا. قيل : فأيها أفضل ؟ قلت : بلدنا. قيل : فأيها أحسن ؟ قلت : بلدنا. قيل : فأيها أكثر خيرات ؟ قلت : بلدنا قيل فأيها أكبر: قلت بلدنا. فتعجب أهل المجلس من ذلك، وقيل أنت رجل محصل، وقد ادعيت ما لا يقبل منك. قلت : أما قولي أجل، فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب الهواء فإنه لا سمَّ لبردها، ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا ترى أحسن من بنيانها ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، وأما كثرة الخيرات فقد جمع الله تعالى فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال والأشياء المتضادة كالأترج واللوز والرطب والجوز والتين والموز، وأما الفضل فلأنها عرصة القيامة ومنها المحشر وإليها المنشر، وإنما فضلت مكة والمدينة بالكعبة ـ والنبي صلى الله عليه وسلم ـ ويوم القيامة تزفان إليها، فتحوى الفضل كله، وأما الكبر فالخلائق كلهم يحشرون إليها، فأي ارض أوسع منها ؟ فاستحسنوا ذلك وأقروا به.
ومع ما في هذا من المبالغة، إلا أنه يشي بمنزلة مهمة للقدس، لا باعتبارها موطنا مباركا مفضلا للعبادة فحسب، ولكن ايضا باعتبارها منتجة للكثير من الخير، متمتعة بمميزات مناخية جيدة.
ويستأنف وصف المدينة قائلا: وهي أصغر من مكة وأكبر من المدينة، عليها حصن بعضه على جبل وعلى بقيته خندق، ولها ثمانية أبواب حديد : باب صهيون، باب التيه، باب البلاط، باب جب أرميا، باب سلوان، باب أريحا، باب العمود، باب محراب داود).
ومع أن القدس ليس بها نهر، إلا أن المقدسي يذكرها بكثرة مائها وتوافره، يقول : (والماء بها واسع، ويقال ليس ببيت المقدس أمكن من الماء والآذان، قل دار ليس بها صهريج وأكثر، وبها ثلاث برك عظيمة : بركة بني إسرائيل، وبركة سليمان، وبركة عياض، عليها حماماتهم، لها دواع من الأزقة. وفي المسجد عشرون جبا متبجرة.
(وقل حارة غلا وفيها جب مسبل، غير أن مياهها من الأزقة، وقد عمد إلى واد فجعل بركتين يجتمع إليهما السيول في الشتاء، وشق منهما قناة إلى البلد تدخل وقت الربيع فتملأ صهاريج الجامع وغيرها.
(محمد بن أحمد المقدسي : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم صـ 165 وما بعدها)

