تفسير سورة سبأ ص 2 ( القرطبي) - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



علوم القرآن الكريم [القرآن الكريم] [إعراب القرآن] [تفسير القرآن الكريم] [تفسير الجلالين] [التفسير الميسر]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
افتراضي  تفسير سورة سبأ ص 2 ( القرطبي)
كُتبَ بتاريخ: [ 04-30-2015 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية الامير المجهول
 
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
الامير المجهول غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913
قوة التقييم : الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع


الآية: 8 {أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}
قوله تعالى: "أفترى على الله كذبا" لما دخلت ألف الاستفهام استغني عن ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة "مريم" عند قوله تعالى: "أطلع الغيب" [مريم: 78] مستوفى. "أم به جنة " وقيل هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين، والمعنى: قال المشركون "افترى على الله كذبا". والافتراء الاختلاق. "أم به جنة" أي جنون، فهو يتكلم بما لا يدري. "بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد" أي ليس الأمر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب؛ إذ صاروا إلى تعجيز الإله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.
الآية: 9 {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب}
أعلم الله تعالى أن الذي قدر علي خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السموات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف. كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط" بالياء في الثلاث؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص "كسفا" بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في "الإسراء" وغيرها. "إن في ذلك لآية" أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا "لآية" أي دلالة ظاهرة. "لكل عبد منيب" أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته.
الآية: 10 {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد}
قوله تعالى: "ولقد آتينا داود منا فضلا" بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. "آتينا" أعطينا. "فضلا" أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأول: النبوة. الثاني: الزبور. الثالث: العلم، قال الله تعالى: "ولقد آتينا داود وسليمان علما" [النمل: 15]. الرابع - القوة، قال الله تعالى: "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" [ص: 17]. الخامس::تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: "يا جبال أوبي معه". السادس: التروية، قال الله تعالى: "فغفرنا له ذلك" [ص: 25]. السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض" [ص: 26] الآية. الثامن: إلانة الحديد، قال تعالى: "وألنا له الحديد". التاسع: حسن الصوت، وكان، داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: "يزيد في الخلق ما يشاء" [فاطر: 1] على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: (لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود). قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله.
قوله تعالى: "ياجبال أوبي معه" أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: "إنا سخرنا الجبال معه" يسبحن بالعشي والإشراق" [ص: 18]. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سيري معه حيث شاء؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنزل الليل. قال ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: "أوبي معه" أي رجعي معه؛ من آب يؤوب إذا رجع، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة؛ فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوي بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته. "والطير" بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبدالملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في "أوبي" وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع "يا جبال" أي نادينا الجبال والطير، قال سيبويه. وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير. وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على "ولقد آتينا داود ما فضلا". النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير.
قوله تعالى: "وألنا له الحديد" قال ابن عباس: صار عنده كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجيين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم. وقيل: أعطي قوة يثني بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له:(ما قولك في هذا الملك داود)؟ فقال له الملك (نعم العبد لولا خلة فيه) قال داود: (وما هي)؟ قال:(يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله). فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله، وتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. مسألة: في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده). وقد مضى هذا في "الأنبياء" مجودا والحمد لله.
الآية: 11 {أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير}
قوله تعالى: "أن اعمل سابغات" أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات؛ يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. "وقدر في السرد" قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي "يقصم" بالقاف، والفاء أيضا رواية. "في السرد" السرد نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط. والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الإشفى، ويقال سراد؛ قال الشماخ:
فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز
والسراد: السير الذي يخرز به؛ قال لبيد:
يشك صفائحها بالروق شزرا كما خرج السراد من النقال
ويقال: قد سرد الحديث والصوم؛ فالسرد فيهما أن يجيء بهما ولاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام. وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه: ومنه رجل سردي أي جريء، قال: لأنه يمضى قوما. وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفا أسراده لينال طول العيش غير مروم
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما داودُ أو صَنـَعُ السوابغ تبَّع
قوله تعالى: "واعملوا صالحا" أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود وأهله، كما قال: "اعملوا آل داود شكرا" [سبأ: 13]. "إني بما تعملون بصير" وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور.
الآية: 12 {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير}
قوله تعالى: "ولسليمان الريح" قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: "الريحُ" بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار؛ فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار. وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. "غدوها شهر ورواحها شهر" أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الإنس مما يلي سفلة الإنس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: "غدوها شهر ورواحها شهر". وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه كتبه بعض صحابة سليمان؛ إما من الجن وإما من الإنس - : نحن نزلنا وما بنيناه، ومبينا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام. وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تؤمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل رفعة وإن نسوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله تعالى: "وأسلنا له عين القطر" القطر: النحاس؛ عن ابن عباس وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب؛ وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل لعكرمة: إلى أين سالت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من الناقل؛ إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها؛ وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدته عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته أو قال الخليل: القطر: النحاس المذاب.
قلت: دليله قراءة من قرأ: "من قطرٍ آن". "ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه" أي بأمره "ومن يزغ منهم عن أمرنا" الذي أمرناه به من طاعة سليمان. "نذقه من عذاب السعير" أي في الآخرة، قال أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم فيما روى السدي - ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أم سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و"من" في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم في الريح.
الآية: 13 {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}
قوله تعالى: "من محاريب وتماثيل " المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ومعظم. وقال الضحاك: "من محاريب" أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال عدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أوكالـ ـبيض في الروض زهره مستنير
وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة؛ كما قال: "إذ تسوروا المحراب" [ص: 21] وقوله: "فخرج على قومه من المحراب" [مريم: 11] أي أشرف عليهم. وفي الخبر (أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يخرجون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح (والتهليل لجة واحدة.
قوله تعالى: "وتماثيل" جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياه. ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور). أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "نوح" عليه السلام. وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال
وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح. ويقال: إن اسفنديار كان منهم؛ والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما.
حكى مكي في الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه.
قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام؛ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه؛ لعموم قوله: "وتماثيل". وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله: "وتماثيل" فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقتر بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: "ما يشاء" فاقتران المشية به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور. المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة، ثم جاء (إلا ما كان رقما في ثوب) فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: (أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا). ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهية لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه. فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم؛ قال ابن العربي.
روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا). قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. وعنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: (إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل). وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: (أخريه عني) قالت: فأخرته فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا؛ لأن محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله.
قال المزني عن الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء. واستثنى بعضهم (ما كان رقما في ثوب)، لحديث سهل بن حنيف.
قلت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن. وقوله: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) ولم يستثن. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم:(أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون). يدل على المنع من تصوير شيء، أي شيء كان. وقد قال جل وعز: "ما كان لكم أن تنبتوا شجرها" [النمل: 60] على ما تقدم بيانه فأعلمه.
وقد استثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له، فرخص في ذاك، والله أعلم.
قوله تعالى: "وجفان كالجواب" قال ابن عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل. وقال ابن القاسم عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. النحاس: "وجفان كالجواب" الأولى أن تكون بالياء، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حال فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع؛ ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد؛ أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر. وقال الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، قال:
تروج على آل الملحق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
ويروى أيضا:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح... ... ...
ذكره النحاس. "وقدور راسيات" قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى "راسيات" ثوابت، لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبدالله بن الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقول:
كالجوابي لا تني مترعة لقرى الأضياف أو للمحتضر
قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد.
قوله تعالى: "اعملوا آل داود شكرا" قد مضى معنى الشكر في "البقرة" وغيرها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال:(ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود) قال فقلنا: ما هن. فقال: (العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر والغنى. وخشية الله في السر والعلانية). خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: (يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك) فقال: (يا داود الآن عرفتني). وقد مضى هذا المعنى في سورة "إبراهيم". وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك؛ لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما قال الله تعالى "أعملوا آل داود شكرا" قال داود لسليمان: أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني - قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر - قال نعم، فكفاه. وقال الزهري: "أعملوا آل داود شكرا" أي قولوا الحمد لله. و"شكرا" نصب على جهة المفعول؛ أي اعملوا عملا هو الشكر. وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم" [ص: 24] وهو المراد بقوله "وقليل من عبادي الشكور". وقد قال سفيان بن عينة في تأويل قوله تعالى "أن اشكر لي" [لقمان: 14] أن المراد بالشكر الصلوات الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه؛ فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا). انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان؛ فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم.
قوله تعالى: "وقليل من عبادي الشكور" يحتمل أن يكون، مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله الله عليه وسلم قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل؛ فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى "وقليل من عبادي الشكور". فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك. وقد قيل: إنه كان يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله، والله أعلم.
الآية: 14 {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين}
قوله تعالى: "فلما قضينا عليه الموت" أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت "ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته" وذلك أنه كان متكئا على المنسأة (وهي العصا بلسان الحبشة، في قول السدي. وقيل: هي بلغة اليمن، ذكره القشيري) فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها، فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، أي سببا لظهور موته، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضى عليه سنة. واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قولين: أحدهما ما قاله قتادة وغيره، قال: كانت الجن تدعي علم الغيب، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم "تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب" ابن مسعود: أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط. ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات؛ فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وقيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به؛ فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأل عن آية موته فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا؛ فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا ولكذا؛ فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ قال: ولأي شيء أنت؟ قال: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال. اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد؛ ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت؛ فقال: اللهم عم الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب؛ فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس "تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب". وقرأ يعقوب في رواية رويس "تبنت الجن" غير مسمى الفاعل. ونافع وأبو عمرو "تأكل منساته" بألف بين السين والتاء من غير همز. والباقون بهمزة مفتوحة موضع الألف، لغتان، إلا أن ابن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:
إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقال آخر فهمز وفتح:
ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
وقال آخر:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
وقال آخر فسكن همزها:
وقائم قد قام من تكأته كقومة الشيخ إلى منسأته
وأصلها من: نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء وساق. وقال طرفة:
أمون كألواح الإران نسئتها على لاحب كأنه ظهر برجد
فسكن همزها. قال النحاس: واشتقاقها يدل على أنها مهموزة؛ لأنها مشتقة من نسأته أي أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر. وقال مجاهد وعكرمة: هي العصا، ثم قرأ "منساته" أبدل من الهمزة ألفا، فإن قيل: البدل من الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا لا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة. فالجواب على هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمور: ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة لأنها لأن ما كان مهموزا فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. المهدوي: ومن قرأ بهمزة ساكنة فهو شاذ بعيد؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا، لكنه يجوز أن يكون ما سكن من المفتوح استخفافا، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير قياس قلب الألف همزة كما قلبوها في قولهم العألم والخأتم، وروي عن صعيد بن جبير "من" مفصولة "سأته" مهموزة مكسورة التاء؛ فقيل: إنه من سئة القوس في لغة من همزها، وقد روي همز سية القوس عن رؤية. قال الجوهري: سية القوس ما عطف من طرفيها، والجمع سيات، والهاء عوض عن الواو، والنسبة إليها سيوي. قال أبو عبيدة: كان رؤبة يهمز "سية القوس" وسائر العرب لا يهمزونها. وفي دابة الأرض قولان: أحدهما: أنها أرضة؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقد قرئ "دابة الأرض" بفتح الراء، وهو جمع الأرضة؛ ذكره الماوردي. الثاني: أنها دابة تأكل العيدان. قال الجوهري: والأرضة (بالتحريك): دويبة تأكل الخشب؛ يقال: أرضت الخشبة تؤرض أرضا (بالتسكين) فهي مأروضة إذا أكلتها.
قوله تعالى: "فلما خر" أي سقط "تبينت الجن" قال الزجاج: أي تبينت الجن موته. وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن؛ مثل: "واسأل القرية" [يوسف: 82]. وفي التفسير - بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول؛ فلما خر تبينت، الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير. وفي الخبر: أن الجن شكرت ذلك للأرضة فأينما كانت، يأتونها بالماء. قال السدي: والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها به الشياطين شكرا؛ وقالت: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. و"أن" في موضع رفع على البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن تكون في موضع نصب على، تقدير حذف اللام. "ما لبثوا" أقاموا. "في العذاب المهين" السخرة والحمل والبنيان وغير ذلك. وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة؛ فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة. وقال السدي وغيره: كان عمر سليمان سبعا وستين ستة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة. وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني، على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل، للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه. ولا خائف إلا أمنته. ولا سقيم إلا شفيته. ولا فقير إلا أغنيته. والخامسة: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه؛ إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا رب العالمين؛ ذكره الماوردي.
قلت: وهذا أصح مما تقدم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرج النسائي وغيره بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه) وقد ذكرنا هذا الحديث في "آل عمران" وذكرنا بناءه في "الإسراء".

