الدليل والبرهان الجزء الثاني - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



المكتبة الإسلامية الشاملة [كتب] [فلاشات] [الدفاع عن الحق] [مقالات] [منشورات]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
افتراضي  الدليل والبرهان الجزء الثاني
كُتبَ بتاريخ: [ 01-13-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية الامير المجهول
 
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
الامير المجهول غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913
قوة التقييم : الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع


سنواصل ما بدأناه
من كتاب
الدليل والبرهان الجزء الثاني
تأليف الإمام أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله تعالى





بيانات الكتاب
تمهيد
الاختلاف في الإيمان واعتقادات الضمائر
القول في الدين
باب القول في اختلاف الناس في الإيمان والكفر
  • تسمية من وسع من الفقهاء في أكثر مسائل مالا يسع الناسجهله
باب القول في أسئلة مبهمة وأجوبة مدهمة

باب اختلاف الناس في الكفر والكبير والمعصية والسيئة والخطيئة

باب القول في الأفراق

باب في ذكر المذاهب والآراء والاختلاف والائتلاف

باب اختلاف الناس في الرأي

باب في اجتهاد الرأي
  • القول الثاني : في أي شيء يجوز الاجتهاد
  • القول الثالث : ما صفة المجتهد
  • والرابع : ما أسماء المجتهد فيه ؟
  • الخامس : ما حكم الأفعال والفعال ؟

باب في اعتقاد الخطأ والمباح

مسألة الأئمة العشرة


بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم

الجزء الثاني من كتاب الدليل لأهل العقول
لباغي السبيلبنور الدليل لتحقيق مذهب الحق
بالبرهانوالصدق


ونحن نريد أن نقدم في هذا الجزء الثانيمقدمة ، لتوكيد الحق الذي ذكرنا قبل وننبه على ما فيه من الاختلاف والائتلاف ،ونجعل الحق أصلا وأسا بيننا وبين الأمة ، وبيننا وبين أنفسنا .

والعقل برهانوالشرع تبيان فإنه ينبغي للعاقل المحق أن يحاسب نفسه كما يحاسب غيره .

ولاينبغي للعاقل أن يتخذ دينه لهوا ولعبا فإن من ورائه يوم الفصل بين الحق والباطل ،ولا أن يقلد الآباء دينا ولا مذهبا ، لأنه الداء العضال الذي أهلك القرون الماضيةوالأمم الخالية ، وانتصارا للسلف وأيضا للخلف ترك البحث عما في اليد من الهوىوالردى تقليدا للأب والجد .

وأنشد الحسين بن علي بن الحسين بن عمرو بن عليبن أبي طالب لنفسه ، ومان من العباد ، وأكثر أولاد الحسين بن علي وأخيه عمرو بن عليعلى غير طريقة أبيهم وأولاد الحسن بن علي سلكوا على أسلوب آبائهم .

تريدتنام على ذي الشبه = فلعلك أن نمت لم تنتبه
فجاهد وقلد كتاب الإله = لتلق الإلهإذا مت به
وقد قلد الناس رهبانهم = وكل يجادل عن راهبه
وللحق مستنبط واحد = وكل يرى الحق في مذهبه
وفيما أرى عجب غير أن = بيان التفرق من أعجبه


وروى عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا : أخبرنا قاسم بن أصغر قال : أخبرنا بكر بن حماد قال : أخبرني بشر بن حجر قال : أخبرنا جرير ابن عبد اللهالواسطي ، عن عطاء يعني ابن السائب عن أبي البحتري عن علي قال : ( إياكم والاستنانبالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه ، فيعمل بعمل أهلالنار ، فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلمالله فيه ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة .. فإن كنتم ولابد فاعلينفبالأموات لا بالأحياء ) .

وقال ابن مسعود : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاإن آمن آمن وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في البشر ) . واعلم أن الله تعالى شرع الدين، وكلفه العقلاء ، وأثبته إسلاما ، وقال : ( إن الدين عند اللهالإسلام) . وقال : ( ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبلمنه وهو في الآخرة من الخاسرين) ولن تختلف الأمة في هذا ، والحمد لله ربالعالمين .

واختلفوا في الإيمان : ومن ذهب مذهب التصديق أثبته اعتقادا فيالضمير لا غير ، ومن ألحق به النطق أثبته تصديقا للاعتقاد الذي في الصدور ، ومنألحق به الأفعال أثبته عضدا للاعتقاد ، فشمل الكل اسم الإيمان والتصديق حقيقةومجازا من جهة الشرع ، والشرع إذا ورد كان له الحكم دون اللغة . وسنذكره من جهةالشرع فيما بعد ، إن شاء الله .

ولنرجع إلى ذكر الإسلام . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إلهإلا الله ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحج من استطاع إليهسبيلا)) .

ولم يذكر هاهنا الاعتقاد وإنما ذكر الشهادة ، والاعتقادهو الإيمان وهو الأصل والتصديق باللسان فرعة ، والتصديق بالفعل فرع اللسان .


الاختلاف في الإيمان واعتقادات الضمائر (1)
واعلم أن الاعتقادات في الضمائر والصدور خمس :-

أولها : الإيمان الذي هوالتصديق بوجود الباري سبحانه ، واعتقاد السمع والطاعة له ، كما قالوا سمعنا وأطعنا .

الثاني : اعتقاد الأفراق .

الثالث : اعتقاد المذاهب .

الرابع : اعتقاد الخطأ .

الخامس : اعتقاد المباح .

ونحننذكر حقيقة كل واحد من هذه وحدة لغة ومعنى ، ومن وراء ذلك شرعا وحجة .

فإماتصديق القلب ، فهو المعهود المعلوم من الناس ، آمنت به : صدقته . وأمنته : أعطيت لهالأمان ، قال الله تعالى حكاية عن أخوة يوسف بينهم وبين أبيهم : ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) . فهذا تصديق الاعتقاد فيالقلب والضمير .

وأما التصديق باللسان ، فأن تقول للواحد : صدقت فيما أخبرتبه . وضده التكذيب ، كذبة إذا رد عليه خبره وقوله .

أما تصديق الفعال ، فمثلأن يقول لك رجل : إن وراءك سبعا . فإن قمت وهربت من موضعك وأخذت حذرك فقد صدقته ،ولو قلت بلسانك كذبت فالتصديق ظاهر في فعلك ، وإن رميت بنفسك على قفاك ورقدت فقدكذبته ولو قلت بلسانك صدقت .



-----------------------------------------------
(1) هذا العنوان لم يكن موجودا في ط البارونية ( مراجعالطبعة الثانية )

















hg]gdg ,hgfvihk hg[.x hgehkd hg[gdg hg[.x





رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



القول في الدين
واعلم أن الدين هوبمعنى السمع والطاعة ، والأديان إنما تكون بين أهل الإسلاموأهل الشرك والملل .

كذلك ملة الإسلام ودين الإسلام وملة الشرك ودين الشرك . قال الله – عز وجل – في المشركين وأهل الإسلام : ( لكم دينكم وليدين) . ولا يقال دين القدرية ، ولا دين المرجئة ، ولا دين المارقة ، ولادين أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي .

وأما دين اليهود والنصارى والصابئينوالمجوس والذين أشركوا فلا بأس به ( 1 ) .

وأما الأفراق فيجوز ذلك على أفراقالأمة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ستفترق أمتي علىثلاث وسبعين فرقة )) فيصلح هذا الاسم لكل فرقة فتقول : فرقة المعتزلة ،وفرقة القدرية ، وفرقة المرجئة ، وفرقة المارقة .

وإن قلت : طائفة . جاز ،وقد سماهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك . والفرقة هي الطريقة ، يهلك بهامعتقدوها ، واتخذوها دينا ، وصاروا بها من أهل النار إلا الفرقة المحقة .

وأما المذاهب : وهي طريقة الأمة في الشريعة من الفقهيات ومذاهبهم فيالتفسير وما يؤول إلى ذلك ، لا تفسيق ولا تضليل ، وهو سائغ الأخذ به والعمل للخاصةوالعامة التخيير بين المذاهب .

وأما اعتقاد الخطأ ، فعلى ثلاثة أوجه :

أولها : في الآراء المأذون عن البحث إلى الصواب فيها .

والثاني : في الخطأ الموهوم فيما اختلف فيه الأمة من الأسماء والتسميات في الدين والإسلاموالإيمان ، والكفر والشرك والنفاق ، والأسامي كمؤمن ومسلم ومنافق ومشرك ، وأسماءالأبدان وأسماء الأفعال وخلق القرآن ، وأسماء الله وصفاته ، وأمثالها ، وليس إلاالخطأ فيها ، والخطأ فيها محمول لمن عرى من الشروط المهلكة ، وهي الاعتقاد أنها دينالله ، أو قطع الشهادة على أحد في ذلك ، أو هدم قاعدة من قواعد الإسلام .

والثالث : الخطأ الذي شابه أحد الشروط الثلاثة المهلكة .

وأماالمباح : فلا أجر ولا وزر ، ولا وعد ولا وعيد ، ولا طاعة ولا معصية ، إلا إذاقارنته النية ، هنالك يكون أجرا أو وزرا ، كما قال الله – عز وجل - : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرتوأنا أول المسلمين ) . فتقرب إلى الله بالمحيا والممات وليس له فيهما صنع ،أعني إبراهيم عليه السلام .



-----------------------------------------------
( 1 ) أي لا بأس أن يقال كذلك . ( مراجع الطبعة الثانية ) .



















باب القول في اختلاف الناس في الإيمان والكفر
اعلم أن الشيخ أبا الربيع سليمان بن يخلف – رضي الله عنه - ، قد كفى وشفى في هذهالمسائل ، لكنه لم يذكر مما لا يسع الناس جهله من الإيمان ، إلا طريقة المتأخرين منأهل الدعوة ، ونحن نلوح تلويحا إشارة إلى ما ذهب إليه كل واحد من هؤلاء المختلفين .

العم أن الناس اختلفوا في الذي يجب من الإيمان اعتقادا ونطقا ، وفي الناسعموما وخصوصا .

قالت طائفة : ليس إلا أن ينطق بالشهادة ويعتقدها . وهو شهادةأن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وزاد بعضهم : وما جاء به الحق . فهذاالإيمان الذي لزمه أن يعتقده ، وما وراء ذلك فليس عليه فيه شيء ، فالأول طريق أبيناآدم ( صلى الله عليه وسلم ) أيام كان في الجنة ( لا إله إلا الله ) خصوصا وهو مذهبالصابئين ، وأول هذه الأمة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وأكدوه آخرا بقولهم : ( وما جاء به الحق ) ، فالأول طريقة أبينا آدم عليه السلام ، والثاني طريقة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والثالث طريقة المسلمين بعد رسول الله عليه السلام .

وقال بعضهم : عليه النطق والاعتقاد للإيمان بالله والملائكة والكتب والرسلوالدار الآخرة . وإليه الإشارة في القرآن قوله : ( آمن الرسول بماأنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله ملائكته وكتبه ورسله) إلى قوله : ( وإليك المصير) .
ويؤكد ذلك ويؤيده قول الله – عز وجل - : ( ومن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلضلالا بعيدا) .

فمن جهل من هذا شيئا ولم يعتقده مع البلوغ فهو مشرك، والشاك فيه مثله ، والشاك في الشاك مشرك إلى ثلاثة ، وهو قول المعتزلة ، وقول أهلالدعوة إلى يوم القيامة .

وقال بعضهم : عليه الإيمان بالموت والبعث والحسابوالثواب والعقاب والجنة والنار ، وتحريم دماء المسلمين ، وتحليل دماء المشركين ،والجاهل لشيء من هذا كافر ، والشاك في الشاك كافر إلى يوم القيامة.

وذكرأبو العباس أحمد بن محمد بن بكر – رضي الله عنه – ما هو أعظم وأطم من هذا ، وعندنفوسة أزيد ، ونحن نرجو من سعة رحمة الله كثيرا لاسيما العامة . وقد قال الشيخسليمان بن خلف – رضي الله عنه – فهذا مما يجب على كل بالغ عند بلوغه وصحة عقله حراكان أو عبدا ، ذكرا كان أو أنثى ، فقد استغرق في التعميم ومن ورائه التخصيص .
واعلم أن الناس اتفقوا على أن من كان على دين من الأديان من شرائع الإسلام علىدين نبي ، ولم تبلغه حجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أوسع له إلى يوم القيامة .

والثاني : إذا ألهم الله عبده إلى الإيمان فآمن وصدق وأذعن وحقق ، وهو فيموضع لا يسمع بالحجة في شيء ، مثل من كان بين ظهراني المشركين ، أو في جزيرة منجزائر البحور ، ففتح الله تعالى له في عقله وألهمه الإيمان به فآمن وصدق إلهاما ،أو من جهة الرؤيا ، وقف عليه وألهمه الخطأ ، أو من جهة الكتابة من كتب الأولين ، أومن جهة الطير مثل الهدهد والنمل والنحل والحمامة فآمن وصدق وحقق ، فإن ذلك يسعه مالم تقم عليه الحجة بشيء ، سواء كان مشركا فدعاه داع وشرع له دين أبينا آدم أو ديننوح أو غيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، فاستجاب له فإن ذلك واسع له ، وكذلكالأطفال لا متربين على الفطرة ، ولا غير متربين ما لم يخالفوا إلى غير مقتضى فطرتهم، ألم تسمع قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ما منمولود يولد إلا على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) متبعهم على غير مقتضى فطرته فهناك يهلك .

وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : (( خلقت هذه القلوب حنيفة إلا ما كان من الشيطان فإنه يخترمها عماخلقت له)) .

وقال الله – عز وجل - : ( فطرة اللهالتي فطر الناس عليها) . وقال : ( صبغة الله ومن أحسن منالله صبغة ) .

فإن سلموا من اخترام الشيطان وتحويل الآباء عما خلقتله فذلك واسع لهم ، وقال الله – عز وجل – في يحيى بن زكريا : ( وآتيناه الحكم صبيا) .
وإنما التضييق أن يعلم محمدا ( صلىالله عليه وسلم ) ويشهد به لمن كان في جزيرة العرب لمن تناله الحجة ويسمع .

وهذه طريقة المعتزلة في أن الله تعالى ينال علمه والإيمان به من جهة الفكر، لأنه قل ما ينفك الآدمي في مهلة بلوغه من تأمل الأشياء ، والنظر فيها وتجددالأيام والليالي وما يعتريه من الأمراض والأوجاع والأسقام واختلاف الأهوية والأغذيةوالأزمنة والأمكنة والأرياح والأمطار وحدوث الثمار والنبات والأزهار إلا وقد اقتبسمنها الحدوث .

ولو سألت مثل هذا عن عام أول أو قابل لفرق بينهما طبعاواستقراء ، وأول ما يستقر في نفسه حدوثه هو إن رأى من هو أكبر أو رأى من هو أصغرمنه ، وإن استقر في نفسه وعقله إن كان بالغا ، أو يخبره أبناء جنسه فقبله اختياراأو علمه اختيارا تحقق عنده الفاطر المحدث القاهر .

وقد يظهر في الأطفال شيءمن هذا إذا اشتكى بكى وحن إلى والديه وشكا ورجا منهما الشفاء ، وإذا نظر إلىشفقتهما عليه وحنتهما لديه ولم يعنيا عنه شيئا ، اشتغل بتفجعه وتوجعه دونهما ، ويئسمنهما وعلم أن معه من يشفيه ويكفيه ما به دونهما ، ومن وراء هذا كله قول الله – عزوجل - : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمنبالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . ودين الصابئين أوسع لمن لم يسبق إليه دين غيره .

وفي مناغاةالأطفال آية للسائلين ، وتذكرة للمتأملين ، ذكروا أنه كان في زمان داود عليه السلامرجل وامرأته قاعدان على سطح لهما ، وبين أيديهما طفل لهما صغير ، يلعب بين أيديهماوفي حائط السطح كوة نافذة إلى زقاق السطح ، فدب الطفل ودخل في الميزاب فلما قربإليه أبواه لكي يخرجاه هرب منهما وأشرف على الزقاق ، وإن تنحيا عنه قرب منهما ، حتىطال ذلك عليهما أرسلا إلى داود عليه السلام فجاءهما ، فلما رآه وتأمله قال لهما : ( إئتوني بتربة من الأطفال ) فأتى به فقال لأبويه : ( تنحيا عنه ) فتنحيا عنه وأطلقالطفل إلى الآخر ، فلما قرب نغم أحدهما لصاحبه ونغم له الآخر ، فجرت بينهما مثلالمحاورة بين الكبار ، فخرج الطفل إلى الآخر ، فقال داود عليه السلام : ( أتدريانما جرى بينهما ؟ )

قالا : ( لا ) .

قال : ( قال الطفل لابنكما : أخرج يا أخي لئلا تقع من هناك إلى الزقاق فتهلك .

فقال له الآخر : دعني ياأخي ، أن أسقط من هاهنا فأموت خيرا لي من أن أعيش فأكبر فأكلف ، فإن عصيت ربي دخلتالنار .

فقال له الآخر : بل تخرج يا أخي وتعيش وتعمل بطاعة الله وتموت وتدخلالجنة .
فقال له الآخر : أما الآن فنعم . فخرج الطفل .

ولا تلق هذا الخبروترم به وراء ظهرك ولك في سليمان والهدهد أسوة حسنة ، وفي النمل آية للسائلين .

وقال الحسن البصري : ( إن للناس في هذه الأموات لعجبا ) .
وقيل : إنالأرض إذا أصبحت نادى بعض البقاع بعضا هل مر بكن ذاكرا لله ؟
فإذا قالت بقعةمنهن : ( نعم ) اغتبطتها البقاع .

وفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسوة حسنة حين قال : (( إن هذه الشاة لتكلمني إن بها سما )) . وحين خوطب بالنبوة فيغار حراء فأراد أن يرمي نفسه من أعلى الجبل فكلما هم أن يرمي نفسه من أعلى الجبلنادته الأحجار والأشجار : لا تفعل يا رسول الله .

وأما من ذهب من زاد : (( وما جاء به حق )) ، وذلك أن أبا عيسى الأصبهاني رجل من اليهود قال : ( إن محمدارسول إلى الأميين وليس برسول إلينا ، لأن شريعتنا لا تتبدل ولا تتغير ) ، فاحتاطالمسلمون في دعائهم أن زادوا : ( وما جاء به حق ) .

وقال في كتاب أبي عيسىالترمذي وهو من الكتب الصحاح في الحديث حديثا رواه عن ربعي بن خراش العبسي وهو الذيقال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( يتكلم رجلان منأمتي من بني عبس بعد الموت)) ، وهو الذي كلم أخاه الربيع بن خراش بعد الموت، وذلك أنه مات وأخوه الربيع غائب ، فجهزه أصحابه ، وكرهوا أن يدفنوه قبل مجيء أخيهفانتظروا به ، فلما قدم أسفر عن وجهه فقبله واستوى قاعدا ، فقال الربيع : ( أبعدالموت يا أخي ) فقال : ( نعم ) . فقال : ( قدمنا إلى روح وريحان ورب غير غضبان ،والأمر أيسر مما تظنون ، ولكن اعملوا ولا تغتروا ) فوقع ميتا كما كان أول مرة .

وروي عن ربعي عن علي بن أبي طالب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( والله لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع : أن يشهد أن لا إله إلاالله ، ويشهد أني رسول الله ، ويشهد أن الذي جئت به الحق من عند الله ، وبالبعث بعدالموت ، وبالقدر خيره وشره )) .

وروي أن زيد بن أبي خارجة العبسي ،الذي تكلم في أيام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بقباء بعد الموت ، وذلك أنه توفيفجهزوه ، فلما قاموا ليصلوا عليه وأحرموا كلهم ، فقال : ( إن رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) صدق صدق في الرعيل الأول – وقيل : في المهاد الأول – وأبو بكر صدق ،صدق في الرعيل الأول ، وعمر صدق ، صدق في الرعيل الأول – ويروي فيها : في المهادالأول – وأما عثمان ففي بئر أريس ) . وأريس رجل من اليهود كانت له حديقة في قبلةمسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ، وكان عثمان يأوي إلى بئر تلكالحديقة في الظهيرة فيستنشق روائح الماء ويتبرد فيها ، فبينما هو يوما من الأيامجالس فيه ، وفي خاتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتوفي عليه السلام وصار إلىأبي بكر ، ثم توفي أبو بكر وصار إلى عمر ، فقتل عمر وصار إلى عثمان – فبينما هوعنده إذ أخرج الخاتم من أصبعه يعبث به فوقع قي تلك البئر فنزحوا البئر فغار ماؤهاولم يصيبوه بعد . ذكره البخاري في صحيحه . فمن هناك فارق عثمان العدل .

وهماجميعا من بني عبس زيد بن أبي خارجة وربعي بن خراش – فروى ربعي عن علي بن أبي طالبعن رسول الله عليه السلام أنه قال : (( والله لا يؤمن أحدكم حتىيؤمن بأربع : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأن الذي جئت به الحق منعند الله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره)).

وقال الله – عزوجل – حكاية عن مؤمني النصارى ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنامن الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا) . لابد من القول .

وأما مذهب من قال لابد من الإيمان بالملائكة والرسلواليوم الآخر مع الإيمان بالله – عز وجل – قال : ( فلهذه القولة إشارة في القرآن ،قال الله – عز وجل - : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربهوالمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعناوأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) ومعناه اليوم الآخر ، ويصدق ذلك ويؤكدهقول الله – عز وجل - : ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسلهواليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) .

وقد قال الله – عز وجل - : ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته) .
فمن عري من شيءمن هذه الجملة كان مؤمن ، وأسماء الصفات دالة على المعاني والعلل ، فلأجل الإيمانبالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كانوا مؤمنين .

وقال الله – عزوجل – ( والسارق والسارقة فأقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا منالله ) لأجل سرقتهما . ( والزانية والزاني فاجلدوا كل واحدمنهما مائة جلدة) لأجل زناهما .

وأما مذهب من زاد (( والقدر خيرهوشره )) ففي حديث جبريل الروح الأمين صلى الله عليه ، حين جاء إلى رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جلس ذات يوم مع أصحابه ، إذ أقبل رجل جميل الوجه ، أبيضالثياب ، طيب الرائحة ، حسن العمة ، بعيدا من المجلس ، فسلم وجلس ، فرد عليه رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) السلام ، فقال الرجل : (( أأدنو منك يا رسول الله ؟ )) فقال له عليه السلام : (( أدن )) . فدنا حتى جلس بين يديرسول الله عليه السلام ، فنصب رجله اليمنى ، ووضع يده على ركبته ، وفرش فخذه اليسرى، ووضع يده عليها ، فقال : (( أسالك يا رسول الله ؟ )) فقال : (( سل )) . فقال : (( ما الإيمان ؟ )) . فقال عليه السلام : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبلقائه واليوم الآخر – ويروي : وبلقائه والبعث – وتؤمن بالقدر خيره وشره )) فقال له : (( صدقت )) ، فتعجبالناس من قوله : صدقت ، فقال : (( ما الإسلام يا رسول الله ؟ )) فقال : (( شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم شهررمضان والحج لمن استطاع إليه سبيلا ، والاغتسال من الجنابة)) فقال : (( صدقت )) . ثم قال : (( ما الإحسان يا رسول الله ؟ )) فقال عليه السلام : (( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) فقال : (( صدقت )) . فقال : (( متى الساعة يا رسول الله ؟ )) فقال عليه السلام : (( ما السؤول عنها بأعلم من السائل عنها ، وسأنبئك بأشراطها : إذا ولدتالأمة ربها وربتها ، وتطاول رعاة البهم في البنيان ، ووسد الأمر إلى غير أهله ، فيخمس لا يعلمهن إلا الله وتلا ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله عنده علم الساعةوينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرضتموت إن الله عليم خبير) . فقام الرجل فلما ولى وتوارى ، قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( علي بالرجل )) فقاموا إلى كل ناحية ، فنادهم رسول اللهعليه السلام (( ألا هلموا أنه جبريل جاء يعلمكم دينكم )) وحسبنا الله ونعم الوكيل .


تسمية من وسع من الفقهاء في أكثر مسائل مالا يسع الناس جهله
فأول ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد القرآن العظيم والذكر الحكيم ،ثم محمد ابن محبوب وعزان بن الصقر وعمروس بن فتح وأبو خزر يغلا بن زلتاف وعبدالرحمن بن رستم – رحمة الله عليهم ورضوانه - .