وصف المسجد الأقصى أيام الفاطميين

سجل لنا الرحالة العظيم شمس الدين المقدسي (336 ـ 380هـ) وصفا دقيقا للمسجد الأقصى في ايام قوة الدولة الفاطمية، حين كان العزيز بالله (حكم 365 ـ 386هـ) متسلطنا باسم الفاطميين، فوصف موقعه، وما في داخل الحرم من الأبنية، واسهب في وصف الأجزاء التي حوتها الأبنية الكثيرة في حرم الأقصى الشريف، واشار إلى شيء من تاريخ المسجد، فقال : (وأما المسجد الأقصى فهو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة، أساسه من عمل داود، طول الحجر عشرة أذرع وأقل، منقوشة موجهة مؤلفة صلبه، وقد بنى عليه عبدالملك بحجارة صغار حسان وشرفوه. وكان أحسن من جامع دمشق، لكن جاءت زلزلة في دولة بني العباس فطرحت المغطى إلا ما حول المحراب.
وبعد أن تحدث عن الإعمار العباسي للمسجد، قال : (وللمغطى ستة وعشرون بابا: باب يقال المحراب يسمى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهب، لا يفتح مصراعه إلا رجل شديد الباع قوي الذراع. عن يمينه سبعة أبواب كبار، في وسطها باب مصفح مذهب، وعلى اليسار مثلهن، ومن نحو الشرق أحد عشر بابا سواذج، وعلى الخمسة عشر رواق على أعمدة رخام أحدثه عبدالله بن طاهر، وعلى الصحن من الميمنة أروقة على أعمدة رخام وأساطين، وعلى المؤخر أروقة آزاج من الحجارة .. والسقوف كلها إلا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص، والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار.
(والصحن كله مبلط وسط دكة .. يصعد إليها من الأربع جوانب في مراق واسعة، وفي الدكة أربع قباب : قبة السلسلة، قبة المعراج، قبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه الثلاث لطاف ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام بلا حيطان، وفي الوسط قبة الصخرة على بيت مثمن بأربعة أبواب، كل باب يقابل مرقاة : باب إسرافيل، باب الصور، باب النساء يفتح إلى الغرب، جميعها مذهبة، في وجه كل واحد باب ظريف من خشب التنوب .. أمرت بهن أم المقتدر بالله .. والقبة على عظمها ملبسة بالصفر المذهب ..
(والقبة ثلاث سافات : الأولى من ألواح مزوقة، والثانية من أعمدة الحديد قد شبكت لئلا تميلها الرياح، ثم الثالثة من خشب عليها الصفائح وفي وسطها طريق إلى عند السفود يصعدها الصناع لتفقدها ورمها، فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة، ورأيت شيئا عجيبا، وعلى الجملة : لم أر في الإسلام، ولا سمعت أن في الشق مثل هذه القبة.
(ويدخل إلى المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرين بابا : باب حطة، باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابواب محراب مريم، باب الرحمة، باب بركة بني إسرائيل، أبواب الأسباط، أبواب الهاشمين، باب الوليد، باب إبراهيم، باب أم خالد، باب داود ..
(وليس على الميسرة أروقة، والمغطى لا يتصل بالحائط الشرقي، ومن أجل هذا يقال لا يتم فيه صف أبدا، وإنما ترك هذا البعض لسببين : أحدهما قول عمر : اتخذوا في غربي هذا المسجد مصلى للمسلمين، فتركت هذه القطعة لئلا يخالف، والثاني أنهم لو مدوا المغطى إلى الزاوية لم تقع الصخرة حذاء المحراب، فكرهوا ذلك ـ والله أعلم.
وأما عن أبعاد المسجد فيقول المقدسي : (وطول المسجد ألف ذراع بذراع الملك الِباني، وعرضه سبعمائة.
وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة، وسبعمائة عمود رخام، وعلى السطح خمسة وأربعون ألف شقفة رصاص.
وحجم الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعًا في سبعة وعشرين، والمغارة التي تحتها تَسَعُ تسعا وستين نفسا.
وأما النفقات التي كانت تصرف على المسجد في تلك الأيام، فيقول عنها الرحالة الكبير :
وكانت وظيفته في كل شهر مائة قسط زيت، وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع، وخدامه مماليك له أقامهم عبدالملك من خمس الأسارى، ولذلك يسمون الأخماس، لا يخدمه غيرهم، ولهم نوب يحفظونها.
وسلوان محلة في ربض المدينة، تحتها عين عذيبية تسقى جنانا عظيمة، أوقفها عثمان بن عفان على ضفاء البلد، تحتها بئر أيوب ..
ووادي جهنم على قرنة المسجد إلى أخرة قبل الشرق، فيه بساتين وكروم وكنائس ومغاير وصوامع ومقابر وعجائب ومزارع، وسطه كنيسة على قبر مريم، ويشرف عليه مقابر فيها شداد بن أوس الخزرجي وعبادة بن الصامت.
وجبل زيتا مطل على المسجد شرقي هذا الوادي، على رأسه مسجد لعمر نزله أيام فتح البلد، وكنيسة على الموضع الذي صعد منه عيسى ( عليه السلام) وموضع يسمونه الساهرة ..
وحد القدس ما حول إيلياء إلى أربعين ميلا، يدخل في ذلك القصبة ومدنها واثنا عشر ميلا في البحر ومآب وخمسة أميال من البادية ومن قبل القبلة إلى ما وراء الكسيفة وما يحاذيها، ومن قبل الشمال تخوم نابلس.
(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم : شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد المقدسي المعروف بالبشاري صـ 168 وما بعدها)

