تفسير سورة البقرة ص 35(القرطبي) - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



علوم القرآن الكريم [القرآن الكريم] [إعراب القرآن] [تفسير القرآن الكريم] [تفسير الجلالين] [التفسير الميسر]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
افتراضي  تفسير سورة البقرة ص 35(القرطبي)
كُتبَ بتاريخ: [ 01-06-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية الامير المجهول
 
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
الامير المجهول غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913
قوة التقييم : الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع


الآية: 224 {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم}
قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير: (هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت). وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير "لا" بعد "أن". وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى: "واحفظوا أيمانكم" [المائدة: 89]. وذم من كثر اليمين فقال تعالى: "ولا تطع كل حلاف مهين" [القلم: 10]. والعرب تمتدح بقلة الأيمان، حتى قال قائلهم:
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن صدرت منه الألية برت
وعلى هذا "أن تبروا" معناه: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فان الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى، وهذا تأويل حسن. مالك بن أنس: بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء. وقيل: المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: علي يمين، وهو لم يحلف القتبي: المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين.
قلت: وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل على سبب النزول، على ما نبينه في المسألة بعد هذا.
قيل: نزلت بسبب الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها، كما في حديث الإفك، وسيأتي بيانه في "النور"، عن ابن جريج. وقيل: نزلت في الصديق أيضا حين حلف ألا يأكل مع الأضياف. وقيل نزلت في عبدالله بن رواحة حين حلف ألا يكلم بشير بن النعمان وكان ختنه على أخته، والله أعلم.
قوله تعالى: "عرضة لأيمانكم" أي نصبا، عن الجوهري. وفلان عرضة ذاك، أي عرضة لذلك، أي مقرن له قوي عليه. والعرضة: الهمة. قال:
هم الأنصار عرضتها اللقاء
وفلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه. وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له، وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح، إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة على السفر والحرب، قال كعب بن زهير:
من كان نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقال عبدالله بن الزبير:
فهذي لأيام الحروب وهذه للهوي وهذي عرضة لارتحالنا
أي عدة. وقال آخر:
فلا تجعلني عرضة للوائم
وقال أوس بن حجر:
وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف
والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر.
قوله تعالى: "أن تبروا وتتقوا" مبتدأ وخبره محذوف، أي البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل، مثل "طاعة وقول معروف" [محمد: 21] عن الزجاج والنحاس. وقيل: محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح، عن الزجاج أيضا. وقيل: مفعول من أجله. وقيل: معناه ألا تبروا، فحذف "لا"، كقوله تعالى: "يبين الله لكم أن تضلوا" [النساء: 176] أي لئلا تضلوا، قاله الطبري والنحاس. ووجه رابع من وجوه النصب: كراهة أن تبروا، ثم حذفت، ذكره النحاس والمهدوي. وقيل: هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي، التقدير: في أن تبروا، فأضمرت "في" وخفضت بها. و"سميع" أي لأقوال العباد. "عليم" بنياتهم.
الآية: 225 {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم}
قوله تعالى: "باللغو" اللغو: مصدر لغا يلغو ويلغى، ولغي يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغى إثمه، وفي الحديث: (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت). ولغة أبي هريرة "فقد لغيت" وقال الشاعر:
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وقال آخر:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس: (هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين). قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (أيمان اللغو ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب). وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: ("لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" في قول الرجل: لا والله، وبلى والله). وقيل: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف. قال أبو هريرة: (إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة)، ونحوه عن ابن عباس. وروي: أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلاف ذلك، فقال الرجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيمان الرماة لغو لا حنث فيها ولا كفارة). وفي الموطأ قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أن فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. وروى عن ابن عباس - إن صح عنه - قال: (لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان)، وقاله طاوس. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمين في غضب) أخرجه مسلم. وقال سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال علي حرام، وقاله مكحول الدمشقي، ومالك أيضا، إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقيل: هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن وعروة وعبدالله ابنا الزبير، كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها) أخرجه ابن ماجة في سننه، وسيأتي في "المائدة" أيضا. وقال زيد بن أسلم لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا. النخعي: هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: (إن لغو اليمين هي المكفرة، أي إذا كفرت اليمين سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير). وحكى ابن عبدالبر قولا: أن اللغو أيمان المكره. قال ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها. لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض.
قلت: ويمين المكره بمثابتها. وسيأتي حكم من حلف مكرها في "النحل" إن شاء الله تعالى. قال ابن العربي: وأما من قال إنه يمين المعصية فباطل، لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له: لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه. وأما من قال: إنه دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا، فهو قول لغو، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه، وربما يؤاخذ به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا إلا أعطاه إياه). وأما من قال إنه يمين الغضب فإنه يرده حلف النبي صلى الله عليه وسلم غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه. وسيأتي في "براءة ". قال ابن العربي: وأما من قال: إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى. وضعفه ابن عطية أيضا وقال: قد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.
قوله تعالى: "في أيمانكم" الأيمان جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا. وقيل: يمين فعيل من اليمن، وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع أيمان وأيمن، قال زهير:
فتجمع أيمن منا ومنكم
قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" مثل قوله: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" [المائدة: 89]. وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى. وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا اللغو، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه. و"غفور حليم" صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.
الآيتان: 226 - 227 {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}
قوله تعالى: "للذين يؤلون" "يؤلون" معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية وألوة وإلوة. وقرأ أبي وابن عباس "للذين يقسمون". ومعلوم أن "يقسمون" تفسير "يؤلون". وقرئ "للذين آلوا" يقال: آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه "ولا يأتل أولو الفضل منكم"، وقال الشاعر:
فآليت لا أنفك أحدو قصيدة تكون وإياها بها مثلا بعدي
وقال آخر:
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
وقال ابن دريد:
ألية باليعملات يرتمي بها النجاء بين أجواز الفلا
قال عبدالله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.
قلت: وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كذا في صحيح مسلم. وقيل: لأن زينب ردت عليه هديته، فغضب صلى الله عليه وسلم فآلى منهن، ذكره ابن ماجة.
ويلزم الإيلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء. وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي إذا لم يكن مجبوبا، والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط. واختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى، ففي قول: لا إيلاء له. وفي قول: يصح إيلاؤه، والأول أصح وأقرب إلى الكتاب والسنة، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث بقي حكم الإيلاء. وإيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة لازم له، وكذلك الأعجمي إذا آلى من نسائه.
واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده لقوله عليه السلام: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت). وبه قال الشافعي في الجديد. وقال ابن عباس: (كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء)، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي. قال ابن عبدالبر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله أو بصفة من صفاته أو قال: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته فإنه يلزمه الإيلاء. فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر بـ "الله" فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلا أن يكون أراد بـ "الله" ونواه. ومن قال إنه يمين يدخل عليه، وسيأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى. فإن حلف بالصيام ألا يطأ امرأته فقال: إن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول. وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة. والأصل في هذه الجملة عموم قوله تعالى: "للذين يؤلون" ولم يفرق، فإذا آلى بصدقة أو عتق عبد معين أو غير معين لزم الإيلاء.
فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه في رواية ابن القاسم عن مالك. وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمول، وهو أصح لأن الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف، وهو مذهب فقهاء الأمصار، لأنه بين بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل. ووجه ما رواه ابن القاسم مبني على أن الاستثناء لا يحل اليمين، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة، على ما يأتي بيانه في "المائدة" فلما كانت يمينه باقية منعقدة لزمه حكم الإيلاء وإن لم تجب عليه كفارة. فإن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمول، قاله مالك وغيره. قال الباجي: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره، ففي المبسوط: أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال: قال مالك: كل كلام نوي به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء.
واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: (لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا). وقال طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود والنخعي وابن أبي ليلى والحكم وحماد بن أبي سليمان وقتادة، وبه قال إسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فان حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا، وكانت عندهم يمينا محضا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء. قال الكوفيون: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر كما جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفي العدة ثلاثة قروء، فلا تربص بعد. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفيء وهو الجماع في داخل المدة، والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر. واحتج مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل. ووجه قول إسحاق - في قليل الأمد يكون صاحبه به موليا إذا لم يطأ - القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإنه يكون موليا، لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.
واختلفوا أن من حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الأربعة الأشهر ولم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الأربعة الأشهر طلقة رجعية. ومنهم ومن غيرهم من يقول: يلزمه طلقة بائنة بانقضاء الأربعة الأشهر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء فيراجع امرأته بالوطء ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. والفيء: الجماع فيمن يمكن مجامعتها. قال سليمان بن يسار: كان تسعة رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء، قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر.
وأجل المولي من يوم حلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم، فإن خاصمته ولم ترض بامتناعه من الوطء ضرب له السلطان أجل أربعة أشهر من يوم حلف، فإن وطئ فقد فاء إلى حق الزوجة وكفر عن يمينه، وإن لم يفيء طلق عليه طلقة رجعية. قال مالك: فإن راجع لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة. قال الأبهري: وذلك أن الطلاق إنما وقع لدفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر باق، فلا معنى للرجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته، لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر وإنما هو من أجل العذر.
واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب، فقال ابن عباس: (لا إيلاء إلا بغضب)، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء، كلهم يقولون: (الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشادة وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها إضرارا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء). وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد. قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك.
قلت: ويدل عليه عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم. والله أعلم.
قال علماؤنا: ومن امتنع من وطء امرأته بغير يمين حلفها إضرارا بها أمر بوطئها، فإن أبى وأقام على امتناعه مضرا بها فرق بينه وبينها من غير ضرب أجل. وقد قيل: يضرب أجل الإيلاء. وقد قيل: لا يدخل على الرجل الإيلاء في هجرته من زوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله تعالى في ألا يمسكها ضرارا.
واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد. قال مالك: وقد بلغني أن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل إلى أنه لا يكون موليا من حلف ألا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار لأنه يجد السبيل إلى وطئها في غير ذلك المكان. قال ابن أبي ليلى وإسحاق: إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، ألا ترى أنه يوقف عند الأشهر الأربعة، فإن حلف ألا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك، وهذا إنما يكون في سفر يتكلف المؤونة والكلفة دون جنته أو مزرعته القريبة.
قوله تعالى: "من نسائهم" يدخل فيه الحرائر والذميات والإماء إذا تزوجن. والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: إيلاؤه مثل إيلاء الحر، وحجتهم ظاهر
قوله تعالى: "للذين يؤلون من نسائهم" فكان ذلك لجميع الأزواج. قال ابن المنذر: وبه أقول. وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران. وقال الحسن والنخعي: إيلاؤه من زوجته الأمة شهران، ومن الحرة أربعة أشهر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.
قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما. وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول. وقال مالك: ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.
وأما الذمي فلا يصح إيلاؤه، كما لا يصح ظهاره ولا طلاقه، وذلك أن نكاح أهل الشرك ليس عندنا بنكاح صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع فتلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطء زوجته ضرارا من غير يمين.
قوله تعالى: "تربص أربعة أشهر" التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر، قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى: "واهجروهن في المضاجع" [النساء: 34] وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهن. وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:
ألا طال هذا الليل وأسود جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر.
قوله تعالى: "فإن فاؤوا" معناه رجعوا، ومنه "حتى تفيء إلى أمر الله" [الحجرات: 9] ومنه قيل للظل بعد الزوال: فيء، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفيء فيئة وفيوءا. وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع. قال:
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهي امرأته، فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك في المدونة والمبسوط. وقال عبدالملك: وتكون بائنا منه يوم انقضت المدة، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى، فان أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها، حمل أمره على الكذب فيها واللدد، وأمضيت الأحكام على ما كانت تجب في ذلك الوقت. وقالت طائفة: إذا شهدت بينة بفيئته في حال العذر أجزأه، قاله الحسن وعكرمة والنخعي: وبه قال الأوزاعي. وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطء، قال ابن عطية: ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان له عذر يفيء بقلبه، وبه قال أبو قلابة. وقال أبو حنيفة: إن لم يقدر على الجماع فيقول: قد فئت إليها. قال الكيا الطبري: أبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض وبينه وبينها مدة أربعة أشهر، وهي رتقاء أو صغيره أو هو مجبوب: إنه إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح، والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه. وقالت طائفة: لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره، وكذلك قال سعيد بن جبير، قال: وكذلك إن كان في سفر أو سجن.
أوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته. وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي، قال النخعي: كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه. وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: "فإن فاؤوا" يعني لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له قوله تعالى: "فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم"، ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطء الزوجة معصية.
قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها) خرجه ابن ماجة في سننه. وسيأتي لها مزيد بيان في آية الأيمان إن شاء الله تعالى. وحجة الجمهور قوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
إذا كفر عن يمينه سقط عنه الإيلاء، قاله علماؤنا. وفي ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء، ودليل على أبي حنيفة في مسألة الأيمان، إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث، قاله ابن العربي.
قلت: بهذه الآية استدل محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال: لما حكم الله تعالى للمولي بأحد الحكمين من فيء أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير فيء أو عزيمة الطلاق، لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شيء لم يكن موليا. وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب.
قوله تعالى: "وإن عزموا الطلاق" العزيمة: تتميم العقد على الشيء، يقال: عزم عليه يعزم عزما (بالضم) وعزيمة وعزيما وعزمانا واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك. قال شمر: العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله. والطلاق من طلقت المرأة تطلق (على وزن نصر ينصر) طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا. قال الأعشى:
أيا جارتا بيني فإنك طالقة
ويجوز طلقت (بضم اللام) مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق: التخلية، يقال: نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعي، وبعير طلق (بضم الطاء واللام) غير مقيد، والجمع أطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه. فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها. وقيل: إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة.
في قوله تعالى: "وإن عزموا الطلاق" دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك: ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: "سميع" وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: "سمع" لإيلائه، "عليم" بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر. وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: "للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم". وتقديرها عندهم: "للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا" فيها "فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق" بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها "فإن الله سميع عليم". ابن العربي: وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه.
قلت: وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: "وإن عزموا الطلاق" دليل على أن الأمة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق، والله أعلم.
الآية: 228 {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم}
قوله تعالى: "والمطلقات" لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق. وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثا)، فنسخ ذلك وقال: "الطلاق مرتان" الآية. والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية "الأحزاب": "فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" [الأحزاب: 49] على ما يأتي. وكذلك الحامل بقوله: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" [الطلاق: 4]. والمقصود من الأقراء الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة. وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي. وقال قوم: إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة، وهو عرف النساء وعليه معظمهن.
