القدس الشريف .. التاريخ والمكانة - الصفحة 2 - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



الـنور الإسلامي العــام [القرآن الكريم] [اناشيد اسلاميه صوتيه ومرئيه] [السيره النبويه] [اناشيد اطفال] [ثقافة إسلامية]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 11 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في عهد المماليك
محمد أبو مليح *



من أكثر الأمور التي تؤكد على أن مكانة القدس العالية هي عند المسلمين كافة .. فترة حكم المماليك، فالمماليك من المعروف عنهم أنهم من أجناس شتى، وأمم متفرقة مختلفة العادات والتقاليد، ومع ذلك نجدهم قد اهتموا بالقدس اهتمامهم بالحرم الشريف في مكة، ومع ذلك فإن جهود المماليك، وما أدوا للمسلمين بشكل عام وللقدس بشكل خاص لا تزال مجهولة لكثير من الناس، ولذا كانت هذه الصفحات كإسهام في توضيح ما بذله هؤلاء العظام من جهود تخدم المسلمين والمسجد الأقصى، لعل ذلك يرد لهم بعض الجميل، وفي هذه الصفحات توقفنا عند بعض المحطات التاريخية، والتي تخص المماليك بشكل عام ثم عرجنا على ما بذلوه من جهود في خدمة المسجد الأقصى، وهي كالتالي:
نبذة تاريخية عن المماليك
موقف المماليك من القدس
القدس في عهد الظاهر بيبرس مؤسس سلطان المماليك
القدس في عهد عائلة الناصر قلاوون
الملك الأشرف برسياي والقدس
القدس في عهد المماليك الشراكسة
القدس في عهد الظاهر برقوق
الملك الأشرف قايتباي والقدس
__________
نبذة تاريخية عن المماليك

المماليك هم طائفة من الأرقاء أو ممن كانوا يؤسرون في الحروب أو يستدعون للخدمة في الجيش وكانوا خليطًا من الأتراك والشراكسة وغيرهم من الأجناس.
يرجع ظهور المماليك في العالم الإسلامي إلى ما قبل قيام دولتهم بمصر بأمد طويل، وكان أول من استخدمهم الخليفة العباسى المأمون خلال فترة حكمه الممتدة بين السنوات 198هـ/ 813م 218هـ/ 833م، إذ كان في بلاطه بعض المماليك المعتقين ثم الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي استخدم فرقًا من الشباب االأتراك في جيشه لتدعيم سلطانه وذلك لقلة ثقته بالعرب ومن ثم أخذ بمبدأ استخدام المماليك ولاة مصر من الطولونيين والإخشيديين والفاطميين ثم الأيوبيين الذين أكثروا من شراء المماليك الترك وألفوا منهم فرقًا عسكرية خاصة.
ولعل اسمهم (المماليك) الذي ينبئ بالعبودية ويستخدم للتعريف بهم والإشارة إلى عهدهم لا يعطي صورة حقيقية لهم، ولا يدل على دورهم الكبير في القضاء على بقايا الفرنجة الصليبيين والوقوف في وجه التتار، ولا يُعرف بدورهم الحضاري الظاهر، حيث يعتبر قيام دولة سلاطين المماليك في منتصف القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي بداية مرحلة جديدة لها طابعها الخاص في تاريخ مصر والشام والذي يتصف بالأمن والاستقرار والثراء والازدهار، خصوصًا بعد سيطرة التتار الوثنيين على بغداد وسقوط الخلافة العباسية فيها، كما أخذت دولة المسلمين في الأندلس في ذلك الوقت بالانحسار سياسيًا وحضاريًا بعد أن اشتدت عليها وطأة الفرنجة.
أحس المماليك منذ البداية أنهم محرجون بسبب أصلهم غير الحر، فضلاً عن أنهم ظهروا على المسرح السياسي في صورة من استولوا على الحكم من سادتهم بني أيوب، لذلك سلك المماليك ثلاثة اتجاهات لمحو هذه الصورة عن الأذهان، والتي تركت كلها آثارًا إيجابية ومباشرة في الأوضاع العامة لمدينة القدس بشكل خاص، وهذه الاتجاهات هي:
1- اتخذ المماليك الجهاد أداة لإثبات جدارتهم بالحكم ولحماية المقدسات الإسلامية، مما أدى إلى ثبات الأمن والاستقرار في ظل حكمهم.
2- بإحياء المماليك للخلافة العباسية في القاهرة، أضفوا على الحكم صفة الشرعية، وذلك بوصفهم مفوضين بحكم المسلمين من قبل الخلافة العباسية وهي أعلى سلطة شرعية في البلاد.
3- استغل المماليك جزءًا كبيرًا من ثرواتهم الضخمة في العناية بالمنشآت الدينية في الأماكن المقدسة وخصوصًا في مدينة القدس، مما زاد من مكانة هذه المدينة المقدسة في عصرهم لدى المسلمين ويقسم العهد المملوكي إلى قسمين:
أولاً: عهد المماليك الأتراك أو المماليك البحرية:
وهم من جند الملك الصالح نجم الدين الأيوبي ويسمون المماليك البحرية لأن الصالح أسكنهم ثكنات في جزيرة الروضة في بحر النيل.
ثانيًا: عهد المماليك الشراكسة أو المماليك البرجية:
وهم من جند السلطان المنصور قلاوون المملوكي التركي، وكانوا يسكنون في أبراج القلعة في القاهرة فعرفوا بالبرجية.
موقف المماليك البحرية من القدس

على إثر تولي الملك عز الدين أيبك عرش مصر 648هـ/ 1250م 656هـ/ 1258 انفصلت الشام عن مصر واستقل بحكمها الأمراء الأيوبيون، فراح الفريقان يقتتلان إلى أن تم الصلح بين الفريقين سنة 651هـ/ 1253م وبموجب هذا الصلح دخلت مدينة القدس تحت الحكم المملوكي لكن السلطان عز الدين أيبك قُتل بمكيدة دبرتها زوجته شجرة الدر، فخلفه ابنه الصغير نور الدين علي.
وفي عهد السلطان سيف الدين قطز 607هـ / 1259م 658هـ / 1260م اجتاحت جحافل التتار بلاد الشام من شمالها إلى جنوبها وشاء الله أن ينقذ بيت المقدس من همجيتهم وكان واضحًا أن حملتهم الأولى على بلاد الشام عبرت في جوهرها عن هجمة صليبية شرسة خطط لها ملك أرمينية الصغرى هيثوم الأول مع هولاكو، وطلب الأخير من حليفه أن يلتقي به عند الرها ليرافقه إلى مدينة القدس ليخلص الأراضي المقدسة من قبضة المسلمين ويسلمها للمسيحيين.
بعد استيلاء التتار على دمشق وتدميرها سنة 658هـ/ 1260م قرروا التفرغ لمواجهة خطر المماليك في مصر، فأرسل هولاكو إلى السلطان قطز طالبًا منه التسليم، جمع قطز الأمراء واتفقوا جميعًا على محاربة التتار وإعلان التعبئة العامة.
سيّر قطز الجيوش المؤلفة من العرب والأتراك ونزل مدينة غزة، ثم سار بمحاذاة الساحل إلى أن التقى الجمعان عند عين جالوت في 25 رمضان سنة 658هـ/ 1260م وتولى السلطان قطز بنفسه قيادة الجيش ومعه الأمير ركن الدين بيبرس، وانتهت المعركة بنصر حاسم للمماليك على التتار الذين قتل قائدهم كتبغا وانهزم جيشهم شر هزيمة، فكانت تلك المعركة فاصلة في تاريخ الشرق مما أنقذ بيت المقدس والشام كلها من براثن التتار، كما ترتب على تلك المعركة امتداد سيطرة المماليك على بلاد الشام وانحسار النفوذ الأيوبي عنها، وهكذا عادت وحدة مصر والشام في ظل حكومة مركزية قوية مما أشاع قدرًا من الاستقرار لأول مرة في بلاد الشام بوجه عام، وفي بيت المقدس بوجه خاص.
بعد انتهاء المعركة الحاسمة وبينما كان قطز في طريق عودته إلى مصر انحرف مع بعض أصحابه للصيد فقتله بعض خواصه، وقيل إن الظاهر بيبرس البندقداري قتله بيده ومن ثم استولى على الملك من بعده.
ولقد اهتم بعد ذلك كل من السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس والسلطان المنتصر سيف الدين قلاوون وكذلك أبناؤه أيما اهتمام بالقضية، وكانت نهاية الصليبيين على يد الأشرف خليل بن قلاوون والذي أخرج آخر جندي صليبي في الشرق الإسلامي.
القدس في عهد الظاهر بيبرس مؤسس سلطان المماليك:

كان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس 658هـ / 1260 676هـ / 1277م في خاصة خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم أعتقه وارتقى حتى أصبح أتابك أي قائد العساكر بمصر في أيام قطز، وتولى سلطنة مصر والشام من بعده.
يعد الظاهر بيبرس أول المماليك العظماء، ومؤسس سلطانهم الحقيقي وتستند عظمته إلى الحملات الموفقة التي جردها على الصليبيين ومهدت السبيل للانتصارات التي جناها حلفاؤه من بعده، حيث قضى على مملكة أنطاكية الصليبية عام 666هـ / 1268م واستولى على كثير من مواقع الصليبيين وقلاعهم، وفتح قيسارية وصفد وهونين وتبنين والرملة وقلعة شقيف كما هاجم مدينتي صور وعكا أكثر من مرة حتى سعى إليه الفرنجة ليعقدوا معه الصلح، فوافق على عقد هدنة معهم مدتها عشر سنين وعشرة أشهر وعشر ساعات تبدأ من 21 رمضان من عام 670هـ / 1272م.
وإلى جانب المآثر الحربية اهتم الظاهر بيبرس بتجديد الخلافة العباسية في القاهرة لإعطاء الصفة الشرعية لسلطتهم الوليدة، فكان بيبرس أول من تلقب ب قسيم أمير المؤمنين من قبل الخليفة وهذا اللقب أجل الألقاب.
كما اهتم الظاهر بيبرس بتعمير البلاد التي دخلت في حوزته وبتدبير شئونها كما أولى مدينة القدس عناية كبيرة لما لها من مكانة خاصة ومقدسة لدى المسلمين جميعًا، وتمثل ركيزة دينية هامة من الجانب الديني في سياسته.
ومن أهم التعميرات التي تمت في عهده في المدينة المقدسة نذكر منها:
1- عمارة قبة الصخرة المشرفة:
في سنة 659هـ / 1260م جهز الظاهر بيبرس الأموال والآلات والصناع لعمارة قبة الصخرة التي كانت قد تداعت للسقوط.
2- تجديد قبة السلسلة وزخرفتها:
وهي القبة الموجودة داخل الحرم القدسي الشريف وتم ذلك في سنة 659هـ / 1260م.
3- رباط البصير:
وهو من العمائر ذات الصبغة الدينية المهمة التي أقيمت في عهد السلطان الظاهر بيبرس في مدينة القدس، وقد عمره الأمير علاء الدين ايدغيدي البصير ووقف عليه أوقافًا كثيرة سنة 666هـ / 1267م كما أقام الأمير علاء الدين أبنية أخرى منها المطهرة بجانب المسجد الأقصى، وكذلك بلط صحن الصخرة المشرفة.
وقد قام الظاهر بيبرس بزيارة مدينة القدس عدة مرات، كانت على التوالي:
الزيارة الأولى: تمت في عام 661 هـ / 1262 م وهو في طريق عودته من الشام إلى مصر فكان أول من زار المدينة من سلاطين المماليك فاطلع على أحوالها ونظم أوقافها ثم أمر بترميم المسجد الأقصى وخصص له في كل سنة خمسة آلاف درهم.
الزيارة الثانية: وقد تمت في سنة 662 هـ / 1263م أمر خلالها بإنشاء خان السبيل ولما تم بناء الخان نقل إليه باب قصر من قصور الفاطميين معروف بالقاهرة باسم قصر باب العيد. وبنى بالخان مسجد وطاحونة وفرن ولما تم بناء هذا الخان أوقف عليه أوقافًا عدة على أن يصرف ريع هذه الأوقاف على من يرد هذا الخان من المسافرين المشاة للإنفاق عليهم في خبزهم وإصلاح نعالهم وغير ذلك.
الزيارة الثالثة: تمت في سنة 664 هـ / 1265م .
الزيارة الرابعة: وهي الزيارة الأخيرة التي قام بها الظاهر بيبرس للقدس، وتمت في عام 668 هـ / 1270م وجدد خلالها الفصوص التي على الرخام في مسجد الصخرة المشرفة كما أمر في نفس السنة بوضع الدرابزين حول الصخرة المشرفة وعمل فيها منبرًا وسقفه بالذهب.
وفي سنة 676 هـ / 1277 م توفي الملك الظاهر بيبرس في دمشق بعد أن ملك مصر والشام سبع عشرة سنة وشهرين، وتولى المُلك من بعده ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد ثم ابنه الثاني الملك العادل بدر الدين سلامش ولم يذكر التاريخ أنهما قاما بعمل في القدس وقد ترك المُلك كلاهما خلعًا.
القدس وعائلة قلاوون

كان أول من تولى السلطنة من أبناء قلاوون هو السلطان المنصور سيف الدين قلاوون 679هـ/ 1280م 689هـ/1290م، وكان يلقب بالصالحي الألفي، وقد برز في أواخر عهد الأيوبيين وخلع ابن الظاهر بيبرس سلامش وبويع بالسلطنة كان على ما وصفه المؤرخون فارسًا شجاعًا لا يحب سفك الدماء واهتم بجمع المماليك من كل جنس، وفي أيامه عرفت جماعة المماليك البرجية.
اهتم الملك المنصور قلاوون بمدينة القدس كثيرًا وأقام فيها أعمالاً عمرانية تدل على اهتمامه بها نذكر منها:
1- الرباط المنصوري:
ويقع في الجهة الجنوبية من طريق باب الناظر المؤدي إلى الحرم القدسي، قبالة رباط علاء الدين البصير، وقد أمر ببنائه السلطان قلاوون سنة 681هـ / 1288م وأوقفه على الفقراء وزوار بيت المقدس.
والرباط المنصوري من المؤسسات السلطانية القليلة التي بنيت خارج الحرم، لأن السلاطين كانوا يقيمون منشآتهم داخل الحرم نفسه، وقد أشرف على بنائه علاء الدين ايدغدي بعد بناء رباطه.
2- المسجد القلندري:
في عهد السلطان قلاوون وتحديدًا في سنة 686هـ / 1287م جددت عمارة هذا المسجد، وهو واقع على طريق دير اللاتين في الناحية الجنوبية من المدينة المقدسة ولم يبق منه اليوم إلا الاسم.
وقد زار السلطان قلاوون فلسطين أكثر من مرة ونزل في مدينة القدس سنة 682هـ/ 1283م وأقال نائبها عماد الدين بن أبي القاسم وأقام مكانه نجم الدين السونجي.
وبعد أن توفي السلطان قلاوون تولى ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ثم ابنه الثاني السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري المعروف بالصغير، وبعد مقتل الملك المظفر المنصور لاجين تولى الملك للمرة الثانية الملك الناصر محمد بن قلاوون ثم تسلطن الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، ثم عاود للمُلك الناصر محمد بن قلاوون للمرة الثالثة.
الملك الناصر محمد بن قلاوون:

تولى الملك الناصر محمد حكم السلطنة ثلاث مرات:
الأولى: دامت حوالي ثلاث سنوات في الفترة 693هـ/ 1294م 696هـ/ 1296م.
الثانية: وكانت مدتها حوالي عشر سنوات في الفترة 698هـ/ 1298م 708هـ/ 1308م.
الثالثة: وهي الأخيرة وقد دامت أكثر من ثلاثين سنة امتدت في الفترة 709هـ/ 1309م 741هـ/ 1341م.
وهكذا امتاز عهد الملك الناصر محمد بدوراته الثلاث، والذي دام قرابة خمسة وأربعين عامًا والذي عُرف بأنه أطول عهود السلاطين المماليك.
وفي عهده بلغت المناوشات بين المماليك والتتار أشدها، إذ استولت قوات غازان التتاري على دمشق، واجتاحت منطقة الأغوار ونهبت مدينتي القدس والكرك ومن ثم انتهت هزيمة التتار في مرج الصفر جنوب دمشق.
ولقد اشتهر عهد الناصر محمد بإنشاء الأبنية الكثيرة والمآثر الحضارية المختلفة فشهدت المدينة المقدسة على يده ويد نائبه بالشام الأمير تنكز حركة عمرانية لا مثيل لها في كامل العهد المملوكي ومن هذه المنشآت التي قامت في القدس في عهده:
1- رباط الكرد:
ويقع في الجانب الشمالي من طريق باب الحديد تجاه المدرسة الأرغوانية، وملاصقًا لسور الحرم وعلى يمين الخارج منه من هذا الباب وقد أنشأه المقر السيفي كُرد صاحب الديار المصرية سنة 693هـ/ 1293م وكان السيفي كُرد من مماليك السلطان قلاوون، وقد أسس رباطه في القدس عندما كان ساقي السلطان ويسكن رباط الكرد الآن جماعة من آل الشهابي وهو يعرف بهم.
2- المدرسة الدويدارية (الدوادارية):
وتقع هذه المدرسة على يمين الخارج من الحرم القدسي الشريف من باب العتم أو كما كان يسمى قديمًا بباب شرف الأنبياء، والذي أطلق عليه أيضًا اسم باب الدويدارية نسبة إلى هذه المدرسة الكائنة شرقي هذا الباب.
أما تسميتها بالمدرسة الدوادارية فترجع إلى منشئها وواقفها الأمير علم الدين أبو موسى سنجر الدوادار الصالحي النجمي، الذي أوقف عليها أوقافًا كثيرة في مناطق متعددة في فلسطين وكانت عمارتها في سنة 695هـ/ 1295م.
المدرسة الدوادارية هي وقف إسلامي، كانت في السابق خانقاة للصوفية من العرب والعجم وكانت تدعي بدار الصالحي، وهي ما تزال مدرسة حتى يومنا هذا، ويشغلها حاليًا المدرسة البكرية الابتدائية للذكور.
3- التربة الأوحدية:
وتقع على ميسرة الخارج من الحرم من باب حطة، وواقفها هو الملك الأوحد نجم الدين يوسف بن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم عيسى سنة 697هـ/1298م.
4- المدرسة السلامية (الموصلية):
وتقع خارج الجهة الشمالية للحرم وإلى الشمال من المدرسة الدودارية بباب العتم أو باب شرف الأنبياء، وواجهتها الرئيسية على الجانب الشرقي من طريق باب العتم المعروف بطريق المجاهدين والمؤدي إلى باب سور القدس المعروف بباب الأسباط.
والمدرسة عبارة عن بناية ضخمة وفيها بوابة تمتاز بروعة جمالها وتعولها المقرنصات وعلى جانبي قوس البوابة النقش التالي: لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.
كلف بناء هذه المدرسة أموالاً طائلة وواقف المدرسة هو الخواجا مجد الدين أبو الفدا إسماعيل السلامي وكان تاجرًا كبيرًا في القاهرة، وتاريخ المبنى والوقوف غير معروف بوجه الدقة، ويقول مجبر الدين الحنبلي أنها وقفت بعد السبعمائة للهجرة.
5- زاوية المغاربة:
وهي تقع بأعلى حارة المغاربة في الجهة الغربية خارج الحرم، وواقفها هو الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد النبي المغربي المصمودي المجرد، وقد عمر الزاوية وأنشأها من ماله ووقفها على الفقراء والمساكين في سنة 703هـ/ 1303م وأوقاف هذه الزاوية كانت تشمل على حوانيت في سوق القصاص وجسر الليمون وفرن موجود بحارة المغاربة وطاحونة قرب المنطقة ذاتها بالإضافة إلى بيت في حارة الشرف.
وفي سنة 1967 قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية باستملاك هذه الزاوية وهدمتها.
6- التربة الجالقية:
وتعرف اليوم بدار الخالدي. وموقعها بالزاوية الشمالية الغربية عند ملتقى طريق الواد بطريق باب السلسلة. وواقفها هو ركن الدين بيبرس بن عبد الله الصالحي النجمي المعروف بالجالق ومعناه الحصان القوي الشديد المراس وكان من جملة الأمراء بالشام وقد توفي في الرملة سنة 707هـ/ 1307م ودفن في ترتبه بالقدس.
7- جامع قلعة القدس:
بُني الجامع بداخل القلعة عند زاويتها القبلية الغربية، وقد كتب على عتبة بابه العليا أن الجامع أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 710هـ/ 1310م.
8- التربة السعدية:
وتقع بطريق باب السلسلة تجاه المدرسة التنكزية بالقرب من باب الحرم الرئيسي المعروف بباب السلسلة لجهة الغرب، وواقفها هو الأمير سعد الدين مسعود بن بدر سنقر عبد الله الروحي الحاجب بالشام في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 711هـ/ 1311م.
9- المدرسة الكريمية:
تقع في منطقة باب حطة شمالي الحرم، وعلى يمين الخارج من الحرم من الباب مباشرة وواقفها هو كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله بن مكانس ناظر الخواص الشريفة بالديار المصرية، أي أنه كان من أصحاب السلطة والنفوذ في دولة السلطان الناصر محمد وكان ذلك في سنة 718هـ/ 1319م.
10- المدرسة التنكزية:
وهي من المدارس الشهيرة في القدس، وتقع على يمين الداخل إلى الحرم الشريف من باب السلسلة وهو باب الحرم الرئيسي، ومبناها متقن البناء ولا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، ولقد وصف مجير الدين الحنبلي هذه المدرسة قائلاً: هي مدرسة عظيمة ليس في المدارس أتقن من بنائها، وهي بخط باب السلسلة، ولها مجمع راكب على الأروقة الغربية للمسجد.
أما واجهة المدرسة الشمالية فهي تطل على ساحة صغيرة بباب السلسلة وواجهتها الشرقية تطل على رواق الحرم، والواجهة الجنوبية تشرف على حائط البراق، والواجهة الغربية تطل على المباني المجاورة لها.
عمّر هذه المدرسة سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام، وكان من أشهر نواب السلاطين الذين حكموا الشام في عصر المماليك وكان ذلك سنة 729هـ/ 1328م ويقول د. كامل العسلي: يتضح من الوقفية أن الصرح الذي شيده سيف الدين تنكز كان في الواقع مجمعًا مؤلفًا من عدة أجنحة، وكان البناء يشتمل على مدرسة وخانقاة للصوفية ودار حديث ورباط للعجائز من النساء، وكانت المدرسة تشغل الطابق الأرضي، أما الخانقاة فكانت كما هو ظاهر فوق رواق الحرم الملاصق لمبنى المدرسة وكان في علو المدرسة أحد عشر بيتًا للصوفية، وكان هناك فوق سطح المدرسة بيت كبير مخصص لرباط النساء في المدرسة.
11- تعميرات في المسجد الأقصى:
من الآثار التي تمت على يد الأمير تنكز نائب السلطنة في الشام، الرخام المبني في الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى عند المحراب لجهة الشرق، كما بنى أيضًا الحائط الغربي للمسجد الأقصى.
كما تم في عهده بناء أروقة في ساحة الحرم القدسي، وهي محكمة البناء وممتدة من جهة القبلة إلى جهة الشمال، وأولها عند باب الحرم المعروف بباب المغاربة وآخرها عند باب الغوانمة وكلها عمرت في عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون في فترات مختلفة، وعلى النحو التالي:
أ- الرواق الممتد من باب الناظر إلى قرب باب الغوانمة، عمّر سنة 707هـ/ 1307م.
ب- الرواق الممتد من باب المغاربة إلى باب السلسلة، عمّر سنة 713هـ/ 1313م.
ج- الرواق الممتد مما يلي منارة باب السلسلة إلى قرب باب الناظر، وقد عمّر سنة 737هـ/ 1337م.
12- قناة السبيل:
وهي القناة الواصلة من منطقة العروب إلى مدينة القدس، وقد أمر بتجديدها الأمير تنكز، فابتدأ عمارتها سنة 727هـ/ 1326م، ووصلت إلى القدس ودخلت الحرم الشريف سنة 728هـ/ 1327م.
13- المدرسة الأمنية:
وتقع على الجانب الغربي من الطريق المؤدي إلى باب الحرم المعروف بباب شرف الأنبياء. ومبناها الذي لا يزال قائمًا وهو مؤلف من طابقين، وقد كانت المدرسة في الطابق الأرضي، أما الطابق العلوي فقد بني جزء منه فوق رواق الحرم وجزء آخر فوق باب العتم الدوادارية.
كان شيخ هذه المدرسة يعين بتوقيع من نائب السلطنة في دمشق، وواقفها هو الصاحب أمين الدين عبد الله في سنة 730هـ/ 1329م.
والمدرسة الأمينية اليوم عامرة ومسكونة من قبل آل الإمام، فقد كانت هذه المدرسة وقفًا لهذه العائلة المقدسية منذ عدة قرون، وقد سكنها أفراد هذه العائلة لعدة أجيال متعاقبة.
14- الخانقاة الفخرية:
وهي بداخل سور الحرم في أقصى الجنوب الغربي منه، وبابها عند الباب الذي يخرج منه المارة إلى حارة المغاربة، وواقفها هو القاضي فخر الدين أبو عبد الله محمد بن فضل الله ناظر الجيوش الإسلامية، وكانت وفاته سنة 732هـ/ 1331م.
كانت في البداية مدرسة ثم أصبحت خانقاة للصوفية، وفيها مسجد وأماكن لإقامة الأذكار وأماكن أخرى خاصة لتهجد الصوفيين. وقد هدمتها السلطات الإسرائيلية سنة 1969.
15- سوق القطانين:
يبلغ طول هذا السوق 100متر وعرضه 10 أمتار، وعلى جانبيه دكاكين، وكانت عند إنشائها سنة 737هـ/ 1336م معدة لبيع جميع أنواع الأقمشة والبضائع التي كانت تحملها القوافل التجارية من الهند إلى القدس عن طريق بُصرى وبغداد والموصل، ولكن أهمية هذا السوق تضاءلت عند اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح سنة 1497م ومن ثم أهمل هذا السوق تمامًا في أواخر العهد العثماني.
16- المدرسة الملكية (المالكية):
وهي تقع في الجهة الشمالية من الحرم ومجاورة للمدرسة الأسعردية من جهة الشرق، وقد ذكرها مجير الدين الحنبلي قائلاً: عمّرها الحاج الجواكندار وكان بناؤها في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون في مستهل محرم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وأما الوقف عليها فإنه من زوجته ملك بنت السيفي قلطقتم الناصري. وتاريخ وقفها في السادس عشر من ربيع الآخر من سنة خمس وأربعين وسبعمائة والظاهر أن زوجها عمرها لها من مالها والله أعلم.
أما د. كامل العسلي فقد قال فيها: يبدو أن المدرسة المالكية كانت تعرف قديمًا باسم القبة، فالسجل 602 من سجلات الأراضي في استنبول يذكر وقف المدرسة المالكية المعروفة بالقبة، وتاريخ سجل محضر الوقف في سنة 770هـ والمدرسة المالكية أصبحت في وقتنا الحاضر كمعظم المدارس دارًا للسكن، ويسكنها هذه الأيام جماعة من آل الخطيب، وفي المدرسة ضريح السيدة ملك السابق ذكرها.
17- خان تنكز:
ويقع في الجهة الجنوبية من سوق القطانين، والمرجح أن الباني لهذا الخان هو الأمير تنكز نائب الشام وقام ببنائه عندما بنى سوق القطانين وفي نفس العام 737هـ.
18- بناء حمام:
وهو واقع على يمين الداخل إلى سوق القطانين من طريق الواد ويعرف اليوم بحمام العين.
هذا وقد قام الملك الناصر محمد بزيارة لمدينة القدس الشريف وقد ذكرها ابن تغري بردي قائلاً: بدأ زيارته في يوم الخميس رابع جمادى الأولى سنة 717هـ/ 1317م وقد سار معه خمسون أميرًا وناظر الخواص كريم الدين الكبير، وفخر الدين ناظر الجيش، وكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه لزيارة القدس، فقام بزيارة معالم المدينة ثم زار الكرك، وعاد إلى الديار المصرية وكانت غيبته أربعين يومًا.
ويبدو أن مدينة القدس على الرغم من قدسيتها، كانت تعتبر يومئذ منفى للذين يحل عليهم غضب السلطان، فقد حدثنا تغري بردي عن ذلك أيضًا قائلاً: إن بعض الأمراء وشوا عند السلطان محمد بن قلاوون بمماليكه الذين يناوئنهم السلطة والنفوذ فقام السلطان بنفيهم إلى مدينة القدس.
بعد وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده، ولم يأت واحد منهم بأي عمل يذكر لا في مدينة القدس ولا في غيرها من البلدان، إذ ما كان يأتي الواحد منهم إلى المُلك حتى يقوم أخوه عليه أو أحد أقاربه فيقتله أو يخلعه عن العرش وينتزع السلطة من يده وكذلك كان الوضع على أيام المماليك الذين تسلطنوا من بعدهم، لم يحدث أي تغيير له صلة بمدينة القدس سوى أن حاكم القدس وكان يدعى الوالي أصبح بعد سنة 777هـ/ 1376م يدعى النائب أي نائب السلطان وكان هذا يخابر السلطان رأسًا. وبقي الحال هكذا إلى أواخر عهد الملك الصالح حاجي بن شعبان 783هـ/ 1381م وهو آخر من حكم من دولة المماليك البحرية أو التركمانية.
الملك الأشرف برسباي الظاهري:

حكم في الفترة 825هـ/ 1422م 841هـ / 1437م
وهو من عتقاء الملك الظاهر برقوق وكان يلقب بأي النصر البرسباي الدقماني، وقد بويع بالسلطنة عام 825هـ/ 1422م ودام في الحكم ستة عشر سنة، وأقيم في عهده إنشاءات عديدة كان أهمها على الإطلاق بناء وتشييد المدارس في المدينة المقدسة منها:
1- المدرسة الباسطية:
وهي تقع شمالي الحرم بالقرب من باب شرف الأنبياء (باب العتم) ويلاصق بعضها المدرسة الدوادارية من جهة الشمال الشرقي. وواقفها هو القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيوش المنصورة وعزيز المملكة.
أول من اختط أساس المدرسة وقصد عمارتها شيخ الإسلام شمس الدين محمد الهروي شيخ المدرسة الصلاحية وناظر الحرمين الشريفين، إلا أنه توفي قبل إتمام عمارتها فعمرها القاضي زين الدين عبد الباسط المذكور ووقفها على الصوفية سنة 434هـ/ 1431م وهي لا تزال عامرة حتى يومنا هذا حيث يشغل جزء منها دارًا للسكن والجزء الآخر يؤلف مع المدرسة الدوادارية المدرسة البكرية للبنين.
2- المدرسة الغادرية:
وكانت تقع في الجهة الشمالية من ساحة الحرمين الشريفين بين باب حطة ومئذنة باب الأسباط. وواقفها هو الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بعد أن عمرتها زوجته (مصر خاتوم) سنة 836هـ/ 1433م وقد وصفها الشيخ عبد الغني النابلسي في أواخر القرن الحادي عشر قائلاً: ثم توجهنا ودخلنا المدرسة الغادرية فوجدناها عظيمة البناء واسعة الفناء مشتملة على أشجار الورد ولها الرونق واليها بين المدارس كالعلم الفرد) أما اليوم فقد استحالت المدرسة إلى خرابة.
3- المدرسة الحسنية:
وهي آخر المدارس في الجهة الشمالية من ساحة الحرم، وتقع عند باب الأسباط بالضبط وحدثنا مجير الدين الحنبلي عنها قائلاً: إنه لم يتحقق من أمرها ولكنه أُخْبر أن واقفها هو شاهين الطوشي من دولة الملك الناصر حسن المتوفى سنة 762هـ.
ويقول فيها د. كامل العسلي: الظاهر أن الإجراءات الخاصة بوقف هذه المدرسة لم تتم لأن الواقف توفي قبل ذلك ولهذا فإنها لم تصبح مدرسة بالفعل فصارت دار سكن، وأصبح ريعها يستوفى لجهة أوقاف المسجد الأقصى. وبذلك يكون بناؤها حوالي العام 760هـ.
4- المدرسة العثمانية:
وهي واقعة على يسار الخارج من الحرم من باب المطهرة (باب المتوضأ قديمًا) وكانت المدرسة العثمانية من المدارس الهامة في القدس، ويظهر ذلك من أسماء الذين تولوا التدريس فيها، وأكثرها من كبار علماء الحنفية في القدس منهم: الشيخ الإمام سراج بن مسافر بن يحيى عالم الحنفية بالقدس الشريف. وهو رومي الأصلي وقدم إلى مدينة القدس سنة 828هـ. والشيخ سراج الدين عمر بن أبي اللطف المفتي بالديار المقدسية سنة 990هـ. والشيخ جار الله بن أبي بكر بن محمد المعروف بابن أبي اللطف مفتي الحنفية بالقدس، وقد توفي سنة 1028هـ.
واقف المدرسة العثمانية هي امرأة من أكابر الروم واسمها أصفهان شاه خاتون، وتدعى خانم، وقد عينت لها أوقافًا كثيرة ببلاد الشام وغيرها من البلاد وقد توفيت الخاتون بالقدس ودفنت بالتربة المجاورة لسور المسجد الأقصى الشريف. وعلى مدخل المدرسة نقش يفيد بأن بناء المدرسة كان سنة 840هـ/ 1437م والمدرسة اليوم هي دار للسكن وتعرف بدار الفتياني حيث يسكنها جماعة من آل الفتياني.
وفي عهد الملك الأشرف برسباي تم وضع مصحف كبير تجاه محراب المسجد الأقصى، ووقف على هذا المصحف مالاً لمن يقوم بالقراءة فيه. ومالاً لخادم يسهر على سلامته من التلف. كما اشترى الأمير أركاس الجلباني نائب السلطان بالقدس ضياعًا للوقف على مصالح المسجد الأقصى والصخرة المشرفة، وقد نُقش بذلك على رخامة الصقت بحائط الصخرة. كما تم تجديد سبيل علاء الدين البصيري والكائن غربي الحرم سنة 839هـ/ 1435.
القدس في عهد المماليك الشراكسة

المماليك الشراكسة أو الأبراج، وأصلهم من بلاد القفقاس وبلاد الشراكس وقد استقدمهم الملوك العرب وأكثر من استخدامهم العباسيون والأيوبيون والمماليك البحرية، وفي عهد السلطان المنصور قلاوون التركي كثر عددهم حتى وصل إلى 3700 محارب، وكانوا يسكنون في أبراج قلعة القاهرة فعرفوا بالبرجية.
امتد نفوذ الدولة الشركسية ومقرها القاهرة إلى جميع المناطق التي كانت بحوزة الدولة المملوكية السابقة، ومنها مصر وبلاد النوبة وسورية الطبيعية ومناطق كليكيا وجبال طوروس الوسطى ومدائن صالح والحجاز حتى عسير من شبه الجزيرة العربية. وكان لفلسطين شأن خاص عند السلاطين الشراكسة لقدسيتها وموقعها الهام، وكانت نيابة القدس من المناصب التي يتنافس عليها كبار القادة والأمراء.
بلغ عدد السلاطين الشراكسة 24 سلطانًا، أولهم الملك الظاهر سيف الدين برقوق وآخرهم الملك الأشرف طومان باي وقد حكم خمسة منهم 89 سنة من أصل 135 سنة دامت فيها دولتهم وهؤلاء هم: الظاهر برقوق، والأشرف برسبابي، والظاهر جقمق، والأشرف قايباتي، والظاهر قانصو الغوري.
كان تنصيب السلاطين يتم بانتخاب أكثر المرشحين كفاية وكان يعاونهم في الحكم مجلس سلطنة يتألف من كبار القادة والأمراء ويسمى أعضاؤه أصحاب السيف وهم الذي ينتخبون السلطان ويبايعونه، ثم يبارك البيعة الخليفة العباسي وقضاة المذاهب الأربعة، وبذلك لم يكن هناك مكان للحكم الوراثي في عهدهم كما كان الحال عند المماليك الأتراك.
القدس في عهد الملك الظاهر سيف الدين برقوق 784هـ/ 1382م 815هـ/ 1412م:

يعد الملك الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية، وهو من موالي بني قلاوون وتمكن من القضاء على دولة المماليك البحرية وتولى الحكم عام 784هـ/ 1382م وأقره الخليفة العباسي المتوكل على الله، ويذكر مجير الدين الحنبلي أنه تولى الحكم مرتين ودام حكمه سبعة عشر عامًا.
زار الملك الظاهر مدينة القدس وأبطل المكوس والمظالم والرسوم التي أحدثت من قبله في مدينة القدس كما رد الأمير شهاب الدين أحمد اليغموري ناظر الحرمين الشريفين ونائب السلطنة بالقدس والخليل إلى القدس الشريف كما أقيمت في عهده بعض المنشآت الهامة نذكر منها:
1- خان السلطان:
وهو أشهر خانات القدس على الإطلاق، وقد عرف أيضًا بدار الوكالة ويقع الخان قرب طريق باب السلسلة، ويتوصل إليه من زقاق قصير يمتد من طريق باب السلسلة إلى جهة الشمال، وهو قريب من سوق الخواجات (أي التجار) الذي يقع غربي الخان. والخان عبارة عن مبنى مؤلف من طابقين وله ساحة كبيرة نسبيًا وهي محاطة بالحواصل والدكاكين والعنابر، وهذه كلها تقع في الطابق الأول.
أما في الطابق الأرضي للخان، فيوجد قاعات كبيرة تقوم على دعامات مربعة، وكان هذا الطابق يستعمل لتخزين البضائع ولإجراء المعاملات التجارية إلا أن مبنى هذا الخان حاليًا في وضع مهمل بعد أن كان فخمًا في قديم الزمان.
وفي الجهة الغربية من الزقاق المؤدي إلى هذا الخان، توجد لوحة من الرخام مكتوب عليها بالخط النسخي المملوكي: بسم الله الرحمن الرحيم، جدد هذه القيسارية المباركة وقف حرم القدس الشريف مولانا السلطان الظاهر أبو سعيد برقوق خلد الله ملكه. بنيابة مولانا ملك الأمراء كافل المماليك بالشام عز الله أنصاره أنشأه الفقير إلى الله تعالى السيفي أصبغا بن بلاط ناظر الحرمين الشريفين في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة.
2- بركة السلطان:
وهي تقع مقابل جبل صهيون إلى جهة الغرب، وتعتبر أكبر برك القدس مساحة إذ يبلغ طولها 170مترًا وعرضها 80 مترًا ومساحتها حوالي 14 ألف متر مربع.
من خلال الدراسات التي نشرت عن المواقع والآثارات المقدسية تدل على أن البركة قديمة جدًا وأنها كانت موجودة منذ أن دمر تيطس الروماني المدينة سنة 70م، وقد جرى تعميرها عدة مرات إحداها كان في سنة 801هـ/ 1398م أي في عهد الملك الظاهر برقوق.
3- دكة المؤذنين:
في عهده أيضًا تم تجديد دكة المؤذنين الكائنة داخل قبة الصخرة تجاه المحراب ويظهر أن هذه الدكة قديمة البناء وقد نقش عليها: بسم الله الرحمن الرحيم جددت هذه السدة المباركة بالصخرة الشريفة في أيام مولانا السلطان الظاهر ابن سعيد برقوق.. تاريخ مستهل شوال 789هـ/ 1387م.
4- مسطبة الظاهر: وهي الكائنة أمام باب الغوانمة وتم تعميرها سنة 795هـ/ 1393م وبوفاة الملك الظاهر برقوق تسلطن ولده الملك الناصر فرج.
الملك الناصر فرج بن برقوق: حكم في الفترة 803هـ/ 1400م 808هـ/ 1405م وحكم في الفترة 808هـ/ 1405م 815هـ/ 1412م.
تولى الملك الناصر فرج والمعروف بأبي السعادات زين الدين الحكم مرتين، وعلى الرغم مما اشتهر به في التاريخ من سوء السيرة إلا أنه في عام 815هـ/ 1412م قام بزيارة لمدينة القدس ونزل بالمدرسة التنكزية، ووزع على الناس خمسة آلاف دينار وعشرين ألف فضة، وهو مبلغ كبير بالنسبة لمقاييس ذلك العصر. ومن جملة الأمور التي نظمها في مدينة القدس أن لا يكون نائب القدس هو نفسه ناظر الحرمين الشريفين.
وبعد وفاة الملك الناصر فرج تسلطن العديد من المماليك البرجية إلا أنه لم يحدث في القدس أية حوادث تستحق الذكر إلى أن تسلطن الملك الأشرف برسباي.
الملك الأشرف قايتباي الظاهري: حكم في الفترة 872هـ/ 1467م 902هـ/ 1497م:

وهو من مماليك السلطان الأشرف برسباي ثم انتقل إلى خدمة السلطان الظاهر جقمق فأعتقه، وقد بويع بالسلطنة بحضرة أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر العباسي وكان يلقب بخادم الحرمين الشريفين: المسجد الأقصى ومسجد الخليل، وقد دام في الحكم قرابة ثلاثين عامًا، وكان يحب مدينة القدس كثيرًا وله فيها أصدقاء وذلك لقضائه فيها زهاء خمسة أعوام منفيًا ومغضوبًا عليه من السلطان قبل توليه السلطنة.
ولقد شهدت المدينة المقدسة في عهده عدة حوادث هامة كانت لها انعكاسات واضحة وهامة على الحياة الاجتماعية والحضارية لسكان المدينة نذكر أهمها:
الحادثة الأولى: حدثنا مجير الدين الحنبلي في كتابه الأنس الجليل: أن الملك الأشرف قايتباي عندما تسلطن أمر بالإفراج المقيمين بالقدس في زمن السلطان الظاهر خوشقدم، وهم بيبرس خال العزيز وبيبرس الطويل وجابي بك المشد وغيرهم ثم عاد فاعتقلهم.
الثانية: في سنة 873هـ/ 1468م وقع خلال بين برديك التاجي ناظر الحرمين ودمرداش العثماني نائب السلطنة بالقدس، وسرى الخلاف إلى السكان في المدينة فانشطروا إلى قسمين، قسم يؤيد هذا وآخر يؤيد ذاك، ونتيجة لاختلاف رجال الحكم اختل الأمن في المدينة وكثرت السرقات وانتشر قطاع الطرق في مختلف المناطق.
الثالثة: في سنة 874هـ/ 1469م نزل بالقدس بأمر من السلطان أحد الخزاندارية بالخدمة الشريفة الأمير ناصر الدين محمد النشاشيبي لإصلاح ما اختل من نظام أوقاف الحرمين فنظر في صالح الأوقاف وعمّر المسجد الأقصى.
الرابعة: في سنة 875هـ استقر الأمير ناصر الدين محمد النشاشيبي في نظارة الحرمين بالقدس والخليل. وكان دخوله إلى القدس الشريف في يوم الجمعة 18 محرم وكان يومًا مشهودًا فقرئ توقيعه بعد صلاة الجمعة، وأوقد المسجد في تلك الليلة، وشرع في عمارة الأوقاف بعفة وشهامة، وكان يكثر من مجالسه العلماء والفقهاء ويحسن إليهم.
وفي سنة 877هـ شرع الأمير ناصر الدين النشاشيبي في عمارة الدرجة المتوصل منها إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة المجاورة للقبة النحوية، وكان قبلها درجة ضيقة عليها قبو معقود وكان يسمى زقاق البؤس، فسده وبنا فوقه درجة جديدة وعمل لها قناطر على عُمد كبقية الأدراج التي بالصخرة. وحصل بها ابتهاج لكونها تقابل باب السلسلة وهو عمدة أبواب الحرم.
كما عمّر الأمير ناصر الدين المسجد الأقصى وصرف المعاليم وباشر تدبير الأمور حتى صلح منها ما فسد في زمن برديك التاجي، وتقدمت أحوال بيت المقدس إلى الخير وتباشر الناس بالفرج بعد الشدة.
الخامسة: في سنة 878هـ/ 1473م حدثت فتنة في مدينة القدس بدأت بخلاف وقع بين جماعتين قاطعتين بالقدس، جماعة الدارية وجماعة الأكراد، ثم تطور هذا الخلاف إلى قتال نتج عنه مقتل ثمانية عشر نفرًا من الفريقين، ولم ينته الخلاف عند هذا الحد بل استنفرت كل من الجماعتين من ينتصر لها من عشائر البدو، فأغاروا على المدينة وعملوا فيها نهبًا وتخريبًا، ويصف الحنبلي ما حصل من جراء هذه الغارة بقوله: فدخلوا إلى المدينة ونهبوا ما فيها عن آخره إلا القليل منها وخربت أماكن وكانت حادثة فاحشة لم يسمع مثلها في هذه الأزمنة.
السادسة: في سنة 880هـ/ 1475م زار السلطان الأشرف قايتباي الظاهري مدينة القدس، وعلى الرغم من أن زيارته للمدينة لم تتجاوز الثلاثة أيام فقد أزال ما كان في مدينتي القدس والخليل من مظالم وتصدق فيها بستة آلاف دينار.
السابعة: في سنة 885هـ/ 1480م حصلت بالقدس فتنة، كان سببها أنه في هذه السنة أراد نائب القدس ناصر الدين بن أيوب أن يضع حدًا لغارات البدو والعشائر على المدينة، فقبض على جماعة من بني زيد وقتلهم، غير أن هذا الإجراء من قبل نائب القدس لم يكن رادعًا للبدو كما كان متوقعًا، بل أدى إلى ثورة بني زيد للانتقام، فهجم عدد كبير منهم على المدينة وراحوا يضيقون الخناق على النائب لقتله، ولما علم النائب ناصر الدين بن أيوب بما يجري في المدينة فرّ من منزله إلا أنه وجد نفسه محاطًا بالقوم ولم ينج إلا بعد أن اجتاز المسجد الأقصى وهو راكب حصانه إلى خارج المدينة، ولما فشلوا في الانتقام منه توجهوا إلى السجن وكسروا بابه وأخرجوا المسجونين منه، ثم تفرقوا في الشوارع والأسواق للنهب والسلب، ويقول مجير الدين الحنبلي واصفًا الوضع على ما كان عليه (شرع العرب في قطع الطرق وإيذاء الناس، وحصل الإرجاف في الناس وأغلقت الأسواق والمنازل خشية النهب وكانت فتنة فاحشة).
ومن المنشآت الهامة التي أقيمت في المدينة المقدسة في عهده نذكر منها:
1- الرباط الزمني:
في سنة 881هـ/ 1476م أسس الخواجكي شمس الدين محمد بن الزمن أحد خواص الملك الأشرف قايتباي هذا الرباط الكائن على يمين الخارج من الحرم من باب المطهرة (المتوطأ قديمًا) تجاه المدرسة العثمانية وهو فوق الإيوان الذي بباب القطانين وبابه من داخل الحرم، ودار الرباط تابعة لدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس.
2- مدرسة الأشرفية:
في سنة 885هـ/ 1480م أمر الملك الأشرف قايتباي بتعمير المدرسة المعروفة باسمه (الأشرفية) والكائنة على ميسرة الداخل إلى الحرم عند باب السلسلة وقد بناها في الأصل الأمير حسن الظاهري باسم الملك الظاهر خوشقدم سنة 875هـ/ 1470م ولكنه لم يتم بناءها إذ توفي الملك الظاهر فقدمها الأمير حسن إلى الملك الأشرف قايتباي فنسبت إليه وسماها الأشرفية.
ولهذه المدرسة شهرة خاصة بين مدارس القدس لكونها أفخم مدراس القدس بناءً، فقد وصفها مجير الدين الحنبلي بقوله: كانوا يقولون قديمًا مسجد بيت المقدس به جوهرتان هما قبة الجامع الأقصى وقبة الصخرة الشريفة. فقلت: وهذه المدرسة صارت جوهرة ثالثة فإنها من العجائب في حسن المنظر ولطف الهيئة.
والواقع أن هذه المدرسة بنيت ثم هدمت ثم بنيت مرة ثانية، فقد قيل أنها بنيت لأول مرة حوالي سنة 870هـ وبانيها هو الأمير حسن الظاهري ناظر الحرمين الشريفين ونسبها للملك الظاهر خوشقدم، وقد أنفق الأمير الظاهري على المدرسة من ماله الخاص وافتتحت للتدريس لأول مرة في سنة 877هـ، واستمر التدريس فيها لفترة ربما حتى عام 880هـ، وفي تلك السنة زار السلطان قايتباي القدس ولم تعجبه المدرسة فأمر بهدمها وتوسيعها، وفي سنة 885هـ هُدم البناء القديم وبدأ العمل في حفر أساس المدرسة الجديدة، وفي سنة 886هـ سير السلطان إلى القدس الشريف من القاهرة جماعة من المعماريين والمهندسين والحجارين لعمارة مدرسته، وكان المتولي لذلك القاضي فخر الدين بن نسيبة الخزرجي وفرغ من بناء المدرسة سنة 887هـ فجاء البناء الجديد للمدرسة آية في الفخامة والبهاء فاقت كل ما سبقه وما تلاه من مدارس القدس.
كانت المدرسة تتألف من طابقين ولها مدخل جميل مصنوع من الأحجار الملونة يعقبه دركاة.. وكان التدريس في الطابق العلوي، حيث كان هناك أربعة أواوين متقابلة أكبرها الإيوان القبلي والذي كان بصدره محراب.. وكانت معظم أحجار المدرسة من الرخام ووضع على ظاهرها الرصاص المحكم كظاهر المسجد الأقصى، وفي أيامنا هذه لم يبق من المدرسة الأشرفية إلا بقايا قليلة فقد هدمت أجزاء كثيرة منها بسبب طول العهد والزلازل والإهمال.
3- سبيل قايتباي:
في عام 887هـ/ 1482م أمر السلطان الأشرف قايتباي ببناء السبيل المعروف بسبيل قايتباي، الذي يقع في الساحة الكائنة بين باب السلسلة وباب القطانين وعلى بعد خمسين مترًا من جدار الحرم الغربي بين درج صحن الشجرة الغربي الأوسط والمدرسة العثمانية (دار الفتياني) وهو يقوم على مسطبة مكشوفة وفيها محراب في الزاوية الشمالية الغربية من المصطبة.
4- مأذنة الجامع العمري:
أمر السلطان قايتباي في ذات العام 887هـ/ 1482م ببناء مأذنة الجامع العمري المعروف اليوم بجامع عمر بجوار كنيسة القيامة.
في عهد السلطان الأشرف قايتباي تقلب على نيابة بيت المقدس عدد من النواب الذين ساءت سيرتهم وكثر ظلمهم للناس، ومنهم النائب السيفي خضر بك الذي كان ظالمًا للناس ومصادرًا لأموالهم وسفاكًا لدمائهم، فساءت سيرته كثيرًا وكثر المشتكون منه للسلطة، فأمر الأمير تغري ورمش دوادار المقر السيفي بالتحقق من أفعاله وجرى التحقيق في عام 892هـ/ 1486م عند المحراب في داخل المسجد الأقصى ثم بالمدرسة الأشرفية والمدرسة العثمانية ودام التحقيق عشرة أيام، ومن ثم رفع الدوادار تقريره إلى السلطان الذي استحضره إلى مصر وضربه وأمره برد كافة ما أخذه من الناس، ثم أقاله من عمله وسجنه.
بعد أن أقيل خضر بك من نيابة السلطنة بالقدس تولاها الأمير دقماق سنة 893هـ/ 1487م ولم يكن هذا بأفضل من سابقه، فقد كان ظالمًا عسوفًا وكثرت السرقات وحوادث القتل في عهده، كما اختل نظام المسجد الأقصى فرفع الناس شكواهم إلى السلطان، فأرسل خاصكيا اسمه (أزيك) إلى مدينة القدس بقصد التحقيق، وبعد التحقيق أمر الخاصكي بكف يد النائب عن العمل ورفع تقريره إلى السلطان، إلا أن التقرير وقع في يد الدوادار الكبير وكان من أنصار النائب فلم يصل التقرير إلى السلطان، ولم يقر الدوادار الخالصكي في عمله بل عنفه من أجل توقيفه النائب عن عمله، فعاد الأمير دقماق إلى عمله وراح ينتقم من الناس أشد انتقام، إلا أن المقدسيين ثابروا على رفع شكواهم ضد النائب إلى المقامات العليا حتى أقيل النائب من منصبه سنة 896هـ/ 1490م.






توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 12 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في عهد المماليك
محمد أبو مليح *



من أكثر الأمور التي تؤكد على أن مكانة القدس العالية هي عند المسلمين كافة .. فترة حكم المماليك، فالمماليك من المعروف عنهم أنهم من أجناس شتى، وأمم متفرقة مختلفة العادات والتقاليد، ومع ذلك نجدهم قد اهتموا بالقدس اهتمامهم بالحرم الشريف في مكة، ومع ذلك فإن جهود المماليك، وما أدوا للمسلمين بشكل عام وللقدس بشكل خاص لا تزال مجهولة لكثير من الناس، ولذا كانت هذه الصفحات كإسهام في توضيح ما بذله هؤلاء العظام من جهود تخدم المسلمين والمسجد الأقصى، لعل ذلك يرد لهم بعض الجميل، وفي هذه الصفحات توقفنا عند بعض المحطات التاريخية، والتي تخص المماليك بشكل عام ثم عرجنا على ما بذلوه من جهود في خدمة المسجد الأقصى، وهي كالتالي:
نبذة تاريخية عن المماليك
موقف المماليك من القدس
القدس في عهد الظاهر بيبرس مؤسس سلطان المماليك
القدس في عهد عائلة الناصر قلاوون
الملك الأشرف برسياي والقدس
القدس في عهد المماليك الشراكسة
القدس في عهد الظاهر برقوق
الملك الأشرف قايتباي والقدس
__________
نبذة تاريخية عن المماليك

المماليك هم طائفة من الأرقاء أو ممن كانوا يؤسرون في الحروب أو يستدعون للخدمة في الجيش وكانوا خليطًا من الأتراك والشراكسة وغيرهم من الأجناس.
يرجع ظهور المماليك في العالم الإسلامي إلى ما قبل قيام دولتهم بمصر بأمد طويل، وكان أول من استخدمهم الخليفة العباسى المأمون خلال فترة حكمه الممتدة بين السنوات 198هـ/ 813م 218هـ/ 833م، إذ كان في بلاطه بعض المماليك المعتقين ثم الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي استخدم فرقًا من الشباب االأتراك في جيشه لتدعيم سلطانه وذلك لقلة ثقته بالعرب ومن ثم أخذ بمبدأ استخدام المماليك ولاة مصر من الطولونيين والإخشيديين والفاطميين ثم الأيوبيين الذين أكثروا من شراء المماليك الترك وألفوا منهم فرقًا عسكرية خاصة.
ولعل اسمهم (المماليك) الذي ينبئ بالعبودية ويستخدم للتعريف بهم والإشارة إلى عهدهم لا يعطي صورة حقيقية لهم، ولا يدل على دورهم الكبير في القضاء على بقايا الفرنجة الصليبيين والوقوف في وجه التتار، ولا يُعرف بدورهم الحضاري الظاهر، حيث يعتبر قيام دولة سلاطين المماليك في منتصف القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي بداية مرحلة جديدة لها طابعها الخاص في تاريخ مصر والشام والذي يتصف بالأمن والاستقرار والثراء والازدهار، خصوصًا بعد سيطرة التتار الوثنيين على بغداد وسقوط الخلافة العباسية فيها، كما أخذت دولة المسلمين في الأندلس في ذلك الوقت بالانحسار سياسيًا وحضاريًا بعد أن اشتدت عليها وطأة الفرنجة.
أحس المماليك منذ البداية أنهم محرجون بسبب أصلهم غير الحر، فضلاً عن أنهم ظهروا على المسرح السياسي في صورة من استولوا على الحكم من سادتهم بني أيوب، لذلك سلك المماليك ثلاثة اتجاهات لمحو هذه الصورة عن الأذهان، والتي تركت كلها آثارًا إيجابية ومباشرة في الأوضاع العامة لمدينة القدس بشكل خاص، وهذه الاتجاهات هي:
1- اتخذ المماليك الجهاد أداة لإثبات جدارتهم بالحكم ولحماية المقدسات الإسلامية، مما أدى إلى ثبات الأمن والاستقرار في ظل حكمهم.
2- بإحياء المماليك للخلافة العباسية في القاهرة، أضفوا على الحكم صفة الشرعية، وذلك بوصفهم مفوضين بحكم المسلمين من قبل الخلافة العباسية وهي أعلى سلطة شرعية في البلاد.
3- استغل المماليك جزءًا كبيرًا من ثرواتهم الضخمة في العناية بالمنشآت الدينية في الأماكن المقدسة وخصوصًا في مدينة القدس، مما زاد من مكانة هذه المدينة المقدسة في عصرهم لدى المسلمين ويقسم العهد المملوكي إلى قسمين:
أولاً: عهد المماليك الأتراك أو المماليك البحرية:
وهم من جند الملك الصالح نجم الدين الأيوبي ويسمون المماليك البحرية لأن الصالح أسكنهم ثكنات في جزيرة الروضة في بحر النيل.
ثانيًا: عهد المماليك الشراكسة أو المماليك البرجية:
وهم من جند السلطان المنصور قلاوون المملوكي التركي، وكانوا يسكنون في أبراج القلعة في القاهرة فعرفوا بالبرجية.
موقف المماليك البحرية من القدس

على إثر تولي الملك عز الدين أيبك عرش مصر 648هـ/ 1250م 656هـ/ 1258 انفصلت الشام عن مصر واستقل بحكمها الأمراء الأيوبيون، فراح الفريقان يقتتلان إلى أن تم الصلح بين الفريقين سنة 651هـ/ 1253م وبموجب هذا الصلح دخلت مدينة القدس تحت الحكم المملوكي لكن السلطان عز الدين أيبك قُتل بمكيدة دبرتها زوجته شجرة الدر، فخلفه ابنه الصغير نور الدين علي.
وفي عهد السلطان سيف الدين قطز 607هـ / 1259م 658هـ / 1260م اجتاحت جحافل التتار بلاد الشام من شمالها إلى جنوبها وشاء الله أن ينقذ بيت المقدس من همجيتهم وكان واضحًا أن حملتهم الأولى على بلاد الشام عبرت في جوهرها عن هجمة صليبية شرسة خطط لها ملك أرمينية الصغرى هيثوم الأول مع هولاكو، وطلب الأخير من حليفه أن يلتقي به عند الرها ليرافقه إلى مدينة القدس ليخلص الأراضي المقدسة من قبضة المسلمين ويسلمها للمسيحيين.
بعد استيلاء التتار على دمشق وتدميرها سنة 658هـ/ 1260م قرروا التفرغ لمواجهة خطر المماليك في مصر، فأرسل هولاكو إلى السلطان قطز طالبًا منه التسليم، جمع قطز الأمراء واتفقوا جميعًا على محاربة التتار وإعلان التعبئة العامة.
سيّر قطز الجيوش المؤلفة من العرب والأتراك ونزل مدينة غزة، ثم سار بمحاذاة الساحل إلى أن التقى الجمعان عند عين جالوت في 25 رمضان سنة 658هـ/ 1260م وتولى السلطان قطز بنفسه قيادة الجيش ومعه الأمير ركن الدين بيبرس، وانتهت المعركة بنصر حاسم للمماليك على التتار الذين قتل قائدهم كتبغا وانهزم جيشهم شر هزيمة، فكانت تلك المعركة فاصلة في تاريخ الشرق مما أنقذ بيت المقدس والشام كلها من براثن التتار، كما ترتب على تلك المعركة امتداد سيطرة المماليك على بلاد الشام وانحسار النفوذ الأيوبي عنها، وهكذا عادت وحدة مصر والشام في ظل حكومة مركزية قوية مما أشاع قدرًا من الاستقرار لأول مرة في بلاد الشام بوجه عام، وفي بيت المقدس بوجه خاص.
بعد انتهاء المعركة الحاسمة وبينما كان قطز في طريق عودته إلى مصر انحرف مع بعض أصحابه للصيد فقتله بعض خواصه، وقيل إن الظاهر بيبرس البندقداري قتله بيده ومن ثم استولى على الملك من بعده.
ولقد اهتم بعد ذلك كل من السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس والسلطان المنتصر سيف الدين قلاوون وكذلك أبناؤه أيما اهتمام بالقضية، وكانت نهاية الصليبيين على يد الأشرف خليل بن قلاوون والذي أخرج آخر جندي صليبي في الشرق الإسلامي.
القدس في عهد الظاهر بيبرس مؤسس سلطان المماليك:

كان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس 658هـ / 1260 676هـ / 1277م في خاصة خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم أعتقه وارتقى حتى أصبح أتابك أي قائد العساكر بمصر في أيام قطز، وتولى سلطنة مصر والشام من بعده.
يعد الظاهر بيبرس أول المماليك العظماء، ومؤسس سلطانهم الحقيقي وتستند عظمته إلى الحملات الموفقة التي جردها على الصليبيين ومهدت السبيل للانتصارات التي جناها حلفاؤه من بعده، حيث قضى على مملكة أنطاكية الصليبية عام 666هـ / 1268م واستولى على كثير من مواقع الصليبيين وقلاعهم، وفتح قيسارية وصفد وهونين وتبنين والرملة وقلعة شقيف كما هاجم مدينتي صور وعكا أكثر من مرة حتى سعى إليه الفرنجة ليعقدوا معه الصلح، فوافق على عقد هدنة معهم مدتها عشر سنين وعشرة أشهر وعشر ساعات تبدأ من 21 رمضان من عام 670هـ / 1272م.
وإلى جانب المآثر الحربية اهتم الظاهر بيبرس بتجديد الخلافة العباسية في القاهرة لإعطاء الصفة الشرعية لسلطتهم الوليدة، فكان بيبرس أول من تلقب ب قسيم أمير المؤمنين من قبل الخليفة وهذا اللقب أجل الألقاب.
كما اهتم الظاهر بيبرس بتعمير البلاد التي دخلت في حوزته وبتدبير شئونها كما أولى مدينة القدس عناية كبيرة لما لها من مكانة خاصة ومقدسة لدى المسلمين جميعًا، وتمثل ركيزة دينية هامة من الجانب الديني في سياسته.
ومن أهم التعميرات التي تمت في عهده في المدينة المقدسة نذكر منها:
1- عمارة قبة الصخرة المشرفة:
في سنة 659هـ / 1260م جهز الظاهر بيبرس الأموال والآلات والصناع لعمارة قبة الصخرة التي كانت قد تداعت للسقوط.
2- تجديد قبة السلسلة وزخرفتها:
وهي القبة الموجودة داخل الحرم القدسي الشريف وتم ذلك في سنة 659هـ / 1260م.
3- رباط البصير:
وهو من العمائر ذات الصبغة الدينية المهمة التي أقيمت في عهد السلطان الظاهر بيبرس في مدينة القدس، وقد عمره الأمير علاء الدين ايدغيدي البصير ووقف عليه أوقافًا كثيرة سنة 666هـ / 1267م كما أقام الأمير علاء الدين أبنية أخرى منها المطهرة بجانب المسجد الأقصى، وكذلك بلط صحن الصخرة المشرفة.
وقد قام الظاهر بيبرس بزيارة مدينة القدس عدة مرات، كانت على التوالي:
الزيارة الأولى: تمت في عام 661 هـ / 1262 م وهو في طريق عودته من الشام إلى مصر فكان أول من زار المدينة من سلاطين المماليك فاطلع على أحوالها ونظم أوقافها ثم أمر بترميم المسجد الأقصى وخصص له في كل سنة خمسة آلاف درهم.
الزيارة الثانية: وقد تمت في سنة 662 هـ / 1263م أمر خلالها بإنشاء خان السبيل ولما تم بناء الخان نقل إليه باب قصر من قصور الفاطميين معروف بالقاهرة باسم قصر باب العيد. وبنى بالخان مسجد وطاحونة وفرن ولما تم بناء هذا الخان أوقف عليه أوقافًا عدة على أن يصرف ريع هذه الأوقاف على من يرد هذا الخان من المسافرين المشاة للإنفاق عليهم في خبزهم وإصلاح نعالهم وغير ذلك.
الزيارة الثالثة: تمت في سنة 664 هـ / 1265م .
الزيارة الرابعة: وهي الزيارة الأخيرة التي قام بها الظاهر بيبرس للقدس، وتمت في عام 668 هـ / 1270م وجدد خلالها الفصوص التي على الرخام في مسجد الصخرة المشرفة كما أمر في نفس السنة بوضع الدرابزين حول الصخرة المشرفة وعمل فيها منبرًا وسقفه بالذهب.
وفي سنة 676 هـ / 1277 م توفي الملك الظاهر بيبرس في دمشق بعد أن ملك مصر والشام سبع عشرة سنة وشهرين، وتولى المُلك من بعده ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد ثم ابنه الثاني الملك العادل بدر الدين سلامش ولم يذكر التاريخ أنهما قاما بعمل في القدس وقد ترك المُلك كلاهما خلعًا.
القدس وعائلة قلاوون

كان أول من تولى السلطنة من أبناء قلاوون هو السلطان المنصور سيف الدين قلاوون 679هـ/ 1280م 689هـ/1290م، وكان يلقب بالصالحي الألفي، وقد برز في أواخر عهد الأيوبيين وخلع ابن الظاهر بيبرس سلامش وبويع بالسلطنة كان على ما وصفه المؤرخون فارسًا شجاعًا لا يحب سفك الدماء واهتم بجمع المماليك من كل جنس، وفي أيامه عرفت جماعة المماليك البرجية.
اهتم الملك المنصور قلاوون بمدينة القدس كثيرًا وأقام فيها أعمالاً عمرانية تدل على اهتمامه بها نذكر منها:
1- الرباط المنصوري:
ويقع في الجهة الجنوبية من طريق باب الناظر المؤدي إلى الحرم القدسي، قبالة رباط علاء الدين البصير، وقد أمر ببنائه السلطان قلاوون سنة 681هـ / 1288م وأوقفه على الفقراء وزوار بيت المقدس.
والرباط المنصوري من المؤسسات السلطانية القليلة التي بنيت خارج الحرم، لأن السلاطين كانوا يقيمون منشآتهم داخل الحرم نفسه، وقد أشرف على بنائه علاء الدين ايدغدي بعد بناء رباطه.
2- المسجد القلندري:
في عهد السلطان قلاوون وتحديدًا في سنة 686هـ / 1287م جددت عمارة هذا المسجد، وهو واقع على طريق دير اللاتين في الناحية الجنوبية من المدينة المقدسة ولم يبق منه اليوم إلا الاسم.
وقد زار السلطان قلاوون فلسطين أكثر من مرة ونزل في مدينة القدس سنة 682هـ/ 1283م وأقال نائبها عماد الدين بن أبي القاسم وأقام مكانه نجم الدين السونجي.
وبعد أن توفي السلطان قلاوون تولى ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، ثم ابنه الثاني السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري المعروف بالصغير، وبعد مقتل الملك المظفر المنصور لاجين تولى الملك للمرة الثانية الملك الناصر محمد بن قلاوون ثم تسلطن الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، ثم عاود للمُلك الناصر محمد بن قلاوون للمرة الثالثة.
الملك الناصر محمد بن قلاوون:

تولى الملك الناصر محمد حكم السلطنة ثلاث مرات:
الأولى: دامت حوالي ثلاث سنوات في الفترة 693هـ/ 1294م 696هـ/ 1296م.
الثانية: وكانت مدتها حوالي عشر سنوات في الفترة 698هـ/ 1298م 708هـ/ 1308م.
الثالثة: وهي الأخيرة وقد دامت أكثر من ثلاثين سنة امتدت في الفترة 709هـ/ 1309م 741هـ/ 1341م.
وهكذا امتاز عهد الملك الناصر محمد بدوراته الثلاث، والذي دام قرابة خمسة وأربعين عامًا والذي عُرف بأنه أطول عهود السلاطين المماليك.
وفي عهده بلغت المناوشات بين المماليك والتتار أشدها، إذ استولت قوات غازان التتاري على دمشق، واجتاحت منطقة الأغوار ونهبت مدينتي القدس والكرك ومن ثم انتهت هزيمة التتار في مرج الصفر جنوب دمشق.
ولقد اشتهر عهد الناصر محمد بإنشاء الأبنية الكثيرة والمآثر الحضارية المختلفة فشهدت المدينة المقدسة على يده ويد نائبه بالشام الأمير تنكز حركة عمرانية لا مثيل لها في كامل العهد المملوكي ومن هذه المنشآت التي قامت في القدس في عهده:
1- رباط الكرد:
ويقع في الجانب الشمالي من طريق باب الحديد تجاه المدرسة الأرغوانية، وملاصقًا لسور الحرم وعلى يمين الخارج منه من هذا الباب وقد أنشأه المقر السيفي كُرد صاحب الديار المصرية سنة 693هـ/ 1293م وكان السيفي كُرد من مماليك السلطان قلاوون، وقد أسس رباطه في القدس عندما كان ساقي السلطان ويسكن رباط الكرد الآن جماعة من آل الشهابي وهو يعرف بهم.
2- المدرسة الدويدارية (الدوادارية):
وتقع هذه المدرسة على يمين الخارج من الحرم القدسي الشريف من باب العتم أو كما كان يسمى قديمًا بباب شرف الأنبياء، والذي أطلق عليه أيضًا اسم باب الدويدارية نسبة إلى هذه المدرسة الكائنة شرقي هذا الباب.
أما تسميتها بالمدرسة الدوادارية فترجع إلى منشئها وواقفها الأمير علم الدين أبو موسى سنجر الدوادار الصالحي النجمي، الذي أوقف عليها أوقافًا كثيرة في مناطق متعددة في فلسطين وكانت عمارتها في سنة 695هـ/ 1295م.
المدرسة الدوادارية هي وقف إسلامي، كانت في السابق خانقاة للصوفية من العرب والعجم وكانت تدعي بدار الصالحي، وهي ما تزال مدرسة حتى يومنا هذا، ويشغلها حاليًا المدرسة البكرية الابتدائية للذكور.
3- التربة الأوحدية:
وتقع على ميسرة الخارج من الحرم من باب حطة، وواقفها هو الملك الأوحد نجم الدين يوسف بن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم عيسى سنة 697هـ/1298م.
4- المدرسة السلامية (الموصلية):
وتقع خارج الجهة الشمالية للحرم وإلى الشمال من المدرسة الدودارية بباب العتم أو باب شرف الأنبياء، وواجهتها الرئيسية على الجانب الشرقي من طريق باب العتم المعروف بطريق المجاهدين والمؤدي إلى باب سور القدس المعروف بباب الأسباط.
والمدرسة عبارة عن بناية ضخمة وفيها بوابة تمتاز بروعة جمالها وتعولها المقرنصات وعلى جانبي قوس البوابة النقش التالي: لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.
كلف بناء هذه المدرسة أموالاً طائلة وواقف المدرسة هو الخواجا مجد الدين أبو الفدا إسماعيل السلامي وكان تاجرًا كبيرًا في القاهرة، وتاريخ المبنى والوقوف غير معروف بوجه الدقة، ويقول مجبر الدين الحنبلي أنها وقفت بعد السبعمائة للهجرة.
5- زاوية المغاربة:
وهي تقع بأعلى حارة المغاربة في الجهة الغربية خارج الحرم، وواقفها هو الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد النبي المغربي المصمودي المجرد، وقد عمر الزاوية وأنشأها من ماله ووقفها على الفقراء والمساكين في سنة 703هـ/ 1303م وأوقاف هذه الزاوية كانت تشمل على حوانيت في سوق القصاص وجسر الليمون وفرن موجود بحارة المغاربة وطاحونة قرب المنطقة ذاتها بالإضافة إلى بيت في حارة الشرف.
وفي سنة 1967 قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية باستملاك هذه الزاوية وهدمتها.
6- التربة الجالقية:
وتعرف اليوم بدار الخالدي. وموقعها بالزاوية الشمالية الغربية عند ملتقى طريق الواد بطريق باب السلسلة. وواقفها هو ركن الدين بيبرس بن عبد الله الصالحي النجمي المعروف بالجالق ومعناه الحصان القوي الشديد المراس وكان من جملة الأمراء بالشام وقد توفي في الرملة سنة 707هـ/ 1307م ودفن في ترتبه بالقدس.
7- جامع قلعة القدس:
بُني الجامع بداخل القلعة عند زاويتها القبلية الغربية، وقد كتب على عتبة بابه العليا أن الجامع أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 710هـ/ 1310م.
8- التربة السعدية:
وتقع بطريق باب السلسلة تجاه المدرسة التنكزية بالقرب من باب الحرم الرئيسي المعروف بباب السلسلة لجهة الغرب، وواقفها هو الأمير سعد الدين مسعود بن بدر سنقر عبد الله الروحي الحاجب بالشام في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 711هـ/ 1311م.
9- المدرسة الكريمية:
تقع في منطقة باب حطة شمالي الحرم، وعلى يمين الخارج من الحرم من الباب مباشرة وواقفها هو كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله بن مكانس ناظر الخواص الشريفة بالديار المصرية، أي أنه كان من أصحاب السلطة والنفوذ في دولة السلطان الناصر محمد وكان ذلك في سنة 718هـ/ 1319م.
10- المدرسة التنكزية:
وهي من المدارس الشهيرة في القدس، وتقع على يمين الداخل إلى الحرم الشريف من باب السلسلة وهو باب الحرم الرئيسي، ومبناها متقن البناء ولا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، ولقد وصف مجير الدين الحنبلي هذه المدرسة قائلاً: هي مدرسة عظيمة ليس في المدارس أتقن من بنائها، وهي بخط باب السلسلة، ولها مجمع راكب على الأروقة الغربية للمسجد.
أما واجهة المدرسة الشمالية فهي تطل على ساحة صغيرة بباب السلسلة وواجهتها الشرقية تطل على رواق الحرم، والواجهة الجنوبية تشرف على حائط البراق، والواجهة الغربية تطل على المباني المجاورة لها.
عمّر هذه المدرسة سيف الدين تنكز نائب السلطنة بالشام، وكان من أشهر نواب السلاطين الذين حكموا الشام في عصر المماليك وكان ذلك سنة 729هـ/ 1328م ويقول د. كامل العسلي: يتضح من الوقفية أن الصرح الذي شيده سيف الدين تنكز كان في الواقع مجمعًا مؤلفًا من عدة أجنحة، وكان البناء يشتمل على مدرسة وخانقاة للصوفية ودار حديث ورباط للعجائز من النساء، وكانت المدرسة تشغل الطابق الأرضي، أما الخانقاة فكانت كما هو ظاهر فوق رواق الحرم الملاصق لمبنى المدرسة وكان في علو المدرسة أحد عشر بيتًا للصوفية، وكان هناك فوق سطح المدرسة بيت كبير مخصص لرباط النساء في المدرسة.
11- تعميرات في المسجد الأقصى:
من الآثار التي تمت على يد الأمير تنكز نائب السلطنة في الشام، الرخام المبني في الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى عند المحراب لجهة الشرق، كما بنى أيضًا الحائط الغربي للمسجد الأقصى.
كما تم في عهده بناء أروقة في ساحة الحرم القدسي، وهي محكمة البناء وممتدة من جهة القبلة إلى جهة الشمال، وأولها عند باب الحرم المعروف بباب المغاربة وآخرها عند باب الغوانمة وكلها عمرت في عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون في فترات مختلفة، وعلى النحو التالي:
أ- الرواق الممتد من باب الناظر إلى قرب باب الغوانمة، عمّر سنة 707هـ/ 1307م.
ب- الرواق الممتد من باب المغاربة إلى باب السلسلة، عمّر سنة 713هـ/ 1313م.
ج- الرواق الممتد مما يلي منارة باب السلسلة إلى قرب باب الناظر، وقد عمّر سنة 737هـ/ 1337م.
12- قناة السبيل:
وهي القناة الواصلة من منطقة العروب إلى مدينة القدس، وقد أمر بتجديدها الأمير تنكز، فابتدأ عمارتها سنة 727هـ/ 1326م، ووصلت إلى القدس ودخلت الحرم الشريف سنة 728هـ/ 1327م.
13- المدرسة الأمنية:
وتقع على الجانب الغربي من الطريق المؤدي إلى باب الحرم المعروف بباب شرف الأنبياء. ومبناها الذي لا يزال قائمًا وهو مؤلف من طابقين، وقد كانت المدرسة في الطابق الأرضي، أما الطابق العلوي فقد بني جزء منه فوق رواق الحرم وجزء آخر فوق باب العتم الدوادارية.
كان شيخ هذه المدرسة يعين بتوقيع من نائب السلطنة في دمشق، وواقفها هو الصاحب أمين الدين عبد الله في سنة 730هـ/ 1329م.
والمدرسة الأمينية اليوم عامرة ومسكونة من قبل آل الإمام، فقد كانت هذه المدرسة وقفًا لهذه العائلة المقدسية منذ عدة قرون، وقد سكنها أفراد هذه العائلة لعدة أجيال متعاقبة.
14- الخانقاة الفخرية:
وهي بداخل سور الحرم في أقصى الجنوب الغربي منه، وبابها عند الباب الذي يخرج منه المارة إلى حارة المغاربة، وواقفها هو القاضي فخر الدين أبو عبد الله محمد بن فضل الله ناظر الجيوش الإسلامية، وكانت وفاته سنة 732هـ/ 1331م.
كانت في البداية مدرسة ثم أصبحت خانقاة للصوفية، وفيها مسجد وأماكن لإقامة الأذكار وأماكن أخرى خاصة لتهجد الصوفيين. وقد هدمتها السلطات الإسرائيلية سنة 1969.
15- سوق القطانين:
يبلغ طول هذا السوق 100متر وعرضه 10 أمتار، وعلى جانبيه دكاكين، وكانت عند إنشائها سنة 737هـ/ 1336م معدة لبيع جميع أنواع الأقمشة والبضائع التي كانت تحملها القوافل التجارية من الهند إلى القدس عن طريق بُصرى وبغداد والموصل، ولكن أهمية هذا السوق تضاءلت عند اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح سنة 1497م ومن ثم أهمل هذا السوق تمامًا في أواخر العهد العثماني.
16- المدرسة الملكية (المالكية):
وهي تقع في الجهة الشمالية من الحرم ومجاورة للمدرسة الأسعردية من جهة الشرق، وقد ذكرها مجير الدين الحنبلي قائلاً: عمّرها الحاج الجواكندار وكان بناؤها في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون في مستهل محرم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وأما الوقف عليها فإنه من زوجته ملك بنت السيفي قلطقتم الناصري. وتاريخ وقفها في السادس عشر من ربيع الآخر من سنة خمس وأربعين وسبعمائة والظاهر أن زوجها عمرها لها من مالها والله أعلم.
أما د. كامل العسلي فقد قال فيها: يبدو أن المدرسة المالكية كانت تعرف قديمًا باسم القبة، فالسجل 602 من سجلات الأراضي في استنبول يذكر وقف المدرسة المالكية المعروفة بالقبة، وتاريخ سجل محضر الوقف في سنة 770هـ والمدرسة المالكية أصبحت في وقتنا الحاضر كمعظم المدارس دارًا للسكن، ويسكنها هذه الأيام جماعة من آل الخطيب، وفي المدرسة ضريح السيدة ملك السابق ذكرها.
17- خان تنكز:
ويقع في الجهة الجنوبية من سوق القطانين، والمرجح أن الباني لهذا الخان هو الأمير تنكز نائب الشام وقام ببنائه عندما بنى سوق القطانين وفي نفس العام 737هـ.
18- بناء حمام:
وهو واقع على يمين الداخل إلى سوق القطانين من طريق الواد ويعرف اليوم بحمام العين.
هذا وقد قام الملك الناصر محمد بزيارة لمدينة القدس الشريف وقد ذكرها ابن تغري بردي قائلاً: بدأ زيارته في يوم الخميس رابع جمادى الأولى سنة 717هـ/ 1317م وقد سار معه خمسون أميرًا وناظر الخواص كريم الدين الكبير، وفخر الدين ناظر الجيش، وكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه لزيارة القدس، فقام بزيارة معالم المدينة ثم زار الكرك، وعاد إلى الديار المصرية وكانت غيبته أربعين يومًا.
ويبدو أن مدينة القدس على الرغم من قدسيتها، كانت تعتبر يومئذ منفى للذين يحل عليهم غضب السلطان، فقد حدثنا تغري بردي عن ذلك أيضًا قائلاً: إن بعض الأمراء وشوا عند السلطان محمد بن قلاوون بمماليكه الذين يناوئنهم السلطة والنفوذ فقام السلطان بنفيهم إلى مدينة القدس.
بعد وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده، ولم يأت واحد منهم بأي عمل يذكر لا في مدينة القدس ولا في غيرها من البلدان، إذ ما كان يأتي الواحد منهم إلى المُلك حتى يقوم أخوه عليه أو أحد أقاربه فيقتله أو يخلعه عن العرش وينتزع السلطة من يده وكذلك كان الوضع على أيام المماليك الذين تسلطنوا من بعدهم، لم يحدث أي تغيير له صلة بمدينة القدس سوى أن حاكم القدس وكان يدعى الوالي أصبح بعد سنة 777هـ/ 1376م يدعى النائب أي نائب السلطان وكان هذا يخابر السلطان رأسًا. وبقي الحال هكذا إلى أواخر عهد الملك الصالح حاجي بن شعبان 783هـ/ 1381م وهو آخر من حكم من دولة المماليك البحرية أو التركمانية.
الملك الأشرف برسباي الظاهري:

حكم في الفترة 825هـ/ 1422م 841هـ / 1437م
وهو من عتقاء الملك الظاهر برقوق وكان يلقب بأي النصر البرسباي الدقماني، وقد بويع بالسلطنة عام 825هـ/ 1422م ودام في الحكم ستة عشر سنة، وأقيم في عهده إنشاءات عديدة كان أهمها على الإطلاق بناء وتشييد المدارس في المدينة المقدسة منها:
1- المدرسة الباسطية:
وهي تقع شمالي الحرم بالقرب من باب شرف الأنبياء (باب العتم) ويلاصق بعضها المدرسة الدوادارية من جهة الشمال الشرقي. وواقفها هو القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيوش المنصورة وعزيز المملكة.
أول من اختط أساس المدرسة وقصد عمارتها شيخ الإسلام شمس الدين محمد الهروي شيخ المدرسة الصلاحية وناظر الحرمين الشريفين، إلا أنه توفي قبل إتمام عمارتها فعمرها القاضي زين الدين عبد الباسط المذكور ووقفها على الصوفية سنة 434هـ/ 1431م وهي لا تزال عامرة حتى يومنا هذا حيث يشغل جزء منها دارًا للسكن والجزء الآخر يؤلف مع المدرسة الدوادارية المدرسة البكرية للبنين.
2- المدرسة الغادرية:
وكانت تقع في الجهة الشمالية من ساحة الحرمين الشريفين بين باب حطة ومئذنة باب الأسباط. وواقفها هو الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بعد أن عمرتها زوجته (مصر خاتوم) سنة 836هـ/ 1433م وقد وصفها الشيخ عبد الغني النابلسي في أواخر القرن الحادي عشر قائلاً: ثم توجهنا ودخلنا المدرسة الغادرية فوجدناها عظيمة البناء واسعة الفناء مشتملة على أشجار الورد ولها الرونق واليها بين المدارس كالعلم الفرد) أما اليوم فقد استحالت المدرسة إلى خرابة.
3- المدرسة الحسنية:
وهي آخر المدارس في الجهة الشمالية من ساحة الحرم، وتقع عند باب الأسباط بالضبط وحدثنا مجير الدين الحنبلي عنها قائلاً: إنه لم يتحقق من أمرها ولكنه أُخْبر أن واقفها هو شاهين الطوشي من دولة الملك الناصر حسن المتوفى سنة 762هـ.
ويقول فيها د. كامل العسلي: الظاهر أن الإجراءات الخاصة بوقف هذه المدرسة لم تتم لأن الواقف توفي قبل ذلك ولهذا فإنها لم تصبح مدرسة بالفعل فصارت دار سكن، وأصبح ريعها يستوفى لجهة أوقاف المسجد الأقصى. وبذلك يكون بناؤها حوالي العام 760هـ.
4- المدرسة العثمانية:
وهي واقعة على يسار الخارج من الحرم من باب المطهرة (باب المتوضأ قديمًا) وكانت المدرسة العثمانية من المدارس الهامة في القدس، ويظهر ذلك من أسماء الذين تولوا التدريس فيها، وأكثرها من كبار علماء الحنفية في القدس منهم: الشيخ الإمام سراج بن مسافر بن يحيى عالم الحنفية بالقدس الشريف. وهو رومي الأصلي وقدم إلى مدينة القدس سنة 828هـ. والشيخ سراج الدين عمر بن أبي اللطف المفتي بالديار المقدسية سنة 990هـ. والشيخ جار الله بن أبي بكر بن محمد المعروف بابن أبي اللطف مفتي الحنفية بالقدس، وقد توفي سنة 1028هـ.
واقف المدرسة العثمانية هي امرأة من أكابر الروم واسمها أصفهان شاه خاتون، وتدعى خانم، وقد عينت لها أوقافًا كثيرة ببلاد الشام وغيرها من البلاد وقد توفيت الخاتون بالقدس ودفنت بالتربة المجاورة لسور المسجد الأقصى الشريف. وعلى مدخل المدرسة نقش يفيد بأن بناء المدرسة كان سنة 840هـ/ 1437م والمدرسة اليوم هي دار للسكن وتعرف بدار الفتياني حيث يسكنها جماعة من آل الفتياني.
وفي عهد الملك الأشرف برسباي تم وضع مصحف كبير تجاه محراب المسجد الأقصى، ووقف على هذا المصحف مالاً لمن يقوم بالقراءة فيه. ومالاً لخادم يسهر على سلامته من التلف. كما اشترى الأمير أركاس الجلباني نائب السلطان بالقدس ضياعًا للوقف على مصالح المسجد الأقصى والصخرة المشرفة، وقد نُقش بذلك على رخامة الصقت بحائط الصخرة. كما تم تجديد سبيل علاء الدين البصيري والكائن غربي الحرم سنة 839هـ/ 1435.
القدس في عهد المماليك الشراكسة

المماليك الشراكسة أو الأبراج، وأصلهم من بلاد القفقاس وبلاد الشراكس وقد استقدمهم الملوك العرب وأكثر من استخدامهم العباسيون والأيوبيون والمماليك البحرية، وفي عهد السلطان المنصور قلاوون التركي كثر عددهم حتى وصل إلى 3700 محارب، وكانوا يسكنون في أبراج قلعة القاهرة فعرفوا بالبرجية.
امتد نفوذ الدولة الشركسية ومقرها القاهرة إلى جميع المناطق التي كانت بحوزة الدولة المملوكية السابقة، ومنها مصر وبلاد النوبة وسورية الطبيعية ومناطق كليكيا وجبال طوروس الوسطى ومدائن صالح والحجاز حتى عسير من شبه الجزيرة العربية. وكان لفلسطين شأن خاص عند السلاطين الشراكسة لقدسيتها وموقعها الهام، وكانت نيابة القدس من المناصب التي يتنافس عليها كبار القادة والأمراء.
بلغ عدد السلاطين الشراكسة 24 سلطانًا، أولهم الملك الظاهر سيف الدين برقوق وآخرهم الملك الأشرف طومان باي وقد حكم خمسة منهم 89 سنة من أصل 135 سنة دامت فيها دولتهم وهؤلاء هم: الظاهر برقوق، والأشرف برسبابي، والظاهر جقمق، والأشرف قايباتي، والظاهر قانصو الغوري.
كان تنصيب السلاطين يتم بانتخاب أكثر المرشحين كفاية وكان يعاونهم في الحكم مجلس سلطنة يتألف من كبار القادة والأمراء ويسمى أعضاؤه أصحاب السيف وهم الذي ينتخبون السلطان ويبايعونه، ثم يبارك البيعة الخليفة العباسي وقضاة المذاهب الأربعة، وبذلك لم يكن هناك مكان للحكم الوراثي في عهدهم كما كان الحال عند المماليك الأتراك.
القدس في عهد الملك الظاهر سيف الدين برقوق 784هـ/ 1382م 815هـ/ 1412م:

يعد الملك الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية، وهو من موالي بني قلاوون وتمكن من القضاء على دولة المماليك البحرية وتولى الحكم عام 784هـ/ 1382م وأقره الخليفة العباسي المتوكل على الله، ويذكر مجير الدين الحنبلي أنه تولى الحكم مرتين ودام حكمه سبعة عشر عامًا.
زار الملك الظاهر مدينة القدس وأبطل المكوس والمظالم والرسوم التي أحدثت من قبله في مدينة القدس كما رد الأمير شهاب الدين أحمد اليغموري ناظر الحرمين الشريفين ونائب السلطنة بالقدس والخليل إلى القدس الشريف كما أقيمت في عهده بعض المنشآت الهامة نذكر منها:
1- خان السلطان:
وهو أشهر خانات القدس على الإطلاق، وقد عرف أيضًا بدار الوكالة ويقع الخان قرب طريق باب السلسلة، ويتوصل إليه من زقاق قصير يمتد من طريق باب السلسلة إلى جهة الشمال، وهو قريب من سوق الخواجات (أي التجار) الذي يقع غربي الخان. والخان عبارة عن مبنى مؤلف من طابقين وله ساحة كبيرة نسبيًا وهي محاطة بالحواصل والدكاكين والعنابر، وهذه كلها تقع في الطابق الأول.
أما في الطابق الأرضي للخان، فيوجد قاعات كبيرة تقوم على دعامات مربعة، وكان هذا الطابق يستعمل لتخزين البضائع ولإجراء المعاملات التجارية إلا أن مبنى هذا الخان حاليًا في وضع مهمل بعد أن كان فخمًا في قديم الزمان.
وفي الجهة الغربية من الزقاق المؤدي إلى هذا الخان، توجد لوحة من الرخام مكتوب عليها بالخط النسخي المملوكي: بسم الله الرحمن الرحيم، جدد هذه القيسارية المباركة وقف حرم القدس الشريف مولانا السلطان الظاهر أبو سعيد برقوق خلد الله ملكه. بنيابة مولانا ملك الأمراء كافل المماليك بالشام عز الله أنصاره أنشأه الفقير إلى الله تعالى السيفي أصبغا بن بلاط ناظر الحرمين الشريفين في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة.
2- بركة السلطان:
وهي تقع مقابل جبل صهيون إلى جهة الغرب، وتعتبر أكبر برك القدس مساحة إذ يبلغ طولها 170مترًا وعرضها 80 مترًا ومساحتها حوالي 14 ألف متر مربع.
من خلال الدراسات التي نشرت عن المواقع والآثارات المقدسية تدل على أن البركة قديمة جدًا وأنها كانت موجودة منذ أن دمر تيطس الروماني المدينة سنة 70م، وقد جرى تعميرها عدة مرات إحداها كان في سنة 801هـ/ 1398م أي في عهد الملك الظاهر برقوق.
3- دكة المؤذنين:
في عهده أيضًا تم تجديد دكة المؤذنين الكائنة داخل قبة الصخرة تجاه المحراب ويظهر أن هذه الدكة قديمة البناء وقد نقش عليها: بسم الله الرحمن الرحيم جددت هذه السدة المباركة بالصخرة الشريفة في أيام مولانا السلطان الظاهر ابن سعيد برقوق.. تاريخ مستهل شوال 789هـ/ 1387م.
4- مسطبة الظاهر: وهي الكائنة أمام باب الغوانمة وتم تعميرها سنة 795هـ/ 1393م وبوفاة الملك الظاهر برقوق تسلطن ولده الملك الناصر فرج.
الملك الناصر فرج بن برقوق: حكم في الفترة 803هـ/ 1400م 808هـ/ 1405م وحكم في الفترة 808هـ/ 1405م 815هـ/ 1412م.
تولى الملك الناصر فرج والمعروف بأبي السعادات زين الدين الحكم مرتين، وعلى الرغم مما اشتهر به في التاريخ من سوء السيرة إلا أنه في عام 815هـ/ 1412م قام بزيارة لمدينة القدس ونزل بالمدرسة التنكزية، ووزع على الناس خمسة آلاف دينار وعشرين ألف فضة، وهو مبلغ كبير بالنسبة لمقاييس ذلك العصر. ومن جملة الأمور التي نظمها في مدينة القدس أن لا يكون نائب القدس هو نفسه ناظر الحرمين الشريفين.
وبعد وفاة الملك الناصر فرج تسلطن العديد من المماليك البرجية إلا أنه لم يحدث في القدس أية حوادث تستحق الذكر إلى أن تسلطن الملك الأشرف برسباي.
الملك الأشرف قايتباي الظاهري: حكم في الفترة 872هـ/ 1467م 902هـ/ 1497م:

وهو من مماليك السلطان الأشرف برسباي ثم انتقل إلى خدمة السلطان الظاهر جقمق فأعتقه، وقد بويع بالسلطنة بحضرة أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر العباسي وكان يلقب بخادم الحرمين الشريفين: المسجد الأقصى ومسجد الخليل، وقد دام في الحكم قرابة ثلاثين عامًا، وكان يحب مدينة القدس كثيرًا وله فيها أصدقاء وذلك لقضائه فيها زهاء خمسة أعوام منفيًا ومغضوبًا عليه من السلطان قبل توليه السلطنة.
ولقد شهدت المدينة المقدسة في عهده عدة حوادث هامة كانت لها انعكاسات واضحة وهامة على الحياة الاجتماعية والحضارية لسكان المدينة نذكر أهمها:
الحادثة الأولى: حدثنا مجير الدين الحنبلي في كتابه الأنس الجليل: أن الملك الأشرف قايتباي عندما تسلطن أمر بالإفراج المقيمين بالقدس في زمن السلطان الظاهر خوشقدم، وهم بيبرس خال العزيز وبيبرس الطويل وجابي بك المشد وغيرهم ثم عاد فاعتقلهم.
الثانية: في سنة 873هـ/ 1468م وقع خلال بين برديك التاجي ناظر الحرمين ودمرداش العثماني نائب السلطنة بالقدس، وسرى الخلاف إلى السكان في المدينة فانشطروا إلى قسمين، قسم يؤيد هذا وآخر يؤيد ذاك، ونتيجة لاختلاف رجال الحكم اختل الأمن في المدينة وكثرت السرقات وانتشر قطاع الطرق في مختلف المناطق.
الثالثة: في سنة 874هـ/ 1469م نزل بالقدس بأمر من السلطان أحد الخزاندارية بالخدمة الشريفة الأمير ناصر الدين محمد النشاشيبي لإصلاح ما اختل من نظام أوقاف الحرمين فنظر في صالح الأوقاف وعمّر المسجد الأقصى.
الرابعة: في سنة 875هـ استقر الأمير ناصر الدين محمد النشاشيبي في نظارة الحرمين بالقدس والخليل. وكان دخوله إلى القدس الشريف في يوم الجمعة 18 محرم وكان يومًا مشهودًا فقرئ توقيعه بعد صلاة الجمعة، وأوقد المسجد في تلك الليلة، وشرع في عمارة الأوقاف بعفة وشهامة، وكان يكثر من مجالسه العلماء والفقهاء ويحسن إليهم.
وفي سنة 877هـ شرع الأمير ناصر الدين النشاشيبي في عمارة الدرجة المتوصل منها إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة المجاورة للقبة النحوية، وكان قبلها درجة ضيقة عليها قبو معقود وكان يسمى زقاق البؤس، فسده وبنا فوقه درجة جديدة وعمل لها قناطر على عُمد كبقية الأدراج التي بالصخرة. وحصل بها ابتهاج لكونها تقابل باب السلسلة وهو عمدة أبواب الحرم.
كما عمّر الأمير ناصر الدين المسجد الأقصى وصرف المعاليم وباشر تدبير الأمور حتى صلح منها ما فسد في زمن برديك التاجي، وتقدمت أحوال بيت المقدس إلى الخير وتباشر الناس بالفرج بعد الشدة.
الخامسة: في سنة 878هـ/ 1473م حدثت فتنة في مدينة القدس بدأت بخلاف وقع بين جماعتين قاطعتين بالقدس، جماعة الدارية وجماعة الأكراد، ثم تطور هذا الخلاف إلى قتال نتج عنه مقتل ثمانية عشر نفرًا من الفريقين، ولم ينته الخلاف عند هذا الحد بل استنفرت كل من الجماعتين من ينتصر لها من عشائر البدو، فأغاروا على المدينة وعملوا فيها نهبًا وتخريبًا، ويصف الحنبلي ما حصل من جراء هذه الغارة بقوله: فدخلوا إلى المدينة ونهبوا ما فيها عن آخره إلا القليل منها وخربت أماكن وكانت حادثة فاحشة لم يسمع مثلها في هذه الأزمنة.
السادسة: في سنة 880هـ/ 1475م زار السلطان الأشرف قايتباي الظاهري مدينة القدس، وعلى الرغم من أن زيارته للمدينة لم تتجاوز الثلاثة أيام فقد أزال ما كان في مدينتي القدس والخليل من مظالم وتصدق فيها بستة آلاف دينار.
السابعة: في سنة 885هـ/ 1480م حصلت بالقدس فتنة، كان سببها أنه في هذه السنة أراد نائب القدس ناصر الدين بن أيوب أن يضع حدًا لغارات البدو والعشائر على المدينة، فقبض على جماعة من بني زيد وقتلهم، غير أن هذا الإجراء من قبل نائب القدس لم يكن رادعًا للبدو كما كان متوقعًا، بل أدى إلى ثورة بني زيد للانتقام، فهجم عدد كبير منهم على المدينة وراحوا يضيقون الخناق على النائب لقتله، ولما علم النائب ناصر الدين بن أيوب بما يجري في المدينة فرّ من منزله إلا أنه وجد نفسه محاطًا بالقوم ولم ينج إلا بعد أن اجتاز المسجد الأقصى وهو راكب حصانه إلى خارج المدينة، ولما فشلوا في الانتقام منه توجهوا إلى السجن وكسروا بابه وأخرجوا المسجونين منه، ثم تفرقوا في الشوارع والأسواق للنهب والسلب، ويقول مجير الدين الحنبلي واصفًا الوضع على ما كان عليه (شرع العرب في قطع الطرق وإيذاء الناس، وحصل الإرجاف في الناس وأغلقت الأسواق والمنازل خشية النهب وكانت فتنة فاحشة).
ومن المنشآت الهامة التي أقيمت في المدينة المقدسة في عهده نذكر منها:
1- الرباط الزمني:
في سنة 881هـ/ 1476م أسس الخواجكي شمس الدين محمد بن الزمن أحد خواص الملك الأشرف قايتباي هذا الرباط الكائن على يمين الخارج من الحرم من باب المطهرة (المتوطأ قديمًا) تجاه المدرسة العثمانية وهو فوق الإيوان الذي بباب القطانين وبابه من داخل الحرم، ودار الرباط تابعة لدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس.
2- مدرسة الأشرفية:
في سنة 885هـ/ 1480م أمر الملك الأشرف قايتباي بتعمير المدرسة المعروفة باسمه (الأشرفية) والكائنة على ميسرة الداخل إلى الحرم عند باب السلسلة وقد بناها في الأصل الأمير حسن الظاهري باسم الملك الظاهر خوشقدم سنة 875هـ/ 1470م ولكنه لم يتم بناءها إذ توفي الملك الظاهر فقدمها الأمير حسن إلى الملك الأشرف قايتباي فنسبت إليه وسماها الأشرفية.
ولهذه المدرسة شهرة خاصة بين مدارس القدس لكونها أفخم مدراس القدس بناءً، فقد وصفها مجير الدين الحنبلي بقوله: كانوا يقولون قديمًا مسجد بيت المقدس به جوهرتان هما قبة الجامع الأقصى وقبة الصخرة الشريفة. فقلت: وهذه المدرسة صارت جوهرة ثالثة فإنها من العجائب في حسن المنظر ولطف الهيئة.
والواقع أن هذه المدرسة بنيت ثم هدمت ثم بنيت مرة ثانية، فقد قيل أنها بنيت لأول مرة حوالي سنة 870هـ وبانيها هو الأمير حسن الظاهري ناظر الحرمين الشريفين ونسبها للملك الظاهر خوشقدم، وقد أنفق الأمير الظاهري على المدرسة من ماله الخاص وافتتحت للتدريس لأول مرة في سنة 877هـ، واستمر التدريس فيها لفترة ربما حتى عام 880هـ، وفي تلك السنة زار السلطان قايتباي القدس ولم تعجبه المدرسة فأمر بهدمها وتوسيعها، وفي سنة 885هـ هُدم البناء القديم وبدأ العمل في حفر أساس المدرسة الجديدة، وفي سنة 886هـ سير السلطان إلى القدس الشريف من القاهرة جماعة من المعماريين والمهندسين والحجارين لعمارة مدرسته، وكان المتولي لذلك القاضي فخر الدين بن نسيبة الخزرجي وفرغ من بناء المدرسة سنة 887هـ فجاء البناء الجديد للمدرسة آية في الفخامة والبهاء فاقت كل ما سبقه وما تلاه من مدارس القدس.
كانت المدرسة تتألف من طابقين ولها مدخل جميل مصنوع من الأحجار الملونة يعقبه دركاة.. وكان التدريس في الطابق العلوي، حيث كان هناك أربعة أواوين متقابلة أكبرها الإيوان القبلي والذي كان بصدره محراب.. وكانت معظم أحجار المدرسة من الرخام ووضع على ظاهرها الرصاص المحكم كظاهر المسجد الأقصى، وفي أيامنا هذه لم يبق من المدرسة الأشرفية إلا بقايا قليلة فقد هدمت أجزاء كثيرة منها بسبب طول العهد والزلازل والإهمال.
3- سبيل قايتباي:
في عام 887هـ/ 1482م أمر السلطان الأشرف قايتباي ببناء السبيل المعروف بسبيل قايتباي، الذي يقع في الساحة الكائنة بين باب السلسلة وباب القطانين وعلى بعد خمسين مترًا من جدار الحرم الغربي بين درج صحن الشجرة الغربي الأوسط والمدرسة العثمانية (دار الفتياني) وهو يقوم على مسطبة مكشوفة وفيها محراب في الزاوية الشمالية الغربية من المصطبة.
4- مأذنة الجامع العمري:
أمر السلطان قايتباي في ذات العام 887هـ/ 1482م ببناء مأذنة الجامع العمري المعروف اليوم بجامع عمر بجوار كنيسة القيامة.
في عهد السلطان الأشرف قايتباي تقلب على نيابة بيت المقدس عدد من النواب الذين ساءت سيرتهم وكثر ظلمهم للناس، ومنهم النائب السيفي خضر بك الذي كان ظالمًا للناس ومصادرًا لأموالهم وسفاكًا لدمائهم، فساءت سيرته كثيرًا وكثر المشتكون منه للسلطة، فأمر الأمير تغري ورمش دوادار المقر السيفي بالتحقق من أفعاله وجرى التحقيق في عام 892هـ/ 1486م عند المحراب في داخل المسجد الأقصى ثم بالمدرسة الأشرفية والمدرسة العثمانية ودام التحقيق عشرة أيام، ومن ثم رفع الدوادار تقريره إلى السلطان الذي استحضره إلى مصر وضربه وأمره برد كافة ما أخذه من الناس، ثم أقاله من عمله وسجنه.
بعد أن أقيل خضر بك من نيابة السلطنة بالقدس تولاها الأمير دقماق سنة 893هـ/ 1487م ولم يكن هذا بأفضل من سابقه، فقد كان ظالمًا عسوفًا وكثرت السرقات وحوادث القتل في عهده، كما اختل نظام المسجد الأقصى فرفع الناس شكواهم إلى السلطان، فأرسل خاصكيا اسمه (أزيك) إلى مدينة القدس بقصد التحقيق، وبعد التحقيق أمر الخاصكي بكف يد النائب عن العمل ورفع تقريره إلى السلطان، إلا أن التقرير وقع في يد الدوادار الكبير وكان من أنصار النائب فلم يصل التقرير إلى السلطان، ولم يقر الدوادار الخالصكي في عمله بل عنفه من أجل توقيفه النائب عن عمله، فعاد الأمير دقماق إلى عمله وراح ينتقم من الناس أشد انتقام، إلا أن المقدسيين ثابروا على رفع شكواهم ضد النائب إلى المقامات العليا حتى أقيل النائب من منصبه سنة 896هـ/ 1490م.






توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 13 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في عهد الخلافة العثمانية
محمد أبو مليح *



من الفترات التي كثر فيها اللغط، وزاد بها الكلام وتأرجحت فيها عقول الناس بين الأخذ والرد فترة العثمانيين، ففي هذا العهد استولى اليهود على القدس وتناثرت الإشاعات عن أن العثمانيين هم السبب في هذا الضياع، واستغل اليهود هذه الشائعات في تنفيذ مخططاتهم القائمة على سياسة”فرق تسد” فدسوا وسط السطور مساوئ العثمانيين ، ومحو محاسنهم، حتى يضمنوا بذلك ألا يبحث المسلمون عن دولتهم وحتى لا يحاولوا أن يعيدوها.
وفي السطورالقادمة نحاول إظهار بعض الحقيقة بهدف إرجاع الحق لأهله. وهذه بعض المحطات التي سوف نتوقف عندها:
إطلالة على دولة الخلافة
القدس في عهد السلطان سليم الأول
القدس في عهد السلطان سليمان القانوني
القدس خلال القرن السابع عشر
القدس خلال القرن الثامن عشر
القدس والدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر:
vالقدس في عهد السلطان عبد المجيد
vالقدس في عهد السلطان عبد العزيز
vالقدس في عهد عبد الحميد الثاني
vنهاية الحكم العثماني لمدينة القدس
__________
إطلالة على دولة الخلافة

يتبع الحديث عن القدس بعد صلاح الدين فترة حكم العثمانيين الذي لا يقل في أهميته عن الحديث عنها في زمن صلاح الدين والمماليك لطولةالمدة التي حكموها إذ ان حكمهم امتد من 922 – 1336 هـ 1516 – 1917م إلى أن احتلها الإنكليز.
وفي عهدهم أصبحت القدس متصرفية متصلة رأسيًا باستنبول بعد صدور قانون الولايات في سنة 1287 هـ 1817 م وأطلق عليها قدس شريف متصرفلغي إدارة مستقلة) وبعد أربع سنين صدر قانون آخر بإنشاء مجالس بلدية في مراكز الولايات والمتصرفات، لكن المجلس البلدي في القدس قبل ذلك كان قد تولى منذ سنة 1863 بعض مسئوليات القاضي وبعض مسئوليات المجلس الاستشاري في إدارة شئون المدينة الداخلية كالنظافة والمياه والأسواق تحت رقابة المتصرف العامة، ويرد ذكر بلدية القدس في تقرير عن مشروع مياهها أرسله القنصل البريطاني إلى السفارة في استانبول ويرجع السبب في هذه المتصرفية إلى أن متصرف القدس أصبح يومها منتخب لمدة أربع سنوات، بموجب نظام صادر بتشكيل البلديات وهذا النظام يسمى نظام الولايات وقد بلغ عدد أعضاء هذا المجلس سنة 1917م ستة أعضاء أربعة من العرب واثنان من اليهود فلم يغير الإنكليز وضع البلدية عما كانت عليه في عهد العثمانيين.
وفي عهد العثمانيين أيضًا حدثت فتن وأوبئة واضطرابات وانتفاضات وانقلابات غيرت معالم القدس، فحدثت الانتفاضة الشعبية سنة 1115 هـ بقيادة محمد بن مصطفى الحسيني نقيب الأشراف بسبب الضرائب الباهظة التي فرضت على السكان الأمر الذي حال دن تنفيذ ذلك إذ عزل حاكمها آنذاك جورجي محمد باشا وعين بدله محمد بن مصطفى مؤقتًا.
وحدثت فتنة كنيسة القيامة سنة 1171 هـ التي ذهب ضحيتها الكثير من الجرحى والقتلى من الروم الأرثوذكس والإفرنج، وانتصر العثمانيون للأرثوذكس وسلموهم جميع الأماكن المسيحية في المدينة.
وظهر وباء خطير فتك بسكان القدس والبلاد المجاورة واستمر لأكثر من ستة أشهر.
وحدثت غزوة نابليون سنة 1213 هـ لمصر ولم يستطع الاقتراب من القدس بعد هزيمته المنكرة في عكا.
وحدث حريق الجزء الغربي لكنيسة القيامة سنة 1223 هـ واتهام الأرمن بتدبيره.
وحدثت الثورة الشعبية ضد والي دمشق سنة 1223هـ بسبب الضرائب التي فرضها على السكان ففجر الفلاحون ثورة عارمة في المنطقة المحيطة بالقدس امتدت إلى داخل القدس نفسها، قاد والي دمشق بنفسه خمسة آلاف جندي لمواجهة الثائرين وانتهى الأمر بأن يدفع الفلاحون الثائرون غرامة كبيرة ولكن ما إن ارتحل الوالي حتى ثار الأهالي فاستولوا على قلعة القدس وأقاموا على حراسة أبواب المدينة حراسة شديدة، ولكن ما لبثت السلطات العثمانية أن أرسلت والي دمشق على رأس ألفي جندي إلى القدس لمفاوضة زعماء القدس الذين رفضوا التزحزح عن موقفهم بأن لا يستقبلوا بين ظهرانيهم أي أجنبي أو غريب (عثماني أو ألباني) لكن ضراوة قصف العثمانيين للمدينة بالمدفعية أجبرت الثائرين على الاستسلام فانتهت الثورة دون سفك دماء.
وحدث سنة 373 هـ مرض الكوليرا في القدس والذي أدى إلى موت ثلاثة آلاف شخص من القدس وحدها دون سائر فلسطين الذين كان عددهم آنذاك عشرين ألف نسمة.
وعن اهتمام العثمانيين بالقدس فقد اهتموا بإعادة تعمير الحرم القدسي الشريف وإصلاحه واهتموا كذلك بإنشاء المراكز والمنشآت الدينية والاقتصادية وخاصة في عهد السلطان سليمان القانوني التي كانت تحيط بالأجزاء العلوية من الجدران الخارجية بالفاشاني المزخرف والأجزاء السفلية بالرخام وكذلك تجديد سور القدس الذي استمر خمس سنوات وأنفقت عليه الأموال الطائلة.
النقود والمسكوكات في العهد التركي:
يظهر أن النقود التي كانت، في بداية الحكم التركي، رائجة بين سكان بيت المقدس هي التي سكت على عهد المماليك، وأن قيمة هذه المسكوكات قد هبط إلى الحضيض مع زوال حكم المماليك. الأمر الذي حدا بالسطان قانوني إلى سك فلوس جديدة سميت باسمه. ويظهر أيضًا أن الناس في بادئ الأمر أقبلوا على التعامل بالفلوس الجديدة وأهملوا القديمة لهبوط قيمتها الأمر الذي أحدث ارتباكًا في الأسواق فراحت جماعة من المسلمين إلى نائب القدس تشكوا أمرها قائلة إنها تضررت من قلة الفلوس الجديدة وتقرر أن تكون الفلوس القديمة المسكوكة كل أربعة بربع. وذلك برضا جماعة السوقة وأحمد بن أبي بكر محتسب القدس الشريف.
وإليك بيان بعض النقود المسكوكات التي سمعنا بها في ذلك العهد: أن أول عملة ضربت في العهد التركي كانت تسمى: أقجة وهى كلمة مغولية الأصل ومعناها: القطعة البيضاء. ضربها علاء الدين باشا أخو السلطان أورخان. وقد اتخذت يومئذ راتبًا يومًا للواحد من الجنود. كانت في البدء تساوي ثلث درهم من الفضة. وفي القول أنها عبارة عن أربعين بارة.
الدرهم: كانت المعاملة، في أوائل العهد التركي بالدرهم وهو من الفضة وكانوا يسمونه 954 هـ – 1547 م الدرهم التركي وجمعه دراهم وكثيرًا ما وردت هذه في الصكوك باسم (الدراهم الفضية العثمانية) وهي من القطع السليمانية.
وسترى فيما يلي من السطور أن كل أربعة دراهم من الفضة كانت تساوي قرشًا واحدًا.
الدينار: هو نوع من النقد يعادل السكة السلطانية مصنوعة من الذهب والدينار عبارة عن أربعين قطعة من الفضة السليمانية.
والدينار الذهب كانوا يسمونه البندقي وقيمته 48 قطعة مصرية. والقرش الصحيح كان في الأصل عبارة عن 32 قطعة مصرية.
ولقد ذكرت (الدنانير الناصرية) ويظهر أنها سكت قبل عهد الأتراك بارة قطعة من النقد التركي صغيرة القيمة لا بل أنها أصغر من نقد آخر أصل الكلمة بارة وهي فراسية ومعناها شقفة أو قطعة أو جزء. وجمعها: بارات والبارة عبارة عن واحد من أربعين من القرش أو أن القرش عبارة عن أربعين بارة.
والبارة كانت متداولة في البلاد العثمانية ولا سيما مصر. ولذلك يقال لها أيضًا مصرية ومن هنا جاء قولهم (معك مصاري) أي دراهم للإنفاق.
(القطعة المصرية تعد قطعتين شاميتين أو قطعتين عثمانيتين أيضًا والقرش الأسدي عبارة عن ثلاثين قطعة مصرية ويظهر أنه كان هناك قرش غير القرش الأسدي. وهذا القرش كانوا يسمونه بالقرش الصحيح وقيمته 32 قطعة مصرية).
لقد جاء في البستان أنه لما كانت البارة عملة في البلاد العثمانية ولا سيما في مصر. فقد سميت أيضًا مصرية. إذًا يجوز القول أن المقصود من القطعة المصرية هو البارة.
(القطعة الشامية) نصف القطعة المصرية. أي أن كل قطعة مصرية تعادل قطعتين شاميتين. ولما كان القرش الأسدي يعادل ثلاثين قطعة مصرية وبالتالي ستين قطعة شامية، وتكون القطعة الشامية عبارة عن جزء من ستين من القرش الأسدي.
ويظهر أن القطعة الشامية والعثمانية واحدة. أي أن كل قطعتين عثمانيتين تعادلان قطعة مصرية.
(السطاني) من النقود السليمانية الواحد منه يعادل 40 قطعة مصرية ولقد قدر القاضي قيمة شيء من الأشياء بثلاثين سلطانيًا قال عنها في قراره أنها تعادل 1200 قطعة مصرية. ولما كان القرش الأسدي يعادل ثلاثين قطعة مصرية فيكون السلطاني معادلاً لقرش وثلث القرش من القروش الأسدية.
(السكة) أو (السكة السلطانية) نوع من العملة ورد ذكرها في المعاملات المدونة في سجلات المحكمة الشرعية خلال القرن العاشر للهجرة (973 هـ – 1565م) ويعتقد أنها من النقود التي سكت في زمن السلطان سليمان القانوني.
منها ما سك من الذهب ويسمونه (الذهب السلطاني) أو (الدينار) ومنها ما سك من الفضة ويسمونها (الفضة السليمانية) أو (القطع السليمانية).
ويظهر أن الدينار أو السكة السلطانية المصنوعة من الذهب كانت تعادل أربعين قطعة من الفضة السليمانية أو مائة بارة.
وأن السكة كانت عبارة عن خمس بارات. وقد تكون هذه هي المصنوعة من معادن أخرى.
(القرش الأسدي) من النقود التي سكها السلاجقة في بر الأناضول، وانتقلت معهم إلى هذه البلاد عندما اكتسحوها قيمة أربعون بارة. وقد سمي كذلك لأن صورة الأسد كانت في البدء مطبوعة عليه. وعلى قول أنه كانت عليه صورة الأسد والشمس معًا. واستعمله الفرس على هذا الشكل كشعار خاص لمملكتهم وظل يسمى القرش الأسدي رغم أن صورة الأسد رفعت عنه مع الزمن.
استعمل فيما مضى أساسًا للمعاملات التجارية ولصرف النقود، ثم انحصر استعماله في بيع الأشياء بالمزاد العلني فقط. وظل رائجًا في هذه البلاد حتى أواخر القرن التاسع عشر. وهناك من يقول أن أول من استعمله هم الأتراك العثمانيون، وأن هؤلاء أخذوه عن العملة الأسدية الهولاندية التي كانت آنئذ رائجة لديهم في الممالك العثمانية. وكانت تضرب بقيمة ثمانية دراهم ونصف وبعد أن استعمله الأتراك العثمانيون صار يسمى (القرش التركي) ويقال له أيضًا (القرش العثماني) و(القرش السلطاني).
والقرش الأسدي: كان خلال القرن السابع عشر الميلادي يعدل ثلاثين قطعة مصرية وقد رأيناه في مواضع أخرى خلال ذلك العصر يساوي ثلاثة فرنكات وفي قول أن القرش السلطاني يساوي 40 قطعة فضية والقرش الأسدي وهو نصفه يساوي 20 قطعة فضية.
ومن هذا يفهم أن كلمة (القرش) سواء كانت من اختراع الأتراك السلوجوقيين أو الأتراك العثمانيين فإنها كلمة تركية أصلها (غرش) ومن أسمائها باللغة التركية أيضًا: (آفجة).
وعلى قول أنها لاتينية الأصل أو ألمانية (جروش) ومهما كان أصلها فإن العرب أخذوها عن الأتراك فعربوها وقالوا (قرشًا) والأتراك ضربوا هذا النوع من النقد في بلادهم لأول مرة على عهد السلطان سليمان الثاني 1099 – 1102 هـ ( 1687 – 1691 م) وهو جزء من المائة من الليرة التركية.
كانت زنة القطعة الواحدة ستة دراهم فضية وقد استعمل القرش منذ قرن ونصف تقريبًا كوحدة للمعاملات المالية والنقدية بقيمة أربعين بارة.
ظلت النقود السليمانية المتقدم ذكرها رائجة في أسواق بيت المقدس حتى زمن السلطان سليم الثالث بن مصطفى الثالث الذي تولى العرش سنة 1203 هـ- 1788 م فقد صدرت الإرادة السنية على عهده بطلب الأواني وجمعها ممن عندهم وإرسالها إلى الضربخانة على أن يعوض صاحبها عن كل مثقال من الذهب بستة قروش ونصف وعن كل أربعة من الفضة بقرش واحد.
ومن النقود التي اشتهرت في ذلك العهد، ولا سيما خلال القرن الثامن عشر للميلاد (الزلطة) وهي بولونية الأصل فالصداق كان 500 زلطة والدار الكائنة باب حطة بيعت بسبع عشرة زلطة والزلطة عبارة عن ثلاثين بارة فضية أي أنها ثلاثة أرباع القرش الأسدي أو خمس ذهبة فندقية.
ولقد سكت بعد ذلك التاريخ نقود ومسكوكات كثيرة أخرى، سميت كل واحدة منها باسم السلطان الذي سكت على عهده ومنها (المحمودية) التي ضربت على عهد السلطان محمود 1808م والمجيدية التي ضربت على عهد السلطان عبد المجيد 1839 م والعزيزية التي ضربت على عهد السلطان عبد العزيز 1860 م والحميدية التي ضربت على عهد السلطان محمد رشاد الخامس 1908.
أما العملة المحمودية فإنها نوعان: (عملة مغشوشة) وهي عبارة عن البشلك قرشان ونصف والوزري خمسة قروش والعشرية متاليك والنوع الثاني عملة ذهبية وهي عبارة عن خيرية ومحمودية.
والحقيقة أن العملة المغشوشة فقط هي التي كانت رائجة في أسواق التجارة. وهي التي كانت الأيدي تتداولها في كل مكان وأما العملة الذهبية فقد كانت تباع وتشترى بقصد الزينة فقط.
ومن هذا نفهم أنه ليست النقود والمسكوكات التركية أو العثمانية فقط، وإنما النقود والمسكوكات الإنكليزية والفرنسية أيضًا حتى والروسية والإيطالية والنمساوية والبلجيكية الفضة منها والذهب كانت رائجة في بيت المقدس 1898 وكذلك قل عن الذهب المصري كان لكل نوع من هذه النقود التركية منها والأجنبية أربع قيم مختلفة وكان يطلق على هذه القيم خالصة ومغشوشة وصاغ وشرك.
أما القيمة الخالصة فإنها قيمة الشيء عندما تدفعها نقدًا ذهبًا كان أو فضة.
وأما القيمة المغشوشة فهي القيمة التي تدفعها بالعملة النحاسية.
وأما القيمة الصاغ فهي القيمة التي تحددها الحكومة وما كان يعمل بها إلا نادرًا وكلمة صاغ تركية معناها: سليم وصحيح أو غير فاسد.
وأما القيمة الشرك فهي القيمة التي تدفعها بالعملة الدارجة أصلها جوروك وهي تركية ومعناها فاسد.
إن القيم الثلاثة الأولى لا تتغير ولا تتبدل وأما القيمة الرابعة فإنها تتغير وتتبدل تبعًا للزمان والمكان وكان على عهد السلطان محمود 1808 نوع من العملة يسمى: القبق وهو خمس نحاسات والنحاسة وهي بارة واحدة والمتاليك وهو عشر نحاسات والقرش وهو أربعة متاليك والمجيدي وهو تسعة عشر قرشًا.
أما المتاليك فقد كان يصنع من النحاس الأحمر، ويطلى بنسبة 10% من الفضة وهو أصغر من النحاسة.. إنه عبارة عن عشر بارات وأما القبق فإنه عبارة عن نصف متاليك أي خمس بارات وكان يصنع من النحاس الأحمر ولكنه لا يطلى بالفضة وهو أكبر من النحاسة، وأما النحاسة فإنها كانت تصنع من النحاس الأحمر وهي أصغر من القبق وللقبق أجزاء هي: النصف والربع والثمن ومن أجزائه المعروفة السحتوت وأما البشلك والوزري فإنهما كانا يصنعان من النحاس ويطليان بماء الفضة وهذا هو السبب في تسمية هذا النوع من العملة بالعملة المغشوشة.
كان البشلك في البدء عبارة عن خمسة قروش أي عشرين متلكيًا ثم انخفضت قيمته إلى النصف أي قرشان ونصف القرش وبعبارة أخرى عشرة متاليك والمتليك عبارة عن عشرة بارات.
وهناك نصف البشلك وهو عبارة عن خمسة متاليك.
إنه أي البشلك هو العملة المغشوشة وقد سميت كذلك لأنها صنعت من النحاس المخلوط بالفضة ونسبة الفضة فيها 10%.
وفي زمن السلطان عبد المجيد ظلت المحمودية المغشوشة سائدة وهي النحاسة والقبق والمتاليك والبشلك والوزري غير أنه أضيف إليها المجيدي وهو مصنوع من الفضة الرباص الصافي والمجيدي كان عبارة عن تسعة عشر قرشًا ثم صار عشرين قرشًا ونصف المجيدي تسعة قروش ونصف وربعه خمسة قروش إلا ربع، والليرة العثمانية الذهب وهي عبارة عن مائة قرش.
وفي زمن السلطان عبد العزيز بقيت العملة المحمودية (أي البشلك والوزري والمتاليك والنحاسة والقبق) وكذلك العملة المجيدية أي المجيدي والنصف مجيدي والربع مجيدي والليرة الذهب من النقود الرابحة.
وكذلك في زمن السلطان عبد الحميد فإن العملة المتقدم ذكرها كلها ظلت سائدة ولم يزد عليها سوى أن المجيدي طبع من جديد وكذلك قل عن الليرة ذهب وقد طبع عليها اسم السلطان عبد الحميد والتاريخ الذي ضربت فيه.
وفي زمن السلطان رشاد ظلت جميع أنواع العملة المتقدم ذكرها سائدة إلا أنه أضيف إليها عملة من نوع النكل وهي عبارة عن:
قرش واحد = 40 بارة
نصف قرش = 20 بارة
ربع قرش = 10 بارات
احتفظ القرش بقيمته الأصلية وقدرته على الشراء مدة من الزمن ولكنه أخذ يميل إلى التدهور في أواخر العهد العثماني فبعد أن كان القرش الواحد في 5 جمادى الأولى سنة 1204 هـ – 1789 م يعادل ثلاثة فرنكات أو أربعة دراهم من الفضة والستة قروش ونصف القرش تعادل مثقالاً من الذهب أصبح القرش لا يعادل أكثر من 25 سانتيما من الفرنك سنة 1837 وصارت الليرة العثمانية تساوي 255 قرشًا والفرنسوية 222 قرشًا والإنكليزية 297 قرشًا وأما المجيدي فقد كانت قيمته 47 قرشًا ونصف القرش.
الناحية الاقتصادية في العهد التركي
إذا أردنا أن نلقي نظرة على الناحية الاقتصادية في العهد التركي 1517 – 1917م فإن علينا أن نرجع إلى السجلات القديمة المحفوظة في المحكمة الشرعية والتي تحدثنا بما فيه من قضايا وعقود وأوامر عن أخبار ذلك العهد أصدق الحديث ومتى رجعنا إلى تلك السجلات وجدنا أن نفقات المعيشة كانت رخيصة في ذلك العهد. ويتبين مبلغ رخصها إذا ما قيست بنفقات العيش في الأعوام التي تلتها وإليك البيان.
كان قاضي المسلمين بالقدس هو الذي يعين أسعار الحاجبات ونقرأ في أحد السجلات أن القاضي حسام الدين بحضور المحتسبين محمد بن داود وعلي بن محمد بن أبي جاموس قرر أن تكن أسعار الحاجيات التالية كما يلي: الزيت الطيب 48 بارة، السمن العناني 65 الدبس البلدي 15 الجبن 24 اللبن 3 الصابون العادي 40 الصابون المشمع 30 الصابون الأصفر 24 اللحم الضاني 15 لحم الماعز 13 اللحم البقري 8 وفي نفس الأمر حديث عن أسعار الزيت، والسكر النبات، والسكر الحموي، والعرق سوس، والفولاذ والحديد والشمع، والسيرج والطحين والخل والمشمش والنشا واللوز والقطين والبرقوق والفقوس والخيار والباذنجان والليمون والخبز والكماج حتى وملح الطعام.
وتقرأ أيضًا في السجل نفسه وفي السنة التي تلتها أن مولانا الأفندي نور الله، بعد استشارة المحتسب موسى بن داود قرر أن يكون سعر الكنافة المخروطة 4 بارات والقطايف 4 والكنافة الصينية 5 والسميد 6 والدقاق 6 والطحين 5 وجرة الطحينية من المعصرة 34 بارة ومن السوق 39 وقنطار العنب بوزن القدس الشريف ماية قطعة فضة سليمانية.
وعندما توفي المدعو جريس بن موسى الراهب الشامي البيطار من سكان القدس في 16 صفر سنة 971هـ – 1563م حصرت تركته بمعرفة القاضي.
وقد قدرت دار الميت الكائنة في حارة النصارى ب 20 سكة. ويظهر أن السكة كانت عبارة عن 100 بارة وفي 6 شوال 973 هـ 1565م عين ثمن المد من الشعير ب6 بارات.
وإنا إذا ما انتقلنا إلى الجيل الذي تلا ذلك الجيل وجدنا أن قنطار العنب الجندلي حددت قيمته بثلاثة غروش 15 رجب 1020هـ – 1211م ومد الدره بغرش واحد 12 شعبان 1042 هـ – 1632 م ومد الحنطة بست قطع مصرية شوال 1066 هـ – 1655م وقنطار الزيت بأربعين غرشًا ذي الحجة 1066 هـ – 1655م.
وأما أثمان الغنم فقد كانت كما يأتي:
ثمن الرأس الواحد من الماعز أو الضأن كان قرشًا أسديًا ونصف القرش فقد ابتاع رجل من رجل آخر 190 رأسًا من الماعز والضأن ب125 قرشًا أسديًا وابتاع آخر 1330 رأسًا منها بألفي قرش أسدي.
وبيعت فرس حمراء عالية كبيشة بثمن جملته من الذهب السلطاني ثمانون سلطانيًا ذهبًا وقطعتان من الفضة السليمانية.
وأما أثمان الأراضي والعقارات في ذلك العهد فقد حدثتنا عنها سجلات المتقدم ذكرها فقالت: إن الخواجا شرف الدين بن المرحوم الخواجا محمد شرف الدين قد اشترى من فخر المحصنات صفية خاتون حصتها وهي السدس أي ستة قراريط من أربعة وعشرين قيراطًا في جميع غراس الزيتون والتين والسفر جل الإسلامي وعدة أصوله تسعة عشر أصلاً الكائن في أرض السمار بظاهر القدس بثمن قدره خمسون غرشًا من الغروش الفضية الرائجة في يومنا هذا.
ولقد بيعت نصف الدار الكائنة بالنبي داود والمؤلفة من طبقتين مع منافعها بثمن جملته تسع وعشرون سلطانيًا.
وبيعت دار كائنة بحارة بني زيد بالقرب من رأس القصيلة وهي مشتملة على بيتين سفليين وإيوان ومطبخ ومرتفق وساحة سماوية بثمن جملته خمسة عشر سلطانيًا ذهبًا قبض البائع منها خمسة سلطانية والباقي مؤجلة إلى سلخ سنة من تاريخه.
وبيع نصف الدار الكائنة في حارة الواد المشتملة على بيتين سفليين وإيوان ودهليز وصهريج وبيت منهدم وشجرتي رمان ولوز بجميع حقوق ذلك وطرقه وجدره ومرافقه ومنافعه بثمن قدره عشرون غرشًا مقبوضة بيد البائع وحكم القاضي بصحة البيع.
وبيع ربع الدار الكائنة بمحله النصارى المشتملة على أربعة بيوت سفلية وسلحة سمايوة وصهريج بثمن قدره عشرون غرشًا أسديًا.
وبيعت في نفس التاريخ دار بباب العمود مؤلفة من طبقتين بثمن قدره ثلاثون غرشًا فضيًا أسديًا.
وبيعت دار بباب حطة وهي تشتمل على غرفتين وإيوان وصهريج ونافع مختلفة بخمسة وسبعين غرشًا وكان ذلك جمادى الأولى سنة 1140 هـ 1727م.
واشترى غطاس وحنا ولدا بشارة بن عظيم الرأي الرومي الحاضر معهما بالمجلس الشرعي جميع الحصة الشائعة وقدرها نصف قيراط من أصل كامل في جميع الدار القائمة البناء بالقدس الشريف بمحله النصارى المشتملة على علو
القدس في عهد السلطان سليم الأول

السلطان سليم الأول هو التاسع من آل عثمان والملقب نياورز ولقد اختلف المؤرخون في وصفه، فمنهم من قال أنه كان كثير البطش ومحبًا لسفك الدماء وشغوفًا بلذاته وسكره، ومن قائل أنه نابغة بني عثمان ورجلاً نافعًا وقديرًا، لكن أكثر الروايات التاريخية تشير بمعظمها إلى قوته وبطشه.
في حياة والده كان السلطان سليم الأول على خلاف شديد مع أخوته قورقود وأحمد من أجل ولاية العهد فقاتل أخويه وقتلهما، وبفضل مساعدة الانكشارية تمكن من خلع أبيه والاستيلاء على كرسي السلطنة وكان ذلك في شهر صفر سنة 918هـ 1512م.
تمكن السلطان سليم الأول من ضم العالم العربي إلى الدولة العثمانية على إثر انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق في 23 آب سنة 1516 م وقتل سلطانهم قنصوه الغوري وإثر انتصاره ذلك تمكن من احتلال مدينة حلب ومن ثم استسلمت له مدن حماه وحمص ولم تلبث طرابلس وصفد ونابلس والقدس وغزة أن ألقت سلاحها ولم تعد إلى أية مقاومة.
حدد يوم دخول العثمانيين إلى مدينة القدس في 28/12/1516م أي في الرابع من ذي الحجة سنة 922هـ وبعد هذا التاريخ بيومين قام السلطان سليم الأول بزيارة خاصة لمدينة القدس، حيث عرج عليها خصيصًا وهو في طريقه إلى مصر.
في مدينة القدس (خرج العلماء والأتقياء عن بكرة أبيهم لملاقاة سليم شاه.. وسلموه مفاتيح المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ثم قدم السلطان الهدايا لأعيان البلد جميعًا وأعفاهم من الضرائب الباهظة وثبتهم في وظائفهم) وقد دامت زيارة السلطان سليم الأول للمدينة المقدمسة يومين وفي 1/1/1517م الموافق الثامن من ذي الحجة سنة 922هـ غادرها مستأنفًا رحلته إلى مصر.
وفي طريق عودته من مصر بعد أن تمكن من فتحها وإقامته بها عشرة أسابيع دبر خلالها شئون البلاد، توقف قليلاً في سوريا لكي يثبت فيها مركزه ويعمل على تنظيم شئونها فعمل على تقسيم بلاد الشام إلى ولايات وأصبحت مدينة القدس تشكل سنجقًا من سناجق ولاية دمشق التي كانت تشمل سناجق دمشق والقدس وغزة وصفد ونابلس وعجلون واللجون وتدمر وصيدا وغيرها وأقام على ولاية دمشق جان بردي الغزالي نائبًا للسلطنة كما استمر على التدابير التي اعتمدها المماليك في تلزيم الضرائب، وجعل المذهب الحنفي المذهب الرسمي في البلاد.
وفي سنة 1518م وأثناء إقامة السلطان سليم الأول بمدينة أدرنة عاصمة ملكه وصل إليه سفير من قبل ملك أسبانيا يسأله أن يبيح للنصارى الحج للقدس الشريف كما كان الحال أيام المماليك وذلك في مقابل دفع المبلغ الذي كان يدفع سنويًا للمماليك فأحسن السلطان مقابلته وصرح بقبوله ذلك إذا أرسل ملكه رسولاً آخر مخولاً بحق إبرام معاهدة مع الباب العالي.
وفي 9 شوال سنة 926هـ/ 1520م توفي السلطان سليم الأول عن عمر يناهز الحادي والخمسين عامًا وقد دام حكمه تسع سنين وأخفى خبر وفاته حتى حضر ولده سليمان من إقليم صاروخان وتبوأ عرش أبيه، وذلك تخوفًا من ثورة الانكشارية.
القدس في عهد السلطان سليمان القانوني

تولى السلطان سليمان الحكم بعد وفاة والده السلطان سليم الأول، وقد اشتهر بلقب القانوني وذلك لما وضعه من الأنظمة الداخلية في كافة فروع الدولة، فأدخل بعض التغييرات في نظام العلماء والمدرسين الذي وضعه السلطان محمد الفاتح وجعل أكبر الوظائف العلمية وظيفة المفتي.
تقدمت الفتوحات العثمانية في عهده تقدمًا عظيمًا ففي الوقت الذي قامت فيه الدولة العثمانية كان الأسبان والبرتغاليون يتلقون الدعم من مختلف دول أوروبا لمقاتلة المسلمين في الأندلس بغية إخراجهم منها تحت الراية الصليبية، فعمد العثمانيون الأتراك إلى محاربة الأوروبيين من جهة الشرق لتخفيف الضغط على المسلمين في الأندلس ولردع الصليبيين وإضعاف هجمتهم على البلاد الإسلامي، فأسفرت تلك الفتوحات عن توسع الدولة العثمانية وبلوغها أوج عزها في عهده.
وبما أن مدينة القدس كانت لها مكانة دينية هامة عند المسلمين عامة وعند بني عثمان بصفة خاصة، فقد أقيمت في المدينة المقدسة خلال سنوات حكم السلطان سليمان القانوني تعميرات ومنشآت كثيرة وعديدة تعد من أهم وأبرز مخلفات العهد العثماني، نذكر منها:
1 الحرم القدسي الشريف:
لقد اهتم السلطان سليمان بالحرم القدسي الشريف اهتمامًا بالغًا وبناء على أوامره تمت التعميرات التالية:
أ- قبة الصخرة المشرفة:
بدأ التعمير في المدينة المقدسة بترميم شامل لقبة الصخرة المشرفة، حيث استبدلت الزخرفة الفسيفسائية التي كانت تكسو الأجزاء العلوية من الجدران الخارجية للقبة بالخزف المزخرف بينما كسيت الأجزاء السفلية بالرخام الجيد، وقد أوجب هذا العمل ما حل بالكسوة الفسيفسائية من تلف وخراب بسبب العوامل الطبيعية وأصبح استبدالها أمرًا ضروريًا لوقاية البناء من نفاذ الرطوبة إلى الجدران، كما جددت نوافذ قبة الصخرة وثلاثة من أبوابها الأربعة.
ب- قبة السلسلة:
وهي تقع شرقي قبة الصخرة المشرفة وعلى بعد بضعة أمتار من بابها المعروف بباب داود وتسمى أيضًا (محكمة داود) وفيها صفان من الأعمدة، الصف الخارجي فيه أحد عشر عمودًا، والصف الداخلي فيه ستة أعمدة.
وقد أجمع المؤرخون أن بانيها هو الخليفة الأموي عبد الله بن مروان وأهميتها ليست من الناحية الدينية وإنما من الناحية الأثرية حيث لها شكل سداسي ولذلك فهي ليست نموذجًا لقبة الصخرة كما يعتقد البعض لأن قبة الصخرة ثمانية الشكل وقد جرى ترميمها عدة مرات كان آخرها في عهد السلطان سليمان حينما أمر بأن تُكسى أيضًا بالخزف المزخرف الجميل.
ج- باب الرحمة:
وهو من أجمل أبواب المدينة المؤدية مباشرة إلى داخل الحرم القدسي، ويعرف أيضًا بالباب الذهبي لجماله ورونقه، وقد أمر السلطان سليمان القانوني بسد هذا الباب في عهده بسبب خرافة سرت بين الناس آنذاك مفادها أن الفرنجة سيعودون ويحتلون مدينة القدس عن طريق هذا الباب.
د- قبة النبي:
وتسمى أيضًا محراب النبي وتقع غربي الصخرة المشرفة إلى الشمال بينها وبين قبة المعراج، وقد تم بناء محراب قبة النبي في سنة 945هـ/ 1538- 1539م وهو محراب مستطيل وجميل الشكل والتكوين وينحصر داخل أعمدة القبة، واسم منشئها محمد بك أحد ولاة القدس.
أما القبة ذاتها فقد تم بناؤها فيما بعد وبالتحديد في سنة 1261هـ/ 1845م أي في عهد السلطان عبد المجيد بن محمود الثاني وهي تتكون من ثمانية أعمدة رخامية لطيفة الشكل، يعلوها ثمانية عقود مدينة تشكل رقبة مثمنة لإقامة القبة عليها، وقد وضع نقشان حجريان كتب أحدهما بالعربية والآخر بالتركية فوق العقدين في الجهة الجنوبية داخل القبة، ويبين النقشان اسم المنشئ وسنة الإنشاء.
2 مأذنة جامع القلعة:
تم بناء هذه المأذنة في الجهة الجنوبية الغربية من القعلة الكائنة عند باب الخليل وذلك في عام 938هـ/ 1531م وهي تتكون من ثلاثة طوابق حجرية، يشكل أولها قاعدة المئذنة المربعة، ويليه الطابق الثاني وهو اسطواني الشكل، ويعلوه الثالث اسطواني الشكل أيضًا لكنه اصغر حجمًا من الطابق الثاني، وفي منتصفه بناء صغير يشكل طاقية المئذنة.
3 سور المدينة وأبوابها:
منذ أن دمر الملك المعظم عيسى الأيوبي أسوار مدينة القدس سنة 1219م ظلت المدينة عمليًا بلا أسوار لمدة تتجاوز الثلاثمائة عام، فأراد السلطان سليمان إعادة بناء سور المدينة لتحقيق هدف مزدوج منه، أحدهما لحماية المدينة من الغزاة الأجانب من جهة، ولحمايتها من غارات العربان من جهة ثانية، فتم بناء السور حول مدينة القدس القديمة، وهو يجري على خط سور مدينة ايليا كبيتولينا القدس التي أعاد بناءها الامبراطور الروماني هدريانوس سنة 135م بعد خرابها الثاني وأطلق عليها هذا الاسم.
استمر بناء السور خمس سنوات (943هـ – 947هـ / 1536 م – 1540م) واقتضى نفقات طائلة وتبين سجلات المحكمة الشرعية في القدس أنه كانت تنظم حملات لتمويل المشروع في مختلف أنحاء فلسطين وذلك لإكمال المخصصات التي كانت ترصدها الحكومة المركزية لهذا المشروع.
والسور الضخم الذي بناه السلطان سليمان القانوني لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، ويبلغ حوالي الميلين ومعدل ارتفاعه أربعين قدمًا، ويبلغ عدد أبراج السور في الوقت الحاضر 34 برجًا وله سبعة أبواب، وتم بناء وتعمير ستة منها في عهد السلطان سليمان وهذه الأبواب هي:
أ- باب العامود:
ويسمى باب دمشق وباب النصر أيضًا، وهو باب رئيسي مشهور من أبواب المدينة المقدسة والمنفذ الرئيسي لها، ويقع في منتصف الحائط الشمالي لسور القدس تقريبًا، وقد أعيد بناؤه في عهد السلطان سليمان في سنة 944هـ / 1538م ويشير طراز بنائه إلى أثر العمارة العسكرية في تصميمه.
ب- باب الساهرة:
ذكره المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم) باسم جب أرميا وهو المعروف عند الغربيين باسم باب هيرودس ويقع إلى الجانب الشمالي من سور القدس على بعد نصف كيلو متر شرقي باب العامود، وقد أعيد بناء هذا الباب في سنة 944هـ / 1538م حيث يوجد نقش حجري يبين اسم السلطان وألقابه وتاريخ تجديده.
ج– باب الأسباط:
يعرف أيضًا هذا الباب باسم باب ستنا مريم وباب الأسود، ويقع شمالي الحرم إلى الشرق. وهو باب قديم العهد رمم وأصلح عدة مرات كان آخرها في عهد السلطان سليمان سنة 945هـ / 1538 – 1539 وله ساقطة لصب الزيت المغلي على الأعداء ومزغل لرمي السهام.
د- باب المغاربة:
ويسمى باب سلوان أو باب الدباغة أيضًا ويقع في الحائط الجنوبي لسور القدس، ويختلف هذا الباب عن بقية أبواب القدس الأخرى بأنه أصغرهم حجمًا ومن حيث البساطة في التكوين المعماري وقد حدد هذا الباب في سنة 947هـ / 1540م.
هـ- باب النبي داود:
ويعرفه الغربيون باسم باب صهيون، وقد جددت عمارته في سنة 947هـ / 1540 – 1541م.
و- باب الخليل:
ذكره المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم) باسم باب محراب داود، ويسمى أيضًا باب يافا، وقد جددت عمارته في سنة 945هـ / 1358 – 1359م.
4 المنشآت المائية:
أولى السلطان سليمان مشكلة المياه المزمنة في مدينة القدس عنايته الفائقة حيث خصصت مبالغ طائلة من الأموال لبناء المنشأت المائية ولإصلاحها وصيانتها.
أ- قناة السبيل:
تم تعمير هذه القناة التي كانت تزود مدينة القدس بالماء من البرك والينابيع الكائنة بين مدينتي الخليل وبيت لحم. والتي سميت فيما بعد باسم السلطان أي برك سليمان.
ب- بركة السلطان:
تم في عهده أيضًا ترميم البركة الموجودة في داخل المدينة والواقعة خارج باب الخليل، والمعروفة بهذا الاسم.
ج- تم بناء ستة أسبلة جميلة هي:
1- السبيل الواقعة قبالة بركة السلطان في جانبها الجنوبي.
2- السبيل الواقعة في طريق الواد قرب سوق القطانين.
3- السبيل الواقعة بالقرب من الحرم إلى الشمال من باب شرف الأنبياء.
4- السبيل الواقعة عند ملتقى الطرق المؤدية إلى طلعة التكية وباب الناظر وهو من أبواب الحرم.
5- السبيل الواقعة بالقرب من باب الأسباط وعند باب السلسلة أمام المدرسة التنكزية وتظهر على هذه الأسبلة نقوش تدل على سنة بنائها وهي سنة 943هـ / 1536م.
5 رباط بيرام جاويش (المدرسة الرصاصية):
تم بناء هذا الرباط على يد الأمير بيرام جاويش بن مصطفى سنة 947هـ / 1540 – 1541م في عهد السلطان سليمان ويبدو ذلك من نقش مكتوب بأعلى مدخل الرباط.
يقع هذا الرباط عند ملقتى طريق الواد بطريق باب الناظر وعقبة التكية، ويتكونمن طابقين يتم الوصول إليهما عبر مدخل شمالي جميل الشكل ويعلو بارتفاع طابقي البناء وهو مزخرف بالأحجار الملونة، ويؤدي المدخل إلى دركاة تفتح على ساحة مكشوفة في الطابق الأول من الجهة الشرقية، وفي الجهة الغربية درج يسير باتجاه الجنوب ثم ينعطف غربًا للوصول إلى مختلف أجزاء الطابق الثاني وملحقاته ويضم الطابق الثاني عددًا من الساحات المكشوفة وأكبرها الساحة المركزية، كما يضم مسجدًا جميل الشكل والتكوين وغرفًا وقاعات.
لقد تم ترميم هذا البناء الذي يعتبر من النماذج الجميلة للفن المعماري الإسلامي في القدس عدة مرات، فهو مجمع معماري متميز من حيث المساحة والإبداع، وكان يضم مكتبًا لتعليم الأولاد القراءة والكتابة مجانًا أي (كُتاب) وأصبح يطلق عليه فيما بعد أي في العصر العثماني المتأخر باسم المدرسة الرصاصية ولعل هذه التسمية جاءت من استعمال ألواح الرصاص في ربط مداميك الحجارة بعضها ببعض نظرًا لقلة وجود مادة الجير عند إقامة البناء، والمدرسة اليوم هي جزء من أبنية مدرسة دار الأيتام الإسلامية داخل السور.
6 مكتب بيرام جاويش:
وهو من الملحقات البنائية للرباط ويقع في الجهة الشمالية لعقبة التكية عند التقائها مع طريق الواد وقد بناه الأمير بيرام جاويش بنمصطفى سنة 947هـ / 1540 – 1541م في عهد السلطان سليمان القانوني ويتكون هذا المكتب من بناء مربع الشكل تغطيه أقبية متقاطعة وفي وسط ضريح منشئه.
7 تكية خاصكي سلطان:
أنشئت على يد زوجة السلطان سليمان وهي روسية الأصل واسمها روكسلانه والمعروفة باسم خاصكي سلطان (أوخرم) وكان ذلك في سنة 959هـ / 1551 – 1552م وسرعان ما أصبحت هذه التكية أهم مؤسسة خيرية في فلسطين.
كانت التكية مجمعًا بنائيًا ضخمًا يضم مسجد وخان ورباط ومدرسة ومطبخ وتقع اليوم خلف دار الأيتام الإسلامية وعلى بعد أمتار قليلة من رباط بيرام كان المطبخ وهو قائم الآن بشكل دكة باتت على وشك الزوال يقدم يوميًا مئات الوجبات إلى يومنا هذا يقدم الوجبات مجانًا إلى الفقراء والمحتاجين.
ولقد أوقفت خاصكي سلطان وقفًا ضخمًا للإنفاق على التكية، وقد ضم الوقف عدة قرى ومزارع في أربعة سناجق وألوية في سوريا وفلسطين ومعظمها بجوار مدينة الرملة كما أوقف السلطان سليمان عليها بعد وفاة زوجته أربع قرى ومزارع في ناحية صيدا.
في عهد السلطان سليمان القانوني صكت نقود جديدة سميت باسمه (الفضة السليمانية) كما تم فرض رسوم على زوار كنيسة القيامة (القبر المقدس) وفي سنة 926هـ / 1520م عهد إلى آل أبو غوش حراسة طريق القدس – يافا وأجيز لهم أن يحصلوا من السياح والسالكين لتلك الطريق بعض العوائد المقررة، وفي عام 1566م وبينما كان السلطان سليمان في طريقه لصد هجمات النمسا عن بلاد المجر التابعة لسيادته أصيب بمرض النقرس، واشتد عليه المرض حتى وافته المنية في 20 صفر سنة 947 هـ / 1566 م.