سجل الفاطميين في القدس

للفاطميين في القدس سجل يشهد برعايتهم لها، واهتمامهم بشأنها، سعيا وراء نشر مذهب الدولة في ربوعها، والترسيخ لتبعيتها للتاج الفاطمي، وكسب مصداقية عند الناس باهتمام الدولة بأماكن المسلمين المقدسة، فقد أنشئوا في القدس دارا علمية مثل دار الحكمة التي أنشئوها في القاهرة لنشر المذهب وتعليمه، واهتموا بمساجد المدينة القديمة، وعلى رأسها بالطبع ـ المسجد الأقصى الذي دهمه زلزال عام 407هـ ( في عهد الحاكم بأمر الله) أصاب قبة الصخرة وسور الحرام بأضرار، وقد كانت الأضرار التي لحقت بالقبة كبيرة، حتى كادت تسقط فقام الظاهر بن الحاكم (حكم 411 ـ 427هـ) بترميم السور والقبة، حتى صارت أفل مما كانت.
وفي سجل الفاطميين في القدس نجد أنهم تسامحوا في معاملة أهل الذمة المقدسيين، إذا استثنيا ما فعله الحاكم بأمر الله من التعسف معهم، وتكليفهم تعليق رموز يهودية ونصرانية ثقيلة على صدورهم، كما منعهم من ركوب الخيل. بل أمر في سنة 398هـ بهدم كنيسة القيامة، وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة وأرغمهم على لبس السواد، ومنعهم من الاحتفال بعيد الشعانين.
إذا استثنينا هذا (الحاكم) الذي لم يكن متزنا فيما يأتي ويترك، ونال المسلمين من الشر والهوان على يديه أضعاف أضعاف ما نال أهل الذمة، حتى كاد يفرض على المصلين أن يقوموا عند ذكر اسمه على المنابر تعظيما له، حتى في الحرمين والمسجد الأقصى ـ إذا استثنينا هذا سنجد أن سمت الفاطميين في معاملة أهل الكتاب هو الرفق والسماحة، حتى أعادوا بأنفسهم بناء كنيسة القيامة (في عهد الحاكم أو ابنه الظاهر).
وكان في أورشليم كنائس أخرى كثيرة (حينئذ) وكان في وسع الحجاج المسيحيين أن يدخلوا الأماكن المقدسة بكامل حريتهم.
وفي سنة 489هـ، توجه الجيش الفاطمي بقيادة (الأفضل بن بدر الجمالي) من مصر إلى القدس، وحاصرها، مستغلا ضعف السلاجقة بعد هزيمتهم أمام الصليبيين في أنطاكية، وأقام الأفضل بضعة وأربعين منجنيقا على المدينة، وأميرها حينئذ سكمان بن ارتق ومعه أخوه أيلغازي، وجرى القتال أربعين يوما، ولم يحسم الصراع إلا بعد أن تواطأ أهل القدس مع الجيش الفاطمي، ففتحوا له الباب على أن يعطيهم الأمان الكامل في أموالهم وأنفسهم، فأمنهم وأمن سكمان ومن معه وأكرمهم، وترك على المدينة أميرا فاطميا يدعى : افتخار الدولة.
ولم تبق القدس في يد الفاطميين بعدها إلا سنوات قليلة، ولم يرجعوا إليها مرة أخرى أبدا، إذ احتلها الصليبيون سنة 492هـ، وبقيت حتى استردها صلاح الدين سنة 583هـ،
بل إن العزيز بالله ـ والد الحاكم بأمر الله ـ فعل في القدس ما لم يفعله أحد من حكام المسلمين، إذ ولي على عموم فلسطين واليا نصرانيا هو : أبو اليمن قزمان بن مينا الكاتب، لكن هذا الوالي استغل فرصة القتال بين الفاطميين وبعض خصومهم فهرب بمال كثير من أموال الدولة.