القرآن أول : -

اعلم أن القرآن أنزله الله على قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليكون للعالمين نذيرا ولم يشرح مسألة خصوصية مما يزيدها على الناس إلا ما تضمن قوله : ( آمن الرسول ) وهي الخمس فرائض التي ذكرها الله – عز وجل - .

وقد قالالله – عز وجل - : ( قالوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزلإلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيونمن ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) . فاجتمعت الأمة كلها أن ليسعلى الناس شيء من معرفة المذكورين فيها إلا على من قامت عليه الحجة بذلك ، وأنهم قدوسعهم جهل جميع من ذكرناه فيها إلا الله وحده خصوصا ، قال الله – عز وجل - : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . قال ( صلىالله عليه وسلم ) : ((الدين يسر)) .

وكذلك قوله : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمنبالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى) . الآية . فشمل في هذه الآية الفرض والندب .

وقال لإبراهيم عليهالسلام حين سأله إبراهيم : ( رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لمتؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) . فقنع منه ببلى .

وأما محمد ( صلىالله عليه وسلم ) فهو القائل : (( إني بعثت بالحنيفية السمحةالسهلة)) .
وقال : (( الدين يسر)) . وقال : (( يسروا ولا تعسروا)) .

وكره رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) المسائل وعابها ، ولم يشرح للناس مسألة إلا شهادة : أن لا إله إلا اللهوأنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأول ذلك حديث جماعة عبد القيس ، حين وفدتإلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعميدهم المنذر بن عائد ، وفيهم يقول اللهعز وجل - : (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها) ، أي أسلم من في السموات والملائكة طوعا والأنصار وعبد القيس من ربيعة ، وكرها سائرالناس ، فقدموا على رسول الله عليه السلام المدينة وكان بهم معجبا فلما أرادواالانصراف إلى بلادهم قالوا : ( بماذا تأمرنا يا رسول الله ؟ ) فقال : (( آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان ، أتدرون ما الإيمان ؟شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وإقام الصلاة وأن تؤدوا من الغنيمة الخمسوسهم الصفى ( 1 ) )) فقصر الإيمان على الشهادتين والصلاة .
قال : (( وأنهاكم عن أربع : ألا تنتبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت)) .
وحديث ربعي بن خراش قد تقدم ، (( والله لا يؤمنأحدكم حتى يؤمن بأربع)) ، والحديث قد تقدم .

ولم يبلغنا عن رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه شرع للوفود التي جاءته شيئا سوى الجملة التي كانيدعوا إليها رسول الله عليه السلام فإذا نطق أحد بالجملة ، فيقول ( صلى الله عليهوسلم ) لأصحابه : (( فقهوا أخاكم ولا تجاوزوا إليه مسائل الصلاةوالزكاة والآداب)) .

ولم يؤثر عن أحد من أصحاب رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) أنه شرع لأحد من مسائل الاعتقاد شيئا .

ولرسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) الكتب إلى ملوك الأرض :-

أرسل دحية بن خليفة إلى قيصر ولم يشرعله فيها مسألة سوى الجملة التي كان يدعوا إليها فقال : (( اسلمتسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن أبيت فعليك إثم الأريسيين)) .

وأرسل شجاع بن وهب إلى كسرى ليس إلا الشهادة لله ولمحمد أنه رسول الله ،فأخذ كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمزقه ، فقال عليه السلام إذ بلغه : (( اللهم مزق ملكه كما مزق كتابي)) .

وأرسل إلى أهلاليمامة ، وإلى الحارث بن عبد كلال ، وإلى النجاشي ، وإلى أهل عمان ، وإلى المقوقسصاحب الإسكندرية .

وفرق رسله في البلاد ، وليس في كتابه إلا جملة التوحيد ،وأعظم من ذلك كتب عمرو بن حزم الأنصاري إلى أهل اليمن وشرع لهم فيها مسائل العقولونصب الفرائض ، في مثلها ، ولم ينص على مسألة مالا يسعهم جهله سوى الجملة .

وذكر عن جابر بن زيد – رضي الله عنه – أنه قال : انتهيت إلى بني عمرو بنحزم فطلبت إليهم كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع أبيهم عمرو بن حزم إلىأهل اليمن ، فأوقفوني عليه . وقد

جاءته وفود العرب كما قال الله – عز وجل - : ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين اللهأفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره أنه كان توابا ) .

وقد شرع رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) أحكام النجاسات والطهارات والغائط والبول والمحيضوالاستحاضة والمحاض والنفاس ونهيه عن استقبال الكعبة بالبول والغائط والانتعالوآداب الطعام والشراب ، واغفل هذا الأمر العظيم الذي لا يخرج أحد من الشرك إلىالإسلام إلا به ولا ينسب إلى التقصير في أوكد الأمور أمور الدين الذي لا يصحالإيمان والتوحيد والدخول في الإسلام إلا به ( 2 ).

وكذلك أبو بكر الصديقرضي الله عنه – وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى صدر أول الإسلام ، ولم يؤثر عنأحد منهم مسألة في هذا ، وفي حديث الأمة (( أعتقها فإنها مؤمنة)) لمن تدبر هذا الأمر ، ويقولون في الجواري الأعجميات : علموهن الصلاة . إذا أرادوا تسريهن .

وقد وقفت على خطبة عبد الرحمن بن رستم كان خطب بها يومجمعة في كتاب ذكر فيها خطبه – رضي الله عنه – فقال : ( من قرأ في صلاة الصبح فاتحةالكتاب فقد تولى جميع المسلمين وتبرأ من جميع الكافرين ، ومن قرأ التحيات في صلاتهفقد أتى بالتوحيد الذي عليه ، ولو كان هناك شيء يلزم العباد لأدرجه رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) في الصلاة فإنها عمود الدين ) .

ومن العجائب أنه يعلمهمالتحيات كما يعلمهم السورة من القرآن ولا يعلمهم هذه المسائل .

وكان يعلمهمهذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن (( اللهم إني أعوذ بك منعذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة الميسح الدجال ، وأعوذ بكمن فتنة المحيا والممات)) .

وقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين كان يعلمهم التحيات فلما بلغ إلى قوله : (( والسلام عليناوعلى عباد الله الصالحين)) قال : (( إذا قالها العبدالمسلم في صلاته أصابت كل عبد طائع لله في السموات والأرض)) .

واعلمأن هذه الكلمة تأتي على الولاية التي أوجبها الله تعالى بين المؤمنين من الأنسوالجن والملائكة ، وفي (( المغضوب عليهم ولا الضالين )) أنه البراءة التي أوجبها الله تعالى بيننا وبين الكافرين .

وأمر الدين قدجاء متواترا ظاهرا شاهرا ، ولم يقصد فيه إلى شيء يزداده على الجملة وقد ذكر اللهعز وجل – في القرآن أسامي القيامة والنفختين والمحشر والمنشر والواقعة والحاقةوالطامة والصاخة والقارعة ، في أمثالها .

وقد شع أهل السنة هم بآرائهم أيضافيما لا يسعهم جهله الميزان والصراط والصحف والمحشر والمنشر ( 3 ) في أمثالها ، ولوتتبعناهم في مذاهبهم ، لاتسع المجال ، وكثر المقال ، وضاع العيال ، ولم يدخل الجنةإلا المحال ، سبحان ذي الجلال .

وأما قول عمروس بن فتح فيما يسع جهله فيماضيقه المشايخ على الناس وسعه هو .

قال عمروس : ( والذي يسع جهله من الإيمانحتى يحل تفسيره فما كان من تفسير جملة التوحيد ، مثل أنفاء الحدود على الله – عزوجل – والأقطار ، وإثبات القدرة له والعلم ، وجميع الصنع والحدث أن يضاف إليه أنهصانعه ومحدثه ، وتصديق كل ما جاء به من خبر مما هو كائن أو يكون وإضافة كل شيء إليهمما رأوا وما لم يروا ، وتسمية خلق ذلك الشيء ونسبته إليه وليس معه مكون ، وأنهبائن من صفات المخلوقين ليس كمثله شيء ، فإذا ذكر (4) هذا وحل تفسيره فلا يسعه ووسعجهل الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث والحساب والملائكة والكتب والرسل ، فيأمثالها ) .

مذهب عزان بن الصقر فيما يروي عن محمد بن محبوب شبيه بمذهبعمروس بن فتح .

قال عزان : ( من شك في التوراة والإنجيل والزبور والجنةوالنار ، فإنه يسع جهله ما لم يذكر فإذا ذكر لم يسع .

ومن جهل أن الله يبعثمن في القبور فذلك واسع له ، فإذا ذكر لم يسع جهله . فإن شك في الثواب والعقاب ،فواسع ما لم يذكر ، فإذا ذكر أو قامت عليه الحجة لم يسع جهلهما .
فإن شك فيهمابعد قيام الحجة عليه ، فهو مشرك يقتل إن لم يتب .

وكذلك من شك في القرآنوالكعبة والجمعة ما لم تدخل أوقاتهما . فعلى مذهب هذين الإمامين التوسعة ما لم تقمالحجة .

وأما مذهب أبي خزر يغلا بن زلتاف – رضي الله عنه – فإنه قال : ( يسعجهل جميع الحرام ما خلا الشرك ) وإنما أراد بالشرك ما ظهرت منه تسوية الباري سبحانهمع غيره .

وأما المستخرج من الشرك ، فليس عليه فيه شيء ، فمهما وجب عليهامتثال شيء أو معرفته قضى على المضيع بالحرام ، لا يتجاوزه حتى تقوم عليه الحجةبخلافه ، أو يقطع عذره ، مثل الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والنبيين والآخرة ،وإنما راعى في ذلك من لا يقول بشرك من جهل وأنكر سوى الله ، فليس عليه شيء حتى تقومعليه الحجة ، وأسقط عن الناس معرفة النفاق ومعرفة كفر الناقضين لما في أيدينا ،ومعرفة أن ثم كبيرا غير الشرك ولا البراءة في شيء من هذا ، ولا تحريم شيء غير الشركحتى تقوم عليه الحجة به ويعلم أنه معصية الله ، أو علم أن الله فرضه على العبادفيعلم إذا ضيعوه أن ذلك منهم حرام ، أو علم أن الله تعالى أوجب عليه أو على الناسمعرفته فجهلوه ، أو حرام فارتكبوه ، والبراءة من الفعل وليس عليه البراءة من الفاعل، فأبطل جميع ما كان معصية لله أن يعلمها أو أن يعلم تحريمها ، إلا إذا قامت عليهالحجة بشيء أنه معصية فيثبته حراما لا غير ، ولا يتجاوز به إلى الشرك ولا إلى الكفر، ولا إلى الكبيرة ، ولا إلى الفسوق ، حتى تقوم عليه الحجة بذلك .

وأما قولالقائل : ( لا يسع جهل الناقضين لما في أيدينا ) معناه أن تعلم أنه أتى حراما لاغير ، وبشرط أن يكون الناقض إنما نقض ما أوجبه الله علينا دينا ، وأما نقض ما وراءذلك مما يسوغ فيه اختلاف العلماء فلا ، بشرط أن يعتقد أن هذا النقض دين الله عنده .

وأما إذا كان برأي ، فالرأي عجز .

وروي عن الشيخ أبي خزر – رضيالله عنه - : أنه كتب إليه الشيخ جنون بن يمريان أيام كان أبو خزر بمصر في مسائل لايسع الناس جهلها ، فرد له أبو خزر كتابه ، وكتب إليه بالجملة التي كان يدعو إليهارسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا غير .

ومن أصح ما روي عن أبي خزر – رضيالله عنه – أنه قال : بلغنا أن ما أسقط عن وهم الإنسان فلا يؤخذ به ، وهذه المسألةمن فروع النسيان ، ويجانبها الخطأ .

ونحن نورد قول الشيخ أبي الربيع سليمانبن يخلف – رضي الله عنه – فيما لا يسع جهله ، قال في ( باب ما لا يسع الناس جهله : مما يجب على كل بالغ عند بلوغه وصحة عقله ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا كان أو أنثى ،فعليهم معرفة إن الله واحد لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن ما جاء به حقمن عند ربه ، وأن الله خالق لجميع الأشياء ، وأن له الملائكة والنبيين والرسلوالكتب .
وعليهم معرفة جبريل بالقصد إليه وأنه رسول رب العالمين إلى محمد عليهالسلام .

وعليهم معرفة محمد عليه السلام إنه رسول رب العالمين إلى الناسكافة والجن كافة ، وأنه خاتم النبيين .

وعليهممعرفة الأب الأكبر آدم عليهالسلام باسمه ونبوته ورسالته إلى أولاده ، وأنه أول المرسلين ، وعليهم معرفة القرآنمقصودا إليه ومفروزا إليه من جملة الكتب .

وعليهم معرفة الجنة أنها ثوابلأهل طاعته على طاعتهم لربهم .

ومعرفة النار أنها عقاب لأهل معصيته علىمعصيتهم لربهم .

وعليهم معرفة الموت والبعث والحساب والعقاب .

وعليهممعرفة تحريم دماء المسلمين بتوحيدهم لربهم ومعرفتهم أياه وأفرادهم له .
ومعرفةتحليل دماء المشركين على شركهم لربهم ومساواتهم له بغيره .

وعليهم ولايةالمسلمين جملة .

وعليهم أيضا أن يقصدوا بولايتهم إلى كل من لا يسعهم جهله ،مثل جبريل من الملائكة ومحمد وآدم من النبيين عليهم السلام .

وعليهم البراءةمن الكافرين جملة .
وعليهم معرفة جملة النبيين أنهم من نسل آدم .

وعليهمفرز ما بين الكبائر وذلك أن يعرفوا أن الشرك مساواة الله بغيره ، وذلك أن يوصف بصفةغيره ، ويوصف غيره بصفته .

وعليهم معرفة أن الله أمر بطاعته ، ونهى عنمعصيته ، وأنه مثيب على طاعته ، ومعاقب على معصيته ، وأن ثوابه لا يشبهه ثواب ،وعقابه لا يشبهه عقاب ، وأن الله موال لأوليائه ومعاد لأعدائه ) .

وقد قيلعن الشيخ – رضي الله عنه – أنه قال : ( لا يسع جهل الملل وهم اليهود والنصارىوالصابئون والمجوس والذين أشركوا ) .

وقد ذكر الشيخ – رضي الله عنه – أنهقال : ( لا يسع جهل موت محمد عليه السلام ، لأم من جهل موته جهل أن الذي في يده منالشريعة ينسخ أو لا ينسخ ، ومن قبيل ذلك أشرك من جهل موت النبي ( صلى الله عليهوسلم ) .

وعليهم ولاية المسلمين من الجن جملة لا يقصد إلى شخص بعينه ، ولايسع جهل الإسلام والمسلمين والكفر والكافرين ، وذلك أن يعلموا أن الكافرين كافرونبكفرهم ، وأن المسلمين مسلمون بإسلامهم .

وعليهم معرفة كفر من جهل شيئا منهذا كله ، فإن شك في شيء مما ذكرناه فهو كافر والشاك في كفره كافر والشاك في الشاككافر إلى يوم القيامة .



وعليهم معرفة أن الله حرم دمائهم بهذه الجملة التيذكرنا ، وبمعرفة أشباهه ما لا يسعهم جهله ولا يسلمون إلا بمعرفته من توحيدهم ربهموإفرادهم له ، يصح لهم توحيدهم لربهم والمعرفة به ) .


------------------------------------------
( 1 ) سهم الصفي هو السهم الذي يدفع إلى رسول الله عليه السلام . ( مراجع ط 2 ) .
( 2)
يقصد المؤلف – رحمه الله – ليس على المسلم أن يتوغل في دقائقعلم الكلام وإنما يكفيه أساسيات التوحيد فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكتفي منالناس بذلك ، وهديه عليه السلام خير هدى ( مراجع الطبعة الثانية ) .
( 3 )
أيتفصيل ذلك . ( مراجع ط 2 ) .
( 4 )
أي علم . ( مراجع ط 2 ) .



رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



باب القول في أسئلة مبهمة وأجوبة مدهمة
ولنرجع إلى من أغرق النزع وزاد في الوسع خصالا جمة ، وقرنها مع الاعتقادوالشهادة من أول وهلة ، فأوجبها على البالغ من أول بلوغه ، وهي زهاء عشرين خصلة أوأكثر ، وحكم على جاهلها بالشرك ،وفي الشاك والشاك في الشاك بالكفر إلى يوم القيامة .

وأما قولهم في الأئمة المتقدمين الذين أطلقوا الخناق وأوسعوا الوباق ، وماحالنا نحن الذين لم تبلغ عقولنا ولا علومنا إلى هذا الحد ، والأئمة عمروس ابن فتحومحمد بن محبوب وعزان بن الصقر وابن بركة العماني وأبو خزر يغلا بن زلتاف وعبدالرحمن بن رستم وابن زرقون .

فأول ما يقع السؤال في هذه المسائل على ثلاثةمعان :-

أحدها : إظهار البرهان على قوله من طريق البراهين الدالة على الحقمن الكتاب والسنة والإجماع والعقل ولا خامس إلا التقليد ، فالحق في التقييد دونالتقليد ، والتقليد إما باطل ، فإن كان عن معصوم كان حقا ، ولا معصوم إلا المهديوعيسى ابن مريم عليهما السلام ، والتقييد في الأوجه الأربعة الكتاب السنة ورأيالمسلمين والعقل .

الثانية : الحكم فيما بين هذين المختلفين بين موسع ومضيق،فإن ساغ لهما ذلك ، كانت المسألة فقهية ولا يجاوز أحدهما إلى الآخر أخطأت في رأيالحق ، وإن كانت ديانة فلابد من الحق له عند الله تعالى في أحد هذين المختلفينوخلافه باطل ، وعلى المحق منهما أن يقطع عذر المبطل .

الثالثة : ما حكمهمافي هذا الجاهل والشاك ، إن وسعا عليهما جميعا مع تسمية أحدهما له بالشرك وتوسيعأحدهما له ، أو قطعا عذرهما ، أو وسع أحدهما أن يقطع عذرهما أو عذر أحدهما ، ولايقطع صاحبه عذرهما ، أو عذر أحدهما ، أو عليهما أن يقطعا أولا يقطعا ، ولا يخلوالأمر من تقليد أو تقييد ، فالتقييد قد عاز ، والتقليد غير مقطوع به إلا من معصوموهم الأنبياء .

وأقل ما في التقليد أن لا نثق بأن الحق في يدك دون غيرك ،وليس لك على المخالف لك مزية تفضلهم بها .

وأمر مسائل مالا يسع الناس جهلهيرجع إلى الديانات والأفراق ولا يرجع أمرها إلى المذاهب ، فالقول بين الأديان بينالشرك والتوحيد وبين الأفرق بين الحق والباطل وبين المذهب بين الصوابوالخطأ.

ونحن نبتدئ في مسائل الشيخ أبي الربيع سليمان بن يخلف – رضي اللهعنه – مسألة ليتضح لنا تفسير مجملها ، والمعذرة إلى الله تعالى ، وإلى من بلغهكتابنا أن يظهر لنا من علمه ما يكشف عنها به الغمة ، فإن هذا الأمر المتعلق بالدينشأنه عظيم ، وخبره جسيم ، ولا يسعنا فيه إلا الحق عند الله تعالى ، فإن علومناضعيفة وأحوالنا خفيفة وعقولنا كليلو وأيامنا قليلة ، مع ظهور الفتن وكثرة المحن ،أعاذنا الله وإياكم من سوابق الشقا وجعلنا وإياكم من أهل الهداية والتقى .

واعلم أن السؤال في كل مسألة من هذه المسائل على أربعة أوجه : أولهاالبرهان . والثاني : ما حال المختلفين . والثالث : ما حال الجاهل . والرابع : ماحال الشاك .

أما من طريق التلقى والقبول ، فلابد من التقليد ، والتقليد غيرمأمون الخطأ ، وليس صاحبه على بصيرة من أمره ، فإن كان عن تقييد فلابد من البرهانويصير ديانة بين موسع ومضيق ، ويقطع عذر المخطيء ، والبراءة من وراء ذلك ، وقد وردعن المشايخ الاختلاف والوجهان ، ولا تكفير .

وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بنأبي بكر يتعجب من قول أبي الربيع سليمان ابن يخلف : ( والبراءة فيها وجهان ) .

وقد قال الشيخ أبو جزر يغلا بن زلتاف – رضي الله عنه - : ( لم يبلغنا منالعلوم أن البراءة تجب بالرأي ) .

فإن قال قائل : فما الحكم في الجاهل ؟ وهلعلى المضيق أن يلزمه الشرك وأحكامه من القتل والسبي والغنيمة والبراءة أم لا؟

فإن أجرى عليه هذه الأحكام كلها فما حاله مع الموسع ؟ إن كان ينتصر لصاحبه، ويبرأ ممن رماه بالشرك ، ويدافع عنه من أراد قتله ، ويدفع عن ماله ، ويكون علىولايته له ، ويبرأ ممن برأ منه ، أو يدع الضيق وإنفاذ جميع أحكامه في هذا الجاهل ،أو يقول البراءة فيها قولان ، وقد قال الشيخ أبو خزر – رضي الله عنه - : ( لميبلغنا في شيء من العلم أن البراءة تجب بالرأي ) والقولان إنما تكون في الآرائيات ،وأما الديانات فلا .


فإن قال قائل : ما الدليل على (( أن لا إله إلا الله )) ؟

قلنا : من كتابالله – عز وجل - : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبكوللمؤمنين وللمؤمنات) .

فإن قال قائل : ما الدليل على أننا أمرنا أننؤمن بالله ؟

قلنا : قول الله – عز وجل – : ( آمن الرسولبما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله) .

فإن قال قائل : ماأنكرتم أن يكون هذا الإيمان غير واجب ولا بفرض ؟

قلنا : قول رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ( لا إلهإلا الله ) فإذا قالوها عصموا متى دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم إلا بحقها)) .

وهذا وعيد ولا يقع الوعيد والتهديد على غير واجب .

فإنقال قائل : فما الدليل على أن محمدا رسول الله ؟
قلنا : المعجزات الخارقاتللعادات .

فإن قال : ما الدليل على وجوب الإيمان به والإقرار به؟

قلنا : قول الله – عز وجل - : ( آمنوا بالله ورسوله) والإقرار به : قول رسول الله عليه السلام إدراجه في التشهد : (( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله)) . ومن وراء هذه كلها الإجماع .

فإن قال قائل : ما الدليل على أنالشهادة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) توحيد ؟

قيل له : لأن الإنكار لهشرك .

فإن قال قائل : ومن أين أشرك من أنكر غير الله ؟

قيل له : لأنهأنكر صفة من صفات الله – عز وجل - ، لأنه مرسل الرسل ، وأنكر اسما من أسمائه .

فإن قال : فمن أين أشرك من أنكر خلق شيء من الأجسام ؟

قلنا : منهذا الوجه ، وقد عمد إلى ما يعجز عنه المخلوقون فغزاه إليهم ، فأثبتهم في القدرة معالله تعالى فهو سواء .

فإن قال قائل : ما الدليل على أن علينا معرفة جبريلعليه السلام ؟
فأول ما يقع السؤال على جبريل : هل هو من الملائكة أو غيرهم؟

والثانية : ما البرهان على وجوب الإيمان به عند البلوغ ؟

والثالثة : ما حال المختلفين ؟

والرابع : ما حال الجاهل والشاك ؟

وأما إثباتجبريل من الملائكة ،فمن كتاب الله – عز وجل- ، ومن قبل الإجماع ، قال الله تعالى : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) . وقال : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن اللهعد للكافرين) .

فإن قال : ما الدليل على أن جبريل عليه السلام هوالروح الأمين ؟ وبعد أن يكون روحا فليس ما يدل على أنه من الملائكة ،قال الله – عزوجل - : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا) فدل أن الروحليس من الملائكة ، لأنه خصه بالذكر دونهم .

وأما قوله : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) .