القدس خلال القرن السابع عشر

في بداية القرن السابع عشر بدأت تظهر تصدعات خطيرة في كيان الدولة العثمانية، وذلك نتيجة لضعف سلطة الحكومة المركزية مما كان له أكبر الأثر في تدهور الوضع الأمني في الأقاليم والولايات وخصوصًا في مدينة القدس وعلى الطرق المؤدية إليها.
وعلى الرغم من اتخاذ الحكومة المركزية لإجراءات وتدابير مختلفة لضبط الأمن مثل إنشاء عدة قلاع مختلفة، إلا أنها فشلت في فرض النظام العام وصيانة الأمن وذلك لعدم قدرتها على تخصيص لأموال والقوات الكافية لتطبيق هذه الإجراءات بالشكل الصحيح، وذلك لتوريطها في الحروب الخارجية على الجبهتين الشرقية والغربية منها.
ومن جهة أخرى لاقي العثمانيون صعوبات كبيرة وكثيرة في محاولاتهم لحل النزاعات بين الطوائف المسيحية المختلفة الموجودة في مدينة القدس، والمدعومة من قبل الدول الأوروبية حول الأماكن المسيحية في المدينة. فقط ارتبط تاريخ هذه الطوائف في الأوروبية، وتنافس هذه الدول فيما بينها وحرص كل منها على زيادة نفوذها في الأراضي المقدسة.
ففي سنة 1621م جرت محاولة تعيين أول قنصل لفرنسا في مدينة القدس هو م.جان لامبرور M.Jean Lempereur ولكن تعيين هذا القنصل اصطدم بمعارضة قوية من قبل أهل القدس وقضاتها وحكامها ووجهائها، فما لبث أن صدر الأمر السلطاني بترحيل السيد لامبرور عن المدينة المقدسة.
جددت فرنسا محاولاتها لتعيين قنصل آخر مكانه، فأصدر السلطان مصطفى الأول وفي ذات العام 1621م فرمانًا سلطانيًا جديدًا يقضي بتعيين السيد دارامون Daramon قنصلاً فرنسيًا مقيمًا في القدس، وقوبل هذا الفرمان أيضًا بالسخط الشديد من أهل المدينة لتخوفهم من المطامع الأوروبية في المدينة، فعقد ممثلو المدينة اجتماعًا في المسجد الأقصى، وكتبوا عريضة أكدوا فيها أن تعيين السيد دارامون كان بدعة خطيرة تتعارض مع ما جرت عليه العادة في القدس، ولذلك فلا بد من إلغائه.
قال واضعو العريضة: ( إن بلدنا محل أنظار الكافرين إذ حل سعيهم وعملهم عليها ومع ذلك قرب الأسكلة ( أي ميناء يافا ) على ثماني ساعات ونحن نخشى من جلب أناس آخرين غيره بدسائس يعملها المذكور مع ما عندنا منهم الآن. ونخاف من الاستيلاء علينا بسبب ذلك كما حصل في الزمن السابق مرارًا).
استجاب السلطان إلى مطالب السكان ووجهاء المدينة، وما لبث التعيين أن ألغى وطرد القنصل. وفيما يلي النص الكامل للوثيقة المرفوعة إلى السلطان:
( نص الوثيقة )
الحمد لله الذي وفق لسلوك منهاج العدالة من اختاره من العباد والصلاة والسلام على النبي الهادي المبين لسبيل الرشاد وآله وصحبه أولي العزم والسداد. وبعد فإن قطان البيت المقدس الشريف والمعبد الأسني المنيف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين من العلماء والأشراف والخطباء والأئمة الصلحا والفقراء المجاورين وساير أهالي البيت المقدس من العامة والخاصة قايمين على أقدام الابتهال رافعين أكف الضراعة والسؤال بدوام أيام السلطان العالم ملك الملوك على خليقته من بني آدم خاقان البحرين وخادم الحرمين الشريفين وحامي البيت المقدس جامع كلمة الإيمان واسطة عقد الخلافة بالنص والبرهان مولانا السلطان مصطفي خان بن السلطان محمد خان خلد الله ملكه وسلطانه وأيد أركان دولته الشريفة بالنصر المبين إلى يوم الدين ينهون أنه لما ورد إليهم ديرمون القنصل ببرأة خاقانية من مضمونها أننا رفعنا القنصل لامبرور ووضعنا مكانه ديرمون والحال أن المرفوع لم يعد له مكوث ولا لأحد من القناصل قبله عندنا من زمن الفتح العمري والصلاحي وإلى الآن، ومن مضمونها أنه يعامل معاملة بيكاوات المسلمين وأن مراده الركوب ويتقلد بالسلاح، فقوبلت البرأة بالقيد بالسجل المحفوظ إطاعة لأمر مبديها نصره الله تعالى، فاجتمع العلماء والصلحا والأبيك السباهية والزعما وأرباب التيمار ودزدار القلعة المحفوظة والنيكرجية الخاصة والعامة بالمسجد الأقصى الشريف بقبة السلسلة المعروفة بمحكمة داود على نبينا وعليه السلام وأعرضوا حالهم على قاضي الشرع الشريف المولى شريف أفندي وحاكم الولاية عوض باشا بأن مكوث هذا القنصل على هذه الهيئة والصنعة التي يباشرها مخالفة لما نصت عليه المذاهب الأربعة وما شرطه الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح بلادنا عنوة المبين ذلك في كتاب التاريخ والعلماء الأبرار والمحققين الأخيار مع بغية الشروط عليهم، فإنه لم يعهد من زمن سيدنا الإمام عمر ومن بعده الخلفاء الراشدين ومن بعده ومن بعد الخلفاء ومن جاء بعدهم من دولة آل عثمان أجدادك الماضين تغمد الله الجميع بالرحمة والرضوان وأسكنهم فراديس الجنان إلا رهبان معينين في القدس الشريف وخارجها كما شرط الإمام عليهم فيما عهد إليهم. فإن أقام عندنا هذا القنصل المزبور وركب الخيل وتقلد بالسلاح يلزم من مفسدة عظيمة لا سيما أن بلدتنا محل أنظار الكافرين دمرهم الله أجمعين إذ حل سعيهم وعملهم عليها كما لا يخفى سدة سعادتكم العلية، ومع ذلك قرب الاسكلة المينا على ثماني ساعات. ونحن نخشى من جلب أناس آخرين غيره بدسائس يعلمها المذكور مع ما عندنا منهم الآن ونخاف من الاستيلاء علينا بسبب ذلك كما حصل في الزمن السابق مرارًا . فجناب المولى بالقدس الشريف والوالي أنعما علينا بعرضين مضمونهما ما سبق وأمراه بالخروج من بين أظهرنا طبقًا للشريعة المطهرة ولعدم التنصيص بسكناه عندنا واحترامًا لهذه البقاع الشريفة من حلول الأدناس بها إلى مدينة صيدا مكان القنصل الأول المقام مكانه لكون أن قبله من القناصل من قديم الأيام ومرور الشهور والأعوام إقامتهم بصيدا. فالمرتجا من الصدقات السلطانية والمراحم العليا الخاقانية رحمة منكم وشفقة على سكان هذا البيت المقدس وتطيرًا لمراقد الأنبياء العظام أمرًا شريفًا سلطانيًا يدفعه عن المكوث في هذه الديار ليتضاعف لحضرتكم الأجر من رب البرية والأمر أمركم.. أيد الله دولتكم العلية مدى الدوام بجاه خير الأنام وآله وصحبه الكرام).
أما على صعيد العلاقات الدولية للدولة العثمانية، ففي إبان حكم السلطان مراد الرابع في الفترة (1622-1639) تردت العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا على إثر طرده لليسوعيين من استنبول بتحريض من السفير البريطاني والهولندي سنة 1628، ثم أصدر السلطان مراد الرابع سنة 1634 ثلاثة فرمانات سلطانية منحت الروم حق التصدر والتقدم على اللاتين في الاحتفالات الدينية في القبر المقدس (كنيسة القيامة) وأماكن ملك فرنسا والبابا أوربانوس الثامن حتى صدر جديد سنة 1636 يؤيد حقوق اللاتين.
وفي عام 1670 تقدم سفير فرنسا لدى الباب العالي يطلب تجديد الامتيازات على أساس مشروع فرمان ينص في مطلعه على الاعتراف بملك فرنسا حاميًا للمسيحية في بلاد الدولة العثمانية على أن تشمل الحماية الفرنسية أبناء الدولة العثمانية من المسيحيين الكاثوليك، وأن يتعرف بما تخططه فرنسا من حقوق للاتين والروم الأرثوذكس وغيرهم من الطوائف المسيحية في بيت المقدس وبيت لحم. ودارت في هذا الصدد مفاوضات طويلة بين الصدر الأعظم وسفير فرنسا مسيو نوينتل M.De.Nointel انتهت برفض الباب العالي التوسع في امتيازات الحماية الفرنسية وقصرها على الكاثوليك اللاتين.
وفي عام 1673 تمكنت فرنسا من استغلال الصعوبات التي كانت تعترض الدولة العثمانية بفرض نسخة جديدة من الامتيازات الأجنبية وتأكيد دورها
( كحامية للكاثوليك ).
وفي عام 1676 أرغمت بولندا الحكومة العثمانية على إثر معاهدة عقدتها مع الباب العالي على إعادة الفرنسيسكان إلى القبر المقدس.
أما في السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر، كانت الدولة العثمانية في حالة حرب مع كل من النمسا وبلاد فارس، وأسفرت الحروب مع النمسا عن خسائر فادحة مني بها الجيش العثماني أمام أسوار فينيا VIENNA سنة 1683، كما اشتركت روسيا والنمسا وبولندا والبندقية في حربها ضد الدولة العثمانية في الفترة (1683 1689)، والتي أسفرت بعد الهزائم العسكرية للدولة العثمانية على عقد صلح أطلق عليه اسم كارلوفيتز KARLOVITZ سنة 1689، والذي نتج عنه خسائر فادحة وكبيرة في مواقع الدولة العثمانية سواء في البلقان أو جنوبي روسيا، كما حصلت النمسا بموجبه على حق تمثيل المصالح المسيحية فيما يتعلق بالأماكن المقدسة في القدس.
وفي سنة 1690 صدر فرمان سلطاني بتمكين رهبان اللاتين الكاثوليك في القدس من الاستيلاء على الأماكن المقدسة، والذي اعتبر وثيقة لها أهميتها ومرجعًا لجميع الاتفاقيات والمؤتمرات التي تناولت موضوع الأماكن المقدسة وحقوق الطوائف فيها بالبحث.
ويتبين من هذا كله كيف كانت للتطورات الدولية أثرها المباشر في المدينة المقدسة، وكيف أن الأمور كانت كثيرًا ما تتعقد وتشتد الخلافات بين الطوائف المختلفة من الروم واللاتين والأرمن وتتحول إلى مصادمات عنيفة، وحدث هذا عدة مرات في القرن السابع عشر، وعلى سبيل المثال ما حدث سنة 1661و1669و1674م.
وقد كتب هنري موندريل القسيس الإنجليزي الذي زار القدس سنة 1697 م في هذا الشأن (والشيء الذي كان على الدوام الجائزة الكبرى التي تتنافس عليها طوائف عدة، إنما هو السيطرة على القبر المقدس والاستيلاء عليه، وهو امتياز يتقاتلون عليه بكثير من الضراوة والعداء المنافيين للمسيحية، وخصوصًا اليونان واللاتين حتى أنهم في نزاعهم حول أي فريق منهم يدخل للاحتفال بالقداس يلجئون أحيانًا إلى تسديد الضربات والجروح، حتى عند باب القبر المقدس ذاته).
القدس خلال القرن الثامن عشر

كشفت الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة عن بعض الجوانب الخاصة والمميزة بالمدينة المقدسة خلال القرن الثامن عشر نذكر أهم جوانبها :
1 الأوضاع الثقافية :
دلت المصادر التاريخية على زيادة عدد العلماء في القدس في القرن السابع عشر، فقد ذكر حسن عبد اللطيف الحسيني في تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر للهجرة، أسماء 74 عالمًا في المدينة، منهم العالم محمد الخليلي الذي توفى عام 1734، والعالم محمد بن بدير الذي عاش في الفترة (1747-1805)، وكلاهما من رجال التصوف المشهورين، وقد دلت الدراسات على أن معظم علماء القدس وفلسطين في القرن الثامن عشر تلقوا تعليمهم العالي في مصر وخصوصًا في جامع الأزهر أو في دمشق واستنبول، وكان هناك عدد كبير من المكتبات الخاصة العائدة لعلماء المدينة.
وفي تلك الحقبة الزمنية كانت مدينة القدس لا تزال تجتذب العلماء من الأقطار المختلفة، ومن بين زوارها أو من أقاموا فيها العالم عبد الغني النابلسي ومصطفى البكري من دمشق ومصطفى أسعد اللقيمي من دمياط وعلى الخلفاوي من القاهرة.
وعلى الرغم من زيادة عدد العلماء في المدينة في تلك الفترة، إلا أن المدارس كانت في حالة تدهور وانهيار، والطلاب الذين كانوا يطلبون التعليم العالي كان يتحتم عليهم السفر إلى خارج البلاد، وبعد أن كان ما يقرب من 56 مدرسة قائمة في العصر الأيوبي، لم يبق منها في أواسط القرن الثامن عشر إلا 35 مدرسة لا غير، وفي نهاية القرن تناقص العدد كثيرًا.
2 الأوضاع الاقتصادية:
كان سكان مدينة القدس خلال القرن الثامن عشر يعتمدون على موارد خاصة ومميزة بمدينتهم لوضعها القدسي المميز، ومن أهم هذه الموارد:
أ إيرادات الأوقاف:
على الرغم من أن إيرادات الأوقاف كانت تعتبر أهم مورد اقتصادي للمدينة وأهلها، إلا أن أهم ما تميز به القرن الثامن عشر هو تسارع عملية انقراض الأوقاف في المدينة على الرغم من فرضية دوام الأوقاف أبد الدهر.
أما سب انقراضها فهو يرجع إما لانعدام الصيانة لمباني الأوقاف، أو بفعل عوامل الفساد واللجوء إلى أساليب قانونية مختلفة أدت إلى تجزئة الأوقاف أو انتقال ملكيتها إلى الآخرين وذلك إما عن طريق الإجارة الطويلة لعقارات أو استبدال هذه العقارات بالمال النقدي أو بيعها.
وكانت أكثر التدابير شيوعًا لإنشاء حقوق خاصة في أموال الوقف هو الإجراء المعروف بالخلو الذي يسمح بموجبه للمستأجر أن يعمر الوقف ليصبح ما أنفقه عليه حقًا مكتسبًا له تجاه هذا الوقف. كما كانت عملية الإجارة الطويلة للأوقاف تؤدي في الواقع إلى اغتصابها أو انتقالها إلى غير المسلمين.
وقد أعرب الشيخ محمد الخليلي في وقفيته المؤرخة سنة 1726 عن صدمته وألمه لانتقال أموال الأوقاف إلى الغرباء، مؤكدًا ما يحمله هذا الانتقال من علامات الخطر لمدينة القدس.
ب المنح الحكومية والخاصة:
نظرًا لقداسة المدينة اعتمد سكانها في معيشتهم بالإضافة إلى واردات الأوقاف على الإيرادات التي تولدها الدوافع الدينية إلى حد كبير، فقد كان أهل القدس يتلقون منحًا مالية من جهات مختلفة. فالحكومتان العثمانية والمصرية كانتا ترسلان منحًا سنوية تعرف باسم ( الصرة ) ليتم توزيعها وفق قوائم خاصة على عدد كبير من الفقراء وغيرهم.
أما بالنسبة للاجئين اليهود وقد ازدادت أعدادهم في القدس خلال القرن الثامن عشر خاصة بعد وصول بضع مئات من اليهود الحسيديم القادمين من بولونيا سنة 1777م، الأمر الذي دفع بالجاليات اليهودية في أوروبا ومصر وغيرهما إلى جمع وإرسال المساعدات الخيرية إلى القدس وكذلك أرسل ملوك أوروبا وخاصة ملك أسبانيا مبالغ كبيرة من الأموال إلى الفرنسيسكان في القدس.
ج الدخل من الحجاج :
وكان هذا المصدر هامًا وآخر لدخل أهل المدينة، فقد كان من عادة الحجاج المسيحيين أن يمكثوا في مدينة القدس خمسة أو ستة أشهر كل عام، وبالتالي كانوا ينفقون مبالغ كبيرة في المدينة، ومع أن عدد الحجاج الأوروبيين تناقص بشكل كبير في القرن الثامن عشر ويرجع السبب في ذلك إلى ازدياد أنصار العلمانية في أوروبا، إلا أن الأمر كان مختلفًا بالنسبة للمسيحيين الشرقيين الذين بلغ عددهم سنة 1784 ألفي حاج.
د الدخل الوارد من صناعة أدوات التعبد وتصديرها :
اشتهر أهل القدس بصناعة أدوات التعبد من المسابح والصلبان وغيرهما من الأدوات، فكان لهذا المصدر من الدخل أهمية كبيرة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، كما كان يصدر من هذه الأدوات كالمسابح والصلبان وذخائر القديسيين 300 صندوق سنويًا إلى تركيا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا بشكل خاص.
3 الأوضاع العمرانية للمدينة :
القدس في تلك الفترة، ومن بينها أنه كان يوجد فيها كثير من الكروم وأشجار الفاكهة كالتين والزيتون والعنب والتفاح والرمان والتوت والأجاص واللوز …… الخ، سواء في المدينة أو خارجها.
في حين أننا نجد هذا يتعارض مع أقوال الزوار الأوروبيين الذين سعوا إلى تأكيد النواحي السلبية في المدينة، فعلى سبيل المثال تحدث داريفوا عن الخراب الشامل والأراضي المهملة وقطاع الهائمين في البلاد، وعن منطقة اليهود الجبلية المجدبة. وكذلك فعل السائح الفرنسي فولني VOLNEYالذي زار مدينة القدس سنة 1784 وتحدث عن أسوارها المساواة بالأرض، وفنادقها الممتلئة وجميع مبانيها المثقلة بالأنقاض.
ولكن على الرغم من وجود بعض المناطق المهملة في مدينة القدس في تلك الفترة وهو أمر طبيعي، كانت هناك أيضًا عدة دارات وقصور منها قصور جار الله بن أبي اللطف، ونور الدين الجماعي (الخطيب)، وصالح العسلي. كما كان هناك قصران بناهما الشيخ محمد الخليلي خارج أسوار المدينة. وقد أكد الخليلي في وقفيته على أهمية عمارة القدس وشحنها بالسكان قائلاً: (إرهابًا للعدو وإغاظة له وقطعًا لأطماعه).
لكن ما هو مؤكد منه أنه لم توجد أية وثائق عن مشروعات عمرانية عامة وكبيرة في القدس خلال هذه الفترة باستثناء أعمال الترميم الدائمة في منطقة الحرم الشريف حيث جرت أعمال الترميم في قبة الصخرة في السنوات 1705و1735و1752و1780.
القدس والدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر

أولا القدس في عهد السلطان محمود الثاني: حكم في الفترة (1808-1839):
في بداية القرن التاسع عشر كان على رأس سدة الحكم في الدولة العثمانية السلطان محمود الثاني، الذي حاول إحداث بعض الإصلاحات في أجهزة الدولة فكان من أهمها القضاء على الانكشارية وإصلاح الجندية، إلا أن هذه الإصلاحات لم تحدث سوى تغيير بسيط وجزئي في أحوال البلاد التي استمرت في الانحدار والتراجع الكبير أمام تقدم وازدهار الدول الأوروبية في تلك الآونة. أما بالنسبة للمدينة المقدسة فقد كان حكمها خلال الجزء الأعظم من الثلث الأول في القرن التاسع عشر في يد والي صيدا على الرغم أنه كان عادة يتبع والي دمشق.
بعد وفاة والي صيدا أحمد باشا الجزار سنة 1804، تلاه سليمان باشا (1804-1818) الذي تلاه بدوره عبد الله باشا (1818-1831)، وخلال هذه الفترة تولى حكم القدس عدد من الحكام المحليين الذين كان يدعى الواحد منهم بـ (المتسلم)، وقد تولى متسلم يافا محمد أبو المرق حكم القدس في خلال السنوات (1802-1803) و(1805-1807)، لكنه كان مكروهًا من قبل العامة من الناس لكثرة استبداده وتسلطه على أهل يافا والقدس والخليل والرملة وغزة، وقد ضاق أبو المرق بالحجاج المسيحيين أيضًا وفرض عليهم الإتاوات الباهظة.
أما عن واقع المدينة، فمن خلال مشاهدات الزوار والسواح الأجانب للمدينة في أوائل القرن التاسع عشر، فقد قال أحدهم أنه لم ير أثرًا للمدارس التي كانت تحيط بالحرم فقد اختفت، وهى تلك المدارس التي رآها السائح (أوليا جيلي) في الأروقة المحيطة بالحرم في القرن السابع عشر، وسبب اختفائها في الغالب هو انقراض أوقافها كما سبق الحديث عنه في الفصل السابق.
ويذكر السائح والعالم الألماني سيتزن SEETZEN الذي زار المدينة عام 1806م أن هناك مصنعًا كبيرًا للجلود قرب كنيسة القبر المقدس (كنسية القيامة) وكذلك عددًا من المشاغل بينها 5 طواحين و25 فرنًا ويبدو من وصفه للمهن المحلية أنه كان في مدينة القدس 700 من أصحاب الصنائع والتجار كحد أدني.
أما عن الجانب السكاني للمدينة فقد قدر السائح SEETZEN سكان المدينة سنة 1806 بحوالي 12 ألف نسمة. في حين قدر السائح فولني VOLNEY الذي زار المدينة في فترة سابقة أي سنة 1784 في أواخر القرن الثامن عشر بأن عدد سكانها حوالي 12 ألفًا أو 14 ألف نسمة. ولأنه من غير الممكن إعطاء أرقام دقيقة لغياب الإحصاءات الرسمية للسكان، فإن العدد حسب هذه التقديرات وغيرها لم يتجاوز 14 ألف نسمة والمسلمون كانوا يشكلون الكثرة الساحقة.
ومن أشهر علماء القدس في تلك الفترة موسى الخالدي (1767-1832) وكان عالمًا بارزًا ومؤلفًا في الفقه، وقد تمتع باحترام كبير لدى السلطان محمود الثاني وفي الدوائر العلمية في استنبول، وقد شغل في وقت متأخر من حياته منصبًا هامًا هو قاضي عسكر الأناضول، وهو أحد أعلى ثلاثة مناصب قضائية في الدولة العثمانية .
أما أهم التعميرات والترميمات التي تمت في مدينة القدس خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وبأمر من السلطان محمود الثاني فهي :
1 في سنة 1812 عمّر متسلم القدس كنج آغا قناة السبيل التي تجري فيها مياه برك سليمان إلى القدس.
2 في سنة 1816 قام سليمان باشا والي صيدا بترميم المسجد الأقصى على نفقته الخاصة وأنشئ معمل خاص للقيشاني في مدينة القدس يسد احتياجات المسجد الأقصى منه في عمليات الترميم.
3 في عامي 1817-1818 قام الوالي سليمان باشا بتنفيذ أعمال ترميم كبيرة في قبة الصخرة المشرفة كان السلطان محمود الثاني أمر بها، واستمرت هذه الترميمات إحدى وعشرين شهرًا وبلغت تكاليفها 4000 كيس.

ومن الحوادث الهامة التي شهدتها المدينة المقدسة في عهد السلطان محمود الثاني نذكر منها ما يلي:
الحادثة الأولى :
في سنة 1808 دمر حريق الجزء الغربي من كنيسة القيامة، واتهم الأرمن بإشعال النار في الجزء المخصص لهم من الكنيسة في محاولة لتغيير الوضع الراهن STATUS QUO وقدمت الطوائف جميعها عروضًا لإعادة التعمير في الكنيسة وبعد كثير من البيانات والاحتجاجات، نجح الروم في الحصول على إذن لمباشرة العمل.
وفي تلك الأوقات كان السلطان محمود الثاني قد تأكد من حالة الفوضى والفساد التي حلّت بقوات الانكشارية، وأنها من أكبر أسباب تأخر الدولة العثمانية إزاء تقدم الدول الأوروبية المستمر والتي كانت تعتمد الأنظمة العسكرية في إدارة جيوشها، فأصدر أوامره السلطانية بضرورة انضمامهم إلى الجيش، وعلى إثر إسناد مهمة حماية قلعة القدس إلى جنود آخرين محلهم قام الانكشاريون بثورة ضد الدولة، وأخذوا يعيثون فسادًا بالمدينة، حتى أنهم حرّضوا السكان المسلمين على عرقلة أعمال التعمير في كنيسة القيامة. وتلا ذلك ثورة عارمة وطرد الثائرون متسلم المدينة واعتصموا بالقلعة.
ولما علمت دمشق بما جرى استنجد واليها بسليمان باشا والي صيدا الذي أصدر أوامره بتجريد حملة لتأديب العصاة بقيادة ضابط مغربي يدعى أبو زريعة وأمره بفتح القدس وقطع دابر الفتنة.
بعد وصول الحملة إلى القدس أخذ العفيفي رئيس الانكشارية وأبو زريعة والمتسلم ينصحون المتمردين بالانصياع للأوامر والانضباط، لكنهم لم يستجيبوا للدعوة مما اضطر قائد الحملة للتنكيل بهم وإرغامهم على الاستسلام، ويقال أن أبا زريعة قطع بيديه أعناق 64 ثائرًا، وأرسل رؤوسهم إلى سليمان باشا. وفي عام 1826 تمكن السلطان محمود الثاني من القضاء نهائيًا على الانكشارية، فأمر بإبطال فئاتها وملابسها واسمها في جميع الممالك المحروسة.
الحادثة الثانية :
أنه في عام 1823 قدم إلى مدينة القدس أول جماعة من المبشرين الإنجليز أملاً بالعمل على هداية اليهود إلى النصرانية.
الحادثة الثالثة :
في عام 1824 شهدت مدينة القدس ثورة شعبية سببها زيادة عبء الضرائب، وقد روى وقائعها بالتفصيل الراهب اليوناني نيوفيتوس NEOPHYTES قائلاً: طلب والي دمشق الجديد مصطفي باشا أن يدفع الفلاحون أعشارًا أكبر، تبلغ عشرة أضعاف الأعشار المعتادة. وعندما ثار فلاحو المنطقة المحيطة بمدينة القدس، قام الباشا بإرسال 100 جندي إلى قلعة المدينة، ثم سار بنفسه من دمشق على رأس خمسة آلاف رجل لمعاقبة الثائرين، ولدى اقتراب الباشا من المنطقة، هجر الفلاحون قراهم ولجأ بعضهم إلى الأديرة التي قام الجنود بتفتيشها، ولما خشي المسيحيون أن تدمر المدفعية الأديرة، قاموا بدور الوساطة بين الباشا والفلاحين، وبعد أن دفع الفلاحون والمسيحيون غرامة كبيرة تم التوصل إلى اتفاق، ولكن فور مغادرة الباشا إلى دمشق استؤنفت الثورة، لكن هذه المرة داخل المدينة نفسها، ففي الخامس من حزيران سنة 1825 احتل أهل القدس القلعة وحرسوا أبواب المدينة حراسة دقيقة، وعندما عاد المتسلم وقد كان خارج المدينة من بيت لحم والقرى المجاورة لم يسمح له بدخول المدينة، وانتخب أهالي القدس شخصين من بينهم ليكونا زعيمين لهم وهما يوسف عرب جبجي الجاعوني، وأحمد أغا الدزدار العسلي، وكان من أوائل الإجراءات التي اتخذها الحكام الجدد تخفيض الضرائب وتحرير سكان بيت لحم والقرويين من مسلمين ومسيحيين من معظم الأعشار. ولما علم السلطان بذلك، أمر عبد الله باشا والي صيدا بإخضاع الخونة، فأرسل الباشا على الفور نائبه الكيخيا إلى القدس على رأس ألفي جندي، في البداية رفض زعماء القدس الاستسلام، لكنهم بعد أن أخذت نيران المدفعية تتساقط على المدينة من جبل الطور دون تمييز استسلموا وأعطوا الأمان للخروج من المدينة، وبذلك انتهت هذه الثورة دون سفك دماء.
الحادثة الرابعة :
وهي من أهم الحوادث التي جرت في عهد السلطان محمود الثاني والتي لم تؤثر في مدينة القدس وحدها وإنما على بلاد فلسطين والشام كلها، وهي إعلان والي مصر محمد على باشا الحرب على عبد الله باشا والي صيدا وعكا، وإرساله جيشًا بقيادة ابنه إبراهيم الذي تمكن من احتلال مدينة القدس ومعظم مدن فلسطين في عام 1831.
وبهذا الاحتلال المصري للمدينة القدسية انتهت الفترة الأولى من حكم العثمانيين لمدينة القدس خلال القرن التاسع عشر.
ثانيًا القدس في عهد السلطان عبد المجيد ( 1841-1861 ) :

بعد وفاة السلطان محمود الثاني سنة 1839 تولى السلطنة من بعده ابنه السلطان عبد المجيد الذي حاول السير على نهج أبيه في اتباع السياسة الإصلاحية في البلاد، فكان أول عمل قام به عند توليه العرش هو إصدار مرسوم (خط كلخانة الشريف) الذي دشن الفترة الأولى للتنظيمات العثمانية في الفترة الواقعة من عام 1839 إلى 1856م، وقد تضمن المرسوم الأمور التالية:
1 صيانة حياة وشرف وممتلكات الرعايا بصورة كاملة بغض النظر عن المعتقدات الدينية .
2 ضمان طريقة صحيحة لتوزيع وجباية الضرائب.
3 توخى العدل والإنصاف في فرض الجندية وتحديد أمدها.
بعد أن وضع السلطان عبد المجيد أساس الحكم والعمل في بلاده أقال إبراهيم باشا عن حكم ولاية سوريا في فرمان تاريخه 1840م.
وفي عام 1841 تمكن السلطان عبد المجيد من استعادة بلاد الشام وفلسطين بمساعدة الدول الغربية وبسط السيطرة العثمانية عليها من جديد، وهكذا عادت مدينة القدس تحت الحكم والسيادة العثمانية.
وفي عام 1856 أصدر السلطان عبد المجيد مرسوم الإصلاح الثاني المعروف بـ (خطي همايون) الذي دشن الفترة الثانية للتنظيمات في الفترة الواقعة (1856-1876) والذي يقضى بالمساواة بين جميع الرعايا العثمانيين في الحقوق والواجبات من غير تفريق بين العناصر والمذاهب. وعلى إثر ذلك انتظم المسيحيون في الجندية مثلهم مثل المسلمين.
في أواسط القرن التاسع عشر كان سور المدينة لا يزال يشكل حدود مدينة القدس، ولم تكن هناك أية مبان خارج السور الذي كانت تغلق أبوابه عند الغروب ولا تفتح لأي إنسان يأتي متأخرًا بعد غروب الشمس. وبداخل هذه الأسوار كانت لا تزال هناك مساحات كبيرة من الأراضي تستغل للزراعة، كما كان هناك العديد من البيوت والبنايات المهدمة والمهجورة.
في سنوات الأربعينيات والخمسينيات كان البروتستانت الألمان والإنجليز أول من أقام البنايات الجديدة في داخل وخارج المدينة مثل كنيسة المسيح CHRIST CHURCH التي دشنت سنة 1849، إلا أن الازدهار الحقيقي للبناء في المدينة بدأ في سنة 1856 واستمر بعد ذلك باضطراد دون توقف، وفي سنة 1858 تأسست المسكوبية خارج أسوار المدينة، وبعد ذلك أخذ المقادسة يبنون بعض المساكن خارج السور بجوار المسكوبية كما تم فتح باب صغير في إحدى درفتي كل باب من أبواب السور لتستعمل ليلاً لدخول المتأخرين إلى المدينة.
أما عن الإحصاءات السكانية لمدينة القدس، والتي تعتمد على دفتر النفوس العثماني أن التعداد السكاني للمدينة لسنة 1849 كان كما يلي:
148، 6 نسمة مسلم، 744، 3 نسمة مسيحي، و790، 1 نسمة يهودي، أي ما مجموعه 682، 11 نسمة.
منذ عودة الحكم العثماني للبلاد سنة 1841 وحتى بداية الحرب العالمية الأولى تميزت مدينة القدس تميزًا واضحًا عن غيرها من المدن الفلسطينية والعربية وذلك بتطورها الكبير والسريع والذي كان يعكس الآثار الناجمة عن السياسة العثمانية من جهة، والتدخلات الأوروبية من جهة ثانية، أما تطورها في عهد السلطان عبد المجيد فقد سار في اتجاهين:
أولهما: تطورها الإداري بالنسبة للتقسيمات الإدارية المتبعة في النظام الإداري العثماني.
ثانيهما: تطورها التاريخي لتميزها الديني وليس لتميزها الجغرافي أو الاقتصادي.