القدس في عهد الفاطميين

قامت دولة الفاطميين في تونس في مدينة اسسها عبدالله المهدي واسماها المهدية سنة 296هـ / 909م وكان مطمحهم الكبير في احتلال مصر، وتم لهم ذلك سنة 359هـ969م على يد القائد جوهر الصقلي الذي بنى القاهرة، واتخذها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عاصمة لخلافته سنة 362هـ /973م.
لكن اهتمام الفاطميين لم يقتصر على مصر وحدها، وإنما كانوا يرون في بلاد الشام امتدادا طبيعيا لمصر ومنفذا تجاريا لها. كما كانوا يرون في ضرورة القضاء على من تبقى من الإخشيديين في جنوب بلاد الشام والتي كانت تحت حكمهم وسيطرتهم أمرا ملحا بعد أن تم لهم القضاء عليهم في مصر. فعمل القائد جوهر الصقلي على توجيه حملة في تلك السنة 359هـ/969م لفتح فلسطين والشام. فدخلت مدينة بيت المقدس تحت حكم الفاطميين في عهد العزيز بالله الذي خلف المعز لدين الله الفاطمي سنة 365هـ /975م وهو خامس الخلفاء الفاطميين.

1 ـ أبو المنصور العزيز بالله : تولى الخلافة (365هـ/975م ـ 386هـ /996م)

دخلت مدينة بيت المقدس تحت السيادة الفاطمية في عهد العزبز بالله، وقد اتبع سياسة حسنة تجاه سكان مدينة بيت المقدس من النصارى واليهود حيث كان قد تزوج من امرأة مسيحية من الطائفة الملكية وكان يحبها كثيرا فاكتسبت نفوذا عنده، وجعل أخويها في مصاف البطاركة واحدا في الإسكندرية والآخر في القدس. كما اقام على فلسطين واليا قبطيا هو أبو اليمن قزمان بن مينا الكاتب.
وفيما يلي وصفا لمدينة بيت المقدس في عهد العزيز بالله كما وصفها المقدسي في كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم الذي وضعه في عهده عام 375هـ /986م قال فيه :
(بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، وقصبات كثيرة أصغر منها ، لا شديدة البرد وليس بها حر، وقل ما يقع بها ثلج. وسألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء فقلت : سجسج لا حر ولا برد شديد. قال : هذه صفة الجنة.
(بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمعنقتها نظير، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب).
إلا أن المقدسي أشار أيضا إلى ما يعتقده أنه من عيوبها في زمانه فقال : (إلا أن لها عيوبا عدة، يقال أن في التورية (التوراة) مكتوب بيت المقدس طشت ذهب ملئ عقارب ثم ل ترى أقذر من حماماتها، ولا أثقل مؤنة، قليلة العلماء كثيرة النصارى وفيهم جفاء، على الرحبة والفنادق ضرائب ثقال على ما يباع، فيها رجالة على الأبواب فلا يمكن أحدا أن يبيع شيئا مما يرتفق به الناس إلا بها، مع قلية يسار، وليس للمظلوم أنصار، والمستور مهموم،والغني محسود، والفقيه مهجور، والأديب غير مشهود، لا مجلس نظر ولا تدريس، قد غلب عليهم النصارى واليهود، وخلا المسجد من الجماعات والمجالس، وهي اصغر من مكة وأكبر من المدينة عليها حصن بعضه على جبل وعلى بقيته خندق ولها ثمانية أبواب حديد باب صهيون باب التيه باب الأسباط باب جب أرميا باب سلوان باب أريحا باب العمود باب محراب داود والماء برك عظيمة بركة بني إسرائيل بركة سليمان بركة عياض ..، غير أنه شديدة العمارة، قد رحل إليها خلق كثير من المشرق والمغرب) وتوفي العزيز بعد أن دام حكمه عشرون سنة.