فالذي يدل عليه الخطاب : أن الرسل أقرب المذكورين إلى الملائكة ،وإن كان ولابد فالرسل هم الملائكة ، وأما جبريل وميكال فلم تدل الآية على أنهما منالملائكة ، وإن كان ولابد فهما عطف على الرسل ، على أن الواو قطع ما بينهم ، كما أنالله تعالى قضى بالغيرية بين الميتة والدم ولحم الخنزير ، وليس في المسألة أكثر منالإجماع عند الشغب .
وأما وجوب الإيمان به عند البلوغ وبعده ، فالله أعلم .

وأما حال المختلفين بين موسع ومضيق ، فالله أعلم .

وأما حال الجاهلوالشاك ، فهما مشركان عند الشيخ أبي الربيع سليمان بن يخلف ، وسالمان عند الشيوخالمتقدمين .

ومعرفة ما بين الشيوخ وأبي الربيع ، فالله أعلم لم يبلغنا فيهاشيء .


ومسألة أبينا آدم عليه السلام فيها ثلاث مسائل ، وفي كل مسألة أربع مسائل ،كمسائل جبريل عليه السلام .

أما الثلاث : فأولها : أن يعرفه باسمه _ آدم _ أنه الأب الأكبر ، لا أب قبله .
والثانية : أنه نبي وعلى الناس معرفة نبوته .

والثالثة : أنه رسول رب العالمين إلى أولاده ، وأنه أول المرسلين وأن جميعالرسل التي على الناس معرفة رسالتهم عليهم أن يعلموا أنهم من نسله ويؤمنوا بهم .

والأولى ما الدليل على أن اسمه آدم ؟ فهذا موجود في كتاب الله – عز وجل - : ( ألمأعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدومبين) . فهذا الذي يلزم الإقرار به للمقرين بالقرآن ، وعند السودان أنأبانا أسود وأن اسمه كامشلم ، قالوا : كالقرود أنتم مسختم البيضان كالقرود .

وقد ورد في بعض الآثار : أن الله تعالى خلق آدم أسود فشكا إلى ربه . فقال : يا ربي / إني أسود . فأمره الله تعالى بصيام البيض من الشهر : الثالث عشر والرابععشر والخامس عشر ، فصام الثالث عشر فابيض ثلثه ، وصام الرابع عشر فابيض ثلثاه نوصام الخامس عشر فابيض سائره ، والكتاب والإجماع مغن في هذا .

وفي وجوبالإيمان بنبوته أربع مسائل : ما البرهان وما الحكم فيمن أنكر وما الحكم في الجاهلوما الحكم في الشاك ؟

وفي الرسالة أيضا أربع مسائل : كالنبوة وقول الشيخومعرفة القرآن مقصودا إليه مفروزا إليه ، ومعرفة أنه من جملة الكتب ، وفي هذهالمسألة أيضا أربع سؤالات كغيرها :

أولها : ما البرهان ، والثانية : حكمالمختلفين ، والثالثة : حكم الجاهل ، والرابعة : حكم الشاك .

أما البرهانعلى أن علينا معرفته والإيمان به خصوصا من جملة الكتب . يقول الله – عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل علىرسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ) .

فإن قال قائل : إن الإيمان بهمقصودا ليس بواجب علينا ، لقول الله – عز وجل – في عقب هذه الآية . ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) فكرر الوعيد على إخوانه واستثناه منها ، فصح أن الإيمان به فضيلة لا فرضخصوصا .

وأما حكم المختلفين فالله أعلم . وحكم الجاهل فالله أعلم . وحكمالشاك فالله أعلم .
وقال الشيخ : ( وعليهم معرفة الجنة أنها ثواب لأهل طاعته علىطاعتهم لربهم ومعرفة النار أنها عقاب لأهل معصيته على معصيتهم لربهم ) ، والمسألتانففي كل واحدة أربعة أوجه كما قدمنا .

فالجواب : فالله أعلم . ومن وراءالأربعة أوجه . هل الثواب والعقاب واجبان على الله – عز وجل – أم غير واجبين ؟ أوأحدهما دون الآخر ؟ وهل يجب علينا لعبيدنا أجرة خدمتهم أشغالنا ؟

الجواب : ليس علينا من أجرتهم شيء وإنما علينا ما يقيمهم لا خدموا أو لا لم يخدموا .

اعلم أن أحوال المكلفين تختلف ، ولو أبطلنا الثواب والعقاب كانت المعصيةإباحة لا تكليفا ، ولكن الثواب من فضل الله على المؤمنين والعقاب بمقتضى الحكمةواجب للكافرين .

وقد ينوب أحدهما مناب الآخر ، فيقول الله – عز وجل - : اعملوا ، فمن عمل فله أجره ومن لم يعمل خاب ، فيكون الحرمان في مقام العقوبة ،وربما يقول الله تعالى : اعملوا ، فمن لم يعمل عوقب ، ومن عمل سلم من العقوبة ،فتنوب السلامة مناب الثواب .

وقول الشيخ – رضي الله عنه - : ( وعليهم معرفةالموت والبعث والحساب والعقاب ) ففي كل واحدة من هذه أربع مسائل صارت ست عشرة مسألة، ولم نجد في القرآن ما يدل ظاهره على الوجوب.


وأما الموت فعلمه ضروري ، فما باله في المفروضات ؟ قالوا إن الموت لأجل البعث ،وفيما يروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا قام من الليل يتهجدقال : (( اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ، ولك الحمد أنترب السموات والأرض وما فيهن ، اللهم أنت الحق ، وقولك الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤكحق ، والجنة حق ، والموت حق ، والبعث حق)) ، في كلمات يقولها ، روى ذلك ابنعباس ليلة بات عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فسمعه يستفتح الصلاة بها ،ولم يذكر هاهنا الثواب .

وقول الشيخ : ( وعليهم معرفة تحريم دماء المسلمينبتوحيدهم لربهم ومعرفتهم إياه وإفرادهم له ، ومعرفة تحليل دماء المشركين على شركهمبربهم ومساواتهم له بغيره ) ، وفي هذه المسألة ما ذكرنا في غيرها .

وقد وردعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيء من هذا في خطبته في عرفات قال :

((
أيها الناس أي يوم هذا ؟

قالوا : يوم حرام .

قال : أي شهر هذا ؟
قالوا : شهر حرام .

قال : أي بلد هذا؟

قالوا : بلد حرام .

قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا .

قال : ألا هل بلغت؟

قالوا : اللهم نعم .

قال : اللهم أشهد ، ليبلغ شاهدكم غائبكم )) .

فإن استدلوا من هذا الحديث بأن الأعراض لم تبلغ حرمة الأموال ولاالأموال حرمة الدماء ، وهل يبلغ من جهل هذا عند البلوغ الشرك ؟ والشاك والمختلففالله أعلم .

وقول الشيخ : ( وعليهم ولاية المسلمين جملة ، وعليهم أيضا أنيقصدوا بولايتهم إلى كل من لا يسعهم جهله : مثل جبريل من الملائكة ومحمد وآدم منالنبيين عليهم السلام ، وعليهم البراءة من الكافرين جملة ) .

واعلم أنولاية المؤمنين الكون معهم على دينهم وتأدية حقوقهم من الاستغفار والتعاون على البروالتقوى ، ولم ينص إلا على الاستغفار ، وقال الله – عز وجل - : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) . والبراءة مفارقة الكافرينومباينتهم .

وأما ذكر جملة النبيين أنهم من نسل آدم فقد تقدم .

وقالالشيخ : ( وعليهم فرز ما بين الكبائر ، وذلك أن يعرفوا أن الشرك مساواة الله بغيره، وذلك يوصف بصفة غيره أو يوصف غيره بصفته ) .

وأما قوله : ( أن يفرز ما بينالكبائر ) . فعلى قول الشيخ أبي جزر – رضي الله عنه - : ( اعلم أنه يسع جهل الحرامما خلا الشرك ، والاحتلال والإصرار إذا علم ) .

وكذلك باقي الدين إذا علم ،وإنما الكلام على من لم يعلمه.

فليس على أحد أن يعلم أن ثم كبيرة أو كفراأو شركا غير الشرك الظاهر أو نفاقا ، وليس عليه من كفر الناقض ، أكثر من أن يعلمأنه أتى حراما لا من براءته حتى يعلم كفره أو نفاقه أو شركه الخفي ، ولا أن أوجبالله على شيء من المعاصي النار ما خلا الشرك .

وفي المساواة ما فيه ،والتسوية أفصح ، وقول الله – عز وجل – عن الكفار : ( إذ نسويكمبرب العالمين) .

وأما قوله : ( أن يوصف بصفة غيره ، ويوصف غيرهبصفته ) وهذا معنى لا لفظا .

وقال الشيخ : ( وعليهم معرفة أن الله أمربطاعته ونهى عن معصيته ، وأنه مثيب على طاعته ومعاقب على معصيته ، وأن ثوابه لايشبهه ثواب وعقابه لا يشبهه عقاب ، وأنه موال لأوليائه ومعاد لأعدائه ) . وفي هذهالمسائل أخواتهن الأول . والسؤال في الأوجه الأربعة قائم .

وأما حكاية الشيخرضي الله عنه – ( أنه لا يسع جهل الملل وهم اليهود والنصارى والصابئون والمجوسوالذين أشركوا ) . فهذه أبعد من هذه المسائل كلها وأخمل .

ولم تبلغ درجةاليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا أن يقرن الله تعالى بالإيمان بهم ، فالإيمانبه منزلة لم تبلغها أنبياؤهم : إبراهيم وموسى وعيسى ، بل هم أخس من ذلك .

ولو كان شيء من ذلك لكان إبليس اللعين أولى أن ينوه به ، لعظم ضرره علىالدين وأولياء الله المخلصين وعداوته لأبيناء آدم عليهم السلام ، وقد ذكره اللهعز وجل – في القرآن ونوه به ونبه عليه فقال عز من قائل : ( ألمأعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان أنه لكم عدو مبين ، وأن أعبدوني هذا صراطمستقيم ، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) .

وقال : ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزععنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلناالشياطين أولياء للذين لا يؤمنون)

وقوله : ( وإذقلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) .

وقوله – عز وجل - : ( قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ،إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنةوالناس ) . وأمرنا بالتعوذ منه لعظم ضرره وشأنه ، وأسقطوا عن الناس معرفتهمع ظهور الأمر بالتعوذ منه .

وذكر الشيخ أبو الربيع عن أبي عبد الله محمدبن بكر – رضي الله عنهما – ( أنه لا يسع جهل موت محمد عليه السلام لأن من جهل موتهجهل أن الذي في يده من الشريعة ينسخ أولا ينسخ ومن قبيل ذلك أشرك من جهل موت النبيعليه السلام ) .
واعلم أن النسخ من بعض أوصاف الشريعة ليس على الناس من معرفته ولا الإيمان بهولا الإقرار به ، حتى تقوم عليهم الحجة بذلك ، وأحرى أن الذي يجوز عليه النسخ ليسمما يشرك به جاهله ، لأن التوحيد لا يجوز عليه النسخ ، وإنما يجوز في الفرائض التيدون التوحيد .

ولو شك في جميع الفرائض التي فرضها الله عليه أو جهلها ، لماأشرك .

ولو جهل أن الله تعالى افترضها عليه لما أشرك .
ولو شك أن اللهتعالى افترض الصلوات الخمس أو جهل فرضها ، أو جهل أن الله تعالى أمر بها ، أو أنهاطاعة لله – عز وجل – لما أشرك في شيء من هذا بجهله إياه وشكه فيه ، حتى يتعدى الشركإلى الموت .

وقد وقع بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في شريعته شبهالنسخ وفي أحكام نصوص القرآن والسنة المتفق عليها بإجماع الأمة بعد رسول الله عليهالسلام النسخ ، أو الاستثناء إن كان كبر عليكم التخصيص بل مصادمة المنصوص لعللومعان طرأت ، فأجازوها وأمضوها ولم يشكوا بعد تركها حكم المنصوص ، وهي السنن التيأحدثها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في ذوي القربى والمؤلفة قلوبهم ، والفيءوعتق أمهات الأولاد على مواليهم ، وإسقاط الجزية والذل والصغار عن نصارى بني تغلب ،ورد أراضي الفيء مشاعا لجميع المسلمين شركاء أهله الذين غنموه .

وقد تقدمسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قسمة خيبر على قسمة الغنائم ، فلم يشرك منفعل هذا بل ساغ له فعله ، فكيف يشرك في جوازه ، بل من جهل موت محمد عليه السلام .

ويشرك أيضا من جهل موت عمر بن الخطاب بأن النسخ جائز له ، وقد قال رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إنكم في زمان التارك لعشر ماآمر به هالك ، وسيأتي على الناس زمان العامل بعشر ما آمر به ناج)) . واللهأعلم .

وقد وردت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخبار المهدي أنه يكونفي آخر الزمان ، كادت أخباره أن تكون ضرورية ، وأنه يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد إذملئت ظلما وجورا .

وفي التسمية أعظم درجة من التسمية بالهادي ، كظهور فضيلةعمار بن ياسر ، لقول رسول الله عليه السلام : ((إن الحق ليزال مازال عمار )) . ولم يقل أن عمار هو الذي يتبع الحق بل الحق في أثر عمار .

وقد ساغت لعمر بن الخطاب أمور كثيرة ، أفلا يسوغ للمهدي مثلها ، أو أعظممنها .

وجاهل النسخ لا يشرك فيشرك بجهل السبب الذي ربما كان مؤديا إلىالمسبب أو غير مؤد .

وقول الشيخ – رضي الله عنه – ( وعليهم ولاية المسلمينمن الجن جملة لا يقصد إلى شخص بعينه).

اعلم أن مسألة الجن في الوجوب عويصة ،ولكن ما الدليل على وجود الجن ؟

أولا : قال الله تعالى : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرضفانفذوا ، لا تنفذون إلا بسلطان ) .

وقوله : ( منالجنة والناس) . وإجماع الأمة.

فإن قيل : فها هنا طائفة من اليهودوالأطباء ينكرونهم ويقولون : إنها السوداء إذا غلبت على الناس .
قلنا : لا يعبأبهم بعد القرآن وإقرار الناس بذلك من لدن أبينا آدم عليه السلام إلى اليوم .

وأما قول من قال : إنه واجب علينا الإيمان بهم عند البلوغ وولايتهم فاللهأعلم .

فأي شيخ من المشايخ قال : ( وليس علينا من معرفة الجان شيء ) والسؤال عن الأحكام قائم .

وإن سأل عمن وطئهم فكسرهم أو عزم عليهم فقتلهم ،فليس علينا من أمور ما بيننا وبينهم شيء حتى يظهروا .

فإن سأل ما الدليل علىأن فيهم مسلمين ؟

قلنا : قول الله – عز وجل - : ( وإذصرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون) إلى آخر قصتهم ورجوعهم إلى قومهم منذرين، وداعين إلى الله تعالى وإلى كتابه ودينه وقولهم لقومهم : ( أجيبوا داعي الله) ( ومن لا يجب داعي اللهفليس بمعجز في الأرض) . وهذا وعيد يدل على التكليف ، فأثنى الله – عز وجلعليهم بالدعاء إليه وإلى طاعته ولم يعقب بالذم فهناك علمنا أنهم مسلمون .

فإن قال : هذا نص أو استخراج .

قلنا : استخراج يقوم مقام النص ،ولم يختلف عليه أحد . وفي ( قل أوحي إلي ) أعظم بيان .
وقول الشيخ : ( ولا يسعجهل الإسلام والمسلمين والكفر والكافرين ، وذلك أن يعلموا أن الكافرين كافرونبكفرهم ، وأن المسلمين مسلمون بإسلامهم ، وهذا كله مما لايسع جهله كل بالغ عندبلوغه إلا أن يعلمه ، ويعلم أن الله ألزمه علم ذلك ، وأن الله أوجب على العلم بهثوابا ، وعلى الجهل به عقابا ، وعليهم معرفة كفر من جهل شيئا من هذا ، فإن شك فيشيء مما ذكرنا فهو كافر ، والشاك في كفره كافر ، والشاك في الشاك كافر يوم القيامة ) .

والأسئلة المبهمة قائمة في هذه المسألة كما قدمنا ، وفيها زيادة العلةأنهم إنما كفروا بكفرهم ، وأنهم آمنوا بإيمانهم .

وقول الشيخ : ( وعليهممعرفة إن الله حرم دماءهم بهذه الجملة التي ذكرناها وبمعرفة هذا وأشباهه مما لايسعهم جهله ، ولا يسلمون إلا بمعرفته من توحيد ربهم وإفرادهم له ، فصح لهم توحيدهملربهم والمعرفة به ) .

والسؤال عن الأربعة الأوجه قائم إلى الآن .

وقد يؤثر عن عمروس بن فتح التوسعة ، وعن محمد بن محبوب وعزان ابن الصقروعبد الرحمن بن رستم وأبي خزر يعلا بن زلتاف وابن زرقون التوسعة في هذا كله ، حتىتقوم به الحجة .

واعلم أن طرق الحجة والبرهان أربعة أوجه : الكتاب والسنةوالإجماع والعقل .
أما الكتاب : أن يكون البرهان فيه منصوصا أو مستخرجا ، فإنكان منصوصا فلا كلام .
وأما المستخرج فيه فمحتمل والمحتمل ساقط من يد المحتج ،إلا أن يقع الكلام في الفقهيات المظنونات فعند ذلك يكون المستخرج حجة .

وأماالسنة فلها ثلاث أوجه :

أولها : صحة الطرق وإثباتها من الوجوه التي تثبت به .

والثاني : صحة الحديث المتن .

والثالث : استخراج الفقه والمعانيمنه .

وفي صحة الطرق وجهان : تواتر وآحاد ، فالتواتر هو الحجة ، وطرق الآحادهو الحجة في العمل لا العلم .

والإجماع إجماعان : إجماع أهل العلم منالأفراق مع العامة . فذلك الإجماع المقطوع به في أمور الديانات وشبهها ، والإجماعالذي يتعلق بأهل الصناعة دون الأول وهو حجة في الفعل لا العلم .

وأخبارالآحاد على وجهين : مأثور ومسند ، والمأثور حجة في العقول والعمل ، والمسند فيالأعمال.


باب اختلاف الناس في الكفر والكبير والمعصية والسيئة والخطيئة
وإذ ذكرنا وجوه الإيمان فنحن نريد أن نذكر ضده الكفر .

اعلم أن الشرك قدأجتمع الناس عليه أنه كفر .

واختلفوا في كفر الأفعال فأثبته بعض وأبطلهآخرون فمن أبطله السنية والمعتزلة ، ومن أثبته الأباضية والخوارج .

وأماالشرك فقد ذكرناه في غير هذا الموضع وفنونه الأربعة .

ومعنى قول الشيخ : ( وندين بهذا ) يتصرف على وجهين : على الدين والديانة .
فأما على الدين بمعنى أنهسائغ هذا في ديننا واخترناه على غيره من غير قطع العذر في خلافه ، وأما بمعنىالديانة فبقطع العذر وقطع الشهادة أنه دين الله .

وذكر مسائل جمة ، ذكر فيها : ( وندين لله ) . ولم يفرق بين التصويب والديانة ، فأول ما ابتدئ به ذكر كفرالأفعال .

واعلم أن كفر الأفعال ثابت لغة وشرعا كتابا وسنة ورأيا وعقلا .

أما في اللغة ، فالعرب تقول لمن أنكر نعمتك عليه ، أو لمن لم يكافئك عليها : كفر نعمتك وكفر إحسانك ، في الوجهين جميعا ، جحودا أو منعا عن مكافأتك .

وأصل الكفر الاستفساد إلى ولي النعمة . فقضوا عليه من أجل اللغة أنه كفر .
وقال عنترة :

نبئتعمروا غيرشاكر نعمتي = والكفر مخبثة لنفس المنعم

والشكر في الأفعال أظهر وضده الكفر ، وفي منع المكافآت أكثر . وحسبنا الله ونعمالوكيل .

وأما كفر الأفعال : فمن كتاب الله – عز وجل – قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غنيعن العالمين) .

فقصره أهل الإقرار والإنكار على الإقرار والإنكار ،وأطلقه أهل الجميع إلى الجميع ، فما الحاجة إلى الإقرار مع منع الفعل ، والحاجة إلىالفعل أظهر منهما إلى الإقرار .

وهذه التسمية تتوجه إلى الفعل في الظاهر فإنخصوا عممنا ولنا الحجة عليهم والفضل .

واعلم أنه إنما وقع الخطاب علىالمؤمنين المصدقين بالله لا على المشركين المنكرين ، أفتقع مطالبتهم في الإقرار ولوسامحناهم لقضينا به في المعنيين جميعا ، وللفعل مزية ليس مراد الباري سبحانه منالعباد الإقرار بل الامتثال .

وقول سليمان عليه السلام : ( ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غنيكريم) . خاف عوارض الجسد .

وقول الله – عز وجل - : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . فالحكم فيالفعل وتركه ، فمن أقر ولم يحكم كمن صلى ولم يوتر ، ومن حكم ولم يقر قضى الوطر .

وأما ثبوت الكفر في الأفعال من السنة فقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للأقرع بن حابس حين سأل رسول الله عليه السلام عن الحج فقال : الحج علينا يا رسولالله في كل عام ؟ فقال عليه السلام : (( لو قلت نعم لوجبت ، ولووجبت ما قدرتم عليه ، ولو لم تفعلوا لكفرتم)) ، وهذا الخطاب يتوجه إلى فعلهدون إيجاب فرضه .

فإن قالوا : إنما يتوجه الخطاب إلى إيجاب فرضه دون فعله .

قلنا : فما الحاجة بمن أقر لك بدينك ومطلك ولو قضاك وأنكرك لكان أيسر .

وقد روى عن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة – رضي الله عنه – مثل ما قالوا .

ولن يضرنا أنه أراد الله – عز وجل – بهذا الخطاب اليهود الذين أنكروا نزولالقرآن على محمد عليه السلام .

وقال عليه السلام : (( منترك الصلاة كفر)) . وقال عليه السلام : (( ليس بين العبدوالكفر إلا تركه للصلاة )) .

وقال عليه السلام : (( ألا لا ترجوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) . وليس هناك شركيضرب به بعضهم رقاب بعض إلا الفتنة والملك .

وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : (( من أتى امرأة في دبرها كفر ، ومن أتى امرأة حائضا كفر )) . وقال : (( الرشا في الحكم كفر)) .

وقوله للنساء : (( تصدقن فإني اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء والأغنياء)) .

فقالوا : بم ذلك يا رسول الله ؟

قال : (( بكفرهن )) .

فقالوا : يا رسول الله بكفرهن بالله؟

فقال عليه السلام : (( بكفرهن العشير ، ألا ترى إحداهنتمكث مع زوجها ما شاء الله ، فإذا ما رأت منه شيئا تكرهه قالت : ما رأيت منك خيراقط)) .

وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر)) .

وأما ثبوت كفرالأفعال فمن جهة الرأي : فإن أهل البصائر من المسلمين نظروا إلى ما أنفذ اللهالوعيد فيه من الأفعال وأوجب عليه النيران والخلود ، فقضوا باسم الكفر على من دخلالنار ولقبوهم أعداء الله والفاسقين والظالمين ، وسائر أسامي أهل النار تعميما لقولالله – عز وجل - : ( أعدت للكافرين) .

فمن تعدىإلى ذات الله – عز وجل – وصفاته ، وشبهه فيها بغيره صار كافرا مشركا .

ومناستعصى عليه في أوامره ونواهيه واتخذ معصيته ديدنة وحرماته دينا ، وأصر واستكبر عنعبادته ، أفيقصر هذا عن اسم الكفر لأجل ما قصر عن الشرك واستظهروا بما ورد منالآيات والأحاديث على قولهم واستبصروا فيه ، فمن قصر علمه عن بلوغ هذا الحد عذرناه .

فإن جاوز وانتهك أحد الشروط المذكورة التي قدمنا هلك ، وهاهنا ينبغي أنيراعى قول الإمام الأجل أبي الشعثاء جاب بن زيد – رضي الله عنه - : ( لا يحل للعالمأن يقول للجاهل : اعلم مثل علمي وإلا قطعت عذرك .ولا يحل للجاهل أن يقول للعالم : اجهل مثل جهلي وإلا قطعت عذرك . فإن قال العالم للجاهل : اعلم مثل علمي وإلا قطعتعذرك . قطع الله عذر العالم ، وإن قال الجاهل للعالم : اجهل مثل جهلي وإلا قطعتعذرك . قطع الله عذر الجاهل ) .