أولاً: التطور الإداري لمدينة القدس:
في عشية الاحتلال المصري لبلاد الشام وفلسطين بالتحديد في سنة 1830م وحّد الباب العالي حكم فلسطين بسناجقها الثلاثة ( القدس- نابلس عكا ) في يد والي عكا. واستمر الحال كذلك في إبان الحكم المصري لفلسطين في الفترة
( 1831- 1841 ) حيث كانت عكا هي العاصمة الفعلية لسناجق فلسطين الثلاثة.
وبعد عودة السيادة العثمانية على البلاد عام 1841 عمل العثمانيون على الاستمرار في اتباع سياسة التنظيمات الإدارية التي كانت متبعة منذ عهد محمد علي في البلاد مع المحاولة على التأكيد على أهمية سنجق القدس، فجعلوا مدينة القدس هي العاصمة المركزية للمناطق الفلسطينية الوسطى والجنوبية، كما أصبحت أقضية غزة ويافا تابعتين لسنجق القدس بشكل دائم، وحتى عام 1858 كان سنجق نابلس تحت سلطة حاكم القدس.
وهكذا برزت مدينة القدس كمركز للإدارة المركزية في فلسطين وهى إحدى التطورات الإدارية الهامة في فلسطين خلال القرن التاسع عشر.

ثانيًا: التطور التاريخي لمدينة القدس:
كنتيجة للاحتلال المصري لفلسطين وبلاد الشام توضحت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وخصوصًا أهميتها للتجارة الدولية وتوسطها بين الشرق والغرب على خطوط المواصلات العالمية.
وبما أن الغرب في ذلك الوقت كان في بداية عصر الإمبريالية والتطور الصناعي والتوسع الاقتصادي، فقد توجهت سياسات دوله الكبرى نحو المنطقة بشكل عام والمدينة القدسية بشكل خاص. وبما أن العثمانيين لم يكن بإمكانهم التراجع عن سياسة الانفتاح على العالم بشكل عام والغرب بشكل خاص، والتي اتبعها المصريون في البلاد خصوصًا وأن عودة السيادة العثمانية على البلاد قد تمت بمساعدتهم، فقد توالى إلى فتح القنصليات الغربية في مدينة القدس وهى المدينة التي لم يكن بإمكان أي دولة أن تقيم لها أي وجود فيها خلال العهد العثماني السابق للحكم المصري.
بعد أن تم افتتاح أول قنصلية غربية في مدينة القدس عام 1838م في إبان الحكم المصري لفلسطين وهى القنصلية الإنجليزية، تبعها افتتاح العديد من القنصليات الأجنبية نتيجة لتغير المناخ الدولي بعد حرب القرم، ففي عام 1856 تم افتتاح قنصلية بريطانيا للمرة الثانية، كما افتتحت نهائيًا قنصلية فرنسا وفي سنة 1857 افتتحت قنصلية لأمريكا. وفي سنة 1862 افتتحت قنصليتان لروسيا واليونان، فأصبح عدد القنصليات الأوروبية في القدس ثمانية. ولقد تم كل ذلك في عهد متصرف القدس كامل باشا الذي أمر بأن تطلق المدافع إحدى وعشرين طلقة تحية لأعلام هذه القنصليات عند رفعها، وكان أهل القدس يقابلون كل هذه المراسم باحتجاج وغضب شديدين.
لم يقف التوجه الغربي نحو المدينة المقدسة بفتح القنصليات فقط، وإنما وجدت الدول الغربية أن أسهل وأسرع الطرق لبسط نفوذها في المنطقة هو من خلال بسط حمايتها على الأقليات غير الإسلامية في الدولة العثمانية، فمثلاً لم يكن لبريطانيا وكنيستها الإنجيلية أية حقوق أو مصالح تدعيها في علاقتها بالمدينة القدسية، فعمدت إلى ادعاء قيام قنصليتها بالمدينة القدسية لحماية اليهود ولرعاية مصالحهم. فقد تلقى القنصل البريطاني الأول يونغ YOUNG تعليمات بأن يعتبر الحماية العامة لليهود جزءًا هامًا من مهام وظيفته، كما أصبحت هذه المهام عزيزة للغاية على خلفه المستر جميس فن JAMES FINN الذي تولى منصبه في ربيع سنة 1846 حتى عام 1862.
وبما أنه لم يكن للبروتستانت أي قاعدة مؤسسية في الأراضي المقدسة، تم خلق هذه القاعدة بتأسيس أسقفية إنجليزية بروسية في القدس سنة 1841 وبناء كاتدرائية بروتستانتية وهى كنسية المسيح CHRIST CHURCH التي أنشئت سنة 1849.
وفي عام 1850 تمكن البروتستانت من الحصول على الاعتراف بهم كطائفة دينية رسمية في الدولة العثمانية، مما دعم الدور البريطاني في ممارسة وظيفة الحماية لليهود والبروتستانت معًا.
بعد تأسيس الأسقفية البروتستانتية، تلاه قدوم العديد من البطاركة إلى مدينة القدس واتخذوها مركزًا لهم بدلاً من القسطنطينية، ففي سنة 1847 عين البابا بيوس التاسع أول بطريرك لاتيني بمدينة القدس هو البطريرك يوسف فالرغا JOSEPH VALERGA ، في حين هذا المنصب لم يكن له أي وجود فعلي في المدينة من قبل.
هذا وقد اعتبرت فرنسا تعزيز الوجود الكاثوليكي في فلسطين مهمتها الرئيسية، والأكثر إلحاحًا للسياسة الفرنسية في الأراضي المقدسة، كما عمدت الكنيسة الكاثوليكية على تشجيع الجاليات والإرساليات الكاثوليكية للهجرة من شتى بقاع العالم إلى مدينة القدس والإقامة فيها.
ومن الحوادث الهامة التي جرت في عهد السلطان عبد المجيد وكان لها تأثير كبير في ازدياد التغلغل الديني والثقافي الأوروبي في مدينة القدس، هي حرب القرم التي نشبت بين روسيا والدولة العثمانية في الفترة الواقعة بين 1853-1856 وسببها اشتداد الخصام بين الروم الأرثوذكس واللاتين حول النجمة الفضية التي اختفت من كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، واتهم اللاتين الروم بسرقتها، ولما ناصرت الحكومة العثمانية اللاتين وأصدرت في سنة 1852 إذنًا لهم بتسلم مفاتيح بابين من أبواب مغارة المهد وأن يضعوا نجمة من الفضة للكنيسة، احتجت روسيا وطالبت الباب العالي بالاعتراف بحمايتها للروم الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وعندما أعلن الباب العالي رفضه هذا الأمر، أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، فناصر الفرنسيون والإنجليز العثمانيين وتم قهر الروس، وعقدت على إثر ذلك معاهدة الصلح في باريس في 30 آذار سنة 1856.
ومن الآثار المترتبة على حرب القرم، دخول الدول الأوروبية في سباق فيما بينها من أجل تأمين الامتيازات الأوروبية والوجود الديني والثقافي الأوروبي في مدينة القدس، كما انتشرت في هذا الوقت الدعوة بصورة مكشوفة إلى الامتلاك الفعلي للأراضي المقدسة، وذلك على الرغم من حرص الدول الغربية على الحفاظ على وحدة أراضي الدولة العثمانية، وذلك من خلال التعليمات الموجهة إلى قناصلها في المدينة لأن التغلغل الأوروبي لم يكن يهدف إلى السيطرة الإقليمية وإنما إلى بسط نفوذه السياسي في المنطقة.
كما أخذت شركات الملاحة تعرج بانتظام إلى المواني الفلسطينية وتجلب جماعات من الحجاج والمسافرين إلى الأراضي المقدسة، حتى أنه في أيام الأعياد كانت تزدحم مدينة القدس بأعداد الحجاج الذي كان يفوق عدد سكان المدينة أحيانًا.
كذلك اتجه الرأي الروسي إلى ضرورة تأسيس وجود روسي في فلسطين، ففي سنة 1856 تم تأسيس شركة الملاحة البخارية الروسية التي كان من شأنها أن تزاحم خطوط البحر المتوسط الفرنسية والنمساوية وأن تنتزع منها بشكل خاص أشغال نقل الحجاج الروس إلى فلسطين.
وفي سنة 1857 كتبت وزارة الخارجية الروسية في تقرير إلى القيصر تقول فيه: ( ينبغي علينا أن نبني وجودنا في الشرق لا عن طريق السياسة بل عن طريق الكنيسة، فلا الأتراك ولا الأوروبيون الذين لديهم بطاركتهم وأساقفتهم في المدينة القدسية بمقدورهم أن يمنعونا ذلك إن القدس هي مركز العالم وإرسالياتنا ينبغي أن تكون هناك).
وفي سنة 1858 وصل إلى القدس في وقت واحد أسقف روسي وقنصل روسي (وكيل شركة الملاحة) كما نقل في السنة نفسها بطريرك الأرثوذكس الذي كان يقيم حتى ذلك الوقت في القسطنطينية إلى المدينة المقدسة.
وهكذا تحولت مدينة القدس من كونها مسرحًا للصراع المحدود بين الطوائف المسيحية المتنازعة، لتصبح ميدانًا تتصارع فيه كل القوى الدولية من أجل بسط نفوذها السياسي.
من أهم الأحداث التي جرت في مدينة القدس في عهد السلطان عبد المجيد ما يلي:
1 في سنة 1853 تم ترميم مسجد الصخرة بإرشاد مهندس أرمني خبير ببناء القباب اسمه (قرة بت) حيث قام بتقوية القبة، ورمم بعض النقوش والزينات الداخلية.
2 في سنة 1854 حاول اليهود الاستفادة من تمتعهم بالحماية البريطانية في أنحاء الدولة العثمانية، فتقدموا إلى الباب العالي للسماح لهم بتعمير محل عتيق على اعتبار أنه كنيس قديم يحتاج إلى إعادة تعمير ولما جرى الكشف عنه تبين أنه دير قديم، ولما لم يجابوا إلى طلبهم، أعلمهم القنصل البريطاني بالقدس أن يثيروا قضية سمح فيها ببناء كنيسة لطائفة البروتستانت، فنجحوا في مأربهم وصار لهم كنيس خاص بالسكناج يقابل كنيس السفارديم.
3 وفي ذات العام 1854 حصل السير منتغيوري على فرمان من السلطان عبد المجيد استطاع بموجبه شراء الأراضي في مدن يافا والقدس، وقد كان هذا محظورًا من قبل. فكانت القطعة التي اشتراها في مدينة القدس بموجب هذا الفرمان أول أرض يمتلكها اليهود الأجانب في البلاد، وهذه القطعة هي (يمين موشيه) فوق بركة السلطان، وقد أقيم على هذه الأرض فيما بعد حي يهودي دعي منتغيوري ولا زال يعرف بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
4 وفي سنة 1856 صدر فرمان سلطاني لمتصرف القدس بتسليم (الصلاحية) لقنصل فرنسا بالمدينة المقدسة، حيث قدمت كهدية من السلطان عبد المجيد إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، فسلمت للقنصل الفرنسي وبنى لها سورًا وحصنها.
5 في سنة 1860 تم تأسيس أهم مؤسسة تعليمية غربية في مدينة القدس هي مدرسة (شنلر) للأولاد الأيتام.
6 وفي ذات العام 1860 عمر ثريا باشا متصرف القدس قناة السبيل التي تستقي القدس بواسطتها الماء من برك سليمان.
7 في أواخر أعوام الستينيات تمكن وارن WARREN من إحصاء 1932 تاجر وحرفي مقدسي يعملون في 1320 محلاً تجاريًا منهم 143 متجرًا عام – 88 تاجر خضار – 189 متجرًا للسلع التموينية -101 مخبز – 46 بائع لحوم ودجاج – 58 تاجر خمور – 30 طحانا للبن – 37 بائع تبغ – 230 حذّاء (صانع أحذية) – 62 خياطًا – 28 صباغا – 32 طاحن سمسم – 76 صبانًا (صانع صابون) – 151 حدادًا – 36 نجارًا – 86 صانع نعوش – 56 حلاقًا – 23 ساعاتيًا – 22 صرافًا وهذه القائمة قد تمت بـ 828 مسلمًا، و601 مسيحي و503 يهوديين.

ثالثًا – القدس في عهد السلطان عبد العزيز:

بعد وفاة السلطان عبد المجيد عام 1861 تولى حكم السلطنة العثمانية من بعده أخيه السلطان عبد العزيز، الذي تابع الحركة الإصلاحية في البلاد والتي كانت تتحرك خلال فترة التنظيمات الثانية على الأصعدة الإدارية والمالية والعسكرية، فانبثق عنها تحسن الأمن العام في أرجاء الدولة، وتوسع إمكانيات الاتصالات والازدهار الاقتصادي، غير أنه لم تكن هناك سياسات حقيقية في الدولة العثمانية بشأن التحتية أو الشئون الاجتماعية أو الاقتصاد أو التعليم.
غير أن مدينة القدس تميزت عن غيرها من المدن العثمانية في عهد السلطان عبد العزيز بتطورها الحضاري المتميز في مجالات شتى منها:
أولاً: التطور الإداري
حتى أواخر الخمسينيات من القرن التاسع عشر كانت المدن الفلسطينية ومنها مدينة القدس المسرح الرئيسي للتنافس والصراع على السلطة بين العائلات والشيوخ الحاكمة مع السلطات العثمانية.
إلا أن الأمر اختلف في عهد السلطان عبد العزيز حيث كان المسئولون في القسطنطينية في ذلك الوقت على اقتناع تام بأن التنظيم الإداري الذي يقوم على أساس المرسوم الصادر باسم (خطي همايون) سنة 1856م لا يمكن تنفيذه إلا من قبل حكومة مركزية وقوية وحازمة. لذا تم وضع قانون الولايات سنة 1864م الذي فصل القضاء عن الإدارة وقوى سلطة الحكومة المركزية في ولاياتها، كما قام بتجريد الزعماء المحليين في مختلف أنحاء الدولة العثمانية من السلطة وتم الاستعاضة عنها باستحداث المجالس المحلية مثل المجالس البلدية والمجالس الإدارية، فكانت مدينة القدس هي أولى المدن بعد القسطنطينية في تقبل مثل هذه المؤسسات، مما أدى هذا الأمر إلى تطورها الإداري الواضح والكبير، كما أصبحت مسرحًا رئيسًا للتنافس السياسي والمالي وبروز القادة السياسيين من أفراد العائلات العريقة في المدينة مثل آل الحسيني وآل الخالدي.
1 مجلس إدارة سنجق القدس:
منذ عودة السيادة العثمانية على بلاد الشام وفلسطين عام 1841، استمر حكم وإدارة سنجق القدس تابعًا لولاية دمشق حتى عام 1872 حينما حاول العثمانيون إعادة توحيد حكم سناجق فلسطين الثلاثة (القدس – نابلس – عكا) في ولاية القدس المستقلة، إلا أن الحكومة العثمانية سرعان ما ألغت هذا الإجراء في نفس العام وأبقتها لولاية دمشق.
وفي عام 1874 أصبح سنجق القدس مستقلاً، وأصبح حاكم القدس مسئولاً مباشرة من وزارة الداخلية في القسطنطينية.
كان مجلس إدارة السنجق يضم كلا من المتصرف القاضي- المفتي – أمين الخزنة – وممثل عن الطائفة الأرثوذكسية اليونانية وممثل عن الطائفة اللاتينية، وممثل عن التجمعات الأمريكية واليهودية، مع مجموعة من الأعضاء المنتخبين وفي الغالب كانوا هم أنفسهم أعضاء المجلس البلدي لمدينة القدس.
وبالنسبة لقانون إدارة الولاية عام 1871، كان مجلس الإدارة مخولاً بسلطة النظر في الأمور والأعمال العامة مثل الزراعة تسجيل الأراضي – الأموال – جمع الضرائب – رجال الأمن، إلا أن أهم أعماله كانت تتعلق بجمع الضرائب.
2 المجلس البلدي لمدينة القدس:
في العام 1863م تم تأسيس أول مجلس بلدي لمدينة القدس، وذلك وفقًا لفرمان خاص صدر في عهد السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني وولاية خورشيد باشا متسلم القدس، وتم تشكيله من خمسة أعضاء معينين ثلاثة من المسلمين ومسيحي واحد ويهودي واحد، وكان يرأسهم العضو عبد الرحمن الدجاني، لكن هذا المجلس لم يباشر أعماله فعليا إلا في العام 1867م، حيث يعزو البعض ذلك إلى عدم وجود قانون ينظم أعماله.
ومع صدور قانون إدارة الولايات في العام 1871م لوحظ بعض النشاط المتزايد للمجلس البلدي، إلا أن نشاطه أضحى أكثر بروزا بعد صدور قانون البلديات سنة 1877م الذي حدد مهام ومسئوليات وواجبات المجالس البلدية وطرق تشكيلها، ونص على وجوب تشكيلها من ستة إلى اثنى عشر عضوًا ينتخبون لمدة أربع سنوات على أن يتم استبدال نصفهم كل عامين، أما الرئيس فيعينه الحاكم من بين الأعضاء المنتخبين.
أما فيما يختص بقوانين الانتخاب والترشيح للمجلس البلدي، فقد كانت تنص على أن كل مواطن عثماني بلغ سن 25 عامًا وقام بتسديد جميع الضرائب السنوية المترتبة عليه والتي لا تقل عن 50 دينارًا تركيا يحق له الانتخاب في المجلس البلدي.
أما بالنسبة للمرشحين فيجب أن لا يقل عمر الواحد منهم عن 30 عامًا وأن يكون مسددًا لضرائب الأملاك والتي يجب أن لا تقل عن 150 دينارًا تركيًا في السنة.
وبناءً على صدور قانون البلديات الجديد تم إعادة انتخاب مجلس بلدي موسع لمدينة القدس مؤلف من عشرة أعضاء 6 من المسلمين و2 من المسيحيين و2 من اليهود.
ومن أوائل الشخصيات المقدسية التي تولت رئاسة المجلس البلدي السيد يوسف الخالدي، الذي ترأس المجلس البلدي للمدينة المقدسة لمدة تسع سنين متتالية، وكان له تأثير كبير في تقدم وتطور المجلس البلدي في تلك الفترة، حيث سعى المجلس البلدي إلى تطوير أوضاع المدينة من حيث التركيز على النشاطات الأولية من إضاءة وتنظيف للمدينة، وتحسين ورصف شوارعها وأسواقها، لكن أهم مسئولياته وأكبرها كانت تأمين موارد المياه للمدينة، فقام بإجراء عدة إصلاحات على قناة السبيل التي كانت تمد القدس بالماء من برك سليمان.

ثانيًا: الازدهار العمراني
إن من أهم سمات التطور الحضاري الذي شهدته مدينة القدس في عهد السلطان عبد العزيز هو الازدهار العمراني الكبير والمتميز في داخل أسوار المدينة وخارجها. ففي خلال السنوات العشر التالية لحرب القرم سنة 1856، تم تنفيذ 24 مشروعًا عمرانيًا كبيرًا في داخل وخارج أسوار المدينة، بالإضافة إلى المجمع الروسي الكبير (المسكوبية) الذي شيد في منطقة الميدان الكائنة شمال غرب المدينة في عهد السلطان عبد المجيد.
ومنذ أواخر الستينيات حدث اندفاع وتوسع في بناء دور سكن جديدة، أو زيادة الطوابق على المباني القائمة في داخل المدينة، كما أقيمت مبان لليهود في الجهة الشمالية الغربية للمدينة وعلى جانبي الطريق المؤدية إلى يافا، كما تم افتتاح العديد من المدارس التبشيرية الألمانية الغربية في المدينة، منها المدرسة التبشيرية تاليتا قومي TALITA KUMI وهى مدرسة خاصة للبنات أسست عام 1868.
وفي ذات العام 1868 زار مدينة القدس الأمير فريدريك ولى عهد بروسيا، فأهداه السلطان عبد العزيز قطعة أرض كانت في الأصل تؤلف قسمًا من المستشفى الصلاحي، حيث بني عليها فيما بعد كنيسة حملت اسم (كنيسة الدباغة) أو كنيسة المخلص، التي دشنها الإمبراطور غليوم يوم زيارته إلى القدس عام 1898. وفي بداية السبعينيات وبالتحديد في عام 1871 أمر السلطان عبد العزيز بتعمير مسجد المغاربة بالقدس.
وفي عام 1873 تم إنشاء مستعمرة ألمانية في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة وسكنها 257 شخص، كان معظمهم من الصناع المهرة وعائلاتهم.
وفي عام 1874 تم تعمير قبة الصخرة ومسجدها والمسجد الأقصى، حتى قيل إن التعميرات التي تمت في المسجد الأقصى تعد من أضخم التعميرات التي لحقت به بعد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. ويقول الخبراء إن هذه العمارة كلفت خزانة الدولة العثمانية مقادير كبيرة من الذهب الخالص، وقد اعتبر عمله هذا إسرافًا، فكان من جملة الأسباب التي أدت إلى خلعه.
وفي خلال أعوام السبعينيات أنشئت تجمعات سكنية يهودية خارج أسوار المدينة على شكل عمارات سكنية وبيوت مبنية في صفوف موحدة الشكل وشبيهة بالثكنات، وذلك لمواجهة الحاجة الملحة للأعداد المتزايدة من المهاجرين اليهود. في حين أخذت كذلك العائلات الإسلامية الثرية في التوسع بسكانها وأماكن إقامتها خارج أسوار المدينة وفي الجهة الشمالية منها.
ثالثًا : التطور الاقتصادي
بعد انتهاء حرب القرم سنة 1856 انهالت الأموال بكثرة ساحقة من أوروبا على المدينة المقدسة، مما أفاد السكان المحليين من تزايد الإنفاق وخاصة فيما يتعلق بأعمال البناء والتعمير كأثمان للمواد والأجور، فكان للازدهار العمراني الذي شهدته مدينة القدس مورد اقتصادي هام للمدينة وأهلها، كما أدى كذلك إلى انتفاع القرى والمدن المجاورة لها.
فقد راجت أعمال الكلاسين (صناع الجير) ودقاقين الحجارة رواجًا شديدًا، وفي كل يوم كانت تتحرك قوافل كاملة من الجمال المحملة بالجير والأحجار والخشب إلى مدينة القدس. وكان الأمر في البداية يقضي بجلب المعماريين ودقاقين الحجارة من خارج فلسطين كما حدث عند بناء كنيسة المسيح، حيث جلب هؤلاء من مالطا، لكن ما أن بدأت أعمال البناء والتعمير بالرواج في أعوام الستينيات حتى أصبحت تتوفر هذه المهارات محليًا وخصوصًا من مدينتي بيت لحم وبيت جالا القريبتين من القدس. فقد نشأ فيها تخصص حرفي لتلبية متطلبات مهنة البناء خاصة وأن العاملين في تلك المهنة كانوا يتقاضون أجورًا جيدة.
وفيما عدا النشاط العمراني للمدينة وما صحبه من إنفاق، فإن المدينة عاشت في معظمها على الموارد الدينية سواء من إنفاق المؤسسات التبشيرية، أو من قدوم الحجاج وزيارتهم للمدينة وما صحبه من تأمين للخدمات والسلع المختلفة.

رابعًا: تطور الاتصالات
شهدت مدينة القدس في أعوام الستينيات من القرن التاسع عشر تقدمًا وتطورًا واضحين في وسائل الاتصال من تلغراف وإنشاء وتعبيد لطرق جديدة تصل المدينة المقدسة بباقي المدن الفلسطينية.
ففي شهر آب من عام 1864 وصل خط التلغراف إلى مدينة يافا ومنه وصل الخط إلى مدينة القدس في شهر حزيران من عام 1865م، وهكذا أصبحت مدينة القدس مربوطة بالتلغراف مع كل من القسطنطينية والقاهرة، ومن خلالهم إلى العواصم الأوروبية المختلفة، هذا الاتصال بالعالم الخارجي من خلال التلغراف كان له أهمية كبرى للمدينة خاصة بعد انفصالها عن دمشق عام 1874 واتخاذها صفة الاستقلالية، واتصالها مباشرة بالقسطنطينية.
أما عن إنشاء وتعبيد الطرق الواصلة للمدينة، ففي عام 1867 بدأت السلطات العثمانية بإنشاء وتعبيد أول طريق بين يافا والقدس عن طريق أعمال السخرة وتحت إشراف المهندس الإيطالي بيروتي PIEROTTI ، وتم فتح الطريق للسير عليه سنة 1867م. وفي عام 1870م تم تعبيد الطريق الواصل بين القدس ونابلس إلا أن تعبيد الطريق الواصل بين يافا والقدس لم يكن بالعامل المؤثر في ازدياد التبادل التجاري مع المركز التجاري لمدينة القدس، وإنما كان عاملاً مساعدًا في تسهيل عمليات السفر والانتقال من وإلى المدينة.
في بادئ الأمر عمل رئيس بلدية القدس آنذاك يوسف الخالدي على تشغيل عربات نقل عادية للخدمة على الشارع الجديد، لكن في عام 1875 تمكن فرسان المعبد من تأسيس أول شركة نقل لتسيير رحلات يومية منتظمة بين يافا والقدس. وفي عام 1879 تمكنوا من الحصول على امتياز حكومي لعملهم هذا فقدوا منافسة العرب واليهود لهم.
وفي العام 1876م أطاح السلطان مراد الخامس بن عبد المجيد بعمه السلطان عبد العزيز ليقوم مقامه، لكنه لم يلبث على عرش السلطنة أكثر من بضعة أيام لكونه مصابًا بمرض الصرع، وبتاريخ 31 آب 1876م نودي بأخيه الأصغر منه عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد سلطانًا على البلاد.
عند تولى السلطان عبد الحميد الثاني حكم السلطنة وجد البلاد تعاني من ضائقة مالية شديدة، والخزانة العامة خاوية أدت إلى إشهار إفلاسها سنة 1875م وانعكس ذلك على وضعها العسكري مما هدد كيانها ووجودها، في حين كانت روسيا تهدد بالحرب وأوربا تظهر العداء والعنت الصريحين للعثمانيين.
كل ذلك دفع العثمانيين إلى زيادة الاهتمام بالولايات السورية ومن جملتها فلسطين لزيادة فاعلية وضعهم المالي والعسكري عن طريق فرض الضرائب العادية منها وغير العادية، وكانت عمليات جمع الضرائب هي المحك لكفاءة وقدرة الحاكم، ولم يكن يقبل أي عذر لأي فشل أو إهمال في هذا الشأن، كما كان يترتب على سكان السناجق تقديم كميات من المؤن (الذخائر) إلى الوالي وجنده، وكان عدم الامتثال لذلك يواجه بعقوبات قاسية جدًا، هذا إضافة إلى تكثيف عمليات التجنيد الإجباري التي كانت تتم في المناطق دون هوادة، مما دفع البلاد إلى مزيد من الفوضى والفساد وتنامي روح الثورة ضد الجور والظلم.
وبتاريخ 7 من ذي الحجة سنة 1293هـ/1876م وبتأثير من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) مدحت باشا أعلن السلطان عبد الحميد الثاني القانون الأساسي للدولة (الدستور) الذي بموجبه منح الشعب حرية القول والعمل والاجتماع، كما أمر السلطان عبد الحميد الثاني بانتخاب مجلس العموم والمؤلف من مجلسين، وهما الأعيان ومجلس المبعوثان (النواب).
إلا أن البلاد العثمانية لم تنعم بهذه الحرية زمنًا طويلاً، إذا لم ينقض سنتان على نشر الدستور إلا وقام السلطان عبد الحميد الثاني متذرعًا بإعلان روسيا الحرب على بلاده سنة 1877 بإصدار قانون يعطل العمل بالدستور، وفي سنة 1878 حل البرلمان وأغلق (ضولمة باغجة) التي كان يجتمع فيها مجلس المبعوثين، وعمل على مناوئة كافة الجهود الوطنية للإصلاح، ونفى مدحت باشا إلى خارج البلاد وكان ذلك لثبات اعتقاده وإيمانه بوجوب الحكم المطلق في يده، فراح يدير ويحكم البلاد وفق إرادته الشخصية مما دفع البلاد إلى عهد جديد من الطغيان وسواء استغلال السلطة وفسادها.
لكن سوء الأوضاع في البلاد العثمانية دفع ببعض المثقفين الأتراك لتأليف جمعية الاتحاد والترقي التي دعت إلى إقامة حكومة دستورية تدخل النظم الحديثة في الإدارة والجيش، وتحقق الحرية والمساواة وتوقف تدخل الدول الأوروبية في شئون الدولة العثمانية. وعمل أعضاء هذه الجمعية على نشر الدعوة سرًا بين قوات الجيش الذي انضم أغلبه إليها.
وفي 3 تموز سنة 1908م تم إعلان الثورة على الحكومة مطالبين بإسقاطها الأمر الذي أجبر السلطان عبد الحميد بتاريخ 25/7/1908م على معاودة إعلان العمل بدستور 1876 بعد تعطيله مدة إحدى وثلاثين سنة وإطلاق الحريات العامة.
وبعد بضعة أشهر وبالتحديد بتاريخ 13/4/1909م حاول السلطان عبد الحميد الثاني القيام بثورة مضادة للتخلص من الجمعية ومن الدستور ومن مجلس المبعوثين، عندئذ زحف الجيش من سالونيك إلى الأستانة وأعاد إلى جمعية الاتحاد والترقي نفوذها، فعمل أعضاؤها على إسقاط السلطان عبد الحميد عن عرشه وأقاموا مقامه أخاه محمد رشاد سلطانًا باسم محمد الخامس في 17/4/1909م.
رابعًا – القدس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909):

على الرغم مما شهدته مختلف البلاد العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني من تراجع حضاري واضح، وتدهور كبير في أوضاعها الاقتصادية والأمنية إلا أن مدينة القدس تميزت عن باقي المدن الفلسطينية والولايات السورية باستمرار نموها وتطورها الحضاري الناجم عن السياسة العثمانية التي عمدت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر على تأكيد أهمية سنجق القدس بفصله عن ولاية الشام وارتباطه مباشرة بالأستانة عام 1847، ومحاولة السلطات العثمانية دعم وتثبيت وجودها الإداري في فلسطين قبالة الحكم المصري السابق من ناحية، وبشكل أقوى وأكبر أمام الدول الأوروبية من ناحية ثانية.
كما عملت على الاستمرار في سياسة الانفتاح التي اتبعها محمد علي باشا وولده إبراهيم باشا في المدينة المقدسة والتي لم يعد بإمكان العثمانيين التراجع عنها، وكذلك ازدياد الاهتمام والصراع الأوروبي الغربي فيما بينها لبسط نفوذها في المنطقة بحجة الأقليات الدينية التابعة لها من خلال فتح قنصليات جديدة في القدس في عهد السلطان عبد الحميد، غير تلك التي فتحها في عهد سلفه السلطان عبد المجيد، ففي عام 1885 بدأ قنصل ألمانيا بالعمل في القدس بصفته مندوبًا عن إمبراطور ألمانيا وملك بروسيا، وفي عام 1886 اعترفت الحكومة التركية بوجود ملحق تجاري في القدس لدولة العجم (إيران) وفي عام 1888 اعترفت أيضًا بوجود قنصل روسي يحمي المصالح الروسية في القدس.
كان القنصل المعين عند وصوله إلى مدينة القدس عليه أن يقدم أوراق اعتماده إلى المتصرف والنائب، مرفقًا بها رسالة توصية من ولاة الأمر في الأستانة تشتمل على اسمه واسم سلفه والمدة التي سيمكثها في القدس، وصلاحياته تجاه رعاياه والامتيازات التي يتمتع بها، مع الطلب بأخذ جميع التدابير اللازمة لحمايته.