قوله تعالى: "يتربصن" التربص الانتظار، على ما قدمناه. وهذا خبر والمراد الأمر، كقوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن" [البقرة: 233] وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري. ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره. وقيل،: معناه ليتربصن، فحذف اللام.
قرأ جمهور الناس "قروء" على وزن فعول، اللام همزة. ويروى عن نافع "قرو" بكسر الواو وشدها من غير همز. وقرأ الحسن "قرء" بفتح القاف وسكون الراء والتنوين. وقروء جمع أقرؤ وأقراء، والواحد قرء بضم القاف، قال الأصمعي. وقال أبو زيد: "قرء" بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ. وأقرأت طهرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت، بلا ألف. يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين. والقرء: انقطاع الحيض. وقال بعضهم: ما بين الحيضتين وأقرأت حاجتك: دنت، عن الجوهري. وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا، ذكره النحاس.
واختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر:
كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح
فقيل للحيض: وقت، وللطهر وقت، لأنهما يرجعان لوقت معلوم، وقال الأعشى في الأطهار:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة تسد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة عزا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقال آخر في الحيض:
يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض
يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض. وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني. ويقال لاجتماع حروفه، ويقال: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم تجمع في جوفها، وقال عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء، لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز.
قلت: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهري وغيره. واسم ذلك الماء قرى (بكسر القاف مقصور). وقيل: القرء، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعي في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا، ويكون معنى قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء". أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات، والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيا فتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، ولكن عرفنا بدليل آخر، إن الله تعالى لم يرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإذا خرج أحدهما عن أن يكون مرادا بقي الآخر وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما. قال الكيا الطبري: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي، ويمكن أن نذكر في ذلك سرا لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب فبحيضها علم براءة رحمها. والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فان الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الشاعر:
ومبرأ من كل غبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغْيَل
يعني أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها. فهذا ما للعلماء وأهل اللسان في تأويل القرء. وقالوا: قرأت المرأة إذا حاضت أو طهرت. وقرأت أيضا إذا حملت. واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول الله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" [الطلاق: 1] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: "فطلقوهن" يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى: "وأحصوا العدة". يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: (مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء). أخرجه مسلم وغيره. وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء. ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض، ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. قال أبو بكر بن عبدالرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في (أن الأقراء هي الأطهار). فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة. فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها: إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا ممن قال: الأقراء الأطهار يقول هذا غير ابن شهاب الزهري، فإنه قال: تلغي الطهر الذي طلقت فيه ثم تعتد بثلاثة أطهار، لأن الله عز وجل يقول "ثلاثة قروء".
قلت: فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقول ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة، وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود بن علي وأصحابه. والحجة على الزهري أن النبي صلى أذن في طلاق الطاهر من غير جماع، ولم يقل أول الطهر ولا آخره. وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض، لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض. احتج الكوفيون بقوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم: (إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء). وقال تعالى: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر" [الطلاق: 4]. فجعل المأيوس منه المحيض، فدل على أنه هو العدة، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما. وقال عمر بحضرة الصحابة: (عدة الأمة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت)، ولم ينكر عليه أحد. فدل على أنه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وحسبك ما قالوا! وقوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" يدل على ذلك، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء، يريد كوامل، هذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض، لأن من يقول: إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا. وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة.
قلت: هذا يرده قوله تعالى: "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام" [الحاقة: 7] فأثبت الهاء في "ثمانية أيام"، لأن اليوم مذكر وكذلك القرء، فدل على أنه المراد. ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر. وعندنا تعتد بالطهر، على ما بيناه. وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع، كما قال تعالى: "الحج أشهر معلومات" [البقرة: 197] والمراد به شهران وبعض الثالث، فكذلك قوله: "ثلاثة قروء". والله أعلم. وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قال سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي. وقال شريك: إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل. وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: (إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج. إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها). وروى نحوه عن ابن عباس، وهو قول ضعيف بدليل قول الله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" [البقرة:234] على ما يأتي. وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت. والله أعلم.
والجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان. وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة: فإن السنة أحق أن تتبع. وقال الأصم عبدالرحمن بن كيسان وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء. واحتج الجمهور بقوله عليه السلام: (طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان). رواه ابن جريج عن عطاء عن مظاهر بن أسلم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان) فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف. وروي عن ابن عمر: أيهما رق نقص طلاقه، وقالت به فرقة من العلماء.
قوله تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" أي من الحيض، قاله عكرمة والزهري والنخعي. وقيل: الحمل، قاله عمر وابن عباس. وقال مجاهد: الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض. والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطلاع إلا من جهة النساء جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك، وهو مقتضى قوله تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن". وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات. ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل، لتقطع حقه من الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية. وحكي أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي وهي حبلى، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري فأنزل الله الآية، وردت امرأة الأشجعي عليه.
الثانية: قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم: إذا قالت المرأة في عشرة أيام: قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لا تصدق ولا يقبل ذلك منها، إلا أن تقول: قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه. واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة، فقال مالك: إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان. قال في المدونة: إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء، وبه قال شريح، وقال له علي بن أبي طالب: قالون! أي أصبت وأحسنت. وقال في كتاب محمد: لا تصدق إلا في شهر ونصف. ونحوه قول أبي ثور، قال أبو ثور: أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما، وأقل الحيض يوم. وقال النعمان: لا تصدق في أقل من ستين يوما، وقال به الشافعي.
قوله تعالى: "إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر" هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه. أي فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق، وليس قوله: "إن كن يؤمن بالله" على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم، لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن، وإنما هو كقولك: إن كنت أخي فلا تظلمني، أي فينبغي أن يحجزك الإيمان عنه، لأن هذا ليس من فعل أهل الإيمان.
قوله تعالى: "وبعولتهن" البعولة جمع البعل، وهو الزوج، سمي بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى: "أتدعون بعلا" [الصافات: 125] أي ربا، لعلوه في الربوبية، يقال: بعل وبعولة، كما يقال في جمع الذكر: ذكر وذكورة، وفي جمع الفحل: فحل وفحولة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، وهو شاذ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها السماع، فلا يقال في لعب: لعوبة. وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على فعول. والبعولة أيضا مصدر البعل. وبعل الرجل يبعل (مثل منع يمنع) بعولة، أي صار بعلا: والمباعلة والبعال: الجماع، ومنه قوله عليه السلام لأيام التشريق: (إنها أيام أكل وشرب وبعال) وقد تقدم. فالرجل بعل المرأة، والمرأة بعلته. وباعل مباعلة إذا باشرها. وفلان بعل هذا، أي مالكه وربه. وله محامل كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "أحق بردهن" أي بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العدة على حديث ابن عمر. ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وإذا كان هذا فيكون في الآية دليل على تخصيص ما شمله العموم في المسميات، لأن قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" عام في المطلقات ثلاثا، وفيما دونها لا خلاف فيه. ثم قوله: "وبعولتهن أحق" حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث. وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء. قال المهلب: وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، لقوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم" [الطلاق: 2] فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق. قال ابن المنذر: وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روي عن الأوائل في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة، فقال مالك: إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة. وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق، لقوله عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). فإن وطئ في العدة لا ينوي الرجعة فقال مالك: يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد. قال ابن القاسم: فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في بقية مدة الاستبراء، فإن فعل فسخ نكاحه، ولا يتأبد تحريمها عليه لأن الماء ماؤه. وقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، وهكذا قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين والزهري وعطاء وطاوس والثوري. قال: ويشهد، وبه قال أصحاب الرأي والأوزاعي وابن أبي ليلى، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عمر: وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها، ويروى ذلك عن طائفة من أصحاب مالك، وإليه ذهب الليث. ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخيار أن له وطأها في مدة الخيار، وأنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه واختار نقض البيع بفعله ذلك. وللمطلقة الرجعية حكم من هذا. والله أعلم.