فإن قال قائل : ما يمنعكم من تشريكهم ، وقد ردوا القرآن والسنة والعربية والرأي؟

قلنا : امتنعنا من تشريكهم حين لم يواجهوا النص ، وكفرناهم إذ انتهكوا ،وعذرناهم إذ توقفوا ، وصار كفرهم كفر نعمة .
فإن قالت المعتزلة : إن الذي لم يحجليس بكافر لكنه فاسق ، قضوا نصف الحاجة ، واحتملناهم إذا قالوا رأيا .

وأماالمرجئة إذ قالوا : إنه ليس بكافر ، واسمه مع ذلك مؤمن .

قلنا : قطعا أومجازا .

فإن أرادوا بذلك البدن كان حقيقة ولا حقيقة عند من لم تصدق أفعالهأقواله ، ورد الله – عز وجل – مذهبه بقوله : ( أولئك هم المؤمنونحقا ) إذ قيده بحرف من حروف الحصر وشروط معلومة . قال الله – عز وجل - : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهمآياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقونأولئك هم المؤمنون حقا) .

ومعنى الذي نقول لأولئك هم المؤمنون كذبا .

وإن أرادوا بقولهم ( مؤمن ) مجازا وإنما غلب عليهم التفرقة بين أسماءالأبدان وبين أسماء الأفعال ، فقضوا بالثبوت لأسماء الأفعال فحسبهم جهلهم واغترارهم .

وقد تقدم قولنا إن الأسماء غير مخصوصة بزمان مخصوص ، إن أردت به الفعل كانمجازا ، وإن أردت به البدن كان حقيقة ولا حقيقة عند من لم تصدق أفعاله أقواله .

ولما نظروا إلى جمهور خطاب الله بالمؤمن بمعنى المقر والمدعي الإيمان . قال الله – عز وجل - : ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ) . حسبوا أنه المؤمن المجاز ، أو نسوا ما ذكروا به من قول الله – عز وجل - : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) وهذه التفرقة بينناوبين المرجئة رضينا باللباب وقنعوا بالقشر .

وقد يتفق ما قالت المرجئة : منذلك أحيانا مشرك وصدق في إيمانه غفر الله – عز وجل – له من ذنبه ما تقدم وما تأخر ،فأتاح الله من اخترمه من الدنيا ، فصار إلى الجنة كحال السحرة مع فرعون ، آمنوا إلىموسى عليه السلام ، فإخذهم فرعون وصلبهم وقتلهم وهم في مائة ألف وخمسين ألفا ونيفوصاروا إلى الجنة .

وأخرى أصحاب أهل الكهف وهم فتية آمنوا بربهم وزادهم هدىورغبوا إلى ربهم في الرحمة والرشاد ( فقالوا : ربنا آتنا من لدنكرحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) . فمن الله عز وجل عليهم أن ضرب على آذانهمفي الكهف سنين عددا ، ثم أحياهم وردهم لطفا من الله تعالى ومنه عليهم ، إذ حالبينهم وبين التكليف – مع فقد الأنبياء والهادين – إلى النوم الذي غشيهم فصار لهمكالموت ، إن لله ألطافا خفية ، فسلموا من المعاصي ولم يرتكبوها ، ومن الفرائض لميلتزموها ، فصاروا من أهل الجنة .
وأخرى : لو ابتلوا عقيب إيمانهم وتوحيدهمبالجنون وفقد العقول ، كانوا كذلك .

ولو سرى بمن أسلم بعد إيمانه وصعد بهإلى السماء ، حيث لا فرائض ولا معاصي ، لكان كذلك .

وكذلك لو صادف دينالصابئين دينا قلت فيه الفرائض ، أو وقع بجزيرة من جزائر البحور ، حيث لا يرى أنسياولا جليسا إلى الموت .

وكذلك من ألهم من المشركين الإيمان به ولم ير من يقيمالحجة بدين نبي من الأنبياء ، وصادف دين أبينا آدم عليه السلام .
وأخرى : لو كانمن أهل المعاصي والذنوب والموبقة ، وكان الله – عز وجل – من عليه بدين ليس فيه بدعة، وفتح الله تعالى له باب التوبة ، أو أحد أسبابها عند الموت ، أو قتل في سبيل الله، أو من عليه بالحسنات التي تذهب السيئات ، أو المصائب التي تكفر الذنوب ، أو استوتحسناته مع سيئاته وسلم من البدعة والإصرار ، أو من عليه بالدعاء والاستغفار وفتح لهباب الجنة عند الموت ، لكان أقرب إلى السلامة في هذا .

وإنما أنكرنا علىالمرجئة خصلتين : البدعة والإصرار ، فمن التزمهما صار من أهل النار ، ومن سلم منهمافهو في مشيئة الكريم الغفار ، ولن يليق بحكمة الباري سبحانه مسامحة من عاند وأبىودان بخلاف دين الله العزيز الحكيم .

ومن أصر واستكبر وتمادى وعثى وبغى وطغى، حتى أتى عليه المنون بالخبر اليقين والحق المبين وقد قال : ( مايبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) . فأيأسهم من تبديل الوعيد .

فإن قال قائل : فلم أطلقتم عليهم اسم كافر حين أتوا شيئا من الكبائر ، وقدكانوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأتون الكبائر ولا يسمون بهذاالاسم ، فما عبتم على الخوارج الذين يسمون أهل المعاصي باسم الشرك .

قلنا : لما كانت الكبائر على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مستخفى بها من منافق أومؤمن فلتة ، أو عن عمد فتاب ، أو ذات حد فأقيم الحد عليه فصار مغفورا له ، فلما كانفي هذا الزمان الذي ظهرت فيه المعاصي والكبائر وطاعة الجبابرة معلنين يتبجحون بهاعلى رؤوس العالمين ، فطاعة الجبابرة عندهم لآثر من طاعة الرحمن ، ومعصية الرحمنأوهن عندهم من معصية الجبابرة ، ففاقت المعاصي المعهودة الخفية ، وأربت على المعاصيذوات الحدود المغفورة ، سميناهم كفرة ، ولم تبلغ بهم تسمية الخوارج المارقة ،باستعمالهم السبي والغنيمة في إخوانهم الموحدين ، وأطلقنا عليهم اسم الكفر وأردفناهبالنفاق .

أما إخواننا القدرية ، فإنهم عموا عن الكفر وعمشوا عن النفاقوأطلقوا سم الفسوق وقضوا حاجة حين قضوا عليهم بجميع أحكام أهل النار ، ونفوهم منجميع أسماء الأخبار وأحكام المؤمنين الأبرار ، فاحتملنا جهلهم فيهم وغلطهم فيهم إذنفوا عنهم اسم الكفر واسم النفاق ، وقضوا حاجة حين سموهم فساقا وأثبتوا لهم الخلودفي النار ، وأصابوا إذ لم يرموهم بالشرك كالخوارج .

فأما إخواننا المرجئة ،فإنهم نظروا إلى أنفسهم لا غنى لهم عن المعصية ولا صبر دونها وقد تنغصت عليهمبالوعيد الشديد والخلود في النار يوم الخلود ، عمدوا إلى ما أنزل الله تعالى علىنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أول مرة في دعائه المشركين الجاهلين إلى الدخولفي الإسلام ، والباب الذي فتح لهم من الإيمان ، وعظم ما وعد الله للداخلين فيالإيمان من الثواب الجزيل والأجر الجليل استصلاحا لعباده وتسهيلا لهم في الدخول فيالإسلام ، وترغيبا لهم في عظيم الثواب ، فلما دخلوا في الإسلام وتمكن في قلوبهمالإيمان خاطبهم وقال : ( ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولواآمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنالكاذبين ) .ثم عقبوا إلى الوعيد الذي عقب به الباري سبحانه في آخريةالإسلام على المعاصي والذنوب وأبطلوه ولاشوه ( ويوم القيامة ترى الذي كذبوا علىالله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ) فاحولت أعينهم عمدوا إلى الناسخفأبطلوه ، ورضوا بالمنسوخ وقبلوه ، وارتاحت أنفسهم بالخروج من النار تسليا وتوليابعد قول الله – عز وجل – حكاية عن اليهود ( وقالوا لن تمسنا النارإلا أياما معدودة ، قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على اللهمالا تعلمون ، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيهاخالدون ) . ائتموا بإخوانهم اليهود ...

وأما الخوارج فحسبهم قول رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) : ((إن ناسا من أمتي يمرقون منالدين مروق السهم من الرمية ، فتنظر في النصل فلا ترى شيئا ، وتنظر في القدح فلاترى شيئا ، وتنظر في القديدة فلا ترى شيئا . وتتمارى في الفوق )) ..


وأما قول الشيخ – رضي الله عنه - : ( وندين بتفسيق أهل التأويل ) . فإن الشيخأراد به من ذهب إلى تشبيه الباري سبحانه بخلقه ولم يصرح ، والجحود دون التصريح ،وحاد عن مذهب المسلمين الصحيح .

فإن وقفوا توقفنا ، وحسبناهم جهلتنا ، وأنتغشموا وتقحموا أحد الشروط الثلاثة هلكوا ولا عذر.

وأما قوله : ( فندينبإنفاذ الوعيد والوعد ) إلى ما ذكر فإنه كذلك ، ولهذا الوعيد شروط : أولها : عدمالتوبة ، الثاني : خلوده من الحسنات ، والثالث : الاسترجاع ( 1 ) في مصيبة تكفرالذنوب ، بشرط أن يموت على الكبيرة فاعلها ولم يتب مصرا أو مبتدعا يدعو الناس إلىبدعته ، كما قال المختار بن عوف الكندي – رحمه الله - : ( الناس منا ونحن إلا عابدوثن وطاعنا وباغيا وصاحب بدعة يدعوا إليها ) .

وقد عارضوا بالمشيئة مشيئةالباري سبحانه ، حيث يقول : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرما دون ذلك لمن يشاء ) .

وقال جابر بن زيد : ( قد أخبرنا الله تعالىبمشيئته فيهم . أولها التوبة : قال الله تعالى : ( وإني لغفار لمنتاب) . والثاني : الحسنات قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبنالسيئات ذلك ذكرى للذاكرين) والثالث : الاسترجاع عند المصيبة قال اللهتعالى : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليهراجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ) .

فوعد أفضل من المغفرة ، وما وراء هذا معاند مصر طاغ مستكبر ، وقالب فروتهيدعوا إلى بدعته ، ولا سبيل للمشيئة في هذين لإبطال الحكمة فيهما .

فمنأجازهما فقد عزى إلى الله – عز وجل – وجها غير وجه الحكمة ، وهم إلى الهلاك أقرب ،فما يمنع هذا أن يجيزه في الشرك لقول الله – عز وجل - : ( إن اللهيغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) .

ولو وعد المغفرة والرحمةمن وراء ذلك لرجعت المعاصي بحال الإباحة ، ولم يبق إلا أن يأمرهم بها ، ولاسيما إنكان من أحد الشروط الثلاثة واحد .

وادعاؤهم أنهم يخرجون من النار بعد دخولهمفيها ، وزعموا أنه صح عندهم من جهة الحديث ، والحديث غير المشهور ولا المتواتر ، لايوجب العلم ولا القطع إلا عين الغرور بعد قول الله – عز وجل – : ( وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) .

ومن زعم أن تلك النار هي المحشر ، فهو أعذر ، لأن الناس يلقون في المحشرشدائد عظيمة ، وتدنو منهم الشمس قاب ذراعين على رؤوسهم ويسودون حتى لا يبقى منهم منالبياض إلا نكتة في نحورهم ، ثم يجلى ذلك عنهم حتى يبيضوا ،هم أصحاب الأعرافويدخلون بعد ذلك الجنة وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم
وأما من قال منهم : ( إنالجنة والنار والآخرة لهن انقضاء ) فقد هلك ، سواء قاله عن رأي عن ديانة ، وهذاإجماع من الأمة .

وأما قوله : ( بأن لا منزلة بين منزلتين ، بين الإيمانوالكفر ) . فقد نقضت القدرية هذا بقولهم وحكمهم على أن أهل الكبائر ليسوا بؤمنينولا كافرين قال الله- عز وجل - : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) . فلقب الرب تعالى هذا الفاسق بالكفر فقال : ( وأما الذين فسقوافمأواهم النار الذي كنتم به تكذبون) . وقد قال الله – عز وجل - : ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) .

فالمؤمنون في الجنة ،والكافرون في النار ، والفاسقون في البرزخ على قولهم ، أو على الأعراف ، الذين لميدخلوا الجنة وهم يطمعون .

وقول المرجئة : ( أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا تعرض على النار ) ، ولابد من المحصول ، هذه الأمة ، إن أرادوا جميع من أرسلإليه رسول الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والصابئين والذين أشركوا ويأجوج ومأجوج وغيرهم ، أشركوا .
وإن أردوا جميع استجاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولو من المنافقين ، أشركوا .

وإن أرادوا المخلصين ، أصابوا .

وإنأرادوا أهل الكبائر ولو كانوا مصرين أو مبتدعين ، هلكوا مع عدم الشروط التي يكفرالله بها الخطايا من التوبة وأخواتها ، فقد افتروا على الله كذبا ، وضلوا ضلالابعيدا حين جعلوه يبدل القول لديه.

وأما قول الشيخ – رضي الله عنه - : ( وندين بأن المنافقين غير مشركين ) اعلم أن الشيخ قال : وندين بأن المنافقين غيرمشركين . وإنما أراد أن المعنى الذي صاروا به منافقين من جهة الأفعال .

وقداختلفت الأمة في هذه المسألة فقال جل الأمة : إن المنافقين إنما نافقوا من جهةالاعتقاد ، لأنهم اعتقدوا خلاف ما أظهروا ، ليس النفاق في الأفعال بشيء ، وهو قولالسنية والمعتزلة والروافض من الشيعة .

وأما قول الأباضية بأسرها : إنالنفاق في الأفعال دون الاعتقادات . وبعضهم يقول : إن المنافقين الذين كانوا علىعهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مشركون ، والنفاق بعد رسول الله عليه السلامفي فعل الكبير .

واعلم أن اسم النفاق اسم شرعي ، ولكل واحد من هؤلاء الأفراقمتعلق .
وقول الشيخ : ( وندين ) أراد به ونصوب ، ولم يؤثر اختلافهم في تغيير شيءمن أحكام الإسلام إلا في قول من أبطل العقاب على الكبير ، فإن اتخذه ديانة هلك وإلاصار من جهلتنا .

واعلم أن النفاق هو الخفاء مأخوذ من نافقاء اليربوع كماتقدم ، فكان ذلك في زمان خوفهم من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخفوا ما بطنمن معاصيهم .
وأما اعتقادهم ، فأخفى ، ولم يعلم ما في اعتقادهم إلا من جهةالقرآن . فقال هؤلاء : صاروا منافقين بإظهار الشهادة والاعتقاد . وأخفوا المعاصي . وقال هؤلاء : بإظهار الشهادة . وأخفوا الاعتقاد.

لا يصح الحكم على الاعتقادإلا من جهة الكتاب ، وقال للرسول عليه السلام : (لا تعلمهم نحننعلمهم سنعذبهم مرتين) .

وقال أيضا : ( ولتعرفنهمفي لحن القول) . فمعرفتهم في لحن القول علم مظنون ، ومن جهة القرآن علممتيقن ، ونحن نشير إلى حجج كل واحد من هؤلاء المختلفين إنصافا وعدلا ، ونستحكمعليهم الكتاب والسنة حكما وفصلا ونقضي بذلك شرعا وعقلا .

واعلم أن اليربوعلحفرة أربعة أسام . منها : الرهطاء والداماء والقاصعاء وهي معروفة عند العرب ، ولهالنافقاء وهي التي أخفاها إلى وقت الحاجة إذا طلب من حفرة الثلاث خرج من الرابعة .

وأشار الشرع إلى أن من أخفى بعض أمروه وأظهر بعضها أورى عن الناس منافقويتجه ذلك إلى الاعتقاد ويتجه إلى الأفعال ، فأنزل الله – عز وجل – عن الذين تخلفواعنالهجرة هذا الاسم ، ولقبهم به .

وذلك أن أناسا من أصحاب رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) كانوا بمكة وقد أسلموا فهاجر رسول الله عليه السلام ولم يهاجروا ،فلما نزل فرض الهجرة وقطع الله عذر من لم يهاجر ، اختلف فيهم رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) ، فقال بعضهم : هم مشركون كما كانوا أول مرة إذ لم يهاجروا . فقضواعليهم بحكم أهل الدار .

وقال الآخرون : بل هم مؤمنون مسلمون ، فأنزل اللهتعالى حكمه فيهم ، وتسميتهم بخلاف ما سموهم به المختلفون ، يعاتب أصحاب رسول اللهعليه والسلام على الاختلاف ، فلو أطبقوا لأصابوا الحق .

وقال من قال إنالنفاق في الأفعال إنما وقع من جهة ترك الهجرة وهو فعل واستدلوا بقول الله – عز وجل - : ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) فقال من شركهم قول الله – عز وجل - : ( والله أركسهم بماكسبوا) أي ردهم إلى ما هم فيه أول مرة ، فأشاروا إلى الشرك .

والأركاس عند العرب : الرجوع إلى أسوأ حال الرجل ، أركسهم الله فارتكسوابما كسبوا من ترك الهجرة ، وهذه عتاب لمن عذرهم .

وقال : ( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) ثم قالالله عز وجل إخبارا عن ضمائرهم : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) فقضوا بالشرك حين حكى الله تعالى عليهم الكفر ، ولا كفر في ذلك الوقت إلا الشرك .

وقال الله – عز وجل - : ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتىيهاجروا في سبيل الله) قال يريد المواريث ولا يتوارث أهل ملتين .

وقال الآخرون في قوله : (( أركسهم )) أن ترك الهجرة رجوع إلى الهلاك الذيفيه أهل الشرك ، فالكفر أحد أسباب الهلاك ، وترك الهجرة كذلك .

وقوله : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا) فأوجه الكفر كثيرة ، ولايقصرها إلى الشرك ، أي ودوا لو تركتم الهجرة كما تركوها ، فهو الكفر الذي ودوه هم ،فتكونون سواء ، فشملهم اسم الكفر ، فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيلالله ، وقالوا : التراحم والاستغفار ثم قال : ( فإن تولوا فخذوهمواقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) .

فالتوليهاهنا : الرجوع إلى الشرك ، ولو كانوا في الشرك ما قال : (فإنتولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) .

فاستثنى الله تعالى منهمالذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، يريد ينتسبون إلى المشركين الذين بينكموبينهم ميثاق ، فشملهم وإخوانهم الميثاق والعهد على أنهم تولوا والأتصال والانتساب . قال الأعشى :

إذااتصلت قالت أبكر بن وائل = وبكر سبتها والعيون هواجع


وأكثر ما في القرآن التولي إشارة إلى الشرك ، كما قال : الذي كذب وتولىويحتمل – وقال : ( فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلها إلا الأشقى الذيكذب وتولى ) .


والأصل أن من كان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المنافقين ، قلما يسلمون من الشرك من مخالفتهم الرسول ومناقضته وكراهته بما جاء به ، ومحبتهم أن تكون الدائرة بينه وبين عدوه عليه ، ويظهر سلطان المشركين عليه ، وإرادتهم انفضاض جمعه ، ووسيلتهم إلى المشركين وإلى اليهود بإظهار بعضه وما جاء به ، واستثقالهم بجميع أموره ، وقلما يسلم من كان هكذا من الشرك ، وإظهار ما وصفهم الله تعالى به في القرآن بالشرك بالله قال الله – عز وجل - : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون ) .

من هذا الذي يشهد بأنهم يشهدون بعد شهادة الله تعالى إنهم كانوا كاذبين ، وليس بعد شهادة الله شهادة : ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ) .

ولم يأخذ عليهم في شيء إلا في الشهادة كذبا ، فقال : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) .

ولا ينفى عنهم من الكفر شيء بعد أن أثبته الله لهم ، فطبع على قلوبهم ، فالطبع خلاف الاختيار في مذمة كبيرة ، وأرى الذم يتوجه إلى القلب دون اللسان الذي كذبوا به ، ( وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) .
والفسوق مأخوذ من فسوق الرطبة .

ومن أثبت لهم شيئا من الإيمان بعد شهادة الله تعالى بالفسوق منهم محتاج إلى دليل ، ( ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) جاء الفسوق هاهنا أشد من الكفر .

وقال الله – عز وجل – أيضا : ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ) .

فمن لم يفقه ويؤمن أن لله خزائن السموات والأرض فليس يعرفه ، ولا يطلب ويحب انفضاض بيضة الإسلام عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا مشرك ، وقوله : ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله ) ( 1 ) نفوا العزة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأثبتوها لأنفسهم لهم المشركين ، ولئن أثبتوا العزة لله ولرسوله ونفوها عن أنفسهم لهم الصادقون ، فليختر المختار من هذين المذهبين ما شاء ، ثم قال الله – عز وجل - : ( ولكن المنافقين لا يعلمون ) فيا سبحان الله وهل العلم إلا في القلب ؟ وقد نفاه الله تعالى عنهم . أهؤلاء صفة الموحدين الذين اعتقدوا أن لله خزائن السموات والأرض ، وله العزة ولهم الذلة ؟ أو لهم العزة ولله الذلة ، تعالى الله ولا نعمت عين ، وحسبك القرآن كله على هذا النمط وحسبك منه ( آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) .. فهذا هو النص في عين الفص .

ثم قال ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكون من الصالحين ، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ) وأنت تعلم ما في التولي .( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) فأوى عقوبة خلف الوعد باللسان والكذب به أن أعقبهم النفاق في القلوب إلى يوم يلقونه منافقين بالقلوب صادقين الأفعال .

وقوله : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) .

فمعاذ الله أن يلمز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من يعتقد أنه رسول الله ، ولن يفعل ذلك أحد إلا وهو مشرك .

وأما أمر الأحكام الجارية عليهم من حكم الإسلام ، فليس فيها دلالة على صدق ضمائرهم .

ولو كانت ضمائرهم صالحة وأسرارهم صادقة مع كذب ألسنتهم التي شهد الله تعالى عليها بالكذب ، لكان حسبهم خروجا من ملة الإسلام مع ما عزاه الله تعالى إليهم من إرادة انفضاض بيضة الإسلام والإيمان ، وتشفي المشركين من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين لكان أعظم الشرك .

ولن يشهد لهم بالإيمان بالقلوب إلا من علم الغيب أو رجل يودهم .

ولن ينفع الإسلام والمسلمين تبرئتهم من الشرك شيئا .

ولن يضر الإسلام والمسلمين نسبتهم إلى الشرك ، وما علينا أن نحسدهم الشرك ، والشرك المستخفى به نفاق ، وليس في الإحكام ما يدل على بواطنهم وإنما يتعامل الناس في الدنيا بما ظهر ، وبالضمائر يوم تبلى السرائر .

ولو أن أحدا يقضى على شركة بالأفعال لكانوا هم ، وقد عرفنا الله – عز وجل – من خبيث ضمائرهم أفحش من ظواهرهم ، وقد أغنانا الله تعالى عن ذلك بما عرفنا من سرائرهم .

ومن ادعى معرفة الضمائر والاعتقاد ، وعلم ما في الفؤاد من غير تعريف الله – عز وجل - ، فقد جاوز علمه ومعرفته علم العباد .

وإن ادعى الاستدلال بالأحكام على أنهم أبرياء من الشرك والارتداد وحسن سلامة الاعتقاد فهو أقرب إلى الخطأ والفساد .

فلو قاس البواطن على الظواهر ، لكان أعذر من أن يقيس الظواهر على البواطن ، ظواهرهم خبيثة وبواطنهم أخبث .

والمسلمون ظواهرهم طيبة ، وبواطنهم طيبة ، ليس في الأحكام دليل ، وهاهنا بعض أحكام المسلمين جارية على اليهود والنصارى وليسوا بموحدين .

وإنما وقع الاختلاف بين الأمة في أهل الكبائر ، فأطلق عليهم أهل البصائر في الدين اسم النفاق ، وقاسوهم على من قبلهم من أهل الشقاق ، وامتنع الآخرون وقالوا النفاق في الخفاء والفساد ، وهؤلاء السلاطين وجنودهم .