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 14 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



ثانيًا: التوسع العمراني والحضاري
شهدت مدينة القدس منذ أعوام السبعينيات من القرن التاسع عشر توسعًا كبيرًا في البناء والتعمير خارج أسوار المدينة، خاصة بعد أن تم شق وتعبيد الطريق الواصل بين مدينتي يافا والقدس سنة 1867م الذي سهل كثيرًا من عمليات نقل واستيراد مواد البناء من وإلى القدس على عربات دون عناء.
في أواخر السبعينيات ونتيجة للتوسع العمراني إلى خارج الأسوار أصبحت أبواب المدينة تفتح طوال الليل وفي أوقات صلاة الظهر من يوم الجمعة.
ومنذ أوائل أعوام الثمانينيات بدأ المقدسيون في اتباع طرق حديثة في بناء المساكن المقامة خارج الأسوار حيث أصبحت جدران المباني أقل سمكًا وغرفها مسقوفة بأعمدة خشبية، وكذلك أرضياتها من الخشب، ومن ثم تطورت عمليات البناء إلى بناء الأسقف من الأعمدة الحديدية والأرضيات من البلاط الحجري، كما تم تغطية خشب الأسقف بحجر القرميد الأحمر وهكذا بدأت في الظهور مدينة القدس الجديدة ذات الطابع الأوروبي والتي أخذت تنمو وتكبر إلى جانب مدينة القدس التاريخية.
أما المباني التي أقيمت للمهاجرين اليهود الجدد في المنطقة المجاورة للناحية الشمالية الشرقية من القدس القديمة، فقد أخذت أيضًا في النمو والتوسع لازدياد أعدادهم من جهة، ولسهولة حصولهم على أراض للبناء خارج المدينة لكونها أراض غير مملوكة للحكومة أو الأفراد أي مشاع. أما التجمعات اليهودية المقامة في داخل المدينة فقد كانت تعمل في الغالب على استئجار مساكن لها من الأوقاف الإسلامية.
هذا وقد تم إجراء العديد من أعمال البناء والتعمير في داخل المدينة المقدسة في عهد السلطان عبد الحميد، حيث تم بناء وتعمير العديد من المنشآت المائية منها تعمير السبيل الكبير المعروف بسبيل قايتباي، وقناة السبيل عام 1899م كما أنشئ السبيل الذي كان قائمًا تجاه باب الخليل إلي الغرب سنة 1907م كما أقيم برج الساعة فوق باب الخليل في ذات العام 1907م.
وقيل إن السلطان عبد الحميد أنفق على تعمير الحرم وزخرفته ثلاثين ألف ليرة عثمانية خلا الطنافس المختلفة الألوان التي اتخذت فرشًا، وبلغت قيمتها عشرة آلاف ليرة عثمانية.
ثالثًا: تطور خطوط المواصلات
من المشاريع المهمة التي أقيمت في عهد السلطان عبد الحميد وكان لها أثر كبير في انتعاش اقتصاد المدينة والمناطق المحيطة بها هو مد سكة الحديد بين القدس ومدينة يافا المطلة على البحر المتوسط بطول 86.630 كم وقد حصلت على امتياز تنفيذه شركة فرنسية عام 1889 وبدأ العمل بإنشائه في عام 1890، وتم الانتهاء منه وتشغيله في عام 1892م.
ومع نهاية القرن التاسع عشر قدرت الأرباح العائدة من تسيير الخط الحديدي بمبالغ طائلة من الأموال، حيث قدر عدد المسافرين من الحجاج والزوار بـ 85.440 مسافرًا في العام 1893 و149.200 مسافر في العام 1909م.
كما قامت السلطات العثمانية في القدس بإنشاء شبكة من الطرق الجديدة في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، وصلت المدينة المقدسة بباقي المدن في وسط وجنوب فلسطين منها رام الله – بيت لحم الخليل أريحا.
رابعًا: تطور البنية التحتية
من الأمور التي ساهمت في تطوير المدينة حضاريًا تمتعها بالمجلس البلدي الذي كان قائمًا والذي سعى جاهدًا في اتباع الإجراءات الضرورية اللازمة لتحسين البنية التحتية للمدينة والأوضاع المعيشية لسكانها.
في أوائل السبعينيات بدأت بلدية القدس إجراءاتها النشيطة لتنظيف المدينة وجمع النفايات ورصف الشوارع ومد شبكة للمجاري والتي استمر التوسع فيها حتى عام 1914، وفي عام 1886 شكلت قوة شرطة للمدينة للمحافظة على الأمن والاستقرار فيها، كما قامت البلدية في نفس العام بإنشاء عيادة وتم تعيين طبيب لمعالجة المرضى مجانًا.
ومنذ أوائل التسعينيات سعت البلدية إلى تحسين الخدمات الطبية في القدس من خلال إنشاء المستشفى البلدي ليخدم قطاعًا أوسع من الناس. ويقول د. كامل العسلي في كتابه (مقدمة في تاريخ الطب في القدس): إن حقيقة أمر المستشفى هو أن الحاج سليم أفندي الحسيني رئيس بلدية القدس اشترى قطعة أرض في حي الشيخ بدر (روميما بعد ذلك) قرب لفتا وبنى عليها مبنى ذا طابقين يضم 28 غرفة وكان البناء يضم 40 سريرًا، وكان المستشفى مزودًا بغرفة عمليات مجهزة تجهيزًا ممتازًا، كما كانت صيدلية المستشفى مجهزة بجميع الأدوية المعروفة في ذلك الوقت.
وفي عام 1892 افتتح متنزه عام للجمهور في شارع يافا وسط المدينة، وغدت الفرق الموسيقية تعزف ألحانها هناك مرتين أسبوعيًا. ومع نهاية القرن التاسع عشر تم تركيب الآلاف من مصابيح الكاز لإنارة شوارع المدينة.
ومع بداية القرن العشرين توسعت النشاطات الثقافية في المدينة حيث تم تأسيس متحف للآثار، وافتتاح مسرح قرب باب الخليل سنة 1901 كانت تقدم فيه المسرحيات باللغات العربية والتركية والفرنسية.
وفي الأول من أيلول سنة 1908م صدرت أول مجلة عربية في فلسطين وظهرت في القدس أسماها صاحبها حنا عبد الله العيسى (بالأصمعي) وكانت تعالج الموضوعات الاجتماعية والأدبية والسياسية والتربوية، لكنها توقفت عن الصدور بعد وفاة صاحبها بتاريخ 12/9/1909 بعد أن صدر عنها أحد عشر عددًا في مدة خمسة أشهر ونصف، هذا وقد شارك في تحريرها والكتابة فيها الأديبان والكاتبان المقدسيان خليل السكاكيني ومحمد إسعاف النشاشيبي.
نهاية الحكم العثماني لمدينة القدس

ما أن انقضت بضع سنوات على تولي السلطان محمد رشاد الخامس حكم السلطنة العثمانية في عام 1909 حتى أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وحارب الأتراك العثمانيون إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء الإنكليز والفرنسيين والروس في خمس جبهات هي القفقاس- الدردنيل – العراق –رومانيا – فلسطين، ولكنهم خسروا جميعها أمام الحلفاء مما أرغم حكومة الأستانة في نهاية الحرب على عقد معاهدة سيفر sevres ، والتي أجبرت فيها على التنازل عن جميع ممتلكاتها في أفريقيا وآسيا وأوروبا ما عدا أراضي الأناضول والأستانة، ووضعت الأستانة تحت الرقابة الدولية.
أما على الجبهة الفلسطينية وعندما خسر الأتراك مواقعهم الحصينة في جنوبها أدركوا أن القدس لا بد وأن تسقط في أيدي قوات الإنكليز، فبدءوا بالتراجع من مساء يوم الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر، كما أيقن متصرف القدس عزت بك أنه لا أمل يرجى من المقاومة فأرسل في تلك الليلة أيضًا يطلب مفتي القدس كامل الحسيني ورئيس بلديتها السيد حسين سليم الحسيني للاجتماع إليه في داره وهناك خاطبهما قائلاً:
( ها قد أحاط الجنود الإنكليز بالقدس، ولا بد أن تسقط عما قريب بأيديهم، ولقد اعتزمت مغادرة المدينة بعد نصف ساعة، وأود أن ألقي بين أيديكم هذا الحمل الأدبي العظيم ألا وهو تسليم المدينة). ثم ناول رئيس البلدية وثيقة التسليم ليسلمها للإنكليز.
فيما يلي الترجمة الحرفية لنص وثيقة التسليم كما أوردها عارف العارف في كتابه.
( إلى القيادة الإنكليزية: منذ يومين والقنابل تتساقط على القدس المقدسة لدى كل ملة. فالحكومة العثمانية رغبة منها في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب، قد سحبت القوة العسكرية من المدينة وأقامت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية كالقيامة والمسجد الأقصى. وعلى أمل أن تكون المعاملة من قبلكم على هذا الوجه فإني أبعث بهذه الورقة مع وكيل رئيس بلدية القدس حسين بك الحسيني).
8/12/1917م- 1333هـ
متصرف القدس المستقل / عزت
وفي صبيحة يوم الأحد الموافق 9/12/1917 وفي نحو الساعة التاسعة صباحًا كانت القوات التركية قد أنهت انسحابها الكامل من المدينة، وتم تسليم وثيقة التسليم من قبل رئيس البلدية ومجموعة من الشبان المقدسيين إلى قائد الفرقة الستين للجيش الإنكليزي الجنرال شي general shea وكان دخول الجيش الإنكليزي إلى المدينة المقدسة في تمام الساعة العاشرة والنصف من ذات اليوم.
وبدخول الإنكليز إلى المدينة المقدسة بدأ عهد التحول الجذري في مصير المدينة المقدسة حيث انتهى الحكم العثماني الإسلامي لها بعد أن دام ما يقارب الأربعمائة عام امتدت منذ عام 1517 حتى 1917 وبدأ عهد جديد من المستعمرين الجدد.



توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 15 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس في عهد الخلافة العثمانية
محمد أبو مليح *



من الفترات التي كثر فيها اللغط، وزاد بها الكلام وتأرجحت فيها عقول الناس بين الأخذ والرد فترة العثمانيين، ففي هذا العهد استولى اليهود على القدس وتناثرت الإشاعات عن أن العثمانيين هم السبب في هذا الضياع، واستغل اليهود هذه الشائعات في تنفيذ مخططاتهم القائمة على سياسة”فرق تسد” فدسوا وسط السطور مساوئ العثمانيين ، ومحو محاسنهم، حتى يضمنوا بذلك ألا يبحث المسلمون عن دولتهم وحتى لا يحاولوا أن يعيدوها.
وفي السطورالقادمة نحاول إظهار بعض الحقيقة بهدف إرجاع الحق لأهله. وهذه بعض المحطات التي سوف نتوقف عندها:
إطلالة على دولة الخلافة
القدس في عهد السلطان سليم الأول
القدس في عهد السلطان سليمان القانوني
القدس خلال القرن السابع عشر
القدس خلال القرن الثامن عشر
القدس والدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر:
vالقدس في عهد السلطان عبد المجيد
vالقدس في عهد السلطان عبد العزيز
vالقدس في عهد عبد الحميد الثاني
vنهاية الحكم العثماني لمدينة القدس
__________
إطلالة على دولة الخلافة

يتبع الحديث عن القدس بعد صلاح الدين فترة حكم العثمانيين الذي لا يقل في أهميته عن الحديث عنها في زمن صلاح الدين والمماليك لطولةالمدة التي حكموها إذ ان حكمهم امتد من 922 – 1336 هـ 1516 – 1917م إلى أن احتلها الإنكليز.
وفي عهدهم أصبحت القدس متصرفية متصلة رأسيًا باستنبول بعد صدور قانون الولايات في سنة 1287 هـ 1817 م وأطلق عليها قدس شريف متصرفلغي إدارة مستقلة) وبعد أربع سنين صدر قانون آخر بإنشاء مجالس بلدية في مراكز الولايات والمتصرفات، لكن المجلس البلدي في القدس قبل ذلك كان قد تولى منذ سنة 1863 بعض مسئوليات القاضي وبعض مسئوليات المجلس الاستشاري في إدارة شئون المدينة الداخلية كالنظافة والمياه والأسواق تحت رقابة المتصرف العامة، ويرد ذكر بلدية القدس في تقرير عن مشروع مياهها أرسله القنصل البريطاني إلى السفارة في استانبول ويرجع السبب في هذه المتصرفية إلى أن متصرف القدس أصبح يومها منتخب لمدة أربع سنوات، بموجب نظام صادر بتشكيل البلديات وهذا النظام يسمى نظام الولايات وقد بلغ عدد أعضاء هذا المجلس سنة 1917م ستة أعضاء أربعة من العرب واثنان من اليهود فلم يغير الإنكليز وضع البلدية عما كانت عليه في عهد العثمانيين.
وفي عهد العثمانيين أيضًا حدثت فتن وأوبئة واضطرابات وانتفاضات وانقلابات غيرت معالم القدس، فحدثت الانتفاضة الشعبية سنة 1115 هـ بقيادة محمد بن مصطفى الحسيني نقيب الأشراف بسبب الضرائب الباهظة التي فرضت على السكان الأمر الذي حال دن تنفيذ ذلك إذ عزل حاكمها آنذاك جورجي محمد باشا وعين بدله محمد بن مصطفى مؤقتًا.
وحدثت فتنة كنيسة القيامة سنة 1171 هـ التي ذهب ضحيتها الكثير من الجرحى والقتلى من الروم الأرثوذكس والإفرنج، وانتصر العثمانيون للأرثوذكس وسلموهم جميع الأماكن المسيحية في المدينة.
وظهر وباء خطير فتك بسكان القدس والبلاد المجاورة واستمر لأكثر من ستة أشهر.
وحدثت غزوة نابليون سنة 1213 هـ لمصر ولم يستطع الاقتراب من القدس بعد هزيمته المنكرة في عكا.
وحدث حريق الجزء الغربي لكنيسة القيامة سنة 1223 هـ واتهام الأرمن بتدبيره.
وحدثت الثورة الشعبية ضد والي دمشق سنة 1223هـ بسبب الضرائب التي فرضها على السكان ففجر الفلاحون ثورة عارمة في المنطقة المحيطة بالقدس امتدت إلى داخل القدس نفسها، قاد والي دمشق بنفسه خمسة آلاف جندي لمواجهة الثائرين وانتهى الأمر بأن يدفع الفلاحون الثائرون غرامة كبيرة ولكن ما إن ارتحل الوالي حتى ثار الأهالي فاستولوا على قلعة القدس وأقاموا على حراسة أبواب المدينة حراسة شديدة، ولكن ما لبثت السلطات العثمانية أن أرسلت والي دمشق على رأس ألفي جندي إلى القدس لمفاوضة زعماء القدس الذين رفضوا التزحزح عن موقفهم بأن لا يستقبلوا بين ظهرانيهم أي أجنبي أو غريب (عثماني أو ألباني) لكن ضراوة قصف العثمانيين للمدينة بالمدفعية أجبرت الثائرين على الاستسلام فانتهت الثورة دون سفك دماء.
وحدث سنة 373 هـ مرض الكوليرا في القدس والذي أدى إلى موت ثلاثة آلاف شخص من القدس وحدها دون سائر فلسطين الذين كان عددهم آنذاك عشرين ألف نسمة.
وعن اهتمام العثمانيين بالقدس فقد اهتموا بإعادة تعمير الحرم القدسي الشريف وإصلاحه واهتموا كذلك بإنشاء المراكز والمنشآت الدينية والاقتصادية وخاصة في عهد السلطان سليمان القانوني التي كانت تحيط بالأجزاء العلوية من الجدران الخارجية بالفاشاني المزخرف والأجزاء السفلية بالرخام وكذلك تجديد سور القدس الذي استمر خمس سنوات وأنفقت عليه الأموال الطائلة.
النقود والمسكوكات في العهد التركي:
يظهر أن النقود التي كانت، في بداية الحكم التركي، رائجة بين سكان بيت المقدس هي التي سكت على عهد المماليك، وأن قيمة هذه المسكوكات قد هبط إلى الحضيض مع زوال حكم المماليك. الأمر الذي حدا بالسطان قانوني إلى سك فلوس جديدة سميت باسمه. ويظهر أيضًا أن الناس في بادئ الأمر أقبلوا على التعامل بالفلوس الجديدة وأهملوا القديمة لهبوط قيمتها الأمر الذي أحدث ارتباكًا في الأسواق فراحت جماعة من المسلمين إلى نائب القدس تشكوا أمرها قائلة إنها تضررت من قلة الفلوس الجديدة وتقرر أن تكون الفلوس القديمة المسكوكة كل أربعة بربع. وذلك برضا جماعة السوقة وأحمد بن أبي بكر محتسب القدس الشريف.
وإليك بيان بعض النقود المسكوكات التي سمعنا بها في ذلك العهد: أن أول عملة ضربت في العهد التركي كانت تسمى: أقجة وهى كلمة مغولية الأصل ومعناها: القطعة البيضاء. ضربها علاء الدين باشا أخو السلطان أورخان. وقد اتخذت يومئذ راتبًا يومًا للواحد من الجنود. كانت في البدء تساوي ثلث درهم من الفضة. وفي القول أنها عبارة عن أربعين بارة.
الدرهم: كانت المعاملة، في أوائل العهد التركي بالدرهم وهو من الفضة وكانوا يسمونه 954 هـ – 1547 م الدرهم التركي وجمعه دراهم وكثيرًا ما وردت هذه في الصكوك باسم (الدراهم الفضية العثمانية) وهي من القطع السليمانية.
وسترى فيما يلي من السطور أن كل أربعة دراهم من الفضة كانت تساوي قرشًا واحدًا.
الدينار: هو نوع من النقد يعادل السكة السلطانية مصنوعة من الذهب والدينار عبارة عن أربعين قطعة من الفضة السليمانية.
والدينار الذهب كانوا يسمونه البندقي وقيمته 48 قطعة مصرية. والقرش الصحيح كان في الأصل عبارة عن 32 قطعة مصرية.
ولقد ذكرت (الدنانير الناصرية) ويظهر أنها سكت قبل عهد الأتراك بارة قطعة من النقد التركي صغيرة القيمة لا بل أنها أصغر من نقد آخر أصل الكلمة بارة وهي فراسية ومعناها شقفة أو قطعة أو جزء. وجمعها: بارات والبارة عبارة عن واحد من أربعين من القرش أو أن القرش عبارة عن أربعين بارة.
والبارة كانت متداولة في البلاد العثمانية ولا سيما مصر. ولذلك يقال لها أيضًا مصرية ومن هنا جاء قولهم (معك مصاري) أي دراهم للإنفاق.
(القطعة المصرية تعد قطعتين شاميتين أو قطعتين عثمانيتين أيضًا والقرش الأسدي عبارة عن ثلاثين قطعة مصرية ويظهر أنه كان هناك قرش غير القرش الأسدي. وهذا القرش كانوا يسمونه بالقرش الصحيح وقيمته 32 قطعة مصرية).
لقد جاء في البستان أنه لما كانت البارة عملة في البلاد العثمانية ولا سيما في مصر. فقد سميت أيضًا مصرية. إذًا يجوز القول أن المقصود من القطعة المصرية هو البارة.
(القطعة الشامية) نصف القطعة المصرية. أي أن كل قطعة مصرية تعادل قطعتين شاميتين. ولما كان القرش الأسدي يعادل ثلاثين قطعة مصرية وبالتالي ستين قطعة شامية، وتكون القطعة الشامية عبارة عن جزء من ستين من القرش الأسدي.
ويظهر أن القطعة الشامية والعثمانية واحدة. أي أن كل قطعتين عثمانيتين تعادلان قطعة مصرية.
(السطاني) من النقود السليمانية الواحد منه يعادل 40 قطعة مصرية ولقد قدر القاضي قيمة شيء من الأشياء بثلاثين سلطانيًا قال عنها في قراره أنها تعادل 1200 قطعة مصرية. ولما كان القرش الأسدي يعادل ثلاثين قطعة مصرية فيكون السلطاني معادلاً لقرش وثلث القرش من القروش الأسدية.
(السكة) أو (السكة السلطانية) نوع من العملة ورد ذكرها في المعاملات المدونة في سجلات المحكمة الشرعية خلال القرن العاشر للهجرة (973 هـ – 1565م) ويعتقد أنها من النقود التي سكت في زمن السلطان سليمان القانوني.
منها ما سك من الذهب ويسمونه (الذهب السلطاني) أو (الدينار) ومنها ما سك من الفضة ويسمونها (الفضة السليمانية) أو (القطع السليمانية).
ويظهر أن الدينار أو السكة السلطانية المصنوعة من الذهب كانت تعادل أربعين قطعة من الفضة السليمانية أو مائة بارة.
وأن السكة كانت عبارة عن خمس بارات. وقد تكون هذه هي المصنوعة من معادن أخرى.
(القرش الأسدي) من النقود التي سكها السلاجقة في بر الأناضول، وانتقلت معهم إلى هذه البلاد عندما اكتسحوها قيمة أربعون بارة. وقد سمي كذلك لأن صورة الأسد كانت في البدء مطبوعة عليه. وعلى قول أنه كانت عليه صورة الأسد والشمس معًا. واستعمله الفرس على هذا الشكل كشعار خاص لمملكتهم وظل يسمى القرش الأسدي رغم أن صورة الأسد رفعت عنه مع الزمن.
استعمل فيما مضى أساسًا للمعاملات التجارية ولصرف النقود، ثم انحصر استعماله في بيع الأشياء بالمزاد العلني فقط. وظل رائجًا في هذه البلاد حتى أواخر القرن التاسع عشر. وهناك من يقول أن أول من استعمله هم الأتراك العثمانيون، وأن هؤلاء أخذوه عن العملة الأسدية الهولاندية التي كانت آنئذ رائجة لديهم في الممالك العثمانية. وكانت تضرب بقيمة ثمانية دراهم ونصف وبعد أن استعمله الأتراك العثمانيون صار يسمى (القرش التركي) ويقال له أيضًا (القرش العثماني) و(القرش السلطاني).
والقرش الأسدي: كان خلال القرن السابع عشر الميلادي يعدل ثلاثين قطعة مصرية وقد رأيناه في مواضع أخرى خلال ذلك العصر يساوي ثلاثة فرنكات وفي قول أن القرش السلطاني يساوي 40 قطعة فضية والقرش الأسدي وهو نصفه يساوي 20 قطعة فضية.
ومن هذا يفهم أن كلمة (القرش) سواء كانت من اختراع الأتراك السلوجوقيين أو الأتراك العثمانيين فإنها كلمة تركية أصلها (غرش) ومن أسمائها باللغة التركية أيضًا: (آفجة).
وعلى قول أنها لاتينية الأصل أو ألمانية (جروش) ومهما كان أصلها فإن العرب أخذوها عن الأتراك فعربوها وقالوا (قرشًا) والأتراك ضربوا هذا النوع من النقد في بلادهم لأول مرة على عهد السلطان سليمان الثاني 1099 – 1102 هـ ( 1687 – 1691 م) وهو جزء من المائة من الليرة التركية.
كانت زنة القطعة الواحدة ستة دراهم فضية وقد استعمل القرش منذ قرن ونصف تقريبًا كوحدة للمعاملات المالية والنقدية بقيمة أربعين بارة.
ظلت النقود السليمانية المتقدم ذكرها رائجة في أسواق بيت المقدس حتى زمن السلطان سليم الثالث بن مصطفى الثالث الذي تولى العرش سنة 1203 هـ- 1788 م فقد صدرت الإرادة السنية على عهده بطلب الأواني وجمعها ممن عندهم وإرسالها إلى الضربخانة على أن يعوض صاحبها عن كل مثقال من الذهب بستة قروش ونصف وعن كل أربعة من الفضة بقرش واحد.
ومن النقود التي اشتهرت في ذلك العهد، ولا سيما خلال القرن الثامن عشر للميلاد (الزلطة) وهي بولونية الأصل فالصداق كان 500 زلطة والدار الكائنة باب حطة بيعت بسبع عشرة زلطة والزلطة عبارة عن ثلاثين بارة فضية أي أنها ثلاثة أرباع القرش الأسدي أو خمس ذهبة فندقية.
ولقد سكت بعد ذلك التاريخ نقود ومسكوكات كثيرة أخرى، سميت كل واحدة منها باسم السلطان الذي سكت على عهده ومنها (المحمودية) التي ضربت على عهد السلطان محمود 1808م والمجيدية التي ضربت على عهد السلطان عبد المجيد 1839 م والعزيزية التي ضربت على عهد السلطان عبد العزيز 1860 م والحميدية التي ضربت على عهد السلطان محمد رشاد الخامس 1908.
أما العملة المحمودية فإنها نوعان: (عملة مغشوشة) وهي عبارة عن البشلك قرشان ونصف والوزري خمسة قروش والعشرية متاليك والنوع الثاني عملة ذهبية وهي عبارة عن خيرية ومحمودية.
والحقيقة أن العملة المغشوشة فقط هي التي كانت رائجة في أسواق التجارة. وهي التي كانت الأيدي تتداولها في كل مكان وأما العملة الذهبية فقد كانت تباع وتشترى بقصد الزينة فقط.
ومن هذا نفهم أنه ليست النقود والمسكوكات التركية أو العثمانية فقط، وإنما النقود والمسكوكات الإنكليزية والفرنسية أيضًا حتى والروسية والإيطالية والنمساوية والبلجيكية الفضة منها والذهب كانت رائجة في بيت المقدس 1898 وكذلك قل عن الذهب المصري كان لكل نوع من هذه النقود التركية منها والأجنبية أربع قيم مختلفة وكان يطلق على هذه القيم خالصة ومغشوشة وصاغ وشرك.
أما القيمة الخالصة فإنها قيمة الشيء عندما تدفعها نقدًا ذهبًا كان أو فضة.
وأما القيمة المغشوشة فهي القيمة التي تدفعها بالعملة النحاسية.
وأما القيمة الصاغ فهي القيمة التي تحددها الحكومة وما كان يعمل بها إلا نادرًا وكلمة صاغ تركية معناها: سليم وصحيح أو غير فاسد.
وأما القيمة الشرك فهي القيمة التي تدفعها بالعملة الدارجة أصلها جوروك وهي تركية ومعناها فاسد.
إن القيم الثلاثة الأولى لا تتغير ولا تتبدل وأما القيمة الرابعة فإنها تتغير وتتبدل تبعًا للزمان والمكان وكان على عهد السلطان محمود 1808 نوع من العملة يسمى: القبق وهو خمس نحاسات والنحاسة وهي بارة واحدة والمتاليك وهو عشر نحاسات والقرش وهو أربعة متاليك والمجيدي وهو تسعة عشر قرشًا.
أما المتاليك فقد كان يصنع من النحاس الأحمر، ويطلى بنسبة 10% من الفضة وهو أصغر من النحاسة.. إنه عبارة عن عشر بارات وأما القبق فإنه عبارة عن نصف متاليك أي خمس بارات وكان يصنع من النحاس الأحمر ولكنه لا يطلى بالفضة وهو أكبر من النحاسة، وأما النحاسة فإنها كانت تصنع من النحاس الأحمر وهي أصغر من القبق وللقبق أجزاء هي: النصف والربع والثمن ومن أجزائه المعروفة السحتوت وأما البشلك والوزري فإنهما كانا يصنعان من النحاس ويطليان بماء الفضة وهذا هو السبب في تسمية هذا النوع من العملة بالعملة المغشوشة.
كان البشلك في البدء عبارة عن خمسة قروش أي عشرين متلكيًا ثم انخفضت قيمته إلى النصف أي قرشان ونصف القرش وبعبارة أخرى عشرة متاليك والمتليك عبارة عن عشرة بارات.
وهناك نصف البشلك وهو عبارة عن خمسة متاليك.
إنه أي البشلك هو العملة المغشوشة وقد سميت كذلك لأنها صنعت من النحاس المخلوط بالفضة ونسبة الفضة فيها 10%.
وفي زمن السلطان عبد المجيد ظلت المحمودية المغشوشة سائدة وهي النحاسة والقبق والمتاليك والبشلك والوزري غير أنه أضيف إليها المجيدي وهو مصنوع من الفضة الرباص الصافي والمجيدي كان عبارة عن تسعة عشر قرشًا ثم صار عشرين قرشًا ونصف المجيدي تسعة قروش ونصف وربعه خمسة قروش إلا ربع، والليرة العثمانية الذهب وهي عبارة عن مائة قرش.
وفي زمن السلطان عبد العزيز بقيت العملة المحمودية (أي البشلك والوزري والمتاليك والنحاسة والقبق) وكذلك العملة المجيدية أي المجيدي والنصف مجيدي والربع مجيدي والليرة الذهب من النقود الرابحة.
وكذلك في زمن السلطان عبد الحميد فإن العملة المتقدم ذكرها كلها ظلت سائدة ولم يزد عليها سوى أن المجيدي طبع من جديد وكذلك قل عن الليرة ذهب وقد طبع عليها اسم السلطان عبد الحميد والتاريخ الذي ضربت فيه.
وفي زمن السلطان رشاد ظلت جميع أنواع العملة المتقدم ذكرها سائدة إلا أنه أضيف إليها عملة من نوع النكل وهي عبارة عن:
قرش واحد = 40 بارة
نصف قرش = 20 بارة
ربع قرش = 10 بارات
احتفظ القرش بقيمته الأصلية وقدرته على الشراء مدة من الزمن ولكنه أخذ يميل إلى التدهور في أواخر العهد العثماني فبعد أن كان القرش الواحد في 5 جمادى الأولى سنة 1204 هـ – 1789 م يعادل ثلاثة فرنكات أو أربعة دراهم من الفضة والستة قروش ونصف القرش تعادل مثقالاً من الذهب أصبح القرش لا يعادل أكثر من 25 سانتيما من الفرنك سنة 1837 وصارت الليرة العثمانية تساوي 255 قرشًا والفرنسوية 222 قرشًا والإنكليزية 297 قرشًا وأما المجيدي فقد كانت قيمته 47 قرشًا ونصف القرش.
الناحية الاقتصادية في العهد التركي
إذا أردنا أن نلقي نظرة على الناحية الاقتصادية في العهد التركي 1517 – 1917م فإن علينا أن نرجع إلى السجلات القديمة المحفوظة في المحكمة الشرعية والتي تحدثنا بما فيه من قضايا وعقود وأوامر عن أخبار ذلك العهد أصدق الحديث ومتى رجعنا إلى تلك السجلات وجدنا أن نفقات المعيشة كانت رخيصة في ذلك العهد. ويتبين مبلغ رخصها إذا ما قيست بنفقات العيش في الأعوام التي تلتها وإليك البيان.
كان قاضي المسلمين بالقدس هو الذي يعين أسعار الحاجبات ونقرأ في أحد السجلات أن القاضي حسام الدين بحضور المحتسبين محمد بن داود وعلي بن محمد بن أبي جاموس قرر أن تكن أسعار الحاجيات التالية كما يلي: الزيت الطيب 48 بارة، السمن العناني 65 الدبس البلدي 15 الجبن 24 اللبن 3 الصابون العادي 40 الصابون المشمع 30 الصابون الأصفر 24 اللحم الضاني 15 لحم الماعز 13 اللحم البقري 8 وفي نفس الأمر حديث عن أسعار الزيت، والسكر النبات، والسكر الحموي، والعرق سوس، والفولاذ والحديد والشمع، والسيرج والطحين والخل والمشمش والنشا واللوز والقطين والبرقوق والفقوس والخيار والباذنجان والليمون والخبز والكماج حتى وملح الطعام.
وتقرأ أيضًا في السجل نفسه وفي السنة التي تلتها أن مولانا الأفندي نور الله، بعد استشارة المحتسب موسى بن داود قرر أن يكون سعر الكنافة المخروطة 4 بارات والقطايف 4 والكنافة الصينية 5 والسميد 6 والدقاق 6 والطحين 5 وجرة الطحينية من المعصرة 34 بارة ومن السوق 39 وقنطار العنب بوزن القدس الشريف ماية قطعة فضة سليمانية.
وعندما توفي المدعو جريس بن موسى الراهب الشامي البيطار من سكان القدس في 16 صفر سنة 971هـ – 1563م حصرت تركته بمعرفة القاضي.
وقد قدرت دار الميت الكائنة في حارة النصارى ب 20 سكة. ويظهر أن السكة كانت عبارة عن 100 بارة وفي 6 شوال 973 هـ 1565م عين ثمن المد من الشعير ب6 بارات.
وإنا إذا ما انتقلنا إلى الجيل الذي تلا ذلك الجيل وجدنا أن قنطار العنب الجندلي حددت قيمته بثلاثة غروش 15 رجب 1020هـ – 1211م ومد الدره بغرش واحد 12 شعبان 1042 هـ – 1632 م ومد الحنطة بست قطع مصرية شوال 1066 هـ – 1655م وقنطار الزيت بأربعين غرشًا ذي الحجة 1066 هـ – 1655م.
وأما أثمان الغنم فقد كانت كما يأتي:
ثمن الرأس الواحد من الماعز أو الضأن كان قرشًا أسديًا ونصف القرش فقد ابتاع رجل من رجل آخر 190 رأسًا من الماعز والضأن ب125 قرشًا أسديًا وابتاع آخر 1330 رأسًا منها بألفي قرش أسدي.
وبيعت فرس حمراء عالية كبيشة بثمن جملته من الذهب السلطاني ثمانون سلطانيًا ذهبًا وقطعتان من الفضة السليمانية.
وأما أثمان الأراضي والعقارات في ذلك العهد فقد حدثتنا عنها سجلات المتقدم ذكرها فقالت: إن الخواجا شرف الدين بن المرحوم الخواجا محمد شرف الدين قد اشترى من فخر المحصنات صفية خاتون حصتها وهي السدس أي ستة قراريط من أربعة وعشرين قيراطًا في جميع غراس الزيتون والتين والسفر جل الإسلامي وعدة أصوله تسعة عشر أصلاً الكائن في أرض السمار بظاهر القدس بثمن قدره خمسون غرشًا من الغروش الفضية الرائجة في يومنا هذا.
ولقد بيعت نصف الدار الكائنة بالنبي داود والمؤلفة من طبقتين مع منافعها بثمن جملته تسع وعشرون سلطانيًا.
وبيعت دار كائنة بحارة بني زيد بالقرب من رأس القصيلة وهي مشتملة على بيتين سفليين وإيوان ومطبخ ومرتفق وساحة سماوية بثمن جملته خمسة عشر سلطانيًا ذهبًا قبض البائع منها خمسة سلطانية والباقي مؤجلة إلى سلخ سنة من تاريخه.
وبيع نصف الدار الكائنة في حارة الواد المشتملة على بيتين سفليين وإيوان ودهليز وصهريج وبيت منهدم وشجرتي رمان ولوز بجميع حقوق ذلك وطرقه وجدره ومرافقه ومنافعه بثمن قدره عشرون غرشًا مقبوضة بيد البائع وحكم القاضي بصحة البيع.
وبيع ربع الدار الكائنة بمحله النصارى المشتملة على أربعة بيوت سفلية وسلحة سمايوة وصهريج بثمن قدره عشرون غرشًا أسديًا.
وبيعت في نفس التاريخ دار بباب العمود مؤلفة من طبقتين بثمن قدره ثلاثون غرشًا فضيًا أسديًا.
وبيعت دار بباب حطة وهي تشتمل على غرفتين وإيوان وصهريج ونافع مختلفة بخمسة وسبعين غرشًا وكان ذلك جمادى الأولى سنة 1140 هـ 1727م.
واشترى غطاس وحنا ولدا بشارة بن عظيم الرأي الرومي الحاضر معهما بالمجلس الشرعي جميع الحصة الشائعة وقدرها نصف قيراط من أصل كامل في جميع الدار القائمة البناء بالقدس الشريف بمحله النصارى المشتملة على علو
القدس في عهد السلطان سليم الأول

