من فضل الله تعالى على عباده وخاصة العُصاة منهم أن أمهلهم أكثر من مرّة وأمدَّ لهم في عمرهم, فعلى العقلاء منهم: أن ينهضوا ويدخلوا من باب التوبة النصوح حتى يدخلوا في رحمة الله وفضله. وربُ العالمين سبحانه وتعالى يقبل توبة التائبين لكن هناك نوعا من الناس يقف موقفاً سلبياً وتجده وقد استسلم لشيطانه وأهوائه فهذا النوع من الناس يحتاج إلى من يأخذ بيده إلى شاطئ الأمان وأيضاً يحتاج منا إلى أن ننصحه ونذكّره بيوم الحساب, يوم العرض على الله تعالى.
ومن الناس من يندم ويتحسّر على ما مضى من تقصير ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره ويقطع عليه مستقبله فيأتي عليه زمان يتحسّر فيه على الزمن الذي ضيعه في الحزن والتحسّر فيا أخي المسلم الكريم: إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب ولا يكون بالرجوع إلى أحزان الماضي إنما يكون بالجد والعمل, واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة, وهذا دليل على الذكاء وعلوّ الهمة.
ألا فليحمد الله من ضيّع وقصّر على إمهاله له, وليعوّض ما فاته, فأيام العافية غنيمة باردة وأوقات الإمهال فائدة, فتناول وعوّض ما دامت عنك المائدة, فليست الساعات بعائدة .
ونذكر هنا موقف الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه. عندما غاب عن غزوة بدر الكبرى, فأحسّ بألم ضياع غنيمة الشهادة منه فقال (يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلت فيه المشركين لئن أشهدني الله تعالى مشهداً آخر في قتال المشركين ليرين الله مني ما أصنع, فلما كان يوم غزوة أحد, وانكشف المسلمون, أقبل أنس بن النضر رضي الله عنه يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبرأ إلى الله تعالى مما صنع المشركون, فأقبل يتقدّم نحو القتال, وكسر غمد سيفه ويستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه فيقول له أنس بن النضر: الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أُحد.
يقول سعد بن معاذ فما استطعت يا رسول الله أن أمنعه من القتال ولما انتهت المعركة وجدوه قد قُتل ومثّل به المشركون ووجد به بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة رمح أو رمية بسهم, فما عرفته إلا أخته ببنانه.
فانظر أخي المسلم إلى هذا الصحابي الكريم, الذي حرص على أن يفي بعهده مع الله تعالى, ومع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم, وقاتل ودافع عن كلمة الحق, وقد جاءته الفرصة فلم يضيّعها, بل اغتنمها ونال الشهادة في سبيل الله تعالى فهنيئاً له هذه الدرجة العليا في الجنة. قال تعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
ومثال آخر لمن يريد أن يغتنم الفرصة ولا يضيعها, ويجعل الدنيا مزرعة لآخرته نتذكّر موقف عكرمة بن أبي جهل بعد أن أنعم الله تعالى عليه بالإسلام, شعر بأن خيراً عظيماً قد فاته, والمعروف أن عكرمة أسلم عام فتح مكة فقال قولته المشهورة (والذي نجاني يوم بدر يا رسول الله لا أدع نفقة أنفقتها في الصدّ عن سبيل الله, إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله ولا قتالاً قاتلته في الصدّ عن سبيل الله, إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله تعالى, ويبرّ بقسمه فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم ولا خرجوا إلا كان معهم, وفي يوم موقعة اليرموك: أقبل عكرمة رضي الله عنه على القتال في شجاعة أبهرت الجميع, ولما اشتد الكرب على المسلمين نزل عن جواده, وكسر غمد سيفه وأوغل في صفوف الروم فبادره خالد بن الوليد وقال له: لا تفعل يا عكرمة إنّ قتلك على المسلمين سيكون شديداً قال: إليك عني يا خالد, لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة أمّا أنا وأبي أبو جهل فقد كنا أشد الناس على رسول الله دعني أٌكفّر عما سلف مني, أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم؟
والله لا يكون أبداً ثم نادى من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله تعالى, فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصراً مؤزراً ولقي الله عكرمة مثخناً بجراحه ولسان حاله يقول (وعجلت إليك ربي لترضى) فرضي الله عن هذا الصحابي الكريم وعن كل الصحابة الكرام الذين صدقوا العهد مع الله تعالى واغتنموا كل فرصة متاحة لهم فلم يفوّتوها. ونحن أخي المسلم الكريم مُطالبون بأن لا نضيّع لحظة من لحظات حياتنا في ما لا يفيد, بل نجعل الوقت كله طاعة لله تعالى وإذا فعلنا ذلك كلُ على قدر طاقته, سوف ننال رضا الله رب العالمين, ونخرج من الدنيا, ونحن من الفائزين إن شاء الله تعالى, وربُ العالمين لا يضيع أجر من أحسن عملا, فلنغتنم الوقت ولا نضيعه هباءً. والحمد لله رب العالمين.
إنا لأهل العدل والتقدم ::: إنا لأصحاب الصراط القيم
الدين ما دنّا بلا توهم ::: الحق فينا الحق غير أطسم
يا جاهلا بأمرنا لا تغشم ::: توسمن أو سل أولي التوسم