2 ـ أبو علي المنصور : تولى الخلافة (386هـ / 996م ـ 411هـ / 1020م)
لما توفي العزيز بالله خلفه ولده المنصور أبو علي الملقب بالحاكم بأمر الله.
في بداية حكمه كان معتدلا مع المسيحيين إلا أنه انقلب عليهم وعلى اليهود سنة 398هـ /1007م واتخذ بحقهم إجراءات قاسية وألزمهم أن يحملوا على ثيابهم علامة تميزهم عن المسلمين، وأمر بشد الزنانير ولبس العمائم السود، وألغى أعيادهم وحرم عليهم ضرب الأجراس، وأمر بأن يحمل اليهودي جرسا إذا ما دخل الحمام أما المسيحي فيحمل على صدره صليبا من الخشب، وحرم على المسيحيين واليهود ركوب الخيل وسمح لهم ركوب الحمير أو البغال مشترطا أن تكون سروجها من الخشب.
وفي سنة 399هـ /1008م أمر الحاكم بأمر الله بهدم الكنائس ومنها كنيسة القيامة وقد ذكرت الرواية الكنسية المعاصرة أن الحاكم أصدر أمره بهدم كنيسة القيامة في صورة موجزة إلى والي الرملة بارختكين بقوله : (خرج أمر الإمامة إليك بهدم قيامة فاجعل سماها أرضا وطولها عرضا) فقام بارختكين بتنفيذ الأمر بهدم كنيسة القيامة وسائر ما اشتمل عليه حدودها سنة 400هـ /1009م.
ويعلل المؤرخون الأسباب التي دعت الحاكم بأمر الله لاتخاذ مثل هذا الأمر نحو أهل الذمة للأسباب التالية :
1 ـ أنه في تلك الفترة الزمنية كانت هناك حروب بين المسلمين والروم، وقام الروم بتخريب وحرق جوامع المسلمين، فانتقم الحاكم بأمر الله منهم بحرق الكنائس ومنها كنيسة القيامة.
2 ـ في عهده عمت شائعة أن القيامة ستقوم في يوم معين، فتقاطرت على مدينة القدس جموع غفيرة من الأوروبيين الذي صدقوا الشائعة ورغبوا في الموت بجوار قبر المسيح فلما مر هذا اليوم دون أن يحدث شيء غضب الحاكم بأمر الله لاعتقاده بأن الشائعة كان القصد منها دفع أعدادا هائلة من المسيحيين إلى المدينة المقدسة مما يهدد أمنها.
3 ـ ويقال أيضا إن الوزراء والكتب الذين انتدبهم لحكم المناطق من النصارى غالوا في الاسئثار بسلطاتهم واستغلالهم للوظائف الحكومية الهامة وحرموا ذلك على المسلمين، كما قاموا باختلاس الأموال العامة مما أثار غضبه.
ويبدو أن الشدة التي ابتعها الحاكم بأمر الله مع النصارى واليهود قد أحدثت أثرًا سيئًا في البلاد، كما جعل النصارى واليهود يفرون من البلاد إلى خارجها، إلا أن الحاكم بأمر الله ما لبث أن عاد عن سياسته تلك ومنح المسيحيين واليهود الحرية الدينية الكاملة، وسمح لهم ببناء ما تهدم من مقدساتهم.
وفي عهده في العام 407هـ /1015م حدث زلزال في مدينة بيت المقدس سقطت على إثره بعض أجزاء من قبة الصخرة وقسم كبير من سور الحرم.
وفي عام 411هـ /1020م اختفى الحاكم بأمر الله، وقيل إن أخته ست الملك أسهمت في قتله مع قائد جيشه على جبل المقطم في مصر، وبعد موته تولت أخته مقاليد الحكم مؤقتا ثم نادت بابنه علي أبي الحسن الملقب بالظاهر خليفة على المسلمين.
3 ـ الظاهر لإعزاز دين الله : تولى الخلافة (411هـ /1020م ـ 427هـ /1035م)
