تفسير سورة البقرة ص 28(القرطبي) - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



علوم القرآن الكريم [القرآن الكريم] [إعراب القرآن] [تفسير القرآن الكريم] [تفسير الجلالين] [التفسير الميسر]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
افتراضي  تفسير سورة البقرة ص 28(القرطبي)
كُتبَ بتاريخ: [ 01-05-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية الامير المجهول
 
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
الامير المجهول غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913
قوة التقييم : الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع


الآية: 187 {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}
قوله تعالى: "أحل لكم" لفظ "أحل" يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسحن؟؟ لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية، وفيها: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم". وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللّه تعالى: "علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم" يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى اللّه فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي اللّه تعالى عنه رجع من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أعتذر إلى اللّه وإليك، فإن نفسي زينت؟؟ لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: (لم تكن حقيقا يا عمر) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت: "علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" الآية.
قوله تعالى: "ليلة الصيام الرفث" (ليلة) نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت.
قوله تعالى: "الرفث إلى نسائكم" والرفث: كناية عن الجماع لأن اللّه عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي. وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقال الأزهري أيضا. وقال ابن عرفة: الرفث ههنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والإعراب به. قال الشاعر:
ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار
وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر:
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وتعدى "الرفث" بإلى في قوله تعالى جده: "الرفث إلى نسائكم". وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله: "وقد أفضى بعضكم إلى بعض" [النساء: 21]. ومن هذا المعنى: "وإذا خلوا إلى شياطينهم" [البقرة: 14] كما تقدم. وقوله: "يوم يحمى عليها" [التوبة: 35] أي يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، وسيأتي، ومنه قوله: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره،" [النور: 63] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول: خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى: "وكان بالمؤمنين رحيما" [الأحزاب: 43] حمل على معنى رؤوف في نحو "بالمؤمنين رؤوف رحيم" [التوبة: 128]، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:
حملت به في ليلة مزؤودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل
عدى "حملت" بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: "حملته أمه كرها ووضعته كرها" [الأحقاف: 15]، ولكنه قال: حملت به، لأنه في معنى حبلت به.
قوله تعالى: "هن لباس لكم" ابتداء وخبر، وشددت النون من "هن" لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. "وأنتم لباس لهن" أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب. وقال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضا:
لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل: لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال أبو عبيد: أي نسائي. وقيل نفسي. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض.
قوله تعالى: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: "تقتلون أنفسكم" [البقرة: 85] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، كما تقدم. وقوله: "فتاب عليكم" يحتمل معنيين: أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر - التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم" [المزمل: 20] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله" [النساء: 92] يعني تخفيفا، لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" [التوبة: 117] وإن لم يكن من النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يوجب التوبة منه. وقوله: "وعفا عنكم" يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: (أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه) يعني تسهيله وتوسعته. فمعنى "علم اللّه" أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة "فتاب عليكم" بعد ما وقع، أي خفف عنكم "وعفا" أي سهل. و"تختانون" من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي: "وقال علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي اللّه عنه فجعلها اللّه تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الأمة فرضي اللّه عنه وأرضاه".
قوله تعالى: "فالآن باشروهن" كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي: وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي اللّه عنه لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالآن كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله.
قوله تعالى: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله: "فالآن باشروهن". وقال ابن عباس: ما كتب اللّه لنا هو القرآن. الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر. وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية: وهو قول حسن. وقيل: "ابتغوا ما كتب اللّه لكم" من الإماء والزوجات. وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة "واتبعوا" من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح "ابتغوا" من الابتغاء.
قوله تعالى: "وكلوا واشربوا" هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم.
قوله تعالى: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" "حتى" غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا). وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضا. وفي حديث ابن مسعود: (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه). وروى الدارقطني عن عبدالرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال. وقال مسروق: لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت. وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي اللّه قال: (كلوا وأشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر). قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي. وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين. وتفسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك، وقوله "أياما معدودات" [البقرة: 184]. وروى الدارقطني عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له). تفرد به عبدالله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد، وكلهم ثقات. وروي عن حفصة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له). رفعه عبدالله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: نزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل اللّه بعد "من الفجر" فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول اللّه، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال: (إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار). أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال الشاعر:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسود جنح الليل مكتوم
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الإيادي:
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا
وقال آخر:
قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره
وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب:
ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع
وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال:
إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين
ويقولون في الأمر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر:
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر
قوله تعالى: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" جعل اللّه جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا، فإن كان الأول فقال مالك: من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا) الحديث. وبهذا قال الشعبي. وقال الشافعي وغيره: إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول اللّه قال: (وما أهلكك) قال: وقعت على امرأتي في رمضان...) الحديث. وفيه ذكر الكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا: هي واحدة، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان، لأن مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر.
واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي: عليها مثل ما على الزوج. وقال الشافعي: ليس عليها إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي. وقال مالك: عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه.
واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شيء، لا قضاء ولا كفارة. وقال مالك والليث والأوزاعي: عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال: مثل هذا لا ينسى. وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبدالملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر: لا شيء عليه.
قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطّره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقيل في المذهب: عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر: وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك: ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه.
قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه اللّه تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن اللّه أطعمه وسقاه). أخرجه الدارقطني. وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبدالله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان، قال: ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبدالله مالك: وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك. وقال ابن المنذر: لا شيء عليه، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا: (يتم صومه) وإذا قال (يتم صومه) فأتمه فهو صوم تام كامل.
قلت: وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - واللّه أعلم - كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا: المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله تعالى: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا قضاء عليه).
قلت: هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة) أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال، والحمد لله ذي الجلال والكمال.
لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر، لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي اللّه عنهما كان ينهي عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا - واللّه أعلم - خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبدالله بن مسعود وعروة بن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال: ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر: ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم. وقال أحمد: من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء. وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد: واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى: الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب: أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الأمر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي: واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة: مرة ينزل، ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك.
قلت: ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى "فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فأنزل فقد قال الشيخ أبو الحسن: عليه القضاء والكفارة. قال الباجي: وهو الصحيح عندي، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، واللّه أعلم". وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى: فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباجي: وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة.
والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح".
قلت: أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور، وذلك قول أبي هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له، أخرجه الموطأ وغيره. وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع: واللّه ما أنا قلته، محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه قاله. وقد اختلف في رجوعه عنها، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له، حكاه ابن المنذر، وروي عن الحسن بن صالح. وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير. وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض.
قلت: فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا، والصحيح منها مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي اللّه عنها وأم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، أخرجهما البخاري ومسلم. وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى: "فالآن باشروهن" الآية، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر. وقد قال الشافعي: ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه. وقال المزني: عليه القضاء لأنه من تمام الجماع، والأول اصح لما ذكرنا، وهو قول علمائنا.
واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال عبدالملك: إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبدالملك. وقال الأوزاعي: تقضي لأنها فرطت في الاغتسال. وذكر ابن الجلاب عن عبدالملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر، وقاله مالك، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض. وقال محمد بن مسلمة في هذه: تصوم وتقضي، مثل قول الأوزاعي. وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء.
وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها.
روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج، وبه قال أحمد وإسحاق، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج. وقال مالك والشافعي والثوري: لا قضاء عليه، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير. وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال لا، إلا من أجل الضعف. وقال أبو عمر: حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (احتجم صائما محرما) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى اللّه عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم). واحتجم هو صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم، فإذا كانت حجته صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة، لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان، لأنه توفي في ربيع الأول، صلى اللّه عليه وسلم.
قوله تعالى: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف. و"إلى" غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها داخل في حكمه، كقولك: اشتريت الفدان إلى حاشيته، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك: اشتريت الفدان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه. فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار.
ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء. وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه، قال: ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقيل: عليه القضاء والكفارة. وقال سحنون: إنما يكفر من بيت الفطر، فأما من نواه في نهاره فلا يضره، وإنما يقضي استحسانا. قلت: هذا حسن.
قوله تعالى: "إلى الليل" إذا تبين الليل سن الفطر شرعا، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي: وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه، واحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم: (إذا جاء الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم). وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال: لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى، لأنه مقتضى الكتاب والسنة.
فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء. وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت: أفطرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء، قال: لا بد من قضاء؟. قال عمر في الموطأ في هذا: الخطب يسير، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال: لا قضاء عليه، وبه قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول اللّه تعالى: "إلى الليل" يرد هذا القول، واللّه أعلم.
فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء، قال مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر، وبه قال ابن المنذر. وقال الكيا الطبري: وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه.