وأهل الطاعة لهم ليسوا بمنافقين لأن أفعالهم ظاهرة ، وهذا أمر بني على الرأي والاختلاف ما لم يتجشم ويقتحم أحد أحد الشروط المتقدمة ، وقد سئل حذيفة بن اليماني عن هؤلاء الفجرة ، حين ظهرت كبائرهم ولم يستخفوا بها ، هل هم منافقون فقال : ( لا ، هؤلاء كفروا كفرا مبينا ) ونعذرهم إن ذهبوا مذهب حذيفة .

فإن قال قائل : ما الحكم فيمن نفى عن صاحب الكبيرة اسم النفاق ؟

قلنا : لا ضير ما أثبت لهم الفسوق ، ولم يجعلوه مؤمنا مستحقا للجزاء كالمرجئة أو قضى له بالخروج.

وكذلك من منع اسم الكفر عن صاحب الكبيرة ، فلا حرج ما لم يبغ .

وكذلك إن أطلق عليه اسم مؤمن ومسلم يريد بمعنى الإقرار بالتوحيد والحكم به ، ولا يوجب له به الجزاء في الآخرة دون الأعمال ، فجميع ما قلنا صحيح وبعض ما قالوه خطأ ، ولا نقطع عذرهم به ، وهم جهلتنا ، حتى يصدموا أحد الشروط الثلاثة ، كما قال جابر بن زيد : ( لا يحل للعالم أن يقول للجاهل : اعلم مثل علمي وإلا قطعت عذرك ) وبالعكس كذلك .



رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



مسألة :-

وقول الشيخ – رضي الله عنه - : ( وندين بأن الله يغفر الصغائرباجتناب الكبائر ، ولا يغفر الكبائر إلا بالتوبة ) ، وندين هاهنا بمعنى : نصوبونستحسن .
واعلم أن الناس قد اختلفوا في هذه المسألة من جهة الأحكام الشرعيةوأساميها .
قال بعضهم : الشرك أعظم الذنوب ، والكبير دونه ، وفوق المعصية .
والمعصية دون الكبير وفوق الخطيئة .

والسيئة دون المعصية وفوق الخطيئة .

والخطيئة دون السيئة وفوق الكراهية .

والكراهية دون الخطيئة وفوقالإباحة .

والتوحيد أفضل من الفرائض ، والفرائض دونه .

والفرائض أعظممن النوافل والنوافل دونها .

والنوافل أعظم من المباح والمباح دونها . قالالله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) الآية .

وعلى هذا القول : السيئة دون الصغيرة ، والصغيرة غيرمكفرة باجتناب الكبائر ، وهو قول ابن عباس : ( ليس فيما يعصى الله به صغير ) ، فإنهذهب إلى مناهي القرآن أنها الكبائر ، ومناهي السنة هي الصغائر وليست بمعصية ، ولمتدخل في الغفران باجتناب الكبير ، ولا تدخل في الغفران إلا السيئة فما دونها وهيالخطيئة ، ولم تدخل السيئة في المعصية فوقع الإجماع على السيئة فما دونها بدليلالخطاب وبقيت المعصية كلها في الوعيد والكبير .
وقال الشيخ : لأن الكبيرة لا تغفر إلا بالتوبة ، قال الله – عز وجل - : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا) وقال ( إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء) .

وقال : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) .

وقال : (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدينفيها أبدا) .

فأطلق في الأولى ولم يشترط . فقال : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا) .

وأطلق في الرابعة ولميشترط فقال : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهاأبدا) . فجاءت الآيتان عموما .

ومن شرط العموم أن حكم الخصوص جارعليه وحاكم عليه فخص في الآيتين المتوسطتين ، وعلق الغفران إلى التوبة ، فقال : ( وإني لغفار لمن تاب) . فاجتمعت الأمة على هذا وصح ، وأطلقأهل السنة المشيئة على الكل قلنا : والشرك ؟ قالوا : لا . فخصوا .

قال جابربن زيد – رضي الله عنه - : ( قد أخبرنا الله – عز وجل – عن مشيئته فقال : قد شاء أنيغفر بالتوبة قال الله – عز وجل - : ( وإني لغفار لمن تاب) .

والثاني : الحسنة . قال الله تعالى : ( إنالحسنات يذهبن السيئات) .
والثالث : المصائب : قال الله تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) . وقال : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئكعليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) . فوعدهم أعظم من الغفران .

وفحوى الخطاب : أن الغفران حاصل إذا حصل الوعد الجميل والأجر الجزيل ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ما من مصيبة يصاب بها العبد المسلمإلا كفر بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)) .

وقالعليه السلام : (( الموت كفارة لكل مؤمن )) وقد قيل : ( إن القتل في سبيل الله كفارة ) .

وقال عليه السلام : (( إن الشهيد يغفر له عند أول قطرة تقطر من دمه )) .

وقال عليه السلام : (( إن الصلوات الخمس كفارة لما بينها ))

وقالعليه السلام : (( إن صلاة الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى )) .

وقال في الذي سقى الكلب : (( فشكر الله فعله فغفر له )) .

والرابع : شفاعة المصطفى عليه السلام : روى ضمام بن السائب – رضيالله عنه - : (( إذا فصل الله بين الخلائق في المحشر ذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهلالنار إلى النار قال الله – عز وجل – لمحمد عليه السلام : اذهب اشفع ، فيأتي عليهالسلام إلى المحشر ، فيختار منهم جماعة إلى الجنة ، فيقول الله – عز وجل – ارجعفيرجع ويأتي بجماعة منهم إلى الجنة ، فيقول الله – عز وجل – ارجع فيرجع ويأتيبجماعة إلى الجنة ، فيقول الله – عز وجل – ارجع فيقول عليه السلام : يا رب لم يبقإلا من حسبه الكتاب ، فيعزل الله منهم طائفة إلى الجنة مع ما فيه أهل الأعراف )) .

قال ضمام : ( هم قوم استوت حسناتهم مع سيئاتهم ، فأتت شفاعة الجواد الكريمالرب الرحيم على من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان ) .

وقد جاء الحديث بهمشهورا عند أصحاب الحديث وذكره ضمام بن السائب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .

قال ( صلى الله عليه وسلم ) : (( من قال : لا إله إلاالله مخلصا من قبله دخل الجنة)) . هذه رواية أصحاب الحديث ورواية ضمامأعظم.

قال : قال رسول الله عليه السلام : (( من كان فيقلبه مثقال حبة من إيمان دخل الجنة)) .

وسعة رحمة الله كثيرة ، ولامطمع فيها لصنفين : مصر على معصية الله عازم أن يلقى الله – عز وجل – بها يومالقيامة ، ومبتدع في دين الله – عز وجل – منعكس منتكس عن الله تعالى .

وقالالشيخ – رضي الله عنه - : ( وندين بتكفير من زعم أن معصية الله – عز وجل – كلها كفر، وطاعته كلها توحيد ) .

واعلم أن الشيخ قد أطلق هاهنا : ( وندين ) وهي علىالشروط المتقدمة وإلا فالرأي عجز .

فممن أثبت أن معصية الله كفر : ابن عباسحين قال : ( ليس فيما يعصى الله به صغير ) ، وما ليس بصغير فهو كبير ، وما هو كبيرفهو كفر .

وغرض الشيخ ومراده مذهب الخوارج الذين زعموا أن معصية الله كلهاكفر ن وأكدوا أنها شرك ، وديانتنا فيهم أنهم كفروا حين حققوا ما قالوا بالفعالوبالقتل والسبي والغنيمة .

ولو اقتصروا على قولهم دون فعلهم ن لكان لهم فيهمندوحة وقد وقع الشرط في الأفعال وهو الرياء ، فليس ذلك بمخرجه من أحكام الرياء إلىأحكام الشرك .

وإن عكست الطاعة أنها إذا شابها التقرب فهو توحيد ، فما فيهأكثر من الغلط على اللغة ، ولو ورد به الشرع لجاز .

ومراد الشيخ في ( وندين ) كما تقدم بمعنى نصوب إلا لمن انتهك أحد الشروط فهو هالك .

وقول الشيخرضي الله عنه - : ( وندين بأن جميع ما أمر الله به إيمان ، وليس جميع ما نهى اللهعنه كفرا ، وبامتنان من منان إذ جعل طاعته كلها إيمانا ، ولم يجعل معصيته كلها كفرا ) .

اعلم أن معنى : ( وندين ) هاهنا بمعنى ونصوب وليس بمعنى نتدين . وأنالصحيح كما قال الشيخ : إن جميع ما أمر الله به تعالى وندب إليه إيمانا ، وإنما يقعالقول هاهنا في أوامر الله – عز وجل – هل هي على الوجوب أو على الند ؟ حتى يرد مايوجب الالتزام أو على الفور أو على التراخي .

واعلم أن الناس قد اختلفوا فيهذا كله ، فأوجب بعضهم أن جميع ما أمر الله تعالى به فرض ، ولا يقع الأمر علىالنوافل لكن الندب والدعاء إليها والتحضيض والترغيب والطاعة ، وأما الأمر فلا ،وهذا قول عمروس بن فتح ، وبعض الأئمة على هذا القول .

فليس يصلح في المسألةندين إلا بمعنى نصوب لا بمعنى نتدين لئلا يقطع عذر عمروس في أمر مختلف فيه الأمة ،وهو مما يسوغ للفقهاء الاختلاف فيه .

واستدل من قال بهذا القول بقول الله : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهمالخيرة من أمرهم ) .

ولم يسوغ لهم التخير بين الفعل والترك فأكد ذلكبقوله عقب هذا ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) .

وقوله – عز وجل – أيضا لإبليس اللعين : ( ما منعك أنتسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه) .

ولو احتمل الأمر التأخير أوالتخيير لاعتل بذلك إبليس ، فيقول : أمر الله على الندب حتى يرد ما يوجبه ، أو علىالتراخي حتى يرد ما يضيقه ولأصاب إبليس اللعين مندوحة وفسحة .

وقول رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهمبالسواك عند كل صلاة وعند كل وضوء )) ومعلوم أنه ندبهم إليه .

وقالتالأشعرية : إن أوامر الله تعالى على الوقف ، قلنا لهم : قفوا .

وأما الدليلعلى أن الإيمان جميع طاعة الله – عز وجل – مأمورا بها ومندوبا إليها ، قول اللهعز وجل – حين انتقلوا إلى استقبال الكعبة وتركوا استقبال بيت المقدس ، فقالت اليهود : ما حال صلاتهم أول مرة إلى بيت المقدس ؟ يعيبون المسلمين بذلك وأنهم قد أبطلواأجور صلواتهم إلى بيت المقدس ، قال الله تعالى : ( وما كان اللهليضيع إيمانكم) . يعني صلواتهم إلى بيت المقدس .

فلو قال قائل : إنما يريد إيمانهم في استقبالهم بيت المقدس ، وأما الصلوات فإنها ضاعت .

قلنا : هذا آخر اليهود . فإن الله تعالى بشر المسلمين ببشارتين : الواحدةأن صلاتهم غير ضائعة والثانية : أن تلك الصلوات نفسها إيمان ، فجعل هذه التعزيةمكان التهنئة ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( الإيمان نيف وسبعون خصلة أعلاها : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق)) .

وقال عليه السلام : (( الحياء من الإيمان)) .
وأما قول الشيخ – رضي الله عنه - : ( وندين بأن الله خالق وما سواه مخلوق ، وأنه خالق لوحيه وكلامه ، وجاعل له ، ومحدثله ) .

وقوله : ( وندين ) هاهنا محتمل ما لم يقع أحد الشروط الثلاثة ، وذلكأن هذه المسألة وقع فيها بعض المغالطة ، وكذلك مسألة الأسماء ، أسماء الله تعالى .

واعلم أن من شروط التناظر اتفاق المتناظرين على المعنى الذي أرادوا أنيتناظروا عليه ، فلابد من اتفاق عليه وإلا كان الكلام لغوا ، يسأل من يقول : القرآنغير مخلوق . ما هذا القرآن الذي تريده وما حده ؟

فيقول : إن الكلام أولاإنما يكون في النفس منا ثم يظهر على ألسنتنا فيكون الظاهر والباطن كلاهما كلاما ،فنظرنا إلى القرآن الظاهر عن كلام الباطن قام ونظرنا إلى كلام النفس قد يكون فيالنفس قبل ظهوره إلينا ، وأمور النفس عندنا آكد من أمور الجوارح ، والله تعالى لايشبهه شيء في صفة ولا ذات ، فعلمنا أن كلامه كعلمه .

فقلنا : الكلام ،والقرآن إذ هو الكلام ليس بمخلوق . ثم قلنا لأهل الظاهر الذين يقولون : هذا المسموعهو القرآن : ما القرآن عندكم ؟

فقالوا : هو هذا المسموع بالآذان المتلوباللسان المقطع بالحروف المتعلق إلى الظروف المحتمل للتصريف الموصوف بالتربيعوالتثليث والتنصيف ، وفي صدور الذين أوتوا العلم حجة الآخرين .

فها هنا وقعتالمغالطة .
فإن اعترف أصحاب الظاهر لأصحاب الباطن بما قالوا صح قولهم : إنهالكلام في النفس ، وأنه معنى في النفس على قول الأشعرية .

وإن اعترف أصحابالباطن لأصحاب الظاهر بما قالوا : إن الكلام هو هذا المسموع صح أنه مخلوق . فعلى كلواحد منهم أن يقيم الحجة على ما قال .

وإن أقاما ، صح ما قالا : هذا صفةوهذا فعل .

وإن عجز أحدهما صح ما قال الآخر .

وإن عجز جميعا صح ماقالا جميعا أو بطل .

واستدل أصحاب الباطن بقول الأخطل التغلبي شعرا :-

إنالكلام لفي الفؤاد وإنما = جعل اللسان على الفؤاد دليلا


واستدل الآخرون بقول الله – عز وجل - : (وإن أحد منالمشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) .

فقالأصحاب الظاهر لأصحاب الباطن : صاحبكم نصراني ، ولا ينصت إليه في تفسير لغة العرب ،وإنما يكون حجة في القول بها والخطاب إذا خاطب بها ،

ونحن استدللنا بكتابالله – عز وجل – وما في الفؤاد غير مسموع بالآذان .

وقال آخرون : أثبتناهصفة لأن ضده منفي عن الله تعالى وهو الخرس .

فقال الآخرون : لم يكن الخرسللكلام بضد وإنما هو آفة ، وضد الكلام السكوت وليس بآفة ، كما لا يجوز أن نقول ضدالقدرة الخرس أو النوم أو الجوع أو العطش ، فهذه آيات ومجموعها هو ضد القدرة ، وبعدأن يكون الكلام في النفس ككون الفعل في النفس فلا يكونان صفة .

وإنما قلناككونهما في النفس متعلق إلى علم الله – عز وجل - ، بعلم الله في علمه ، الذي إن ظهركان كلاما ، وإن أظهر كان فعلا .

وقد علم الله تعالى كون الخلق في الأزلوكون الخلق يوما ما وحينا ما .
وقد علم الله – عز وجل – الكلام في الأزل ، وكونالكلام يوما ما وحينا ما .
وقولنا الله متكلم لم يزل كقولنا خالق لم يزل ، لأنالأسماء ربما تسبق الأفعال لم ترتبط الأسماء بزمن مخصوص والأفعال ذاته بذواتها علىأزمانها .

وهذه المسألة قد جاز فيها المتكلمون وليس فيها من الحيرة أكثر مماترى . فإن سلم أحد من الشروط الثلاثة كان المصيب فيها غانما والمخطئ سالما . والسلامة أقرب إلى من استدل بقول الله – عز وجل – دون من استدل بقول النصارىوالمبتدئ بقطع العذر منها ظالم .

وقول الشيخ – رضي الله عنه - : ( وندينبتصويب أهل النهر في إنكارهم الحكومة يوم صفين بين علي ومعاوية ) .

واعلم أنقوله في هذه المسألة ( وندين ) لا يحتمل أكثر من قطع العذر لانتهاك علي حرمة الداء، فلو لم يقع إلا القول ولم يتجاوزوا فيه إلى قطع العذر وانتهاك حرمة الدم لكانفيها ما فيها من الوسع ، ولكن الأمور التي لا تقتضي حكما وليس إلا بوار الغم ، ولايؤدي إلى قطع العذر إلا رأي ففيه احتمال والله أعلم .



باب : القول في الأفراق
ونحن نشير هاهنا إلى الأفراق التي أشار إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أمته ، وقد قال رسول الله عليه السلام : (( ستفترق أمتي علىثلاث وسبعين فرقة كلهن إلى النار ما خلا واحده ناجية وكلهم يدعي الناجية)) .

واعلم أن الإشارة هاهنا إلى الأفراق لقطع العذر ، وأنهم أصحاب النار ،وإنما يتوجه الخطاب هاهنا إلى المبتدعين وهي كل فرقة تدينت .

ونص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ثلاث طوائف ، وهي المرجئة والقدرية والمارقة ، ونصالمسلمون بعده على ثلاث : وهي : الرافضة وغاليتها والمجسمة والمشبهة .

أماالمرجئة فلا مطمع فيهم ، لأن الله تعالى شرع معالم الإسلام للأنام ، ونص على معالمالكفر والآثام ، فأمر ونهى ، ووعد وأوعد ، ورغب ورهب ، ودعا إلى طاعته بجزيل الثواب، وزجر عن معصيته بأليم العقاب .

فعمدت المرجئة إلى هذه المعاني كلها ،فهدمتها ولاشتها ، بزعمهم ترغيبا منهم للناس في الدخول في دين الله مثل ما يفعلالأنبياء عليهم السلام في الدعاء إلى الإسلام تسهيلا عليهم ، فاقتصروا هم على قولهم : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة . وصدقوا ، ولكن بقي عليهم الشرط الذي شرطهرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال : (( من قال لا إله إلا الله مخلصا منقبله دخل الجنة )) .

ولن يبلغ هذه الرتبة إلا من جد واجتهد في الأفعال فتركالعوائق من المعاصي والآثام .

ولو قيل لأحد : إن كنزا بمكان كذا وكذا ، لدأبوتعب ونصب ، وأنفق الأموال ليتفق له الحال ، وحاد عن المطال .

لكن المرجئةأغرقت بالمعاصي طلابها ، وسهلت إلى الشهوات أسبابا وفترت النفوس عن الطاعة ،باستغناء الناس عنها بقول : لا إله إلا الله . فلم يدعوا شيئا يوجب عمل الطاعة إلاأوهنوه حتى قالوا : أمة أحمد لا تعرض على النار .

فأين الخوف والرجاء والعملوالتقى مع هذا ؟ فلهذا لعنهم رسول الله عليه السلام ، ولعنهم سبعون نبيا ممن ابتلوابهم ونسوا ما ذكروا به من قبل ، قال الله – عز وجل - : ( ألم ،أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) . ما على أمة أحمدعليه السلام أضر منهم ولا لإبليس أعون فيهم ، ولا للآخرة أجهل منهم سحقا بهم وسحقا .

وأما القدرية فأنهم ناهبوا الله – عز وجل – في أفضل خلقه ورموا الشركةبينهم وبين ربهم ، فله خلق ولهم خلق ، غير أنهم حازوا أفضل الأشياء لأنفسهم وهوالتوحيد والإسلام والإيمان ، وتركوه وأفعال البهائم والأنعام وسائر الأعراضوالأجسام ، ونقضوا قول الله تعالى : ( هل من خالق غير الله يرزقكممن السماء والأرض) .

فقالت القدرية : لا أحد إلا نحن ، وهؤلاءوإخوانهم من المرجئة ممن لعنهم الأنبياء ، وكل نبي مجاب الدعوة .

وذلك أنالأنبياء يدعون عباد الله إلى الله – عز وجل – ترغيبا وترهيبا ، من بلغ في الإجابةإلى دينهم ، وبلغ في العبادة إلى غاية ما نظر إلى نفسه بعين الإجلال ، واقتداره علىمثل هذه الأفعال فقال : إن الله تعالى بريء من الظلم ، ولم يعذب أحدا إلا على فعله، ولا يرجوه أحد إلا على فعله . فنسبوا الأفعال إلى أنفسهم ، إذ لا تصح الشركة فيفعل أحد .

ولو نسبت إلى الله تعالى ، لكان قد عذبهم على ما لم يفعلوا وهويقول : جزاء بما كانوا يعملون ، ويفعلون ، فردوها إلى أنفسهم دونه .

وذهبعنهم النظر بالبصيرة إلى التفرقة بين الوجود والإيجاد والفعل والخلق فحادوا لماتخيل إليهم من قبح الأفعال والفحش والكذب ، ولم يبق إلا أن يقولوا : إن البولوالغائط خلقهما لا خلق الله ، فلولا ما كانا قبيحين لانتحلوهما ، لا إله إلا اللهوحده لا شريك له .

وأما المارقة وهم الخوارج ، فلن يخفى على عاقل بسيرة ماساروا في أهل الإسلام ، كسيرة أهل الإسلام في أهل الأوثان والأصنام، كأنما بعثإليهم رسول آخر غير محمد عليه السلام .

وقد قال رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) : (( إن ناسا من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم منالرمية ، فتنظر في النصل فلا ترى شيئا ، وتنظر في القدح فلا ترى شيئا ، وتنظر فيالقديدة فلا ترى شيئا ، وتتمارى في الفوق )) ، وفي حديث آخر : (( يخرج من ضئضيء هذاأناس يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)) ، إلا أن الشفاعة قد أيأسمنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طائفتين من أمته وهم القدرية والمرجئة وقال : (( طائفتان من أمتي لا تنالهما شفاعتي)) .

وأماالأفراق الثلاثة التي نص عليها الأولياء والصالحون ، فهم الرافضة والمجسمة والمشبهة .

أما الرافضة فأنهم ذهبوا على مذهب النصارى في المسيح عيسى بن مريم عليهالسلام ، فعزوه إلى الألوهية ، فذهبوا في أولاده مذهب بني إسرائيل المحققين فيتعظيم أنبيائهم فعظموا أولاد علي وعزوهم إلى النبوة ، وأبطلوا فائدة قول الله – عزوجل – في محمد عليه السلام : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكمولكن رسول الله وخاتم النبيين) .

وحسبهم خزيهم عند محمد ( صلى اللهعليه وسلم ) يوم المحشر وخزيهم عند الله – عز وجل - ، إذ نصبوا إلها آخر غير اللهرب العالمين ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وغرهم فيدينهم ما كانوا يفترون ، وغرهم أيضا مجاورتم النصارى بأرمينية واقتبسوا منهم هذينالمذهبين الخبيثين ، وهم دون سبعين فرقة كلهم إلى النار .

وأما المجسمة : فحسبهم رجوعهم إلى دين آبائهم الأولين ، وعبادتهم الأصنام والأشباح والأجسادوالأشخاص كسيرة أجدادهم الماضين ، فأبطلوا معنى قول الله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .

وأما المشبهة : فحسبهم رجوعهم إلى أعقابهم إلى إخوانهم المجسمة وتسليط المهدي عليهم ، فقطع دابرالقوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين .

وآحاد الأفراق بعد هؤلاءنصيبهم في المحشر .

(
يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكنآمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) .

ولم يؤيس رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) من الشفاعة إلا الطائفتين المذكورتين ، لله الأمر من قبل ومن بعدويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء .

باب في ذكر المذاهب والآراء والاختلاف والائتلاف
اعلم أن الله تبارك وتعالى جعل لهذه الأمة في الشريعة نصيبا وافرا ولم يجعلهلأمة من الأمم قبله .

وقال الله عز من قائل : ( وإذا جاءهمأمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمهالذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا) . فذكر استنباطهم في معرض الامتنان على الخليقة والمدح لهم والهداية علىأيديهم .

قال الله – عز وجل - : ( كان الناس أمة واحدةفبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيمااختلفوا فيه ، وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعدما جاءتهم البينات بغيا بينهم ،فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراطمستقيم) .

فوعد الله تعالى لهذه الأمة الهداية إلى الحق ، في كل أمرمختلف فيه لابد لبعضهم أن يهتدي إلى الحق.

وقال رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) : (( لن تجتمع أمتي على ضلال)) وقال أيضا : (( ما كان الله ليجمع أمتي على ضلال )) .