من قبل أو باشر ينوي بذلك الرجعة كانت رجعة، وإن لم ينو بالقبلة والمباشرة الرجعة كان آثما وليس بمراجع. والسنة أن يشهد قبل أن يطأ أو قبل أن يقبل أو يباشر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهي رجعة، وهو قول الثوري: وينبغي أن يشهد. وفي قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور لا يكون رجعة، قاله ابن المنذر. وفي "المنتقى" قال: ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول، فأما بالفعل نحو الجماع والقبلة فقال القاضي أبو محمد: يصح بها وبسائر الاستمتاع للذة. قال ابن المواز: ومثل الجسة للذة، أو أن ينظر إلى فرجها أو ما قارب ذلك من محاسنها إذا أراد بذلك الرجعة، خلافا للشافعي في قوله: لا تصح الرجعة إلا بالقول، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وجابر بن زيد وأبي قلابة.
قال الشافعي: إن جامعها ينوي الرجعة، أو لا ينويها فليس برجعة، ولها عليه مهر مثلها. وقال مالك: لا شيء لها، لأنه لو ارتجعها لم يكن عليه مهر، فلا يكون الوطء دون الرجعة أولى بالمهر من الرجعة. وقال أبو عمر: ولا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي، وليس قوله بالقوي، لأنها في حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر المثل في وطء امرأة حكمها في أكثر أحكامها حكم الزوجة! إلا أن الشبهة في قول الشافعي قوية، لأنها عليه محرمة إلا برجعة لها. وقد أجمعوا على أن الموطوءة بشبهة يجب لها المهر، وحسبك بهذا!
واختلفوا هل يسافر بها قبل أن يرتجعها، فقال مالك والشافعي: لا يسافر بها حتى يراجعها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه روى عنه الحسن بن زياد أن له أن يسافر بها قبل الرجعة، وروى عنه عمرو بن خالد، لا يسافر بها حتى يراجع.
واختلفوا هل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها، وهل تتزين له وتتشرف، فقال مالك: لا يخلو معها، ولا يدخل عليها إلا بإذن، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها. وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك فقال: لا يدخل عليها ولا يرى شعرها. ولم يختلف أبو حنيفة وأصحابه في أنها تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وعن سعيد بن المسيب قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا، ويسلم إذا دخل، ونحوه عن قتادة، ويشعرها إذا دخل بالتنخم والتنحنح. وقال الشافعي: المطلقة طلاقا يملك رجعتها محرمة على مطلقها تحريم المبتوتة حتى يراجع، ولا يراجع إلا بالكلام، على ما تقدم.
أجمع العلماء على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة: إني كنت راجعتك في العدة وأنكرت أن القول قولها مع يمينها، ولا سبيل له إليها، غير أن النعمان كان لا يرى يمينا في النكاح ولا في الرجعة، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم. وكذلك إذا كانت الزوجة أمة واختلف المولى والجارية، والزوج يدعي الرجعة في العدة بعد انقضاء العدة وأنكرت فالقول قول الزوجة الأمة وإن كذبها مولاها، هذا قول الشافعي وأبي ثور والنعمان. وقال يعقوب ومحمد: القول قول المولى وهو أحق بها.
لفظ الرد يقتضي زوال العصمة، إلا أن علماءنا قالوا: إن الرجعية محرمة الوطء، فيكون الرد عائدا إلى الحل. وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن قال بقولهما - في أن الرجعة محللة الوطء: إن الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له خاصة، وإن أحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء - قالوا: وأحكام الزوجية وإن كانت باقية فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة، فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت المرأة في سلوكها، وهذا رد مجازي، والرد الذي حكمنا به رد حقيقي، فإن هناك زوال مستنجز وهو تحريم الوطء، فوقع الرد عنه حقيقة، والله أعلم.
لفظ "أحق" يطلق عند تعارض حقين، ويترجح أحدهما، فالمعنى حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، ومثل هذا قوله عليه السلام: (الأيم أحق بنفسها من وليها). وقد تقدم.
الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم، لقوله تعالى: "ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" [البقرة: 231] ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه.
قوله تعالى: "ولهن" أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" أي زينة من غير مأثم. وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن. وقيل: إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن. قاله الطبري: وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب. والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية.
قول ابن عباس: (إني لأتزين لامرأتي). قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت. لأن اللحية لم توفر بعد، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي). وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال. وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به. فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع. والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة "النحل". ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره. وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها.
قوله تعالى: "وللرجال عليهن درجة" أي منزلة. ومدرجة الطريق: قارعته، والأصل فيه الطي، يقال: درجوا، أي طووا عمرهم، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها. ويقال: رجل بين الرجلة، أي القوة. وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما. وفرس رجيل، أي قوي، ومنه الرجل، لقوتها على المشي. فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد. وقال حميد: الدرجة اللحية، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها. قال ابن العربي: فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه. وقيل: الدرجة الصداق، قاله الشعبي. وقيل: جواز الأدب. وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه السلام: (ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). وقال ابن عباس: (الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه). قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع. قال الماوردي: يحتمل أنها في حقوق النكاح، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها.
قلت: ومن هذا قوله عليه السلام: (أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح). قوله تعالى: "والله عزيز" أي منيع السلطان لا معترض عليه. قوله تعالى: "حكيم" أي عالم مصيب فيما يفعل.
الآية: 229 {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}
قوله تعالى: "الطلاق مرتان" ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك. فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، ونسخ ما كانوا عليه. قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: (المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين).
الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه السلام في حديث ابن عمر: (فإن شاء أمسك وإن شاء طلق) وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها، خرجه ابن ماجة. وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور. قال ابن المنذر: وليس في المنع منه خبر يثبت.
روى الدار قطني حدثني أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه). حدثنا محمد بن موسى بن علي حدثنا حميد بن الربيع حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك اللخمي معروفا! قلت: هو جدي! قال يزيد: سررتني، الآن صار حديثا!. قال ابن المنذر: وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة. قال: وبالقول الأول أقول.
قوله تعالى: "فإمساك بمعروف" ابتداء، والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف، أي فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق. ويجوز في غير القرآن "فإمساكا" على المصدر. ومعنى "بإحسان" أي لا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول. والإمساك: خلاف الإطلاق. والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض. وسرح الماشية: أرسلها. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، وهذا قول السدي والضحاك. والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصح لوجوه ثلاثة:
أحدها: ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: "الطلاق مرتان" فلم صار ثلاثا؟ قال: (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان - في رواية - هي الثالثة). ذكره ابن المنذر. الثاني: إن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ "إن عزموا السراح".