jtsdv s,vm sfH w 2 ( hgrv'fd) hgrv'fd jtsdv w ajl





توقيع :

إنا لأهل العدل والتقدم ::: إنا لأصحاب الصراط القيم
الدين ما دنّا بلا توهم ::: الحق فينا الحق غير أطسم
يا جاهلا بأمرنا لا تغشم ::: توسمن أو سل أولي التوسم


]

رد مع اقتباس

إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
2 , القرطبي , تفسير , ص , شتم , صورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
[BlackBerry] أكبر مجموعه برامج بالشرح والصور على الانترنت 100 برنامج ناقل الأخبار بلاك بيري و آي فون - Blackberry & iPhone 0 01-02-2012 02:37 AM
الجزء السادس-فتاوى التفسير عابر الفيافي جوابات الإمام السالمي 1 03-23-2011 07:20 PM
الجزء السادس-فتاوى أصول الدين عابر الفيافي جوابات الإمام السالمي 2 03-23-2011 07:01 PM
الجزء الخامس-فتاوى الآداب عابر الفيافي جوابات الإمام السالمي 1 03-17-2011 02:43 AM
الموسوعه من السؤال والجواب ف الثقافه الاسلاميه cdabra الـنور الإسلامي العــام 0 02-24-2011 07:53 AM


الساعة الآن 01:21 AM.