واعلم أنالأمم الماضية لم يطلق الله أيديهم في الشرائع بالرأي ، ليس لهم إلا المنصوص مشرعا، فخص العرب بهذا اللسان ، وجعلهم أئمة لجميع العجم الذين دخلوا في الإسلام ،وفارقوا دين الآباء والأجداد .

وذلك أن الله تعالى من عليهم بلغتهم التي هيأفضل من سائر اللغات ، ومن فضيلة لغتهم أنها لغة أهل الجنة ، يتركون لغاتهم ويرجعونإليها ، وليس في السبعمائة ألف لغة التي خلقها الله – عز وجل – وخاطب بها موسى عليهالسلام لغة أفضل منها .

وإن كان أول ما ابتدأ لموسى بالخطاب بلغة البربر حينناجاه . فقال : يا موسى نج أد يكش مقرن . فقال : يا ربي لم أدر فمازال يخاطبه بلغةبعد لغة ، فكان آخر ما خاطبه به بالعبرانية فهم موسى وأجاب . وليس في اللغات لغةانفردت من سائر اللغات بالوشي الذي جعله الله تعالى زينا لها في الظاهر وكثرةالمعاني في الباطن وحلوة على الألسن غيرها ، فاختار لها العرب واختارها للعربمخصوصة في العرب ، خصهم الله تعالى بها .

وذلك أن الإنسان خلقه الله تعالىفجعله آية للسائلين ، وخلق الملائكة فركبها على طبع واحد ، لا يؤثر الزمان ولاالمكان في طبائعهم ليس لهم شهوات إلا ما طبعوا عليه ، وركب فيهم العقول فكانت تمتثلالأفعال بمقتضى العقول ، وذلك وفق طبائعهم .

ثم خلق البهائم وحوجها إلىالغذاء وركب فيها الشهوات ، فكانت حركاتها بمقتضى شهواتها ، فأسقط عنها التكليفلعدم العقول ، وغلبة الشهوات .
ثم خلق الإنسان على خلقة البهائم في الغذاءوالشهوات وعلى خلقة الملائكة في المعارف والمعقولات ، فهو أبدا في جهاد دائم وحربقائم بين الشهوات والعقل وفي الترك والفعل .

ثم إن الله تعالى وهب لبني آدمالدنيا ، وأمر بها لهم ، وأخصبها عليهم ، فغدوا ونشأوا في اللذات التي هي أضدادالعقول ، فهم يتقلبون في ظلال البيوت والقصور ، وفي أصناف الثياب والحرير تحت ثمارالأشجار والأنهار ولذات الطعام والشراب ونكاح الأبكار والأتراب ، في أمن ودعة وراحةوسعة يتفكهون بحوادث الأخبار ، فهم في طول دهرهم في تنعيم أجسامهم وتوطية أبدانهم ،فقوى سلطان الشهوة ، ووقع سلطان العقل ، فرجع العقل في خدمة الشهوة ، فصار المالكمملوكا والمملوك مالكا ، فليس لهم إلا ما أبصروا بأعينهم ، فسلب الله تعالى هذاالنعيم للعرب ، ورمى بهم في الصحاري والبراري والوهاد ، فليس لها غطاء إلا السماءولا وطاء إلا الأرض ، يتبعون أذناب البهائم والأنعام بين أبل وبقر وغنم ومعز علىوجه الأرض ، وأشجارهم العضاة والقتاد ، وأشرابتهم المياه والثمار ليس لهم من الشمسكن ولا أنيس إلا الجن ، ولا طيب إلا اللبن ، ولا معقل إلا الحيل ، ولا ملجأ إلاالقن في آفات التن( 1 ) ، ولا لباس إلا الصوف والوبروالجلود ، فمسخت الألوان وتغيرت الأبدان ، فأعقبهم الله تعالى بتوفير العقول وذكاءالنفوس وعلو الهمم في الجود والكرم ، وحفظ العلوم بالسماع والكلم بدلا من النسخبالقلم في قراطيس الأدم .

وقد أشار ابن المقفع إلى شيء من هذا .

وكانابن المقفع في النهاية من العلوم والحكم والأدب والشيم وخدم الولايتين : ولاية بنيأمية ، وولاية بني العباس لحاجتهم إليه وإلى علمه .
وذلك أنه أقبل ذات يوم إلىسوق المربد بالبصرة ، وهو مشهور سوق تحضره الأخيار والسادات والفضلاء والأشراف ،فلما أبصروه قاموا إليه ، وسلموا عليه ورحبوا به .

فقال : ( ما يحبسكم فيمجالس الشياطين والعامة والغاغة والسوقة وفيكم الفقهاء والعلماء والشعراء والخطباءوالسادة والأمراء ؟ اغدوا بنا إلى قصر ابن أبان فنتروح في ظله ، ونستنشق من نسيمه ،ونتفاوض في العلوم والحكم ونتذاكر أخبار الدنيا والأمم ) .

فقالوا : ( سمعاوطاعة ) . فرجعوا إلى دوابهم وخيلهم وبغالهم وحميرهم فركبوها ، وقصدوا قصر ابن

أبان ، فلما وصلوا نزلوا في ظله ، وأكبروه أن يبتدئوه بالسؤال هيبة ، فرفعإليهم رأسه فقال : ( يا وجوه الخير ، من أعقل الناس ؟ ) .

قال بعضهم : ( أهلالصين) .

فقال : ( بماذا ؟ ) .

فقال بعضهم : ( إن بلادهم تعمل صنائعالدنيا الديباج والحرير والوشي والثياب النفيسة كلها ، وأحكموها ، واستقامت أمورالرعية والجنود والكتاب ، وخراج الأرضين ، وترتيب القرى والمدائن ، فلا يكاد يحدثعندهم أمر من الأمور في جميع مملكة سلطانهم إلا وعنده منه خبر في يومه ، ولا يتوالدمولود ولا يموت ميت وإلا وصل خبره عند الملك ، ذلك اليوم ، أو تلك الليلة ، فيمملكة قطرها مسيرة سنة ، وقد أعدوا النجب والخيل والفيوج(2 ) والطيور لمثل ذلك ) .

فقال ابن المقفع : ( هؤلاء قوم علموا فتعلموا ،وتحملوا أمورا فحملوها ، ووقع من الملوك وممن له القدرة عليهم فحملهم على تلكالأمور طوعا أو كرها ) .

ثم قال لهم : ( من أعقل الخلق ؟ ) .

قالبعضهم : ( أهل الهند ) .

قال : ( بماذا ؟ ) .

قالوا : ( إنهم أعقلالخلق في سياسة النفوس في الأغذية والأدوية والحكمة ومعرفة نجوم الأسماء والطوالعوالمواليد وسياسة الملوك والبددة( 3)، وفيهم تفرع وتدرععلم أبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه ) .

وقال ابن المقفع : ( هؤلاء قومتقدمت لأوائلهم هذه الأمور ، فجروا على أسلوبهم ، ونشأوا عليها ) .

ثم قال : ( من أعقل الخلق ؟ ) .

قالوا : ( الفرس ) .
قال : ( فبماذا ؟ ) قالوا : ( إنهم أتوا الملك في الدنيا على جميع أقطار الأرض ، فساسوها وأحسنوا تدبيرها ،واستخرجوا بعقولها سياسة الملك فساسوا بها الدنيا ، فصاروا للأنام كالشمس للدنيا ) .

فقال : ( هؤلاء قوم استظهروا بالصعاليك على المماليك ، وبالأجناد علىالعباد ، فجرت على أسلوب واحد ) .

ثم قال : ( فمن أعقل الخلق ؟ )

قالوا : ( الروم ) .

فقال : ( بماذا ؟ )

قالوا : ( قد أوتواعظيم الجثة في أبدانهم ، والقوة في مفاصلهم ، فاقتدروا على صنعة الهياكل العظيمة ،والصنائع العجيبة ، وعجائب الأشكال والصور والاقتدار على مقاساة الأسفار في البروالبحر ) .

فقال ابن المقفع : ( هؤلاء قوم جادت بلادهم لهم بآلات الصنع ،فظهر في جميع ذلك الصنع غرائب ما في الدنيا من البدع ) .

قال : ( من أعقلالخلق ؟ )

قالوا : ( الله أعلم ) . فرفعوا إليه رؤوسهم ، فقال لهم : ( أعقلالخلق العرب .. ) فتعجب كثير ممن حضره ، واستعظموا قوله واستغربوه .

فقالوا : ( بم ذلك ؟ )

قال : ( إنهم نشأوا في البادية ، ليس لهم ملوك تسوسهم فيأمر دنياهم ، ولا أنبياء ولا علماء تفقههم في دينهم ، ولم يؤتوا أموالا يستخدمونبها ، ويستخرجون بها صنائع الدنيا ، فالسماء سقفهم والأرض فراشهم .

إذا ولدعند أحدهم مولود ، مهما ترعرع وبلغ الحلم ، خطب عليه أبناء عمه ودفع له غنيماتوعنيزات ، يأخذها ويتمعش فيها ، ودخل بها تلعة من التلاع ، أو بقعة من البقاع ، لاجليس ولا أنيس إلا نفسه وغنيماته ، يرعاها نهارا ويحرسها من الذئب ليلا ، فدعاهعقله وحسبه ونسبه إلى استخراج مكارم الأخلاق فاستعملها ، ومذامها فاجتنبها ، وتمعطممن رماه بالدنية ، وربما يناله فيمتنع منها ، وفي تلعته ليس معه إلا النجومالساريات والرياح الجاريات ، ويهتز لمكارم الأخلاق إذا نسبت إليه ، ويتمعط منمذامها إذا عزيت إليه .

فتعلموا بطباعهم مطالع النجوم وأزمنتها وخواصمنافعها عند طلوعها ، وسجعوا في ذلك أسجاعا ، إلى أن رتبوا في بلادهم أسواقا فيالمواضع التي يجتمعون فيها ، فتذكرون مآثر آبائهم ومناقب أجدادهم ومفاخر عشائرهم ،فيتفاخرون بها ، كذي المجاز وعكاظ ومجنة ، ويتحامون القبائح والرذائل لأجلها إذااجتمعوا فيها ، ويتناشدون الأشعار ويحفظونها ، والخطب ويعونها ، وليس عندهم كتابولا سنة ولا شريعة ولا مصيغة ، لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أحفظ خلق الله لماسمعوا ، وأضبطهم لما استحفظوا ).

وقيل : إن ناسا منهم أدركهم العطش في بعضالصحاري ، وليس معهم ماء إلا شيء فاقتبسوه ، فأخذ أحدهم نصيبه فشربه فلم يغن عنهشيئا ، وأخذ الآخر نصيبه ، فلما أراد أن يشربه قال له الأول : أنقذني بنصيبك منالموت يا أخي ، فإني لا أراه يغني عنك شيئا . فقال الآخر : دونكه . فمد بها صوتهحتى خرجت روحه ، ولهم في هذا مآثر كثيرة ، فأرسل الله تعالى محمدا ( صلى الله عليهوسلم ) فكان بالموضع الذي ذكره الله تعالى من الأخلاق الحسنة والأفعال الجميلة كماقال الله – عز وجل - : ( وإنك لعلى خلق عظيم) فأنزل اللهعليه كتابا يتلى ، تضمن من الحكم ما لم تتضمن الكتب الأولى التي كانت قبله ، قالالله – عز وجل - : ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديهولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وسماه الله تعالى من أسمائه بعشرة أسماءأو أزيد – كتاب حكيم ، عزيز ، نور ، ومهيمن ، وفرقان ، وقرآن وشفاء ، ضياء ، وهدى ،ورحمة ، ومبين ليتدبروا آياته وليتذكروا أولو الألباب ، وفوض إلى رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) بيان ما فيه ، فقال : ( وأنزلنا إليك الذكرلتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( أوتيت جوامع الكلم))

ففوض رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) إلى علماء أمته وأهل البصائر منهم ما وراء ذلك فجعل إليهم حكم النوازلالتي لم يشرعها القرآن ولم يسنها النبي عليه السلام .

وفوض إليهم تفسير مافي القرآن من مشكل وأمر ونهي ووعد ووعيد ، فكان جميع ما نظروا فيه وقالوه علماوحكما .
وقال الله تعالى : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماوعلما) فدل أن جميع ما قالاه حكم وعلم وأن أضدادهم من السفه والجهل منفيانعن حكمهم هذا ، ونفي هاهنا كلمتان : الحق والصواب ، فاختلف الناس فيهما ، فأجازبعضهم أن حكمهما حق عند الله ، بدليل نفي ضده من الباطن لغة ، والحق ضد الضلال شرعا، قال الله – عز وجل - : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) .


--------------------------------------------------------
(1) أي لا ملجأ لهم من آفات المرض إلا العيش مع أغنامهموشرب حليبها ؛ وراجع إن شئت لسان العرب كلمتي قن وتن . ( مراجع ط 2 ) .
(2)
جاءفي لسان العرب : الفيج : فارسي معرب ، والجمع فيوج وهو الذي يسعى على رجليه ، وفيالحديث ذكر الفيج ، وهو المسرع في مشيه يحمل الأخبار من بلد إلى بلد . ( مراجع ط 2 ) .
(3)
البددة هي بيوت عبادتهم التي فيها الأصنام والتصاوير . ( مراجع ط 2 ) .













رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 5 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



باب اختلاف الناس في الرأي (1)
وقال الشيخ : باب اختلاف الناس في اجتهاد الرأي :

قال قائلون : إن الحق في جميعهم وكل ما قالوه واختلفوا فيه فهو حق عند الله تعالى .

وقال آخرون : إن الحق في واحد ، وقد ضاق على الناس خلافه .

وقالأهل العدل والصواب : إن الحق في واحد ومع واحد ، ولا يضيق على الناس خلافه إلى آخرالفصل .

اعلم أن في اجتهاد الرأي سبع مقامات .

أولها : اجتهاد الرأيوالأذن فيه ، من أين : من الشرع أو من العقل ؟

والثاني : في أي شيء الاجتهاد؟

والثالث : ما صفة المجتهد ؟

والرابع : ما أسماء هذا المجتهد فيه؟

والخامس : ما حكم الأفعال والفعال ؟

والسادس : ما المباح منه غيرالمأمور به ؟

والسابع : ما المحظور فيه المنهي عنه؟


---------------------------------------------
(1) في ط البارونية لا يوجد هذا العنوان ولكن أثبتناه على وفق ط التراثالأولى ( مراجع ط 2 ).





باب في اجتهاد الرأي (1)
واعلم أن حد الاجتهاد في الرأي هو استفراغ الوسع في استخراج الحكم .

وقيلهو استفراغ الجهد في استخراج الحق للنازلة بمقتضى الشرع ، وليس هذا القول بصحيح .

والإذن في الاجتهاد من قول الله – عز وجل - : ( وإذاجاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهملعلمه الذين يستنبطونه منهم ) وقوله : ( كان الناس أمة واحدة) وقد تقدمالقول فيه .

وصفة الاجتهاد : أن ينظر في أوصاف النازلة ، وما يليق بها ،ويقرب معناها من أحكام الله تعالى ، وأحكام سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،فيقيس هذا بهذا مجتهدا أن ينال رضى الله تعالى ، والحكم الذي لو شرعه كان حقا عندالله تعالى وعند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .

وأما العقل فلا حظ لهفي جواز الإذن إلا بعد ما ورد به الشرع ، فهي من الجائزات لا يقطع العقل فيه بشيء .

وأما من جهة السنة فقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران : أجر اجتهاده وأجر إصابته ، وإن أخطأفله أجر اجتهاده)) . وحط الله عنه المآثم .

ولا ينبغي للمجتهد إلاأن ينظر إلى الله تعالى بعين الخشية في أمر قد كلفه الله تعالى وأمره فيه بالاجتهاد، فإن ضيع عصى ، وإن اجتهد فكتم عصى ، وإن اجتهد فأظهر خلاف ما رأى عصى ، ولا يجعلللشهوة في رأيه نصيبا ، فإن اجتهد ورأى رأيا إن كان يجوز أن ينتقل عنه إلى رأي غيرهفتوى وفعلا فلا ما دام مستحسنا لرأيه الأول إلا من وجه واحد : إلا إن كان في رأيغيره حوطة ، فله أن ينتقل إليه فعلا لا فتوى ، مثل رأي من رأى جواز الصلاة في الظهروالعصر بفاتحة الكتاب لا غير ، إلى رأي من جوز قراءة سورة في الأولين مع فاتحةالكتاب .

ولا يرجع إلى رأي الغير ما دام هو على رأيه ، فإن رأى رأي غيرهأقوى دلالة وأقرب في وهمه إلى رضى الله – عز وجل – فسائغ له الرجوع عن رأيه إلى رأيغيره .

وقد قيل لجابر بن زيد – رضي الله عنه - : ( إن أصحابك يكتبون ماسمعوا منك ) . قال : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ، يكتبون رأيا لعلي أرجع عنه غدا ) ، وإن رجع عن شيء من رأيه لاستحسان غيره ، كان عليه أن يظهر ذلك ، ويكتب إلى الآفاق، وينتفي من قوله ويخطئه .

واعلم أنه ليس عليه إلا أن يظهر الانتفاء منهوالرجوع عنه ، فإن رجع عن رأيه فما حال من عمل به أول مرة ؟

قال : لا حرج . وكذلك من حكم به لا ينتقض حكمه .

وهل يفتي به أحد بعد هذا ؟

فاللهأعلم . فإن وافق رأيه رأي غيره ، فأظهر الآخر رأيه أجزى عنه ، فإن السكوت رضى .


------------------------------------------------------------
(1) وهو المقام الأول . ( مراجع ط 2 ) .

















القول الثاني : في أي شيء يجوز الاجتهاد
اعلم أن الشيخ قال : في أي شيء يجوز الاجتهاد فيه ؟ قال : ( ما لم يجدوه في كتابالله ولا السنة ، ولم يجدوه في آثار من كان قبلهم من العلماء ) .

اعلم أنالشيخ ذكر وجها واحدا وترك غيره ، منها تفسير القرآن ، وذلك أن الله تعالى أرسلمحمدا ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العرب بلغتهم التي يتفاهمون بها ، وفوض إليهم مااحتملته لغتهم ، وليس عليهمالعمل إلا بما أنفهم لهم من القرآن ولو كان ذلك على عهدرسول الله عليه السلام ، ويسألهم عن آرائهم فيجيبون ، وربما يستحسن قول بعضهم ولايقبح على الآخرين رأيهم ، وإن كان أمرا مقطوعا به لم يرد غيره لعقب جبريل بخلافه ،وإلا كان ذلك كله تفسيرا للقرآن كالذي جرى في قصة المنافقين واختلاف أصحاب رسولالله فيهم ، فقال : لما نزل فرض الهجرة ، فاختلفوا فيمن تخلف بمكة من المسلمين ولميهاجر .

فقال قوم : هم مسلمون .

وقال قوم : هم مشركون . فأنزل اللهتعالى : ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا).

وعاتبهم على الخلاف فيما بينهم البين .

فلو قال الأولون : هم مسلمون . وصدقهم أصحابهم لمر عليهم ذلك الاسم . ولو قال الآخرون : هم مشركون . وصدقهم أصحابهم لمر عليهم ذلك الاسم ، ولكن لما اختلفوا رد الله على الجميع فوعدهمبعد أن اختلفوا أن لابد للحق أن يقول به منهم ناس ، ولم يجتمعوا على ضلال .

وقد سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أي آية أعظم في القرآن؟

قال بعضهم : ( يس ) .

وقال بعضهم بما قال ، وأبي بن كعب ساكت .

فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( مالك ساكتايا أبي ؟ )) قال : ( الله ورسوله أعلم )

فقال رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) : (( إنما أسألك عن علمك لا عن علم الله ولا عن علمرسوله)) .

فقال أبي : ( آية الكرسي ) . فجمع رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) أصابع يديه فضرب بها في صدره فقال : (( ليهنئك العلميا أبا المنذر)) واستحسن جوابه ، ولم يعب على الآخرين شيئا .

وكاجتهادهم حين أمرهم رسول الله عليه السلام فقال : (( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)) والقوم بعيدو العهدبأهليهم ، فتباطأ منهم أناس ولم يصلوا إلى قريظة صلاة العصر إلا بعد العتمة ، فلميعب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحدا منهم في تفسير القرآن .

واعلم أنتفسير القرآن مفوض إليهم لما أنفهم لهم من القرآن ، لأن الله تعالى بعث إليهم رسولامبلغا إليهم ما عرفوه من لغتهم ، فلهم الاتساع على قدر ما ذهبت إليه أنفسهم ، ما لميرد من الله تعالى ما يمنعهم ، أو من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيام أبيبكر في أهل الردة ، والسنة عندهم في المرتد القتل ، كما قال رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) : (( من بدل دينه فاقتلوه لا سبي ولا غنيمة)) .

ثم أن أبا بكر نظر هؤلاء المرتدين ، فوجدهم قد انحازو إلى بلادهم أول مرة، وهم قريبو العهد بالشرك فالغالب عليهم الرجوع إلى مذاهبهم أول مرة .

وكرهبعض أصحاب رسول الله عليه السلام قول أبي بكر . وقالوا له : إن رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) قال : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لاإله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) فقال : ( والذي نفسي بيده لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، ولو منعوامني عقالا مما كانوا يؤدونه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقاتلتهم عليه حتىألحق بالله ) ، فرجع المسلمون إلى رأيه ، فاجتمعت الكلمة ، فقاتلهم أبو بكر الصديقرضي الله عنه – والمسلمون معه ، فأظهره الله عليهم فهزمهم ، وقتل من قتل منهم ،وسبي وغنم وقسم على الغنائم ، وما وراء ذلك – رضي الله عنه – أحكامه فيهم أحكامالمسلمين في الزنادقة لا أحكامهم في المشركين ، وذلك أنهم جاءوا تائبين يطلبونالصلح فأبى عليهم إلا عن شروط أن يدفعوا له الحلقة والكراع ، ويتركهم يتبعون أذنابالبقر ، حتى يرى الله خليقة رسوله ما يشاء .

وأحكام عمر – رضي الله عنه – فيالشورى ، ومنها أحكامه في الدواوين والخراج : خراج الأرضين ، ونصارى بني تغلب فيسلب اسم الجزية عنهم والخزية عنهم بعد قول الله تعالى : ( حتىيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فجعلها صدقة وزكاة ، والتفرقة بين الأحراروالهجن في الخيل ، وقسمة الفرائض إذا تدافعت .

وذلك أنه جلس ذات يوم يتوضأ ،إذ دخل عليه رجل فقال : ( يا أمير المؤمنين امرأة ماتت ، وخلقت زوجا وأختا وأما ) ،فقال عمر : ( للزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث ) ، فقام كما هو إلى المسجدفصاح : ( يا للمسلمين ) . فقال : ( إن الله تعالى لم يجعل في المال إلا نصفين ،فأين مقام الثلث ؟ ) فقال له العباس : ( اجعلوه كقسمة الغرماء في المواضعة ) .

وفي خلاف ابنه عبد الله بن العباس ، وحكمه في الؤلفة قلوبهم ، وسهم ذيالقربى ، ومن وراء هذا كله أحكام الكتمان التي ناقضت حدود الله وبعض سنن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .

ومن الرأي تأمير المؤمنين وعزلة إن ضيع أمور الدين، وقتله أن امتنع من العزلة إلى الهوان ، ومن الرأي الكون مع أئمة الجور تحتأحكامهم ما أقاموا حكم الله فيك ، ولم يحكمك على معصية ، وتأدية حقوق الله عليهإليهم وأخذ العطايا من بيوت أموالهم ، والجهاد والغزو معهم جميع ملل الشرك والخروجعليهم إذا جاروا وبغوا .


القول الثالث : ما صفة المجتهد
اعلم أن استخراج العلم من كتاب الله – عز وجل – ومن سنة رسوله ( صلى الله عليهوسلم ) ومن الإجماع ، يتعذر إلا لمن كملت فيه عدة شروط .

أولها : أن يكونقارئا لكتاب الله تعالى وتاليا له .

والثانية : أن يكون عارفا بتصاريف لغةالعرب ومعرفة الاسم من الفعل والحرف منهما .

والثالثة : معرفة النحو ووجوهالإعراب .

والرابعة : معرفة وجوه القراءات .

والخامسة : أن يقف علىتفسير مفسري القرآن الذين اعترفت لهم الأمة بالتفسير ، وقولهم حجة لأنهم أخذوهتوقيفا .