الثالثة: أن فعل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، قال أبو عمر: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: "أو تسريح بإحسان" هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" [البقرة: 230]. وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله. وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا: حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فأين الثالثة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله.
قلت: وذكر الكيا الطبري هذا الخبر وقال: إنه غير ثابت من جهة النقل، ورجح قول الضحاك والسدي، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" [البقرة: 230]. فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج، فوجب حمل قوله: "أو تسريح بإحسان" على فائدة مجددة، وهو وقوع البينونة بالاثنتين عند انقضاء العدة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: "أو تسريح بإحسان" هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره". فوجب ألا يكون معنى قوله: "أو تسريح بإحسان" الثالثة، ولو كان قوله: "أو تسريح بإحسان" بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك: "فإن طلقها" الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: "أو تسريح بإحسان" هو تركها حتى تنقضي عدتها.
ترجم البخاري على هذه الآية "باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه. قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة. وقيل عنهما: لا يلزم منه شيء، وهو قول مقاتل. ويحكى عن داود أنه قال لا يقع. والمشهور عن الحجاج بن أرطأة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا. ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة: 228]. وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه، وقد تقدم. وقال: "الطلاق مرتان" والثالثة "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم، إذ هو غير مذكور في القرآن. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة: أحدها: حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة. وثانيها: حديث ابن عمر على رواية من روى (أنه طلق امرأته ثلاثا، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة). وثالثها: (أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها، والرجعة تقتضي وقوع واحدة). والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس (فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج)، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه. قال ابن عبدالبر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. قال القاضي أبو الوليد الباجي: "وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة، فقد روى عنه الأئمة: معمر وابن جريج وغيرهما، وابن طاوس إمام. والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم). ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه (أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة)، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا".
قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي إنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذي يطلقون ثلاثا، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث. قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها. وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فقال لي: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة. فقال الدارقطني: كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض. قال عبيدالله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع: أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبي والحسن. وأما حديث ركانة فقيل: إنه حديث مضطرب منقطع، لا يستند من وجه يحتج به، رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع، وليس فيهم من يحتج به، عن عكرمة عن ابن عباس. وقال فيه: إن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرجعها). وقد رواه أيضا من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل، ولا يحتج بشيء من مثل هذا.
قلت: قد أخرج هذا الحديث من طرق الدارقطني في سننه، قال في بعضها: "حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وآخرون قالوا: حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبدالله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما أردت إلا واحدة)؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمان عثمان. قال أبو داود: هذا حديث صحيح". فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله، والله أعلم. وقال أبو عمر: رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول، فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة، كلهم من بني عبدالمطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم.
فصل: ذكر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي هذه المسألة في وثائقه فقال: الطلاق، ينقسم على ضربين: طلاق سنة، وطلاق بدعة. فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمه واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق، فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: (يلزمه طلقة واحدة)، وقاله ابن عباس، وقال: (قوله ثلاثا لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا فيكون مخبرا عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح، ولو قرأها مره واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف فقال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله). وقال الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف. وروينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبدالسلام الحسني فريد وقته وفقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم. وكان من حجة ابن عباس أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال عز اسمه: "الطلاق مرتان" يريد أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة. ومعنى قوله: "أو تسريح بإحسان" يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليها إن وقع ندم بينهما، قال الله تعالى: "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" [الطلاق: 1] يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة، وموقع الثلاث غير حسن، لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه الطلاق مفرقا يدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك، من ذلك قول الإنسان: مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك. وفي الإشراف لابن المنذر: وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة.
قلت: وربما اعتلوا فقالوا: غير المدخول بها لا عدة عليها، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت بنفس فراغه من قوله: أنت طالق، فيرد "ثلاثا" عليها وهى بائن فلا يؤثر شيئا، ولأن قوله: أنت طالق مستقل بنفسه، فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده، أصله إذا قال: أنت طالق.
استدل الشافعي بقوله تعالى: "أو تسريح بإحسان" وقوله: "وسرحوهن" [الأحزاب: 49] على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه، مثل أن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى: "أو فارقوهن بمعروف" [الطلاق: 2] وقال: "أو تسريح بإحسان" وقال: "فطلقوهن لعدتهن" [الطلاق: 1].
قلت: وإذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين: صريح وكناية، فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله. ثم إن عمر بن عبدالعزيز قد قال: "لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوى" أخرجه مالك. وقد روى الدارقطني عن علي قال: (الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره). وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن البتة ثلاث، من طريق فيه لين)، خرجه الدارقطني. وسيأتي عند قوله تعالى: "ولا تتخذوا آيات الله هزوا" [البقرة: 231] إن شاء الله تعالى.
لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته: قد طلقتك، إنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها، فمن قال لامرأته: أنت طالق فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر من ذلك. فإن نوى اثنتين أو ثلاثا لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئا فهي واحدة تملك الرجعة. ولو قال: أنت طالق، وقال: أردت من وثاق لم يقبل قوله ولزمه، إلا أن يكون هناك ما يدل على صدقه. ومن، قال: أنت طالق واحدة، لا رجعة لي عليك فقوله: "لا رجعة لي عليك" باطل، وله الرجعة لقوله واحدة، لأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فإن نوى بقوله: "لا رجعة لي عليك" ثلاثا فهي ثلاث عند مالك.
واختلفوا فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو حبلك على غاربك، أو أنت علي حرام، أو الحقي بأهلك، أو قد وهبتك لأهلك، أو قد خليت سبيلك، أو لا سبيل لي عليك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: هو طلاق بائن، وروى عن ابن مسعود وقال: (إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرك، أو أمرك لك، أو الحقي بأهلك فقبلوها فواحدة بائنة). وروي عن مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أنه من صريح الطلاق، كقوله: أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائلها، ويسأل ما أراد من العدد، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها. قال ابن المواز: وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة، إلا أن ينوي أكثر، وقاله ابن القاسم وابن عبدالحكم. وقال أبو يوسف: هي ثلاث، ومثله خلعتك، أو لا ملك لي عليك. وأما سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوى فيها قائلها، وينوى في غير المدخول بها. فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطبا من الخطاب، لأنه لا يخلي المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها إلا ثلاث تطليقات. والتي لم يدخل بها يخليها ويبريها ويبينها الواحدة. وقد روى مالك وطائفة من أصحابه، وهو قول جماعة من أهل المدينة، أنه ينوي في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في البتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: له نيته في ذلك كله، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث، وإن نوى واحدة فهي واحده بائنة وهي أحق بنفسها. وإن نوى اثنتين فهي واحدة. وقال زفر: إن نوى اثنتين فهي اثنتان. وقال الشافعي: هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام مني طلاقا فيكون ما نوى. فإن نوى دون الثلاث كان رجعيا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية. وقال إسحاق: كل كلام يشبه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق. وقال أبو ثور: هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته. وروي عن ابن مسعود (أنه كان لا يرى طلاقا بائنا إلا في خلع أو إيلاء) وهو المحفوظ عنه، قال أبو عبيد. وقد ترجم البخاري "باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته". وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله: أو ما عنى به من الطلاق" والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقا أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقول المتكلم: إنه أراد بها الطلاق فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. قال أبو عمر: واختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته: اعتدي، أو قد خليتك، أو حبلك على غاربك، فقال مرة: لا ينوي فيها وهي ثلاث. وقال مرة: ينوي فيها كلها، في المدخول بها وغير المدخول بها، وبه أقول.