بعد تولي الظاهر حكم البلاد، جرى في عهده سنة 413هـ /1022م ترميم قبة مسجد الصخرة وكانت مغطاة بالرصاص من الخارج وبالفسيفساء من الداخل، فتم تعميرها على يد علي بن أحمد المنقوش اسمه على الأشخاب الملصقة في صدع الدهليز في رقبة القبة.
وفي سنة 418هـ /1027م عقد الظاهر هدنة مع إمبراطور القسطنطينية الثامن، كان من شروطها أن يطلق الإمبراطور سراح أسرى المسلمين من عنده مقابل أن يمنحه الظاهر الإذن بتجديد عمارة كنيسة القيامة وتعيين بطريرك على القدس، إلا أن فقر المسيحيين المحليين حال دون تمكنم من إتمام بناء الكنيسة.
وفي عهده تم ترميم سور القدس وأخذت الحجارة من العمائر المتهدمة في المدينة نتيجة الزلزال الذي حدث في عهد والده الحاكم بأمر الله.
وفي سنة 425هـ /1034م وقع زلزال آخر في مدينة بيت المقدس كان من نتائجه أن خرب المسجد الأقصى الذي عمره المهدي بن المنصور العباسي خرابا ظاهرا، فعمره الخليفة الظاهر في السنة التالية مبقيا ماأمكن إبقاؤه من البناء السابق، حيث لم يغير الخليفة الفاطمي من تخطيطه العباسي سوى تضيقه من الشرق والغرب بحذف أربعة أروقة من كل جانب فأصبح يكتنف الرواق الأوسط الكبير ثلاثة أروقة فقط من كل جانب، والمعتقد أن القبة الحالية ورقبتها والأبواب السبعة التي في شمال المسجد اليوم هي من صنع الظاهر لإعزاز دين الله، وتحتوي الواجهة الشمالية للعقد الذي يحمل القبة والمحلاة بالفسيفساء الذهبية كتابة بالخط الكوفي تشير إلى ذلك التحديد هذا نصها : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). جدد عمارته مولانا علي أبو الحسن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله).
4 ـ المستنصر بالله : تولى الخلافة (427هـ /1036 ـ 487هـ/1094م)
في زمن الخليفة المستنصر بالله اتسع سلطان الفاطميين وامتد من المغرب العربي ومصر إلى بلاد خراسان وفارس، ثم عاد ليتضائل من جديد. وفي عهده تجددت المعاهدة بين الفاطميين والبيزنطيين، فأجاز المستنصر للإمبراطور ميخائيل الرابع إعادة بناء كنيسة القيامة شريطة أن يسمح له بناء مسجدين للمسلمين في القسطنطينية، وانتهى بناء الكنيسة في سنة 1048م.
كما ذكر مجير الدين الحنبلي في كتابه قائلا : (في سنة 452هـ سقط تنور قبة الصخرة وفيه خمسمائة قنديل، فخاف المقيمون به من المسلمون وقالوا : ليكونن في الإسلام حادث عظيم فكان أخذ الفرنجة له) وفي سنة 458هـ / 166م أمر الخليفة المستنصر بالله بتحديد الواجهة الشمالية للمسجد الأقصى. ويقول الحنبلي أيضا : 0في سنة 460هـ / 1096م زلزلت الأرض في بيت المقدس، فانشقت صخرة بيت المقدس ثم عادت فالتأمت بقدرة الله).
وفي سنة 465هـ /1072م استولى على بيت المقدس والرملة أحد زعماء السلاجقة الأتراك وهو أتسز بن أوق الخوارزمي صاحب دمشق، فأقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس وقطعت دعوة الفاطميين.