والسادسة : أن يكون عارفا بمن قد شذ(1) عن أحكام الشريعة ومراعيا زلل شواذ الفقهاء المتقدمة .

والسابعة : أنيحصل مقاليد أقفال الكتاب .

فمن لم تكمل له هذه الصفات ، فلا يوثق بشيء منعلمه ، ولا بعلم من تعلم منه ، وإنما هو مغرور أو مقلد ، فالقائل والسامع بمثابةواحدة لا حائل لهما .

واعلم أن مثل القرآن كشجرة لها عروق وأغصان وأعضاءوأثمار :-

أما عروقها فعشرة : وهي المكي والمدني والناسخ والمنسوخ والمحكموالمتشابه والظاهر والباطن والعام والخاص .

والأعضاء عشرة وهي : المجملوالمفسر والمطلق والمقيد والمقطوع والموصول والمقدم والمؤخر والكناية والتصريح .

والأغصان عشرة وهي : الحدود ولحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب ومعنىالخطاب والأسماء الذاتية لله تعالى وأسماء الأبدان وأسماء الأفعال .

وثمراتالشجرة عشرة وهي : الأمر والنهي والخبر والإستخبار والوعد والوعيد والمواعظوالأمثال والأعذار والإنذار .

اعلم أن من لم يحصل مقاليد أقفال الكتاب فيالقرآن العظيم كان من فقه القرآن بمعزل ، وقد بينا هذه الأفعال في غير هذا الموضع ،وشرحناها شرحا بينا ، تقف عليه إن شاء الله .

----------------------------------------------
(1) في الطبعة البارونية خلل ، أصلحته هنا حتى يتم المعنى . ( مراجعالطبعة الثانية ) .















والرابع : ما أسماء المجتهد فيه ؟
اعلم أن الله تعالى أنزل على محمد عليه السلام قرانا كتابا يتلى ، فلقيه بعشرةأسماء قال الله – عز وجل - : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد) فسماه : حكيما ومهيمنا ونورا وفرقانا وقرآناوشفاء وضياء وهدى ورحمة ومبينا وحقا ، قال عز من قائل : (ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) .

وكان رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) بالموضع الذي ذكره الله تعالى من الأخلاق الحسنة كما قال تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) فقال : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم) .

فأشار فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السبعفجعلها سنة إقتداء بالله تعالى ، إذ شرع فيه فرائض وحكم بأحكام عمدة الدين .

وفوض بيان البقية إلى الرسول .

وفوض رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) إلى علماء أمته وأهل البصيرة ما وراء ذلك ، فجعل إليهم حكم النوافل التي لميشرعها القرآن ولم يسنها عليه السلام .

وفوض تفسير ما في القرآن ، من مشكل ،وأمر ونهي ، ووعد ووعيد ، فكان جميع ما نظروا فيه ورأوه علما وحكما ، وعلى سبيل حكمسليمان حيث قال الله : ( وكلا أتينا حكما وعلما) .

واختلف الناس في الحق . فقال بعضهم : وحقا . فأجرى اسم الحق على القولينجميعا بنفي ضده عنهما من الباطل والضلال .

وقال بعضهم : القولان جميعا صواب . حيث يقول : ( وكلا آتينا حكما وعلما) .

وقالالشيخ أبو الربيع – رضي الله عنه - : ( فأما الذين قالوا : إن الحق في جميعهم فقدقالوا بالمحال بما لا يصح القول به ، وكيف يكون الشيء وخلافه حقا ، ويكون الشيءحلالا عند الله حراما عنده ) .

فنحن ننتظر بما ظهر لنا أن هذه الإلزام يلزمالقوم ، لأنهم يقولون : كما يكون الشيء وخلافه خلقا لله – عز وجل – ويكون الشيءخلافه عرضا عند الله ، ويكون الشيء وخلافه جسما ، فكذلك يكون الشيء وخلافه حقا عندالله وقد قال الله – عز وجل - : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليهومن تأخر فلا إثم عليه ) والتعجيل والتأخير مختلفان ومتضادان .

وأماقوله : ( ويكون الشيء حلالا عند الله وحرما عنده ) فليس يلزم من شيء ، وإنما أردناتسمية الشيء وخلافه باسم واحد : إنهما حق . وأراد هو أن يلزمنا تسميته حلالا وحرامابل يسمي الشيء وضده حلالا عند الله ، أو يسمي الشيء وضده حراما عنده .

وأماأن تسمي الشيء الواحد باسمين متضادين فلا يلزم ، وإنما يلزمنا أن نسمي شيئينمتضادين باسم واحد .

وإنما يلزم هذا من أجاز على أحد القولين أنه حق ، ولميجز على ضده أنه باطل ، فإن أجاز عليه أنه باطل ، فهناك يلزم من يقول إنهما حق .

ثم قال الشيخ – رضي الله عنه - : ( ويكون جميع ما اختلفوا فيه ، من الطلاقوالعتاق ، والبيع والشراء ، والنكاح ، والديات ، والجراحات والحدود حقا عند اللهبأجمعه ، فيكون ما اختلفوا فيه من الطلاق فأثبته بعض وأبطله بعض ، فتكون عند اللهطالقا لا طالقا ) .

وقوله : ( إن قول القائل : طالق . حق ، وقول القائل : لاطالق . حق .

والجواب في العتق كذلك قول من أثبته ، حق .

وقول منأبطله ، حق ، وهما حقان .

ويكون الشيء الواحد حلالا لمن كان له حراما فيحالة واحدة ، بل يكون الشيء الواحد حلالا ، حق ، وقول من قال حرام حق ، ولا يقول هوأن أحدهما باطل .

واعلم أن جميع من قال في هذه الأمور الحقية مثل من قال : إن جميع هذه الأمور مأمور فقهاؤنا بالاجتهاد فيها ، وأسماء هذه الأمور المختلفةمأمور بها وطاعة وحكم وعلم .

وإنما وقع الحق هاهنا على القولين جميعا أنهماحق ، ولم يقع الكلام على المرآة ، وإنما وقع الكلام على الحكم فيها .

وقوله : ( ويكون الشيء لمن كان حلالا فيكون له حراما ) فلم يقع القول في الحلال والحراموإنما وقع في الحق .

وكذلك قوله في الشيء : ( إنه صدق عند الله وكذب عندالله ) ، وإنما الكلام على الحق لا على الصدق والكذب ، فيجب عليه جميع ما عارض بهفي هذه الأمور في العلم والحكم .

فلو جاز قوله : إنما حكم داود وسليمانأنهما علم وأنهما حكم لجاز في جميع المتضادات ، فإن أجاز أن يكون قول داود وسليمانفي شيء واحد : أنه حكم وعلم ، فمن أين يلزمه أن يكون الشيء حارا باردا في حالةومتحركا ساكنا في حالة ، وحيا وميتا في حالة ، وإنما أراد أن البارد والحار حقان ،والمتحرك والساكن حقان ، والحي والميت حقان ، وقع الكلام في شيء واحد ، وعارض فيشيئين .

ولا يلزم شيء من هذا من قال : إن الله أمر باجتهاد الرأي في استخراجالحكم ، واختلف المجتهدان ، فاختلافهما حق عند الله ، لأن الله أمرهما جميعا ،ففعلا ما أمرا به ، فهذا الذي فعلاه حق عند الله ، ولا يأمر الله بالباطل .

ثم إن الله توعدهما إن لم يجتهدا ، أو اجتهدا ولم يظهر ما عندهما ، وأعظمتوعد إن أظهرا خلاف ما عندهما ، فلا يسقط الهلاك عن أحدهما محقا أو مبطلا ، لأنالحق إذا كان مع الواحد فالباطل مع الآخرين ، لأن الحق ضد الباطل ، فمن أخطأ الحقوقع في الباطل ، لأنه ضده من جهة اللغة ، وإن شئت من جهة الشرع وقع في الضلال قالالله – عز وجل - : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) .

فإن امتنعوا أن يجعلوا خلاف الحق عندهم في هذه الأقاويل هو الباطل ، فهماحقان إذا وباطلان ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟

وأما قول من قال : إن قولالمختلفين صواب . وهو قول علي بن أبي طالب ، لما وقع فيما وقع وارتطم فيما ارتطمفيه ، جعل يتوسع على نفسه العذر .

وصنيع أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنهاحين وقعت فيما وقعت فيه ، جعلت تتساهل في العذر في تأويل قول الله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهممقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فقالت أول مرة : ( ظالمنا ظالم ، ومقتصدنا ناج، وسابقنا سابق ) ، فلما وقعت رجعت فقالت : ( ظالمنا مغفور له ، ومقتصدنا ناج ،وسابقنا سابق ) .

ومذهب علي بن أبي طالب : أن طلحة والزبير مجتهدان أوتائبان ، وأما معاوية وعمرو فلا ، وأما من معهما من أهل الشام فهم أهل الاجتهاد .
وأما أهل النهروان فهم أولى بالاجتهاد والصواب ، وقد كان سئل عنهم فقال : ( إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ) .

واختلف القول في رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) هل يجوز له الرأي أم لا ؟
قال بعضهم : يجوز له الرأي ، ورأيه أفضلالآراء .

وقال بعضهم : لا يجوز له الرأي ، لأن الله – عز وجل – أغناه بالوحيعن الرأي . وحجة الذين قالوا يجوز له الرأي قول ابن عباس : ( كان رسول الله عليهالسلام يقضي بالقضية ، فينزل القرآن بخلافها ، فيستقبل حكم القرآن ولا يرد قضاءه ) .

وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول : ( كان الرأي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كله صوابا ومنا أحيانا صوابا وأحيانا خطأ ) .

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 6 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



الخامس : ما حكم الأفعال والفعال ؟
اعلم أن أحكام الأفعال في هذه المسألة واحدة ، وذلك أن الله تعالى جعل اختلافأمة محمد رحمة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( اختلاف أمتي رحمة)) .

فجعل سبيل ما اختلفوا فيه سبيه ،وجعل وسيلة الله وسعا لهذه الأمة ورفقا بها .
فمن عمل بشيء من اختلاف العلماء ،فهو على سبيلهم ولو صادفه من غير معرفة به فواسع له .

فمن أصاب باب الجنةفهو في الجنة ، عرف أو لم يعرف .

فمن صادف طريق المؤمنين فهو منهم ، وليس هوعلى قول من يقول : إنه لا يسع التقدم إلى شيء من أقاويل العلماء إذا لم يعرف به .

وكذلك المباحات كلها لا علم ولا لم يعلم .

والكلام هاهنا فيماانفرد به المخالفون ، متى لم يقطع المسلمون عذرهم فيه .
اعلم أن ذلك كله محطوطفيه الإثم لمن لم يعلم ، والتفرقة التفاوت في الفضل فيما بان به أهل الدعوة عنغيرهم .

ومن أخذ عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئا من دينه ، أو عنالمسلمين ، فغاب غيبة متصلة ، فحالت الأمور بعده فنسخ ذلك على عهد رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) ، فلا بأس عليه ما لم تقم الحجة عليه بغير ذلك ، قال الله – عزوجل - : ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم مايتقون) .

باب في اعتقاد الخطأ والمباح (1)
اعلم أن القول في أصول الديانات وفروعها ، والقول في أفراق الأمة وفروعها ، وذلكمثل اختلاف الأمة في الأسماء والمسميات ، فإن وقع مطلقا غير مقيد عاريا من الشروطالمذكورة منوطا بالرأي ، كان عجزا وكان خطأ مباحا ، وإن انتهكت فيه أحد الشروط كانصاحبه مطاحا مجاحا(2) .

فأول ذلك : اختلاف الناسفي وجوب الفروض عند وجوب افتراضها ، فاختلف الناس في ذلك.

فقال بعضهم : ليسعلينا إلا العمل ، وليس علينا من العلم شيء . وقال أهل الحق : إن علينا العلمبافتراضها في حين ما يجب علينا العمل بمفروضة . فنظرنا إلى قول أهل الدعوة فيمنأفتى بإسقاط علم الفرض هل يكفرونه ويقطعون عذره أم لا ؟ فرأيناهم متوقفين فيه ما لميتخذ ذلك ديانة ، أو أحد الشروط المذكورة .

وإن ادعاه رأيا ، فالرأي عجزأعني القائل ، وأما العامل فقد أطلق عليه أهل الدعوة ، أن يكفر بجهله فرض الله ،حينما يكفر بترك فرض الله ، وفي المسألة نظر .

وحجة من اسقط معرفة علم الفرضقال : إذا تدبرت أحكام الشريعة فإنك تجد أكثرها ممزوجا فرائضه بنوافله ، وسننهبجوائزه وخطؤه بصوابه .
فأول ذلك : الصلاة ، فإنهم يعتقدون أنها فرض بجملتها ،ولا يذكرون التفرقة بين سننها وفروضها وواجباتها وفضائلها ، لأن القراءة فيها غيرمحدودة والتسبيح والدعاء والتحميد والتكبير والتحيات وسائر الأذكار .

ودليلذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نظر إلى رجل دخل المسجد فأساء الصلاة ،فجاء وسلم على رسول الله وجلس .

فقال له رسول الله عليه السلام : (( قم صل)) فقام وصلى كما صلى أول مرة ، فجاء وجلس .

فقالله عليه السلام : (( قم صل)) .

فقال له : ( قدصليت يا رسول الله ) .

فقال له عليه السلام : ((إنك لمتصل)) .

فقال : ( علمني يا رسول الله مما علمك الله ) .

فقال له عليه السلام : (( إذا قمت في صلاتك وقلت : اللهأكبر ثم قرأت الفاتحة)) .

وفي رواية أخرى : (( ثمقرأت الحمد لله رب العالمين وما فتح الله لك من القراءة ، فأهويت إلى الركوع حتىتطمئن راكعا ، ثم ترفع حتى تطمئن رافعا ، ثم تهوي إلى السجود حتى تطمئن ساجدا ، ثمترفع وتقوم إلى الركعة الثانية ، وتعمل فيها ما عملت في الركعة الأولى ، فإذا أنتقعدت وقلت فقد تمت صلاتك )) .

فاقتصر له رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) على مفروضات الصلاة ، ودل فعله على أن التوجيه ليس بفرض ، ووقع الاختلاف فيالأمة كذلك على تكبيرة الإحرام .

فقال الجمهور : ( إنها فرض ) .

وقالأبو حنيفة : ( ينوب عنها غيرها من جميع الأذكار من جميع اللغات . كقولك : الله أجلوالله أعظم ، في مثلها ) .

وذهب إلى إنه يسع فيها المعنى كما يسع في كلمة (( لا إله إلا الله )) سائر العجمأن يأتوا بها بلغتهم وتجزيهم .

الثانية : أنتقولها بأي لغة شئت ، وتقرأ بأي لغة شئت في الصلاة من لغات العجم وتجزئك .

الرابعة : الفاتحة ، قال بعضهم : فرض . وهو الربيع بن حبيب - رضي الله عنه - ، وجل الأمة لا الإمام ولا المأموم .

وقال أبو حنيفة : يجزيكبعضها.

وقال بعضهم : يجزيك الإمام فيها المأموم .
وقال الكل : لابد فيالصبح من غير فاتحة الكتاب ، وفي الأولين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء والأخيرة .

وقيل : قراءة السر كله الفاتحة لا غير .

والتكابير كلها سنن إلاتكبيرة الإحرام فإنها فرض .

والتسابيح كلها سنن لا فرائض ، وسمع الله لمنحمده ، والتحيات سنة لا فرض ، والسلام كذلك . وبعضهم يوجب التحاميد بين كل فعلينبين السجود والسجود ، والركوع وغيره ، وهذا كله لا يقدح في أنها لا صلاة ، ولا يحكمعلى فاعله ومهمله بالمعصية ، ولا أنه غير مصل .

فمن اعتقد في صلاته أنها فرض، ولا يدرك التفرقة بين مفروضها ومسنونها وواجبها ونافلها ، فإن وسعة ذلك فكذلكالإسلام عند هؤلاء إن اعتقدوا أنه دين الله الواجب فيما تضمنه من الأفعال ، فواسعله إن فعل ولم يضيع .

ومن هذا الوجه امتنع المشايخ أن يكفروا ابن يزيد وغيرهممن قال : ليس علينا إلا العمل لا العلم . وبشرط ما لم يركبوا أحد الشروط . ونحنأيضا ما لم نتقدم بقطع العذر فنقع في قول الإمام جابر بن زيد – رضي الله عنه – لايحل للعالم ، مع قوله ، لا يحل للجاهل (3) .

فهذاالخطأ كله محمول .

وقول الشيخ أبي خزر – رضي الله عنه - : ( يسع جهل جميعالحرام ما خلا الشرك ) ، وهذه الكلمة مجملة لا غنى لها عن التفسير ، فإنه أطلق ولميقيد ، والتقييد أنه قد يقع من الشرك ما ليس عليك أن تعلمه أنه شرك ، ولا أنه معصية، ولا أن عليه عقابا .

وهذا الشرك الذي أراد هو الشرك المشهور لفظا ومعنى ،وهو على ثلاثة أوجه :-

أوله : من مثل الرحمن بغيره ، أو أشار إلى شيء سواهفقال : إنه هو ، أو نفاه ، فهذه الأوجه الثلاثة لا يسع أحد جهلها وشركها ووعيدهاوأسماءها . وأما ما وراء ذلك من الإشراك كله ، فإنه يسعك ألا تعلمه شركا ، ولو وجبتعليك معرفته ، فليس عليك أكثر من أن تعلم أن الجاهل قد عصى وأتى حراما لا غير ، حتىتقوم عليك الحجة بهذا كله ، وهو على أوجه :

منها : تكذيب الله تعالى في خبره، وإنكار الرسل ، وإثبات الرسالة لغير الرسل ، ونسبة هذا الخلق إلى صانع غير الله . فهذا كله في ذاته شرك .

ولو أوجب الله عليك معرفة شيء من هذا ، فليس عليكمع معرفة شركة شيء ، حتى تقوم عليك الحجة بكفر مضيعة أو شركة ، وليس عليك أكثر منأن تعلم أنه عصى ، وأنه حرام ما أتى .

وأما قوله : ( والاستحلال لما حرمالله ، والإصرار على ما حرم الله ) .
اعلم أن من استحل ما حرم الله ، ولم يعلمأنه حرام ، فليس عليك منه شيء حتى تعلم ، وإن علمت أنه استحل ما حرم الله ، فليسعليك أكثر من أن تعلم أنه أتى معصية وأتى حراما .

وكذلك الفاعل نفسه ليسعليك أكثر من أن تعلم أنه أتى حراما والتوبة عليه ، وكذلك سائر المعاصي ، فما بالالاستحلال اشترط فيه : وذلك إذا علمت ، وكذلك سائر المعاصي ، لا فضيلة للتحليل ولاللتحريم عليها .

وأما المصر على فعل لا يدري ما هو حلال أو حرام ، فليس عليكمنه شيء .
وأما إذا علمت أنه أصر على معصية ، فليس فيه أكثر مما علمت أنه فعلمعصية ، وإن كفر عند الله على إصراره ، فليس عليك من معرفة كفره شيء كالمستحل .

والأصل : ليس عليك من معرفة الكفر شيء من الأشياء ، إلا في الشرك المذكورالمشهور حتى تقوم الحجة .

وأطلق الشيخ : ( ومن شك في كفر من استحل ما حرمالله ، أو في كفر من أصر على فعل ما حرم الله بعد إذ علم أنه حرمة ، فهو كافر إنيعلم المستحل ، والمصر كافر ) .

ثم قال : ( وأما إذا لم يعلم أنه إنما استحلما حرم الله ، فهذا يسع جهل كفره ) .
وأنا أقول : إنه يسع جهل كفره ، ولو افترضالله عليه معرفة ذلك ، أو أصر على فعل لا يسع جهل تحريمه ، أو استحل فعلا يسع جهلتحريمه ، فقال : ( فهذا لا يسع جهل كفره على حال من الأحوال ) .

فعلى أصلالشيخ أبي خزر – رضي الله عنه – ليس عليه شيء إلا أن يعلم أنه أتى حراما .


----------------------------------------------------
(1) وهو المقام السادس والسابع ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
أي هالكا مستأصلا . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(3)
والعبارة وردتبكاملها سابقا . ( مراجع الطبعة الثانية ) .















رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 7 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



مسألة الأئمة العشرة
أولها : جابر بن زيد الأزدي – رضي الله عنه - ، وهو قوله : ( لا يحل للعالم أن يقول للجاهل : اعلم مثل علمي وإلا قطعت عذرك . ولا يحل للجاهل أن يقول للعالم : اجهل مثل جهلي وإلا قطعت عذرك . فإن قال العالم للجاهل : اعلم مثل علمي وإلا قطعت عذرك . قطع الله عذر العالم . وإن قال الجاهل للعالم : اجهل مثل جهلي وإلا قطعت عذرك . قطع الله عذر الجاهل ) . واعلم أن هذه المسألة صدرت من هذا العالم العظيم ، القريب من عصر النبوة ، وهو الفيصل بين جميع ما تشاجر فيه الأئمة .

واعلم أن الله تعالى أرسل محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرآن العظيم ، وفيه نبأ الأولين والآخرين ، وفيه الفقه في الدين إلى يوم الدين ، فشرع فيه أصول الفرائض ، وفوض بيانها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال الله تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) .

وأطلق رسول الله عليه السلام عقال المسلمين في التفقه في فنون العلم ، والأصل القرآن والسنة فرعة ، والأصل السنة والرأي فرعها ، وجعل الرأي حاكما على السنة ، والسنة حاكمة على القرآن ، فكثرت فنون الرأي وهي على ثلاثة أوجه :

فالأول : سائغ مأمور به مأجور عليه . وهو النظر في النوازل والأحكام وفي تفسير القرآن .

والثاني : لا أجر ولا وزر . كأنه بمنزلة مالا يغني أو المباح وقد تقدم .

والثالث : موزور صاحبه غير مأجور ، وهو كل رأي قطع فيه الشهادة أنه حق عند الله تعالى ، وقطع فيه عذر من خالفه ، أو صادم فيه الشرع . ولك في القدرية والصفرية والخوارج وأشباههم معتبر .

وإلى هذه الفنون رجع اختلاف الناس في الكفر والإيمان والشرك والإسلام والطاعة والمعصية والفسوق والنفاق والقول في أسماء الله – عز وجل – وصفاته وأمثالها والقرآن .

فليس لأهل العلم أن يحظروا على الجاهلين ، إن لم يتعدوا رأيهم إلى هدم الشروط ، وليس عليهم من معرفته شيء من ذلك ، ويؤيدها قول الله تعالى حيث يقول : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ..
وقد شاء الله – عز وجل – أن يهدي هذه الأمة إلى الحق ، وليس تخلو أقاويلهم من الحق لابد منه .

ولن تجتمع أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على ضلال وقوله : ( إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) .

الإمام الثاني : أبو معاوية عزان بن الصقر فيما ذهب إليه من المسائل التي لا يسع الناس جهلها في قول بعض الفقهاء ، ويسع في قوله ، حين وسع جهل البعث والقيامة والجنة والنار والأنبياء والملائكة والرسل والكتاب في أمثالها ، فغرضه ومراده فالله أعلم .

اعلم أن من نطق بجملة التوحيد ، هذه المعاني كلها مدرجة في كلمته ، وإن لم تخطر على باله ، والمعنى بقضيته .

لأن من أقر بالله وحده ، فقد تضمن هذا الكلام أن الله تعالى قبل الخلق ، فثبت له القدم والخلق محدث ، وأنه المحدث وأنه الذي خلق العاقل فكلفه ، وأنه الآمر والناهي وأنه المثيب والمعاقب .

فقضى قولك : ( الله ) إثبات وجوده وقدمه وحياته وعلمه وقدرته وإرادته ومشيئته ورضاه وسخطه .

قوله : (( لا إله إلا هو الحي القيوم )) .
وقوله : (( لا إله إلا هو )) تأكيد ، والحي تنبيه على هذه الصفات المذكورة فتقضي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والرضى والسخط .

وقوله : (( القيوم )) يقتضي سفرا جديدا وهو العاقل ، والعاقل يقتضي الأمر والنهي ، والأمر والنهي يتقضي الطاعة والمعصية ، والطاعة والمعصية تقتضي الثواب والعقاب ، والثواب والعقاب يقتضي لجنة والنار ، والجنة والنار يقتضي الآخرة ، وهو معنى قوله : (( وإليه المصير )) .