قلت: ما ذهب إليه الجمهور، وما روى عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح، لما ذكرناه من الدليل، وللحديث الصحيح الذي خرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني وغيرهم عن يزيد بن ركانة: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (الله ما أردت إلا واحدة)؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن ماجة: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث! وقال مالك في الرجل يقول لامرأته: أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير: أراها البتة وإن لم تكن له نية، فلا تحل إلا بعد زوج. وفي قول الشافعي: إن أراد طلاقا فهو طلاق، وما أراد من عدد الطلاق، وإن لم يرد طلاقا فليس بشيء بعد أن يحلف. وقال أبو عمر: أصل هذا الباب في كل كناية عن الطلاق، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - للتي تزوجها حين قالت: أعوذ بالله منك - : (قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك). فكان ذلك طلاقا. وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها: الحقي بأهلك فلم يكن ذلك طلاقا، فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية، وأنها لا يقضى فيها إلا بما ينوي اللافظ بها، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. والله أعلم. وأما الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق ولا يكنى بها عن الفراق، فأكثر العلماء لا يوقعون بشيء منها طلاقا وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأي لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله كلي واشربي وقومي واقعدي، ولم يتابع مالكا على ذلك إلا أصحابه.
قوله تعالى: "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" "أن" في موضع رفع بـ "يحل". والآية خطاب للأزواج، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم، لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقا وجهازا، فلذلك خص بالذكر. وقد قيل: إن قوله "ولا يحل" فصل معترض بين قوله تعالى: "الطلاق مرتان" وبين قوله: "فإن طلقها".
والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز. وأجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. وحكى ابن المنذر عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم، لا يحل له ما صنع، ولا يجبر على رد ما أخذه. قال ابن المنذر: وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك، ولا أحسب أن لو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شيء ثم يقابله مقابل بالخلاف نصا، فيقول: بل يجوز ذلك: ولا يجبر على رد ما أخذ. قال أبو الحسن بن بطال: وروى ابن القاسم عن مالك مثله. وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله تعالى، وخلاف حديث امرأة ثابت، وسيأتي.
قوله تعالى: "إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" حرم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد. والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ. والخطاب للزوجين. والضمير في "أن يخافا" لهما، و"ألا يقيما" مفعول به. و"خفت" يتعدى إلى مفعول واحد. ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظن. ثم قيل: "إلا أن يخافا" استثناء منقطع، أي لكن إن كان منهن نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية. وقرأ حمزة "إلا أن يخافا" بضم الياء على ما لم يسم فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام، واختاره أبو عبيد. قال: لقوله عز وجل "فإن خفتم" قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان.
قلت: وهو قول سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين. وقال شعبة: قلت لقتادة: عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان واليا لعمر وعلي. قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك، ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان. وقد أنكر اختياره أبي عبيد ورد، وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى. أما الإعراب فإن عبدالله بن مسعود قرأ "إلا أن يخافا" تخافوا، فهذا في العربية إذا رد إلى ما لم يسم فاعله قيل: إلا أن يخاف. وأما اللفظ فإن كان على لفظ "يخافا" وجب أن يقال: فإن خيف. وإن كان على لفظ "فإن خفتم" وجب أن يقال: إلا أن تخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، إلا أن يخاف غيركم ولم يقل جل وعز: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاوي: وقد صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع، وهو قول الجمهور من العلماء.
قوله تعالى: "فإن خفتم ألا يقيما" أي على أن لا يقيما. "حدود الله" أي فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجميل العشرة. والمخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما. وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء. وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، حل الخلع. وقال الشعبي: "ألا يقيما حدود الله" ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال عطاء بن أبي رباح: يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إني أكرهك ولا أحبك، ونحو هذا "فلا جناح عليهما فيما افتدت به". روى البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم. وأخرجه ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. فيقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبدالله بن أبي، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة إذ هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! فقال: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل في الخلع، وعليه جمهور الفقهاء. قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق علها ويضرها رد عليها ما أخذ منها. وقال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبدالله المزني عن الرجل تريد امرأته أن تخالعه فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: فأين قول الله عز وجل في كتابه: "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به"؟ قال: نسخت. قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة "النساء": "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا" [النساء: 20]. قال النحاس: هذا قول شاذ خارج عن الإجماع لشذوذه، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى فيقع النسخ.، لأن قوله "فإن خفتم" الآية، ليست بمزالة بتلك الآية، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج. في "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج" لأن هذا للرجال خاصة. وقال الطبري: الآية محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم.
تمسك بهذه الآية من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر، وأنه شرط في الخلع، وعضد هذا بما رواه أبو داود عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكت إليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال: (خذ بعض مالها وفارقها). قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: (نعم). قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذهما وفارقها) فأخذهما وفارقها. والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر، كما دل عليه حديث البخاري وغيره. وأما الآية فلا حجة فيها، لأن الله عز وجل لم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع، فخرج القول على الغالب، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالى: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا" [النساء: 4].
لما قال الله تعالى: "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" دل على جواز الخلع بأكثرها مما أعطاها. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور: يجوز أن تفتدى منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه. وروي هذا عن عثمان بن عفان وابن عمر وقبيصة والنخعي. واحتج قبيصة بقوله: "فلا جناح عليهما فيما افتدت به". وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق، ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فكان بينهما كلام، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (تردين عليه حديقته ويطلقك)؟ قالت: نعم، وأزيده. قال: (ردي عليه حديقته وزيديه). وفي حديث ابن عباس: (وإن شاء زدته ولم ينكر). وقالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها، كذلك قال طاوس وعطاء والأوزاعي، قال الأوزاعي: كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ إلا ما ساق إليها، وبه قال أحمد وإسحاق. واحتجوا بما رواه ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبدالله بن أبي بن سلول، وكان أصدقها حديقة فكرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الزيادة فلا ولكن حديقته)، فقالت: نعم. فأخذها له وخلى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعه أبو الزبير من غير واحد، أخرجه الدارقطني. وروي عن عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها).
الخلع عند مالك رضي الله عنه على ثمرة لم يبد صلاحها وعلى جمل شارد أو عبد آبق أو جنين في بطن أمه أو نحو ذلك من وجوه الغرر جائز، بخلاف البيوع والنكاح. وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه. وقال الشافعي: الخلع جائز وله مهر مثلها، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك قال: لأن عقود المعاوضات إذا تضمنت بدلا فاسدا وفاتت رجع فيها إلى الواجب في أمثالها من البدل. وقال أبو ثور: الخلع باطل. وقال أصحاب الرأي: الخلع جائز، وله ما في بطن الأمة، وإن لم يكن فيه ولد فلا شيء له. وقال في "المبسوط" عن ابن القاسم: يجوز بما يثمره نخله العام، وما تلد غنمه العام خلافا لأبي حنيفة والشافعي، والحجة لما ذهب إليه مالك وابن القاسم عموم قوله تعالى: "فلا جناح عليهما فيما افتدت به". ومن جهة القياس أنه مما يملك بالهبة والوصية، فجاز أن يكون عوضا في الخلع كالمعلوم، وأيضا فإن الخلع طلاق، والطلاق يصح بغير عوض أصلا، فإذا صح على غير شيء فلأن يصح بفاسد العوض أولى، لأن أسوأ حال المبذول أن يكون كالمسكوت عنه. ولما كان النكاح الذي هو عقد تحليل لا يفسده فاسد العوض فلأن لا يفسد الطلاق الذي هو إتلاف وحل عقد أولى.