الصراع الفاطمي السلجوقي على القدس

أوغل البيت الفاطمي في التشييع، وسلك أوعر سبله، وهو التشيع الباطني الذي يأخذ بتأويل الدين، حتى يخرج به عن مقصوده. وفي المقابل كان الحكام والولاة السلاجقة متحمسين لمذهب أهل السنة، بل تعصب بعضهم تعصبا شديدا ضد المخالفين له.
وحين تتجاور مثل هاتين الدولتين، لابد أن تتنافسا وتتصادما عند مواضع النفوذ والتماس، وقد كانت القدس أحد موضوعات الصراع بين الفريقين، حتى استطاع السلاجقة استخلاصها لأنفسهم سنة 463هـ، أي بعد استيلاء الفاطميين عليها بقرن وأربع سنوات. ففي هذه السنة سار أتسز بن أوق الخوارزمي ـ أحد قواد الملك ألب أرسلان السلجوقي ـ فدخل الشام، وافتتح الرملة، ثم حاصر بيت المقدس، فاستولى عليها من الفاطميين، ثم حاصر دمشقن وخرب الكثير من أنحاء الشام.
ولم يستقر أمر الشام بقية القرن الخامس الهجري، بل ظل القلق وروح الصراع مسيطرين على هذه البلاد، فوقعت حلقات أخرى من القتال بين السلاجقة والفاطميين، تخللتها أعمال عنف وقسوة شديدة. يقول الذهبي : (وفي سنة ثمان وستين وأربعمائة اشتد القحط بالشام، وحاصر أتسز الخوارزمي دمشق، فهرب أميرها الفاطمي المعلي بن حيدرة ـ وكان جبارا عسوفا ـ وولى بعده رزين الدولة انتصار المصمودي. ثم أخذ دمشق أتسزن وأقام الدعوة العباسية، وخافه المصريون (الفاطميون) ثم قصدهم في سنة تسع وستين، وحاصرهم، ولم يبق إلا أن يتملك فتضرع الخلق عند الواعظ الجوهري، فرحل شبه منهزم، وعصى عليه أهل القدس مدة، ثم أخذها وقتل .. وفعل كل قبيح، وضبح قاضي القدس والشهود صبرا).
وكان عند وصف ملك ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي (ت485هـ) واتساعه: ملك من مدينة كاشغر الترك (داخل الصين الآن) إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينية وبلاد الخزر إلى بحر الهند عرضا). وهذه مساحة شاسعة جدا من العالم، مثلت القدس وفلسطين عموما حدها الغربي.