فمن عرف الإنسان ولم يعرفه أنه لحم ودم وعظم وجلد لم يعرفه ، ومن عرف الله تعالى ولم يعرفه بصفاته أنه حي عالم قادر مريد لم يعرفه ، ومن أنكر واحدا من الخلق أن الله لم يخلقه ، فقد أنكر الجميع ، ولعل هذا أراد عزان بن الصقر ، وعذر من لم يسنح بخاطره شيء من هذا أو تقوم عليه الحجة .

وينبهك على ذلك قوله : (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .


والصابئون ينتحلون من الأنبياء آدم عليه السلام ، ليس إلا الإيمان بالله واليوم الآخر ، ويلك عليه أن شريعة سبقت إلى المشرك وسعته في بعض الشرائع ، قالوا : إنه ليس عليهم إلا النطق بالجملة وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .

الإمام الثالث : لواب بن سلام – رضي الله عنه – ذكر لواب بن سلام فيما يعتري الإنسان من الوسواس في صفة الباري سبحانه ، وما يخطر على القلوب من توهيمه أنه فوق ، وأنه في السماء وعلى العرش وأنه معنا ، وما يذكر ويسبق إلى النفوس من تجديده ، وذكر الآلات والجوارح من الوجه واليدين والساقين والقدم والجنب ، في مثل هذه الأمور ، ليس على الإنسان منها شيء ، ولا على السامع ، ما لم يقطع الشهادة على الله – عز وجل – أنه كذلك ، ويحلف عليه ويقسم أنه كذلك .

وإن كان لا يحلف على ذلك ، فليس بشيء ، ولا يضره ما يسبق إلى النفوس أو جرى على الألسن ، إلا مع وجود الشروط المذكورة ، من قطع الشهادة ، أو قطع العذر في ذلك .

ومصداق ذلك حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، حين سأله رجل فقال : يا رسول الله إن في النفس أشياء أريد أن أسألك عنها ، وددت أني لو مت قبلها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( كلنا يجد ذلك )) .

وحديث ابن مسعود : ( تلك برازخ الإيمان ) ، وحديث زوجة جابر بن زيد حين سألت مجاهدا فقالت : ( إنه تخطر ببالي بعد موت حبيبي أشياء لو مت قبلها كان أحب إلي ) ، قال لها : ( ليس عليك بأس ) .

الإمام الرابع : الربيع بن حبيب – رضي الله عنه - .

اعلم أن الربيع بن حبيب قد أثبت لجميع المشركين ما غنموه وحازوه من أموال المسلمين في الرقيق والمكاتب والمدبر وجميع الأموال .

وأثبت الأنساب بين المشركين ونساء الموحدين من حامل لا حامل وحامل واضع .

وقاس المتدينة من جميع أمة أحمد عليه السلام من الصفرية وغيرها على المشركين ، إذا حازوه فاشتراه مشتر من أسواقهم ، أو وهبوه له بعد ما اقتبسوه .

وكذلك جميع أهل البدع ، مهما أبصروا الإسلام وقبلوه ، فليس عليهم في جميع ما فعلوه بديانتهم بأس ، قد غفر الله ذنوبهم وأسقط عنهم التباعة ، وسوغ لهم جميع ما حازوه من ذلك ، إذا تصرف كما ذكرنا ، إلا في الأحرار لا في المشركين ولا في الموحدين ، وليس على أحد بأس أن يعاملهم في كل ذلك .

وكذلك ما بيننا وبين المخالفين من الأحكام ، إن كنا تحت أيديهم وجرت علينا أحكامهم ، ولو خالفوا في الأحكام مذهب الملمين ، كما أن ليس علينا أن نمتنع من أحكامهم إذا أجروها علينا في جميع ما لم نقطع عذرهم فيه ، وهل يسعنا أن نمنع لهم أن يأخذوا من أموالنا ما وجب علينا من الزكاة والعشر والفطر ؟

فليس لنا ذلك ويجزئنا عند الله ، وليس علينا إعادة إلا في مذهب المعتزلة .

وأما ما غاب عن الأبصار ، فليس علينا أن نتبرع بها لهم إلا في مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما - .

وأما الموحدة فإنهم على طريق الحق في جميع ما امتثلوه بينهم وبين المجسمة ، من السبي والغنيمة والقتل ومقاسمة الأموال .

الإمام الخامس : أفلح بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الفارسي رضي الله عنه وعن جميع تبعته من المسلمين .

قال : ( إن من الناس من يجهل العلم صغيرا ، أو ينكره كبيرا ، ويقول إذا سمع من العلم مالا يعرفه : ما على هذا أدراكنا مشايخنا . والعلم قديم ، وقد سبق العلم مشايخه ) .

اعلم أن الغالب على هذه الأمة ، حين افترقت وتوزعتها الأئمة الذين قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( أئمة ضالون مضلون ، قاعدون على أبواب جهنم ينادون إليها كل من أجابهم قذفوه فيها )) .

فالغالب عليها التقليد ، فاستبصرت كل فرقة في مذهبها ، وعلى أنهم يقضون على أئمتهم أنهم غير معصومين من الخطأ والزلل ، فأصيبت الاثنتان والسبعون فرقة التي ذكرها رسول الله عليه السلام من جهة التقليد لغير مأمونين من الخطأ والزلل ، وتركوا البحث فيما جاءهم عن أئمتهم ، عادة الله تعالى في الذين خلوا من قبلهم تقليد الآباء والأمهات والسلف الصالح والطالح ، فاستمرأوا ، وخيف على المحقة أهل التقليد أن يؤتوا من تخلفهم عن أوائلهم ، لعلل ومعان استأثر الله بالكمال ، ولم يبرأ أحد من النقصان . وذلك لعلل ومعان :

أحدها : ألا تبلغهم بعض علوم أوائلهم .

والثاني : أن يستحسنوا بعض أقاويل من خالفهم .

والثالث : أن تنقص عقولهم عن مبلغ عقول أئمتهم .
والرابع : أن تختلف بهم الأهوية والأغذية والبلدان والأزمان فيفرطوا أو يفرطوا .
والخامس : أن تسمحن لهم عبادهم مالا يليق عند علمائهم .

والسادس : أن تختلف بهم الأحوال في الظهور والكتمان ، ويجهلون التفرقة بين ما يجوز في الظهور والكتمان .

والسابع : أن يأتيهم الشيطان من حيث لا يحتسبون ، فيزين لهم بعض أقاويل المخالفين عن مدارسة دواوينهم .

والثامن : أن يكونوا في المواضع التي تغلب عليهم أئمة المخالفين فيحولوا بينهم وبين حقهم ، أو يلقنوهم بعض باطلهم .

والتاسع : أن يطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم .

والعاشر : أن يدركهم العذر ، والأولون أصيبوا من جهة التقليد والاستحسان ، والآخرون من فنون المعاذر ، لكن المحقين أحسن حالا وإن قصروا ، عمن في المهالك ولم يبصروا .


الإمام السادس : عمروس بن فتح – رضي الله عنه – حين قال : ( إن ما يقيم الحجة في دين الله العالم الغاية الذي لا يوجد على قوله مزيد ، وقيل : العالم بجميع فنون الحجة ) فعلى هذا الوجه يتعذر قيام الحجة على أحد من أهل عصرنا ، لعدم الصفة التي ذكرها عمروس .
ومن عول على التوحيد ، وعلى الخمس التي بني الإسلام عليها ، وهي الشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج ، فقد فاز .

والإشارة بهذا الحديث : أن الحجة لا تقوم على عوام الناس إلا بمثل هذه الصفة ، وهذا الصفة معدومة ، فبهاذ المعنى عذر أهل صفين من المسلمين وهم عمار بن ياسر وعلي بن أبي طالب ومن معهم من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وهم في مائة ألف أو يزيدون جميع من شك في دم عثمان ، ولم يقطعوا عذرهم ، إذ لم ينتهكوا الحدود الثلاثة التي قدمنا ذكرها .

فمن توقف وارتاب ، فواسع له على ما هو عليه إلى مذهب الحق إلا إذا ابتلى بالعمل ، فلا يسعه التوقف على العمل إذا وقع الابتلاء .

وقد قيدنا الأخذ من كتاب الله وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى فنون الحجة ، وفي هذا نظر لأهل العثور والعوام من أهل القرى والكفور .

الإمام السابع : أبو القاسم يزيد بن مخلد – رضي الله عنه - .

قال الشيخ أبو القاسم في أبي يزيد النكاري حين خرب إفريقية وصنع فيها الأفاعيل ، واحتال عليهم الأباطيل ، فقال : ( لقد فتح فيهم أبو يزيد بابا إلا أنه لم يحسن السيرة ) .

اعلم أن هؤلاء السنية ظهر فيهم التشبيه والتجسيم العظيم ، تشبيه الباري سبحانه في عوامهم وذوي القصص منهم .

فلما كان أيام الربيع بن حبيب – رضي الله عنه – اجتمعت المشايخ والنكار ، فأشارت النكار إلى تشريكهم ، وأبى الربيع من ذلك ، وقال : ( إنما ظهر هذا من عوامهم لا من أئمتهم وذوي الفضل منهم ) فلما كان أيام ابن أبي زيد القيرواني وكان يسمى مالك الصغير لما أحيى من مذهب المالكية ، وعلى رأي مالك ألف ديوانا فقهيا ، وعقب في آخره بأن عمد إلى ذلك التشبيه فصرح به إلى حين مجيء المهدي ، وخاطب علي بن يوسف بن تاشفين في ذلك ، فألح على التشبيه .

ونهى عمن يقول : الله في كل مكان ، وضرب عليه الأبشار .

ثم أن عليا وفقهاءه أثموا على ذلك وقتلوا عليه فقيها من الفقهاء وهو الجزولي فحكم عليهم المهدي بالتشبيه وعزاهم إلى التجسيم ، فحكم فيهم حكم المسلمين في المشركين من القتل والسبي والغنيمة بعد ما حكم فيهم أول مرة بأحكام الموحدين .

وأما قوله في أبي يزيد : ( إلا أنه لم يحسن السيرة ) وذلك أنه إذا قصد بلدا قال لهم : ( هل بات الإسلام عندكم أو سكن هاهنا الإيمان ) فيقول أهل البلد : ( لا ) . لا يظنون أنه سأل عن رجال معروفة ، فيحل سبيهم بذلك .

وإذا سبوا السبايا شرعت فيهن طلبته ، فجرى حديث المهدي في أول بدئه وحكمه في هؤلاء المشبهة . فقال الشيخ أيوب بن إسماعيل بن أبي زكريا : لكن هذا – يريد المهدي – قد أحسن السيرة ، ردا على أبي يزيد ، قبل أن يتسمى المهدي بالمهدي ، فاستحسن ، وأنكر على أبي يزيد سيرته .

الإمام الثامن : أبو حزر يغلا بن زلتاف – رضي الله عنه – قال : ( اعلم أنه يسع جهل ما خلا الشرك والاستحلال لما حرم الله ، والإصرار على ما حرم الله ) قال : ( وذلك إذا علمت أنه استحل ما حرم الله ، أو أصر على فعل ما حرم الله ) .
واعلم أنه أشار إلى الشرك ، خصوصا أن على الناس معرفته والحكم فيه ، وذلك إذا كان شركا ظاهرا فيه التشبيه .

وإذا لم يظهر فيه التشبيه ، فليس عليهم من معرفة شركه شيء .

فإن كان في ذاته شركا فواسع له ما لم تقم الحجة به ، وذلك مثل الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالأنبياء والرسل والملائكة والكتب وبالبعث وبالجنة والنار ، وأما ما سوى ذلك من النفاق والكفر والفسوق والمعصية ، فليس عليه منه شيء إلا إذا قامت عليه الحجة بشيء ، فعند ذلك يجب عليه .

فإن قامت عليه الحجة بأن هذا فرض ، أو حان وقته عليه ، فإن رأى من ضيعه فيعلم أن قد عصى .

وكذلك ما نهى عنه أن رأى من فعله ، فعليه أن يعلم أنه قد عصى ، وأنه أتى في التضييع والتصنع حراما ، وليس عليه ما وراء ذلك .

وإن قامت عليه الحجة أنه كبير ، فعليه أن يعلم أنه معصية والعقاب عليه واجب ، وليس عليه أن يعلم أن في شيء من أفعال العباد كفرا ، خلا اللسان والقلب ، ولا نفاقا ولا فسوقا .
وليس عليه فيمن نقض شيئا من دينه ، أنه كفر أو فسوق ، إلا الشرك ، فمن نقض عليه شيئا من دينه ، فقد أتى حراما لا غير .

وأما الإصرار على فعل الحرام ، فهو نفس الحرام ، فليس عليه أكثر من أنه أتى حراما .

وأما الاستحلال لما حرم الله ، فربما يقع أكثر وأعظم من المستحل منه ، ومن أصر على الشرك فهو شرك ، ومن أصر على الكبير فهو كبير .

وأما الاستحلال ، فربما يستحل صغيرا ويكفر به ، وربما يستحل كبيرا فيشرك به .

وفي الاستحلال مزية على الإصرار ، وربما أشرك المستحل ولا يشرك الفاعل .


الإمام التاسع : محمد بن محبوب – رضي الله عنه - .

قوله في الربا على الأصل الذي اجتمعت عليه الأمة بخلاف قول عبد الله ابن عباس ، وذلك أن ابن عباس عول في الربا على النسيئة ، وتأول قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إنما الربا في النسيئة )) وأبطله فيما وراء ذلك ، ولم ير في الدينار بالدينارين يدا بيد بأسا .

والأصل الذي عولت عليه الأمة أن الربا المعنى هو الربا في النسيئة (1) ، وعولت على الحديث الذي يأثره عبادة بن الصامت عن رسول الله عليه السلام : (( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبربالبر ، والشعير بالشعير ... حتى الملح بالملح ربا إلا ها وها ، يدا بيد سواء بسواء ، مثلا بمثل )) .

وفي حديث آخر : (( فمن زاد واستزاد فقد أربى )) .

وقوله : (( فمن أجبى فقد أربى )) . ونهيه عن المزابنة والمحاقلة ، وعن بيع الطعام بالطعام .

وقوله لبلال : (( أربيت يا بلال )) .

وقوله للأسود بن عزنة ، حين أتاه من خيبر بتمر جنيب فقال له : (( أهكذا تمر خيبر ؟ )) .

فقال : ( والذي بعثك بالحق بشيرا ونذيرا ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين من الجمع ) .

فقال عليه السلام : (( لا تفعلوا ، بع الصاعين من الجمع واشتر الصاع من هذا )) .

وقوله : (( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إلا ما نهيتكم عنه )) .

وقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : ( إن لآخر ما أنزل لآية الربا ومات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبينها لنا ، فاحذروا الربا والريبة ) .

واعلم أن هذه الآثار وردت عن رسول الله عليه السلام من الطرق الصحاح ن وعولت عليها الأمة والأئمة والفقهاء ، وجل الصحابة عليها ، فخالف ابن عباس بالحديث الذي روينا عنه ، (( إنما الربا في النسيئة )) .

وسئل هل سمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟

فقال : ( لا ، إنما حدثني به أسامة بن زيد وزيد بم أرقم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهو حديث صحيح .

وذلك أن أسامة بن زيد وزيد بم أرقم كانا يشتريان من السوق القافلة من الطعام ، من بر أو شعير أو تمر ، بالدنانير ، فيصلون إلى دورهم ، وقد عازتهم الدنانير ، أو يشتريان بالدراهم ، فتعوزهم الدراهم .

فسألا رسول الله عليه السلام : ( إنا نشتري من السوق بالدنانير فتعوزنا ، فندفع الدراهم ونشتري بالدراهم فتعوزنا ، فندفع الدنانير بدلا مم عاز ) .

فقال عليه السلام : (( لا بأس إنما الربا في الرجاء أراد أن يفسخ كل واحد منهما في صاحبه ولا نظرة )) .

وكذلك حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لطلحة بن عبيد الله : حين اشترى من مالك بن أوس بن الحرثان حليا بمائة دينار فقال : ( انظرني حين يأتي خازني من الغابة ) ، فسمعها عمر بن الخطاب ، فقال : ( لا والله ، فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : (( وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره ))

واعلم أن ابن عباس من علماء هذه الأمة وفقهائها وممن دعا له الرسول عليه السلام أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل ، ولكن أمرا آذن الله تعالى عباده بالحرب ، فلا ينبغي أن يتعرض له ، ولا أن يهون به ، قال الله – عز وجل - : ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) .

وإنما إنفاذ الشريعة ، أمر يسره الله فسهله فخذ فيه باليسر ما قدرت ، ولا تتعد حدود الله تعالى ، وأمر عسره الله وشدد فيه فلا تتعرض له ، فقد شدد في آية الربا ما لم يشدد في غيرها ، وآذن العباد بالحرب .

وقد قيل عن ابن عباس ، إنه قد رجع عنها في أيام مرضه بالطائف وفيه مات ، وقال : ( أردنا أن نسد عنكم أبواب الربا فأبيتم إلا فتحها ) . فرجع عنها قبل موته ، وإنما نبهناكم على هذا نصحية على أن ابن عباس بالموضع الذي هو فيه من الفقه في الدين والسنة والتنزيل بالموضوع الذي لا ينكر .

وقد قال أبو بكر الصديق : ( ما من عالم إلا وفي علمه مأخوذ ومتروك ، ما خلا صاحب هذا القبر ) وأشار إلى قبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وليس مذهبه في الربا بفرض فيضيق على الناس مخالفته .

وقد فطن لمذهبه محمد بن محبوب فآثر السنة والجماعة (2) والرأي ، وهو النهاية في زمانه نسيج وحده ، وفرد زمانه .

الإمام العاشر : الشيخ مصالة – رضي الله عنه - :

قال : ( ليس لله علينا أن نكون حفظة لا ننسى ، اعلم أن النسيان للإنسان أمر غالب ، وربما يكون عن أسبابه ، فيؤخذ به ، ولم ترد فيه شدة إلا في ناسي القرآن بأنه وري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (( نظرت في ذنوب أمتي ولم أر ذنبا أعظم من ناسي القرآن )) .

وقال أيضا : (( من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم )) ، وقال الله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) وقال : ( أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) وقال : ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) .

واعلم أن هذا الوعيد إنما يتوجه إلى من نسي الله – عز وجل – فليس الله تعالى ممن ينسى ، كما أن ألم الضرب ليس مما ينسى ، فالله معك أين ما توجهت ، فارم ببصرك حيث شئت ، تجد صنعة لك حاضرا ، أو ناهيا أو آمرا .

ومن علم أثر السبع فلن يستطيع نسيانه ، ما دام معه أثره ، وقد علم بأسه .
وقد عذر الله تعالى ناسي الصلاة : قال رسول الله عليه السلام : (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فذلك وقتها )) فعذره عليه السلام ولو نسيها إلى المحشر لما كان عليه بأس .

وقد صلى عليه السلام صلاة العصر بأصحابه فقام من اثنتين ، فقال له ذو اليدين من أصحابه : ( أقصرت الصلاة أو نسيت يا رسول الله ؟ ) فقال عليه السلام : (( كل ذلك لم يكن ، ولكن أنسى لأنس لكم )) فقال عليه السلام لأصحابه : (( أصدق ذو اليدين ؟ ))

قالوا : ( نعم ) فرجع فأتم بهم أربعا . ولو لم يذكره أحد من أصحابه لوسعه ذلك إلى المحشر ولا ضير ، فشددت المشايخ في هذه المسألة غاية التشديد وقالت : إن من قامت عليه الحجة بفريضة من الفرائض من دين الله ، أو آية من كتاب الله – عز وجل - ، أو بنبي من الأنبياء والرسل والملائكة والمنصوص من بني آدم ، في خير أو شر ، أو ولي من أوليائه ، أو تباعه من التباعات من الأموال والأنفس ، أنه لا يعذر في شيء من هذا كله .


-----------------------------------------------------
(1) في الطبعة البارونية اضطراب وأصلح هكذا ليستقيم المعنى . ( مراجع ط 2 ) .
(2) أي جماعة المسلمين الذين خالفهم ابن عباس في مسألة الربا . ( مراجع ط 2 ) .



وحكموا بالشرك ، فيمن نسي نبيا ، أو ملكا ، أو رسولا ، أو فريضة منصوصة ، أو قضية من كتاب الله – عز وجل – مخصوصة .

وحكموا في الشاك أنه مشرك ، وفي الشاك في الشاك إلى يوم القيامة .

واعلم أن هذه المسألة قد شدد فيها وأرجو عند الله تعالى فيها السعة والرحمة ، قال الله تعالى حكاية عن المؤمنين : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .

فذكر ذلك في معرض الإجابة والامتنان ، فنحن على عمومها في هذه الآية ، حتى يأتي ما يخصها ، بل تفضل الله علينا من وراء هذا فترك المؤاخذة في الخطأ فهو كالنسيان .

وقد ذهب أهل التفسير الذين فوض الله تعالى إليهم بيان كلامه وخطابه للخليقة بأن قالوا : إن نسينا تركنا أو أخطأنا أي تعمدنا ، فجاوزوا النسيان إلى العمد ، والترك والخطأ إلى الترك والعمد .

ومذهب هؤلاء المفسرين مذهب صالح لائق برحمة رب العالمين في عباده المذنبين ، اقتبسوا هذه الطريقة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما حكاه الرب عنه . حيث يقول : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) فلهذا المعنى قال رسول الله عليه السلام ، في قول الله تعالى : ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ) .

واعلم أن من سلم من خصلتين فلا يستبعد له هذا التفسير ، وهو حاصل في جملة المؤمنين ، من سلم من البدعة ، ومن سلم من الإصرار .

فالبدعة : أن يدين لله تعالى بدين كان به على الله شاهدا ، وفي شهادته عليه كذابا ، حتى يلقى الله – عز وجل – على ذلك ، فعلى أي شيء يثيبه الله – عز وجل - ؟ أعلى غير ما قدمت يداه ؟ ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) .

وأما المصر والمعاند لربه والمتمادي على معصيته وارتكبها عمدا ، وعول أنه لا يفارقها أبدا حتى يلقى ربه ، فأصر واستكبر ، فخاب وخسر ، فلقي ربه غدا في المحشر منكوسا مركوسا ، فليس في هذا أيضا مطمع ، إذ لا يليق بحكمه الباري سبحانه إسعافه على إصراره وخلافه وما وراءه من الذنوب ، فليس بمستحيل العفو عنه ، بأسباب خمسة : التوبة النصوح ، والحسنة المقبولة ، والمصيبة الوجيعة التي قال صاحبها : ( إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) . أو لم يقلها .

وقال الله – عز وجل - : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) .

وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ((ما من مسلم يصاب بمصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه )) .

ومن وراء ذلك شفاعة المصطفى عليه السلام ، فكيف بمن له الشفاعة ، وهو الحكيم الكريم الرؤوف الرحيم رب العرش العظيم . وهو التائب عن عباده المذنبين قبل أن يتوبوا فقال عز من قائل : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) .

وقضى على لسان نبيه عليه السلام : (( أن من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان دخل الجنة )) . رواه ضمام بن السائب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .

وقوله – عز وجل – يوم الفصل الأكبر : (( يا معشر المؤمنين إني قد وهبت لكم ما بيني وبينكم فتواهبوا فيما بينكم )) ويقع القصاص قيما بين المسلمين والمسلمات ، ويتقاصون بالحساب بدل الأموال والتبعات ، ومن وراء ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ....




* * *

تم بحمد الله الجزء الثاني

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثاني , الجليل , الجزء , والبرهان


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جميع أدلة المعلم للصف الثاني عشر والحادي عشر عابر الفيافي المنتدى الطلابي 16 06-16-2012 09:09 PM
كتاب : الفتاوى كتاب الصلاة ج1 لسماحة الشيخ أحمد الخليلي عابر الفيافي نور الفتاوى الإسلامية 8 10-26-2011 09:29 PM
فتاوى الحج للشيخ سعيد القنوبي عابر الفيافي نور الحج والعمرة 3 06-08-2011 03:08 PM
الدليل والبرهان الجزء الاول الامير المجهول المكتبة الإسلامية الشاملة 7 01-13-2011 01:13 PM


الساعة الآن 09:39 PM.