ولو اختلعت منه برضاع ابنها منه حولين جاز. وفي الخلع بنفقتها على الابن بعد الحولين مدة معلومة قولان: أحدهما: يجوز، وهو قول المخزومي، واختاره سحنون. والثاني: لا يجوز، رواه ابن القاسم عن مالك، وإن شرطه الزوج فهو باطل موضوع عن الزوجة. قال أبو عمر: من أجاز الخلع على الجمل الشارد والعبد الآبق ونحو ذلك من الغرر لزمه أن يجوز هذا. وقال غيره من القرويين: لم يمنع مالك الخلع بنفقة ما زاد على الحولين لأجل الغرر، وإنما منعه لأنه حق يختص بالأب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره، والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهي الرضاع قد تجب على الأم حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب، فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأم، لأنها محل لها. وقد احتج مالك في "المبسوط" على هذا بقوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" [البقرة: 233].
فإن وقع الخلع على الوجه المباح بنفقة الابن فمات الصبي قبل انقضاء المدة فهل للزوج الرجوع عليها ببقية النفقة، فروى ابن المواز عن مالك: لا يتبعها بشيء، وروى عنه أبو الفرج: يتبعها، لأنه حق ثبت له في ذمة الزوجة بالخلع فلا يسقط بموت الصبي، كما لو خالعها بمال متعلق بذمتها، ووجه الأول أنه لم يشترط لنفسه مالا يتموله، وإنما اشترط كفاية مؤونة ولده، فإذا مات الولد لم يكن له الرجوع عليها بشيء، كما لو تطوع رجل بالإنفاق على صبي سنة فمات الصبي لم يرجع عليه بشيء، لأنه إنما قصد بتطوعه تحمل مؤونته، والله أعلم. قال مالك: لم أر أحدا يتبع بمثل هذا، ولو اتبعه لكان له في ذلك قول. واتفقوا على أنها إن ماتت فنفقة الولد في مالها، لأنه حق ثبت فيه قبل موتها فلا يسقط بموتها.
ومن اشترط على امرأته في الخلع نفقة حملها وهي لا شيء لها فعليه النفقة إذا لم يكن لها مال تنفق منه، وإن أيسرت بعد ذلك اتبعها بما أنفق وأخذه منها. قال مالك: ومن الحق أن يكلف الرجل نفقة ولده وإن اشترط على أمه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.
واختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق أو فسخ، فروي عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين: هو طلاق، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: وأصحابه والشافعي في أحد قوليه. فمن نوى بالخلع تطليقتين أو ثلاثا لزمه ذلك عند مالك. وقال أصحاب الرأي: إن نوى الزوج ثلاثا كان ثلاثا، وإن نوى اثنتين فهو واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إن نوى بالخلع طلاقا وسماه فهو طلاق، وإن لم ينو طلاقا ولا سمى لم تقع فرقة، قاله في القديم. وقوله الأول أحب إلي. المزني: وهو الأصح عندهم. وقال أبو ثور: إذا لم يسم الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق، وإن سمى تطليقة فهي تطليقة، والزوج أملك برجعتها ما دامت في العدة. وممن قال: إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد. واحتجوا بالحديث عن ابن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس (أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم لينكحها، ليس الخلع بطلاق)، ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء ثم قال: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" [البقرة: 229]. ثم قرأ "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" [البقرة: 230]. قالوا: ولأنه لو كان طلاقا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثا، وكان قوله: "فإن طلقها" بعد ذلك دالا على الطلاق الرابع، فكان يكون التحريم متعلقا بأربع تطليقات. واحتجوا أيضا بما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة). قال الترمذي: حديث حسن غريب. وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة). قال الترمذي: حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة. قالوا: فهذا يدل على أن الخلع فسخ لا طلاق، وذلك أن الله تعالى قال: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة: 228] ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قرء واحد.
قلت: فمن طلق امرأته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك - كما قال ابن عباس - وإن لم تنكح زوجا غيره، لأنه ليس له غير تطليقتين والخلع لغو. ومن جعل الخلع طلاقا قال: لم يجز أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره، لأنه بالخلع كملت الثلاث، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: كيف يجوز القول في رجل قالت له امرأته: طلقني على مال فطلقها إنه لا يكون طلاقا، وهو لو جعل أمرها بيدها من غير شيء فطلقت نفسها كان طلاقا!. قال وأما قوله تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" فهو معطوف. على قوله تعالى: "الطلاق مرتان"، لأن قوله: "أو تسريح بإحسان" إنما يعني به أو تطليق. فلو كان الخلع معطوفا على التطليقتين لكان لا يجوز الخلع أصلا إلا بعد تطليقتين وهذا لا يقوله أحد. وقال غيره: ما تأولوه في الآية غلط فإن قوله: "الطلاق مرتان" أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله: "فإمساك بمعروف" ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع فعاد الخلع إلى الثنتين المتقدم ذكرهما، إذ المراد بذلك بيان الطلاق المطلق والطلاق بعوض، والطلاق الثالث بعوض كان أو بغير عوض فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.
قلت: هذا الجواب عن الآية، وأما الحديث فقال أبو داود - لما ذكر حديث ابن عباس في الحيضة - : هذا الحديث رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وحدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: عدة المختلعة عدة المطلقة. قال أبو داود: والعمل عندنا على هذا.
قلت: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأهل الكوفة. قال الترمذي: وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
قلت: وحديث ابن عباس في الحيضة مع غرابته كما ذكر الترمذي، وإرساله كما ذكر أبو داود فقد قيل فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضة ونصفا، أخرجه الدارقطني من حديث معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ونصفا). والراوي عن معمر هنا في الحيضة والنصف هو الراوي عنه في الحيضة الواحدة، وهو هشام بن يوسف أبو عبدالرحمن الصنعاني اليماني: خرج له البخاري وحده فالحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن، فسقط الاحتجاج به في أن الخلع فسخ، وفي أن عدة المطلقة حيضة، وبقي قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" نصا في كل مطلقة مدخول بها إلا ما خص منها كما تقدم. قال الترمذي: "وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عدة المختلعة حيضة، قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوي" قال ابن المنذر: قال عثمان بن عفان وابن عمر: (عدتها حيضة)، وبه قال أبان بن عثمان وإسحاق. وقال علي بن أبي طالب: (عدتها عدة المطلقة)، وبقول عثمان وابن عمر أقول، ولا يثبت حديث علي.
قلت: قد ذكرنا عن ابن عمر أنه قال: (عدة المختلعة عدة المطلقة)، وهو صحيح.
واختلف قول مالك فيمن قصد إيقاع الخلع على غير عوض، فقال عبدالوهاب: هو خلع عند مالك، وكان الطلاق بائنا. وقيل عنه: لا يكون بائنا إلا بوجود العوض، قاله أشهب والشافعي، لأنه طلاق عري عن عوض واستيفاء عدد فكان رجعيا كما لو كان بلفظ الطلاق قال ابن عبدالبر: وهذا أصح قوليه عندي وعند أهل العلم في النظر. ووجه الأول أن عدم حصول العوض في الخلع لا يخرجه عن مقتضاه، أصل ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير.