قوله تعالى: "إلى الليل" فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه، فمن واصل عبدالله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال: وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صلى اللّه عليه وسلم: (إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم). خرجه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: (لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس: (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم). خرجه مسلم أيضا. وقال صلى اللّه عليه وسلم: (إياكم والوصال إياكم والوصال) تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صلى اللّه عليه وسلم: (إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر). خرجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) قالوا: فإنك تواصل يا رسول اللّه؟ قال: (لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم وساق يسقيني). قالوا: وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال: إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال: (لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء اللّه وألزموا أنفسهم أعلى المقامات واللّه أعلم.
قلت: ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا: إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة: أنه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله: (أطعم وأسقى) المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صلى اللّه عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أمر به، فكان تركه أولى. وباللّه التوفيق.
ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود عن أنس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: إسناد صحيح. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أفطر قال: (لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم). وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا أفطر: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه). خرجه أبو داود أيضا. وقال الدارقطني: تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن. وروى ابن ماجة عن عبدالله بن الزبير قال: أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال: (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة). وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا). وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد). قال ابن أبي مليكة: سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: (للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه).
ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر) هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (جعل اللّه الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة). رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الأيام، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان. وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف.
قوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري: عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه، قال المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم.
قوله تعالى: "وأنتم عاكفون" جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز:
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وقال الشاعر:
وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.
أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول اللّه تعالى: "في المساجد" واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي، وهو أحد قولي مالك. وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما. وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر. وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح). قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة.
وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة. وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه، كما قال سحنون. قال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما. قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل في اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر: لا يصح إلا بصوم. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام، لقول اللّه تعالى في كتابه: "وكلوا واشربوا" إلى قوله: "في المساجد" وقالا: فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. واحتجوا بما رواه عبدالله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (اعتكف وصم). أخرجه أبو داود. وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا بصيام). قال الدارقطني: تفرد به سويد بن عبدالعزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقالوا: ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها.
وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه، لما روى الأئمة عن عائشة قالت: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي: يعود المريض ويشهد الجنائز، وروي عن علي وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب: لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع: يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة. وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة وقال مرة: أرجو ألا يكون به بأس. وقال الأوزاعي كما قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر: لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له.
واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة: يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع. وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه. وقال عبدالملك: يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه.
قلت: وهو صحيح لقوله تعالى: "وأنتم عاكفون في المساجد" فعم. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان.
المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك.
روى مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه...) الحديث. واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين. وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر. وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبدالملك، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم. وقال الشافعي: إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله في الشهر. وقال الليث في أحد قوليه وزفر: يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء. وروي مثل ذلك عن أبي يوسف، وبه قال القاضي عبدالوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل.
قلت: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته.
استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. وقال سحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه. وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات، فيها لممن اقتصر عليها كفاية، واللّه الموفق للهداية.
قوله تعالى: "تلك حدود الله" أي هذه الأحكام حدود اللّه فلا تخالفوها، "فتلك" إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي. والحدود: الحواجز. والحد: المنع، ومنه سمي الحديد حديدا، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسجان حدادا، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود اللّه لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة، لأنها تمتنع من الزينة.
قوله تعالى: "كذلك يبين الله آياته للناس" أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها. والآيات: العلامات الهادية إلى الحق. و"لعلهم" ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره اللّه للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن أن اللّه يضل من يشاء.
الآية: 188 {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}
قوله تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم" قيل: إنه نزل في عبدان بن أشوع الحضرمي، ادعى مالا على امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت هذه الآية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه.
الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة "النساء". وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: "تقتلون أنفسكم" [البقرة: 85]. وقال قوم: المراد بالآية "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" [النساء: 29] أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.
من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها). وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج، إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء، لأن قضاء القاضي قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: (فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه...) الحديث.
وهذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" [النساء: 29]. فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل.
قوله تعالى: "بالباطل" الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل. والأباطيل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللّهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى: "لا يأتيه الباطل" [فصلت: 42] قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقص. وقوله: "ويمح الله الباطل" [الشورى: 24] يعني الشرك. والبطلة: السحرة.
قوله تعالى: "وتدلوا بها إلى الحكام" الآية. قيل: يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له الظاهر حجة. وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلي. والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق" [البقرة: 42]. وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة.
قلت: ويقوي هذا قوله: "وتدلوا بها" تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفي مصحف أبي "ولا تدلوا" بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد جزم "تدلوا" في قراءة الجماعة. وقيل: "تدلوا" في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه "أن" مضمرة. والهاء في قوله "بها" ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر، فقوي القول الثاني لذكر الأموال، واللّه أعلم. في الصحاح. "والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رُشى ورِشى، وقد رشاه يرشوه. وارتشى: أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه".