القدس في عهد السلاجقة الأتراك

السلاجقة أصلهم فئة من الأتراك خرجوا في أواخر القرن العاشر الميلادي من سهول تركستان، اعتنقوا دين الإسلام وتحمسوا له، وأولاهم الخلفاء العباسيون حكم الولايات حتى أصبحوا اسياد دويلات مستقلة، فراحوا يحكمون صوريا باسم الخليفة العباسي وفعليًا باسمهم الخاص.
بدأ حكمهم الفعلي لبلاد العرب بدخول عظيمهم آرطغرل بك مدينة بغداد سنة 447هـ /1055م وكان في بغداد يومئذ الخليفة العباسي القائم بأمر الله فأبقاه، ولكنه قضى على من سواه في الحكم من المتنفيذين والقادة.
نافس السلاجقة الأتراك الفاطميين في بسط السيادة على بلاد الشام حتى تحققت لهم السيطرة على شمالي بلاد الشام، في حين كانت الخلافة الفاطمية تفرض سيطرتها على منطقة جنوبي بلاد الشام وهي فلسطين وأعمالها. وهكذا بدأ الصراع السياسي والتراع العسكري بين السلاجقة الأتراك والفاطميين للسيطرة على فلسطين وخاصة مدينة القدس.
بعد وفاة آرطغرل بك تولي الملك من بعده ابن أخيه ألب أرسلان للفترة (1063 ـ 1072م) وقد تمكن أحد زعماء التركمان وهو أتسز بن أوق الخوارزمي في عام 464هـ /1072م من فتح الرملة وبيت المقدس وأخذهما من الفاطميين. فجعل أتسز الخوارزمي بيت المقدس مركزا لحكمه وأبطل الدعوة للفاطميين وخطب للخليفة العباسي والسلطان السلجوقي.
من بيت المقدس عمل أتسز الخوارزمي على تعبئة قواته للاستيلاء على المدن المجاورة لتوسيع النفوذ السلجوقي في جنوبي بلاد الشام، فتم له الاستيلاء على مدينة عكا 468هـ/1076م وحاصر دمشق عدة مرات حتى تم له فتحها في عهد السلطان ملكشاه في ذات العام، فباتت مدينة القدس على عهده صاحبة النفوذ الأقوى في جنوبي بلاد الشام.
ونتيجة لانتصاراته بدأ أتسز الخوارزمي في التطلع نحو شمالي بلاد الشام ولكنه عاد وترك أمرها للسلطان ملكشاه، فتوجه نحو مصر محاولا ضمها إلى نفوذه لكن حملته سنة 469هـ/1076 أخفقت وتبعته القوات الفاطمية وهو ينسحب حتى الرملة بفلسطي، لكن أهل فلسطين لم يكونوا مرتاحين إليه بسبب تعسفه وهدره الأرواح إضافة إلى أن بلاد الام ساءت أحوالها الاقتصادية في عهده، مما دفع أهل القدس لانتهاز فرصة هزيمته أمام الفاطمين فثاروا عليه بزعامة القاضي، وحاول أتسز مفاوضتهم ثم قرر محاصرة المدينة واقتحامها فدخلها عنوة وقتل ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص من أهلها.
وفي عام 471هـ /1078م قامت الخلافة الفاطمية بمصر بتوجيه حملة عسكرية بقيادة ناصر الدولة الجيوشي للهجوم على فلسطين، فاحتلت القدس ثم تقدمت نحو دمشق حيث كان أتسز الخوارزمي موجودا، فاتصل بتتش بن ألب أرسلان بحلب مستنجدا به لإنقاذه من الحصار الفاطمي، فتحرك تتش على الفور ودخل دمشق، ولكنه ما لبت أن تخلص من أتسز بقتله وانفرد بالحكم، لكن عهد تتش بن اسلان لم يكن ليختلف كثيرا عن عهد سلفه أتسز الخوارزمي إذ لم يأمل أهل فلسطين منه خيرا.
اقتطع تتش مدينة القدس وأعمالها إلى أحد قادته وهو أرتق بن أكسك التركماني، وحين توفي أرتق بك سنة 484هـ /1091م تولى الأمر من بعده ولديه أيلغازي وسقمان، ولما قتل تتش صاحب دمشق سنة 488هـ /1095م اقتسم ولداه رضوان ودقاق الحكم وصارت فلسطين تتبع الدقاق، لكن الخلاف نشب بين الأخوين مما دفع الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش بمصر للتوجه إلى فلسطين ومحاصرة بيت المقدس لمدة أربعين يوما، فما كان من أهل بيت المقدس إلا أن اتفقوا مع الأفضل على منحهم الأمان، وهكذا استولى الأفضل على القدس بالأمان في شعبان سنة 489هـ/1096م وبقيت مدينة المقدس في أيدي الفاطميين حتى سقوطها بأيدي الصليبيين سنة 492هـ /1099م.






توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التاريخ , الشريف , القدس , والمكانة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
شخصيات من التاريخ العماني عابر الفيافي علماء وأئمة الإباضية 0 07-02-2013 08:40 PM
نداء القدس إلى حملة القدس أبو روح نور همس القوافي 4 11-12-2011 11:29 AM
تقرير بعنوان: عمان التاريخ والحضارة عابر الفيافي نور البحوث العلمية 0 10-27-2011 10:20 PM
من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي عابر الفيافي المكتبة الإسلامية الشاملة 4 11-14-2010 07:28 PM
قصائد في القدس الامير المجهول نور همس القوافي 4 05-13-2010 09:38 PM


الساعة الآن 07:39 PM.