المختلعة هي التي تختلع من كل الذي لها. والمفتدية أن تفتدي ببعضه وتأخذ بعضه. والمبارئة هي التي بارأت زوجها من قبل أن يدخل بها فتقول: قد أبرأتك فبارئني، هذا هو قول مالك. وروى عيسى بن دينار عن مالك: المبارئة هي التي لا تأخذ شيئا ولا تعطي، والمختلعة هي التي تعطي ما أعطاها وتزيد من مالها، والمفتدية هي التي تفتدي ببعض ما أعطاها وتمسك بعضه، وهذا كله يكون قبل الدخول وبعده، فما كان قبل الدخول فلا عدة فيه، والمصالحة مثل المبارئة. قال القاضي أبو محمد وغيره: هذه الألفاظ الأربعة تعود إلى معنى واحد وإن اختلفت صفاتها من جهة الإيقاع، وهي طلقة بائنة سماها أو لم يسمها، لا رجعة له في العدة، وله نكاحها في العدة. وبعدها برضاها بولي وصداق وقبل زوج وبعده، خلافا لأبي ثور، لأنها إنما أعطته العوض لتملك نفسها، ولو كان طلاق الخلع رجعيا لن تملك نفسها، فكان يجتمع للزوج العوض والمعوض عنه.
وهذا مع إطلاق العقد نافذ، فلو بذلت له العوض وشرط الرجعة، ففيها روايتان رواهما ابن وهب عن مالك: إحداهما ثبوتها، وبها قال سحنون. والأخرى نفيها. قال سحنون: وجه الرواية الأولى أنهما قد اتفقا على أن يكون العوض في مقابلة ما يسقط من عدد الطلاق، وهذا جائز. ووجه الرواية الثانية أنه شرط في العقد ما يمنع المقصود منه فلم يثبت ذلك، كما لو شرط في عقد النكاح: أني لا أطأها.
قوله تعالى: "تلك حدود الله فلا تعتدوها" لما بين تعالى أحكام النكاح والفراق قال: "تلك حدود الله" التي أمرت بامتثالها، كما بين تحريمات الصوم في آية أخرى فقال: "تلك حدود الله فلا تقربوها" [البقرة: 187] فقسم الحدود قسمين، منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال: "ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون".
الآية: 230 {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}
احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله: "الطلاق مرتان" لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله "فإن طلقها" على قوله "الطلاق مرتان" بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن" [النساء: 23] فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.
وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة: إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو (أن الطلاق لا يلزمها)، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال: إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل. الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام.
المراد بقوله تعالى: "فإن طلقها" الطلقة الثالثة "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره". وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.
واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كاف. وقال الحسن بن أبي الحسن: لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي: ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال: أما الناس فيقولون: لا تحل، للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها.
قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب "معاني القرآن" له. قال: وأهل العلم على أن النكاح ههنا الجماع، لأنه قال: "زوجا غيره" فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح ههنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها.
قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: "حتى تنكح زوجا غيره" والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه). قال بعض علماء الحنفية: من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا: ويفهم من قوله عليه السلام: (حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه) استواؤهما في إدراك لذة الجماع، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها.
روى النسائي عن عبدالله قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له). وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يتزوجها بنكاح جديد.
قال أبو عمر بن عبدالبر: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا، فإن أصابها فلها مهر مثلها، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها، ولا يقر على نكاحه ويفسخ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وفيه قول ثان روي عن الثوري في نكاح الحيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة. وروي عن الأوزاعي في نكاح المحلل: بئس ما صنع والنكاح جائز. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء. وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه: لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها، ومرة قالوا: تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث - قال الشافعي: إذا قال أتزوجك لأحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا. فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم: أحدهما مثل قول مالك، والآخر مثل قول أبي حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط، وهو قول داود.
قلت: وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول، قال: وهو قول الشافعي. وقال الحسن وإبراهيم: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهذا تشديد. وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله داود بن علي لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد.
مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح، وسواء شرط ذلك أو نواه، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها. وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء. وقد قيل: إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها، ولا يقصد به التحليل، ويكون وطؤه لها وطأ مباحا: لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا مسلما. وقال الشافعي: إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه، وسواء أدخله بيده أم بيدها، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة، وهذا كله - على ما وصف الشافعي - قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح، وقول بعض أصحاب مالك. قال ابن حبيب: وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان قد احتسب في تحليلها الأجر لم يجز، لما خالط نكاحه من نية التحليل، ولا تحل بذلك للأول.
وطء السيد لأمته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها، إذ ليس بزوج، روي عن علي بن أبي طالب، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبي سليمان وأبي الزناد، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق. والقول الأول أصح، لقوله تعالى: "حتى تنكح زوجا غيره" والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح.
في موطأ مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين؟ فقالا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
روي عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة، فقال: تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره. قال أبو عمر: وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى: مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون: (إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين)، على عموم قوله عز وجل: "أو ما ملكت أيمانكم" [النساء: 3]. قال أبو عمر: وهذا خطأ من القول، لأن قوله عز وجل: "أو ما ملكت أيمانكم" لا يبيح الأمهات ولا الأخوات، فكذلك سائر المحرمات.
إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها، فقالت طائفة: الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الله تعالى قال: "حتى تنكح زوجا غيره" والنصراني زوج. وقال مالك وربيعة: لا يحلها.
النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور. مالك والثوري. والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، كلهم يقولون: لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح، وكان الحكم يقول: هو زوج. قال ابن المنذر: ليس بزوج، لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته.
جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله: (لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما). وقال ابن عمر: التحليل سفاح، ولا يزالون زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر: لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه.
قوله تعالى: "فإن طلقها" يريد الزوج الثاني. "فلا جناح عليهما" أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.
واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو (أن النكاح جديد والطلاق جديد)، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبدالله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال: وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبدالله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي.
قوله تعالى: "إن ظنا أن يقيما حدود الله" شرط. قال طاوس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه. وقيل: حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال: (دلستم علي).
واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة، فقال مرة: لها جميع الصداق، وقال مرة: لها نصف الصداق، وهذا ينبني على اختلاف قوله: بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول؟ قولان.
قال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس على الزوجة خدمة، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، ألا ترى إلى قوله تعالى: "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا" [النساء: 34]. وقال بعض أصحابنا: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل. وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم، وذلك أن الله تعالى قال: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" [البقرة: 228]. وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك.
قوله تعالى: "وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون" حدود الله: ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة: امتنعت من الزينة، ورجل محدود: ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع. وقد تقدم هذا مستوفى. وإنما قال: "لقوم يعلمون" لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.

jtsdv s,vm hgfrvm w 35(hgrv'fd) 35hgrv'fd hgfrvm jtsdv w,vm





رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
35القرطبي , البقرة , تفسير , صورة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير سورة البقرة ص 34(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-05-2011 12:20 PM
تفسير سورة البقرة ص 10(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-04-2011 04:09 PM
تفسير سورة البقرة ص 9(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-04-2011 03:52 PM
تفسير سورة الفاتحة (القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 12-31-2010 08:29 PM
تفسير سورة البقرة ص1(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 12-31-2010 07:57 PM


الساعة الآن 05:21 PM.