قلت: فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
قوله تعالى: "لتأكلوا" نصب بلام كي. "فريقا" أي قطعة وجزءا، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: لتأكلوا أموال فريق من الناس. "بالإثم" معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله. "وأنتم تعلمون" أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.
اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجبائي حيث قال: إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال: يفسق بأخذ خمسة دراهم. وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال: يفسق بأخذ درهم فما فوق، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الأمة، قال صلى اللّه عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) الحديث، متفق على صحته.
الآية: 189 {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}
قوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة" هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال معاذ: يا رسول اللّه، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.
قوله تعالى: "عن الأهلة" الأهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه، كما قال:
أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفر
وقيل: سمي شهرا لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله. وقيل: لثلاث من أوله. وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري: "وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه": قال أبو نصر عبدالرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا.
قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي.
قوله تعالى: "قل هي مواقيت للناس والحج" تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب" [الإسراء: 12] على ما يأتي. وقوله: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" [يونس: 5]. وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.
وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير توقيت. وهذا لا دليل فيه، لأنه عليه السلام قال لليهود: (أقركم فيها ما أقركم اللّه). وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الأمة.
قوله تعالى: "مواقيت" المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت. وقيل: الميقات منتهى الوقت. و"مواقيت" لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت "قوارير" في قوله: "قواريرا" [الإنسان:16] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم.
قوله تعالى: "والحج" بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: "حج البيت" [آل عمران: 97] في "آل عمران". سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.
أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل اللّه قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء اللّه تعالى.
استدل مالك رحمه اللّه وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية، لأن اللّه تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي، لقوله تعالى: "الحج أشهر معلومات" [البقرة: 197] على ما يأتي. وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله "هي مواقيت للناس والحج" يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج، ولو أراد التبعيض لقال: بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول: إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل، وليس كذلك في مسألتنا، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو، فبطل ما قالوه.
لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز، لأن اللّه تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح.
إذا رئي الهلال كبيرا فقال علماؤنا: لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه مده للرؤية) فهو لليلة رأيتموه.
قوله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعا. وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس. وروى الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (لم دخلت وأنت قد أحرمت). فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: (إني أحمس" أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية، وقال ابن عباس وعطاء وقتادة، وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري.
والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج:
وكم قطعنا من قفاف حمس
أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها، فقيل ما ذكرنا، وهو الصحيح. وقيل: إنه النسيء وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وسيأتي بيان النسيء في سورة [براءة] إن شاء الله تعالى. وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر. وسمي النساء بيوتا للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام. وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه.
قلت: القول الأول أصح هذه الأقوال، لما رواه البراء قال: كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وهذا نص في البيوت حقيقة. خرجه البخاري ومسلم. وأما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية، فتأمله. وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه.
قلت: فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل، فلا معنى للإعادة.
في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه). فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.
الآية: 190 {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}
قوله تعالى: "وقاتلوا" هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: "ادفع بالتي هي أحسن" [فصلت: 34] وقوله: "فاعف عنهم واصفح" [المائدة: 13] وقوله: "واهجرهم هجرا جميلا" [المزمل: 10] وقوله: "لست عليهم بمسيطر" [الغاشية: 22] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" [الحج: 39]. والأول أكثر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل "فاقتلوا المشركين" [التوبة: 5] فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع: نسخها "وقاتلوا المشركين كافة" [التوبة: 36] فأمر بالقتال لجميع الكفار. وقال ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد: هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة. وأما النظر فإن "فاعل" لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست:
الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [البقرة: 191]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل.
الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: "وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له" فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: "والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: "فذرهم وما حبسوا أنفسهم له".
الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا). وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبدالعزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر.
روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة "براءة" بقوله: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [التوبة: 123] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم). وقيل: غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة.
قوله تعالى: "ولا تعتدوا" قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: "لا تعتدوا" أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم.

jtsdv s,vm hgfrvm w 28(hgrv'fd) 28hgrv'fd hgfrvm jtsdv w,vm





رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
28القرطبي , البقرة , تفسير , صورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير سورة البقرة ص 10(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-04-2011 04:09 PM
تفسير سورة البقرة ص 9(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-04-2011 03:52 PM
تفسير سورة البقرة ص7(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-02-2011 07:57 PM
تفسير سورة الفاتحة (القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 12-31-2010 08:29 PM
تفسير سورة البقرة ص1(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 12-31-2010 07:57 PM


الساعة الآن 06:30 PM.