السلطان سليم الأول هو التاسع من آل عثمان والملقب نياورز ولقد اختلف المؤرخون في وصفه، فمنهم من قال أنه كان كثير البطش ومحبًا لسفك الدماء وشغوفًا بلذاته وسكره، ومن قائل أنه نابغة بني عثمان ورجلاً نافعًا وقديرًا، لكن أكثر الروايات التاريخية تشير بمعظمها إلى قوته وبطشه.
في حياة والده كان السلطان سليم الأول على خلاف شديد مع أخوته قورقود وأحمد من أجل ولاية العهد فقاتل أخويه وقتلهما، وبفضل مساعدة الانكشارية تمكن من خلع أبيه والاستيلاء على كرسي السلطنة وكان ذلك في شهر صفر سنة 918هـ 1512م.
تمكن السلطان سليم الأول من ضم العالم العربي إلى الدولة العثمانية على إثر انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق في 23 آب سنة 1516 م وقتل سلطانهم قنصوه الغوري وإثر انتصاره ذلك تمكن من احتلال مدينة حلب ومن ثم استسلمت له مدن حماه وحمص ولم تلبث طرابلس وصفد ونابلس والقدس وغزة أن ألقت سلاحها ولم تعد إلى أية مقاومة.
حدد يوم دخول العثمانيين إلى مدينة القدس في 28/12/1516م أي في الرابع من ذي الحجة سنة 922هـ وبعد هذا التاريخ بيومين قام السلطان سليم الأول بزيارة خاصة لمدينة القدس، حيث عرج عليها خصيصًا وهو في طريقه إلى مصر.
في مدينة القدس (خرج العلماء والأتقياء عن بكرة أبيهم لملاقاة سليم شاه.. وسلموه مفاتيح المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ثم قدم السلطان الهدايا لأعيان البلد جميعًا وأعفاهم من الضرائب الباهظة وثبتهم في وظائفهم) وقد دامت زيارة السلطان سليم الأول للمدينة المقدمسة يومين وفي 1/1/1517م الموافق الثامن من ذي الحجة سنة 922هـ غادرها مستأنفًا رحلته إلى مصر.
وفي طريق عودته من مصر بعد أن تمكن من فتحها وإقامته بها عشرة أسابيع دبر خلالها شئون البلاد، توقف قليلاً في سوريا لكي يثبت فيها مركزه ويعمل على تنظيم شئونها فعمل على تقسيم بلاد الشام إلى ولايات وأصبحت مدينة القدس تشكل سنجقًا من سناجق ولاية دمشق التي كانت تشمل سناجق دمشق والقدس وغزة وصفد ونابلس وعجلون واللجون وتدمر وصيدا وغيرها وأقام على ولاية دمشق جان بردي الغزالي نائبًا للسلطنة كما استمر على التدابير التي اعتمدها المماليك في تلزيم الضرائب، وجعل المذهب الحنفي المذهب الرسمي في البلاد.
وفي سنة 1518م وأثناء إقامة السلطان سليم الأول بمدينة أدرنة عاصمة ملكه وصل إليه سفير من قبل ملك أسبانيا يسأله أن يبيح للنصارى الحج للقدس الشريف كما كان الحال أيام المماليك وذلك في مقابل دفع المبلغ الذي كان يدفع سنويًا للمماليك فأحسن السلطان مقابلته وصرح بقبوله ذلك إذا أرسل ملكه رسولاً آخر مخولاً بحق إبرام معاهدة مع الباب العالي.
وفي 9 شوال سنة 926هـ/ 1520م توفي السلطان سليم الأول عن عمر يناهز الحادي والخمسين عامًا وقد دام حكمه تسع سنين وأخفى خبر وفاته حتى حضر ولده سليمان من إقليم صاروخان وتبوأ عرش أبيه، وذلك تخوفًا من ثورة الانكشارية.
القدس في عهد السلطان سليمان القانوني

تولى السلطان سليمان الحكم بعد وفاة والده السلطان سليم الأول، وقد اشتهر بلقب القانوني وذلك لما وضعه من الأنظمة الداخلية في كافة فروع الدولة، فأدخل بعض التغييرات في نظام العلماء والمدرسين الذي وضعه السلطان محمد الفاتح وجعل أكبر الوظائف العلمية وظيفة المفتي.
تقدمت الفتوحات العثمانية في عهده تقدمًا عظيمًا ففي الوقت الذي قامت فيه الدولة العثمانية كان الأسبان والبرتغاليون يتلقون الدعم من مختلف دول أوروبا لمقاتلة المسلمين في الأندلس بغية إخراجهم منها تحت الراية الصليبية، فعمد العثمانيون الأتراك إلى محاربة الأوروبيين من جهة الشرق لتخفيف الضغط على المسلمين في الأندلس ولردع الصليبيين وإضعاف هجمتهم على البلاد الإسلامي، فأسفرت تلك الفتوحات عن توسع الدولة العثمانية وبلوغها أوج عزها في عهده.
وبما أن مدينة القدس كانت لها مكانة دينية هامة عند المسلمين عامة وعند بني عثمان بصفة خاصة، فقد أقيمت في المدينة المقدسة خلال سنوات حكم السلطان سليمان القانوني تعميرات ومنشآت كثيرة وعديدة تعد من أهم وأبرز مخلفات العهد العثماني، نذكر منها:
1 الحرم القدسي الشريف:
لقد اهتم السلطان سليمان بالحرم القدسي الشريف اهتمامًا بالغًا وبناء على أوامره تمت التعميرات التالية:
أ- قبة الصخرة المشرفة:
بدأ التعمير في المدينة المقدسة بترميم شامل لقبة الصخرة المشرفة، حيث استبدلت الزخرفة الفسيفسائية التي كانت تكسو الأجزاء العلوية من الجدران الخارجية للقبة بالخزف المزخرف بينما كسيت الأجزاء السفلية بالرخام الجيد، وقد أوجب هذا العمل ما حل بالكسوة الفسيفسائية من تلف وخراب بسبب العوامل الطبيعية وأصبح استبدالها أمرًا ضروريًا لوقاية البناء من نفاذ الرطوبة إلى الجدران، كما جددت نوافذ قبة الصخرة وثلاثة من أبوابها الأربعة.
ب- قبة السلسلة:
وهي تقع شرقي قبة الصخرة المشرفة وعلى بعد بضعة أمتار من بابها المعروف بباب داود وتسمى أيضًا (محكمة داود) وفيها صفان من الأعمدة، الصف الخارجي فيه أحد عشر عمودًا، والصف الداخلي فيه ستة أعمدة.
وقد أجمع المؤرخون أن بانيها هو الخليفة الأموي عبد الله بن مروان وأهميتها ليست من الناحية الدينية وإنما من الناحية الأثرية حيث لها شكل سداسي ولذلك فهي ليست نموذجًا لقبة الصخرة كما يعتقد البعض لأن قبة الصخرة ثمانية الشكل وقد جرى ترميمها عدة مرات كان آخرها في عهد السلطان سليمان حينما أمر بأن تُكسى أيضًا بالخزف المزخرف الجميل.
ج- باب الرحمة:
وهو من أجمل أبواب المدينة المؤدية مباشرة إلى داخل الحرم القدسي، ويعرف أيضًا بالباب الذهبي لجماله ورونقه، وقد أمر السلطان سليمان القانوني بسد هذا الباب في عهده بسبب خرافة سرت بين الناس آنذاك مفادها أن الفرنجة سيعودون ويحتلون مدينة القدس عن طريق هذا الباب.
د- قبة النبي:
وتسمى أيضًا محراب النبي وتقع غربي الصخرة المشرفة إلى الشمال بينها وبين قبة المعراج، وقد تم بناء محراب قبة النبي في سنة 945هـ/ 1538- 1539م وهو محراب مستطيل وجميل الشكل والتكوين وينحصر داخل أعمدة القبة، واسم منشئها محمد بك أحد ولاة القدس.
أما القبة ذاتها فقد تم بناؤها فيما بعد وبالتحديد في سنة 1261هـ/ 1845م أي في عهد السلطان عبد المجيد بن محمود الثاني وهي تتكون من ثمانية أعمدة رخامية لطيفة الشكل، يعلوها ثمانية عقود مدينة تشكل رقبة مثمنة لإقامة القبة عليها، وقد وضع نقشان حجريان كتب أحدهما بالعربية والآخر بالتركية فوق العقدين في الجهة الجنوبية داخل القبة، ويبين النقشان اسم المنشئ وسنة الإنشاء.
2 مأذنة جامع القلعة:
تم بناء هذه المأذنة في الجهة الجنوبية الغربية من القعلة الكائنة عند باب الخليل وذلك في عام 938هـ/ 1531م وهي تتكون من ثلاثة طوابق حجرية، يشكل أولها قاعدة المئذنة المربعة، ويليه الطابق الثاني وهو اسطواني الشكل، ويعلوه الثالث اسطواني الشكل أيضًا لكنه اصغر حجمًا من الطابق الثاني، وفي منتصفه بناء صغير يشكل طاقية المئذنة.
3 سور المدينة وأبوابها:
منذ أن دمر الملك المعظم عيسى الأيوبي أسوار مدينة القدس سنة 1219م ظلت المدينة عمليًا بلا أسوار لمدة تتجاوز الثلاثمائة عام، فأراد السلطان سليمان إعادة بناء سور المدينة لتحقيق هدف مزدوج منه، أحدهما لحماية المدينة من الغزاة الأجانب من جهة، ولحمايتها من غارات العربان من جهة ثانية، فتم بناء السور حول مدينة القدس القديمة، وهو يجري على خط سور مدينة ايليا كبيتولينا القدس التي أعاد بناءها الامبراطور الروماني هدريانوس سنة 135م بعد خرابها الثاني وأطلق عليها هذا الاسم.
استمر بناء السور خمس سنوات (943هـ – 947هـ / 1536 م – 1540م) واقتضى نفقات طائلة وتبين سجلات المحكمة الشرعية في القدس أنه كانت تنظم حملات لتمويل المشروع في مختلف أنحاء فلسطين وذلك لإكمال المخصصات التي كانت ترصدها الحكومة المركزية لهذا المشروع.
والسور الضخم الذي بناه السلطان سليمان القانوني لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، ويبلغ حوالي الميلين ومعدل ارتفاعه أربعين قدمًا، ويبلغ عدد أبراج السور في الوقت الحاضر 34 برجًا وله سبعة أبواب، وتم بناء وتعمير ستة منها في عهد السلطان سليمان وهذه الأبواب هي:
أ- باب العامود:
ويسمى باب دمشق وباب النصر أيضًا، وهو باب رئيسي مشهور من أبواب المدينة المقدسة والمنفذ الرئيسي لها، ويقع في منتصف الحائط الشمالي لسور القدس تقريبًا، وقد أعيد بناؤه في عهد السلطان سليمان في سنة 944هـ / 1538م ويشير طراز بنائه إلى أثر العمارة العسكرية في تصميمه.
ب- باب الساهرة:
ذكره المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم) باسم جب أرميا وهو المعروف عند الغربيين باسم باب هيرودس ويقع إلى الجانب الشمالي من سور القدس على بعد نصف كيلو متر شرقي باب العامود، وقد أعيد بناء هذا الباب في سنة 944هـ / 1538م حيث يوجد نقش حجري يبين اسم السلطان وألقابه وتاريخ تجديده.
ج– باب الأسباط:
يعرف أيضًا هذا الباب باسم باب ستنا مريم وباب الأسود، ويقع شمالي الحرم إلى الشرق. وهو باب قديم العهد رمم وأصلح عدة مرات كان آخرها في عهد السلطان سليمان سنة 945هـ / 1538 – 1539 وله ساقطة لصب الزيت المغلي على الأعداء ومزغل لرمي السهام.
د- باب المغاربة:
ويسمى باب سلوان أو باب الدباغة أيضًا ويقع في الحائط الجنوبي لسور القدس، ويختلف هذا الباب عن بقية أبواب القدس الأخرى بأنه أصغرهم حجمًا ومن حيث البساطة في التكوين المعماري وقد حدد هذا الباب في سنة 947هـ / 1540م.
هـ- باب النبي داود:
ويعرفه الغربيون باسم باب صهيون، وقد جددت عمارته في سنة 947هـ / 1540 – 1541م.
و- باب الخليل:
ذكره المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم) باسم باب محراب داود، ويسمى أيضًا باب يافا، وقد جددت عمارته في سنة 945هـ / 1358 – 1359م.
4 المنشآت المائية:
أولى السلطان سليمان مشكلة المياه المزمنة في مدينة القدس عنايته الفائقة حيث خصصت مبالغ طائلة من الأموال لبناء المنشأت المائية ولإصلاحها وصيانتها.
أ- قناة السبيل:
تم تعمير هذه القناة التي كانت تزود مدينة القدس بالماء من البرك والينابيع الكائنة بين مدينتي الخليل وبيت لحم. والتي سميت فيما بعد باسم السلطان أي برك سليمان.
ب- بركة السلطان:
تم في عهده أيضًا ترميم البركة الموجودة في داخل المدينة والواقعة خارج باب الخليل، والمعروفة بهذا الاسم.
ج- تم بناء ستة أسبلة جميلة هي:
1- السبيل الواقعة قبالة بركة السلطان في جانبها الجنوبي.
2- السبيل الواقعة في طريق الواد قرب سوق القطانين.
3- السبيل الواقعة بالقرب من الحرم إلى الشمال من باب شرف الأنبياء.
4- السبيل الواقعة عند ملتقى الطرق المؤدية إلى طلعة التكية وباب الناظر وهو من أبواب الحرم.
5- السبيل الواقعة بالقرب من باب الأسباط وعند باب السلسلة أمام المدرسة التنكزية وتظهر على هذه الأسبلة نقوش تدل على سنة بنائها وهي سنة 943هـ / 1536م.
5 رباط بيرام جاويش (المدرسة الرصاصية):
تم بناء هذا الرباط على يد الأمير بيرام جاويش بن مصطفى سنة 947هـ / 1540 – 1541م في عهد السلطان سليمان ويبدو ذلك من نقش مكتوب بأعلى مدخل الرباط.
يقع هذا الرباط عند ملقتى طريق الواد بطريق باب الناظر وعقبة التكية، ويتكونمن طابقين يتم الوصول إليهما عبر مدخل شمالي جميل الشكل ويعلو بارتفاع طابقي البناء وهو مزخرف بالأحجار الملونة، ويؤدي المدخل إلى دركاة تفتح على ساحة مكشوفة في الطابق الأول من الجهة الشرقية، وفي الجهة الغربية درج يسير باتجاه الجنوب ثم ينعطف غربًا للوصول إلى مختلف أجزاء الطابق الثاني وملحقاته ويضم الطابق الثاني عددًا من الساحات المكشوفة وأكبرها الساحة المركزية، كما يضم مسجدًا جميل الشكل والتكوين وغرفًا وقاعات.
لقد تم ترميم هذا البناء الذي يعتبر من النماذج الجميلة للفن المعماري الإسلامي في القدس عدة مرات، فهو مجمع معماري متميز من حيث المساحة والإبداع، وكان يضم مكتبًا لتعليم الأولاد القراءة والكتابة مجانًا أي (كُتاب) وأصبح يطلق عليه فيما بعد أي في العصر العثماني المتأخر باسم المدرسة الرصاصية ولعل هذه التسمية جاءت من استعمال ألواح الرصاص في ربط مداميك الحجارة بعضها ببعض نظرًا لقلة وجود مادة الجير عند إقامة البناء، والمدرسة اليوم هي جزء من أبنية مدرسة دار الأيتام الإسلامية داخل السور.
6 مكتب بيرام جاويش:
وهو من الملحقات البنائية للرباط ويقع في الجهة الشمالية لعقبة التكية عند التقائها مع طريق الواد وقد بناه الأمير بيرام جاويش بنمصطفى سنة 947هـ / 1540 – 1541م في عهد السلطان سليمان القانوني ويتكون هذا المكتب من بناء مربع الشكل تغطيه أقبية متقاطعة وفي وسط ضريح منشئه.
7 تكية خاصكي سلطان:
أنشئت على يد زوجة السلطان سليمان وهي روسية الأصل واسمها روكسلانه والمعروفة باسم خاصكي سلطان (أوخرم) وكان ذلك في سنة 959هـ / 1551 – 1552م وسرعان ما أصبحت هذه التكية أهم مؤسسة خيرية في فلسطين.
كانت التكية مجمعًا بنائيًا ضخمًا يضم مسجد وخان ورباط ومدرسة ومطبخ وتقع اليوم خلف دار الأيتام الإسلامية وعلى بعد أمتار قليلة من رباط بيرام كان المطبخ وهو قائم الآن بشكل دكة باتت على وشك الزوال يقدم يوميًا مئات الوجبات إلى يومنا هذا يقدم الوجبات مجانًا إلى الفقراء والمحتاجين.
ولقد أوقفت خاصكي سلطان وقفًا ضخمًا للإنفاق على التكية، وقد ضم الوقف عدة قرى ومزارع في أربعة سناجق وألوية في سوريا وفلسطين ومعظمها بجوار مدينة الرملة كما أوقف السلطان سليمان عليها بعد وفاة زوجته أربع قرى ومزارع في ناحية صيدا.
في عهد السلطان سليمان القانوني صكت نقود جديدة سميت باسمه (الفضة السليمانية) كما تم فرض رسوم على زوار كنيسة القيامة (القبر المقدس) وفي سنة 926هـ / 1520م عهد إلى آل أبو غوش حراسة طريق القدس – يافا وأجيز لهم أن يحصلوا من السياح والسالكين لتلك الطريق بعض العوائد المقررة، وفي عام 1566م وبينما كان السلطان سليمان في طريقه لصد هجمات النمسا عن بلاد المجر التابعة لسيادته أصيب بمرض النقرس، واشتد عليه المرض حتى وافته المنية في 20 صفر سنة 947 هـ / 1566 م.

القدس خلال القرن السابع عشر

في بداية القرن السابع عشر بدأت تظهر تصدعات خطيرة في كيان الدولة العثمانية، وذلك نتيجة لضعف سلطة الحكومة المركزية مما كان له أكبر الأثر في تدهور الوضع الأمني في الأقاليم والولايات وخصوصًا في مدينة القدس وعلى الطرق المؤدية إليها.
وعلى الرغم من اتخاذ الحكومة المركزية لإجراءات وتدابير مختلفة لضبط الأمن مثل إنشاء عدة قلاع مختلفة، إلا أنها فشلت في فرض النظام العام وصيانة الأمن وذلك لعدم قدرتها على تخصيص لأموال والقوات الكافية لتطبيق هذه الإجراءات بالشكل الصحيح، وذلك لتوريطها في الحروب الخارجية على الجبهتين الشرقية والغربية منها.
ومن جهة أخرى لاقي العثمانيون صعوبات كبيرة وكثيرة في محاولاتهم لحل النزاعات بين الطوائف المسيحية المختلفة الموجودة في مدينة القدس، والمدعومة من قبل الدول الأوروبية حول الأماكن المسيحية في المدينة. فقط ارتبط تاريخ هذه الطوائف في الأوروبية، وتنافس هذه الدول فيما بينها وحرص كل منها على زيادة نفوذها في الأراضي المقدسة.
ففي سنة 1621م جرت محاولة تعيين أول قنصل لفرنسا في مدينة القدس هو م.جان لامبرور M.Jean Lempereur ولكن تعيين هذا القنصل اصطدم بمعارضة قوية من قبل أهل القدس وقضاتها وحكامها ووجهائها، فما لبث أن صدر الأمر السلطاني بترحيل السيد لامبرور عن المدينة المقدسة.
جددت فرنسا محاولاتها لتعيين قنصل آخر مكانه، فأصدر السلطان مصطفى الأول وفي ذات العام 1621م فرمانًا سلطانيًا جديدًا يقضي بتعيين السيد دارامون Daramon قنصلاً فرنسيًا مقيمًا في القدس، وقوبل هذا الفرمان أيضًا بالسخط الشديد من أهل المدينة لتخوفهم من المطامع الأوروبية في المدينة، فعقد ممثلو المدينة اجتماعًا في المسجد الأقصى، وكتبوا عريضة أكدوا فيها أن تعيين السيد دارامون كان بدعة خطيرة تتعارض مع ما جرت عليه العادة في القدس، ولذلك فلا بد من إلغائه.
قال واضعو العريضة: ( إن بلدنا محل أنظار الكافرين إذ حل سعيهم وعملهم عليها ومع ذلك قرب الأسكلة ( أي ميناء يافا ) على ثماني ساعات ونحن نخشى من جلب أناس آخرين غيره بدسائس يعملها المذكور مع ما عندنا منهم الآن. ونخاف من الاستيلاء علينا بسبب ذلك كما حصل في الزمن السابق مرارًا).
استجاب السلطان إلى مطالب السكان ووجهاء المدينة، وما لبث التعيين أن ألغى وطرد القنصل. وفيما يلي النص الكامل للوثيقة المرفوعة إلى السلطان:
( نص الوثيقة )
الحمد لله الذي وفق لسلوك منهاج العدالة من اختاره من العباد والصلاة والسلام على النبي الهادي المبين لسبيل الرشاد وآله وصحبه أولي العزم والسداد. وبعد فإن قطان البيت المقدس الشريف والمعبد الأسني المنيف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين من العلماء والأشراف والخطباء والأئمة الصلحا والفقراء المجاورين وساير أهالي البيت المقدس من العامة والخاصة قايمين على أقدام الابتهال رافعين أكف الضراعة والسؤال بدوام أيام السلطان العالم ملك الملوك على خليقته من بني آدم خاقان البحرين وخادم الحرمين الشريفين وحامي البيت المقدس جامع كلمة الإيمان واسطة عقد الخلافة بالنص والبرهان مولانا السلطان مصطفي خان بن السلطان محمد خان خلد الله ملكه وسلطانه وأيد أركان دولته الشريفة بالنصر المبين إلى يوم الدين ينهون أنه لما ورد إليهم ديرمون القنصل ببرأة خاقانية من مضمونها أننا رفعنا القنصل لامبرور ووضعنا مكانه ديرمون والحال أن المرفوع لم يعد له مكوث ولا لأحد من القناصل قبله عندنا من زمن الفتح العمري والصلاحي وإلى الآن، ومن مضمونها أنه يعامل معاملة بيكاوات المسلمين وأن مراده الركوب ويتقلد بالسلاح، فقوبلت البرأة بالقيد بالسجل المحفوظ إطاعة لأمر مبديها نصره الله تعالى، فاجتمع العلماء والصلحا والأبيك السباهية والزعما وأرباب التيمار ودزدار القلعة المحفوظة والنيكرجية الخاصة والعامة بالمسجد الأقصى الشريف بقبة السلسلة المعروفة بمحكمة داود على نبينا وعليه السلام وأعرضوا حالهم على قاضي الشرع الشريف المولى شريف أفندي وحاكم الولاية عوض باشا بأن مكوث هذا القنصل على هذه الهيئة والصنعة التي يباشرها مخالفة لما نصت عليه المذاهب الأربعة وما شرطه الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح بلادنا عنوة المبين ذلك في كتاب التاريخ والعلماء الأبرار والمحققين الأخيار مع بغية الشروط عليهم، فإنه لم يعهد من زمن سيدنا الإمام عمر ومن بعده الخلفاء الراشدين ومن بعده ومن بعد الخلفاء ومن جاء بعدهم من دولة آل عثمان أجدادك الماضين تغمد الله الجميع بالرحمة والرضوان وأسكنهم فراديس الجنان إلا رهبان معينين في القدس الشريف وخارجها كما شرط الإمام عليهم فيما عهد إليهم. فإن أقام عندنا هذا القنصل المزبور وركب الخيل وتقلد بالسلاح يلزم من مفسدة عظيمة لا سيما أن بلدتنا محل أنظار الكافرين دمرهم الله أجمعين إذ حل سعيهم وعملهم عليها كما لا يخفى سدة سعادتكم العلية، ومع ذلك قرب الاسكلة المينا على ثماني ساعات. ونحن نخشى من جلب أناس آخرين غيره بدسائس يعلمها المذكور مع ما عندنا منهم الآن ونخاف من الاستيلاء علينا بسبب ذلك كما حصل في الزمن السابق مرارًا . فجناب المولى بالقدس الشريف والوالي أنعما علينا بعرضين مضمونهما ما سبق وأمراه بالخروج من بين أظهرنا طبقًا للشريعة المطهرة ولعدم التنصيص بسكناه عندنا واحترامًا لهذه البقاع الشريفة من حلول الأدناس بها إلى مدينة صيدا مكان القنصل الأول المقام مكانه لكون أن قبله من القناصل من قديم الأيام ومرور الشهور والأعوام إقامتهم بصيدا. فالمرتجا من الصدقات السلطانية والمراحم العليا الخاقانية رحمة منكم وشفقة على سكان هذا البيت المقدس وتطيرًا لمراقد الأنبياء العظام أمرًا شريفًا سلطانيًا يدفعه عن المكوث في هذه الديار ليتضاعف لحضرتكم الأجر من رب البرية والأمر أمركم.. أيد الله دولتكم العلية مدى الدوام بجاه خير الأنام وآله وصحبه الكرام).
أما على صعيد العلاقات الدولية للدولة العثمانية، ففي إبان حكم السلطان مراد الرابع في الفترة (1622-1639) تردت العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا على إثر طرده لليسوعيين من استنبول بتحريض من السفير البريطاني والهولندي سنة 1628، ثم أصدر السلطان مراد الرابع سنة 1634 ثلاثة فرمانات سلطانية منحت الروم حق التصدر والتقدم على اللاتين في الاحتفالات الدينية في القبر المقدس (كنيسة القيامة) وأماكن ملك فرنسا والبابا أوربانوس الثامن حتى صدر جديد سنة 1636 يؤيد حقوق اللاتين.
وفي عام 1670 تقدم سفير فرنسا لدى الباب العالي يطلب تجديد الامتيازات على أساس مشروع فرمان ينص في مطلعه على الاعتراف بملك فرنسا حاميًا للمسيحية في بلاد الدولة العثمانية على أن تشمل الحماية الفرنسية أبناء الدولة العثمانية من المسيحيين الكاثوليك، وأن يتعرف بما تخططه فرنسا من حقوق للاتين والروم الأرثوذكس وغيرهم من الطوائف المسيحية في بيت المقدس وبيت لحم. ودارت في هذا الصدد مفاوضات طويلة بين الصدر الأعظم وسفير فرنسا مسيو نوينتل M.De.Nointel انتهت برفض الباب العالي التوسع في امتيازات الحماية الفرنسية وقصرها على الكاثوليك اللاتين.
وفي عام 1673 تمكنت فرنسا من استغلال الصعوبات التي كانت تعترض الدولة العثمانية بفرض نسخة جديدة من الامتيازات الأجنبية وتأكيد دورها
( كحامية للكاثوليك ).
وفي عام 1676 أرغمت بولندا الحكومة العثمانية على إثر معاهدة عقدتها مع الباب العالي على إعادة الفرنسيسكان إلى القبر المقدس.
أما في السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر، كانت الدولة العثمانية في حالة حرب مع كل من النمسا وبلاد فارس، وأسفرت الحروب مع النمسا عن خسائر فادحة مني بها الجيش العثماني أمام أسوار فينيا VIENNA سنة 1683، كما اشتركت روسيا والنمسا وبولندا والبندقية في حربها ضد الدولة العثمانية في الفترة (1683 1689)، والتي أسفرت بعد الهزائم العسكرية للدولة العثمانية على عقد صلح أطلق عليه اسم كارلوفيتز KARLOVITZ سنة 1689، والذي نتج عنه خسائر فادحة وكبيرة في مواقع الدولة العثمانية سواء في البلقان أو جنوبي روسيا، كما حصلت النمسا بموجبه على حق تمثيل المصالح المسيحية فيما يتعلق بالأماكن المقدسة في القدس.
وفي سنة 1690 صدر فرمان سلطاني بتمكين رهبان اللاتين الكاثوليك في القدس من الاستيلاء على الأماكن المقدسة، والذي اعتبر وثيقة لها أهميتها ومرجعًا لجميع الاتفاقيات والمؤتمرات التي تناولت موضوع الأماكن المقدسة وحقوق الطوائف فيها بالبحث.
ويتبين من هذا كله كيف كانت للتطورات الدولية أثرها المباشر في المدينة المقدسة، وكيف أن الأمور كانت كثيرًا ما تتعقد وتشتد الخلافات بين الطوائف المختلفة من الروم واللاتين والأرمن وتتحول إلى مصادمات عنيفة، وحدث هذا عدة مرات في القرن السابع عشر، وعلى سبيل المثال ما حدث سنة 1661و1669و1674م.
وقد كتب هنري موندريل القسيس الإنجليزي الذي زار القدس سنة 1697 م في هذا الشأن (والشيء الذي كان على الدوام الجائزة الكبرى التي تتنافس عليها طوائف عدة، إنما هو السيطرة على القبر المقدس والاستيلاء عليه، وهو امتياز يتقاتلون عليه بكثير من الضراوة والعداء المنافيين للمسيحية، وخصوصًا اليونان واللاتين حتى أنهم في نزاعهم حول أي فريق منهم يدخل للاحتفال بالقداس يلجئون أحيانًا إلى تسديد الضربات والجروح، حتى عند باب القبر المقدس ذاته).
القدس خلال القرن الثامن عشر

كشفت الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة عن بعض الجوانب الخاصة والمميزة بالمدينة المقدسة خلال القرن الثامن عشر نذكر أهم جوانبها :
1 الأوضاع الثقافية :
دلت المصادر التاريخية على زيادة عدد العلماء في القدس في القرن السابع عشر، فقد ذكر حسن عبد اللطيف الحسيني في تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر للهجرة، أسماء 74 عالمًا في المدينة، منهم العالم محمد الخليلي الذي توفى عام 1734، والعالم محمد بن بدير الذي عاش في الفترة (1747-1805)، وكلاهما من رجال التصوف المشهورين، وقد دلت الدراسات على أن معظم علماء القدس وفلسطين في القرن الثامن عشر تلقوا تعليمهم العالي في مصر وخصوصًا في جامع الأزهر أو في دمشق واستنبول، وكان هناك عدد كبير من المكتبات الخاصة العائدة لعلماء المدينة.
وفي تلك الحقبة الزمنية كانت مدينة القدس لا تزال تجتذب العلماء من الأقطار المختلفة، ومن بين زوارها أو من أقاموا فيها العالم عبد الغني النابلسي ومصطفى البكري من دمشق ومصطفى أسعد اللقيمي من دمياط وعلى الخلفاوي من القاهرة.
وعلى الرغم من زيادة عدد العلماء في المدينة في تلك الفترة، إلا أن المدارس كانت في حالة تدهور وانهيار، والطلاب الذين كانوا يطلبون التعليم العالي كان يتحتم عليهم السفر إلى خارج البلاد، وبعد أن كان ما يقرب من 56 مدرسة قائمة في العصر الأيوبي، لم يبق منها في أواسط القرن الثامن عشر إلا 35 مدرسة لا غير، وفي نهاية القرن تناقص العدد كثيرًا.
2 الأوضاع الاقتصادية:
كان سكان مدينة القدس خلال القرن الثامن عشر يعتمدون على موارد خاصة ومميزة بمدينتهم لوضعها القدسي المميز، ومن أهم هذه الموارد:
أ إيرادات الأوقاف:
على الرغم من أن إيرادات الأوقاف كانت تعتبر أهم مورد اقتصادي للمدينة وأهلها، إلا أن أهم ما تميز به القرن الثامن عشر هو تسارع عملية انقراض الأوقاف في المدينة على الرغم من فرضية دوام الأوقاف أبد الدهر.
أما سب انقراضها فهو يرجع إما لانعدام الصيانة لمباني الأوقاف، أو بفعل عوامل الفساد واللجوء إلى أساليب قانونية مختلفة أدت إلى تجزئة الأوقاف أو انتقال ملكيتها إلى الآخرين وذلك إما عن طريق الإجارة الطويلة لعقارات أو استبدال هذه العقارات بالمال النقدي أو بيعها.
وكانت أكثر التدابير شيوعًا لإنشاء حقوق خاصة في أموال الوقف هو الإجراء المعروف بالخلو الذي يسمح بموجبه للمستأجر أن يعمر الوقف ليصبح ما أنفقه عليه حقًا مكتسبًا له تجاه هذا الوقف. كما كانت عملية الإجارة الطويلة للأوقاف تؤدي في الواقع إلى اغتصابها أو انتقالها إلى غير المسلمين.
وقد أعرب الشيخ محمد الخليلي في وقفيته المؤرخة سنة 1726 عن صدمته وألمه لانتقال أموال الأوقاف إلى الغرباء، مؤكدًا ما يحمله هذا الانتقال من علامات الخطر لمدينة القدس.
ب المنح الحكومية والخاصة:
نظرًا لقداسة المدينة اعتمد سكانها في معيشتهم بالإضافة إلى واردات الأوقاف على الإيرادات التي تولدها الدوافع الدينية إلى حد كبير، فقد كان أهل القدس يتلقون منحًا مالية من جهات مختلفة. فالحكومتان العثمانية والمصرية كانتا ترسلان منحًا سنوية تعرف باسم ( الصرة ) ليتم توزيعها وفق قوائم خاصة على عدد كبير من الفقراء وغيرهم.
أما بالنسبة للاجئين اليهود وقد ازدادت أعدادهم في القدس خلال القرن الثامن عشر خاصة بعد وصول بضع مئات من اليهود الحسيديم القادمين من بولونيا سنة 1777م، الأمر الذي دفع بالجاليات اليهودية في أوروبا ومصر وغيرهما إلى جمع وإرسال المساعدات الخيرية إلى القدس وكذلك أرسل ملوك أوروبا وخاصة ملك أسبانيا مبالغ كبيرة من الأموال إلى الفرنسيسكان في القدس.
ج الدخل من الحجاج :
وكان هذا المصدر هامًا وآخر لدخل أهل المدينة، فقد كان من عادة الحجاج المسيحيين أن يمكثوا في مدينة القدس خمسة أو ستة أشهر كل عام، وبالتالي كانوا ينفقون مبالغ كبيرة في المدينة، ومع أن عدد الحجاج الأوروبيين تناقص بشكل كبير في القرن الثامن عشر ويرجع السبب في ذلك إلى ازدياد أنصار العلمانية في أوروبا، إلا أن الأمر كان مختلفًا بالنسبة للمسيحيين الشرقيين الذين بلغ عددهم سنة 1784 ألفي حاج.
د الدخل الوارد من صناعة أدوات التعبد وتصديرها :
اشتهر أهل القدس بصناعة أدوات التعبد من المسابح والصلبان وغيرهما من الأدوات، فكان لهذا المصدر من الدخل أهمية كبيرة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، كما كان يصدر من هذه الأدوات كالمسابح والصلبان وذخائر القديسيين 300 صندوق سنويًا إلى تركيا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا بشكل خاص.
3 الأوضاع العمرانية للمدينة :
القدس في تلك الفترة، ومن بينها أنه كان يوجد فيها كثير من الكروم وأشجار الفاكهة كالتين والزيتون والعنب والتفاح والرمان والتوت والأجاص واللوز …… الخ، سواء في المدينة أو خارجها.
في حين أننا نجد هذا يتعارض مع أقوال الزوار الأوروبيين الذين سعوا إلى تأكيد النواحي السلبية في المدينة، فعلى سبيل المثال تحدث داريفوا عن الخراب الشامل والأراضي المهملة وقطاع الهائمين في البلاد، وعن منطقة اليهود الجبلية المجدبة. وكذلك فعل السائح الفرنسي فولني VOLNEYالذي زار مدينة القدس سنة 1784 وتحدث عن أسوارها المساواة بالأرض، وفنادقها الممتلئة وجميع مبانيها المثقلة بالأنقاض.
ولكن على الرغم من وجود بعض المناطق المهملة في مدينة القدس في تلك الفترة وهو أمر طبيعي، كانت هناك أيضًا عدة دارات وقصور منها قصور جار الله بن أبي اللطف، ونور الدين الجماعي (الخطيب)، وصالح العسلي. كما كان هناك قصران بناهما الشيخ محمد الخليلي خارج أسوار المدينة. وقد أكد الخليلي في وقفيته على أهمية عمارة القدس وشحنها بالسكان قائلاً: (إرهابًا للعدو وإغاظة له وقطعًا لأطماعه).
لكن ما هو مؤكد منه أنه لم توجد أية وثائق عن مشروعات عمرانية عامة وكبيرة في القدس خلال هذه الفترة باستثناء أعمال الترميم الدائمة في منطقة الحرم الشريف حيث جرت أعمال الترميم في قبة الصخرة في السنوات 1705و1735و1752و1780.
القدس والدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر

أولا القدس في عهد السلطان محمود الثاني: حكم في الفترة (1808-1839):
في بداية القرن التاسع عشر كان على رأس سدة الحكم في الدولة العثمانية السلطان محمود الثاني، الذي حاول إحداث بعض الإصلاحات في أجهزة الدولة فكان من أهمها القضاء على الانكشارية وإصلاح الجندية، إلا أن هذه الإصلاحات لم تحدث سوى تغيير بسيط وجزئي في أحوال البلاد التي استمرت في الانحدار والتراجع الكبير أمام تقدم وازدهار الدول الأوروبية في تلك الآونة. أما بالنسبة للمدينة المقدسة فقد كان حكمها خلال الجزء الأعظم من الثلث الأول في القرن التاسع عشر في يد والي صيدا على الرغم أنه كان عادة يتبع والي دمشق.
بعد وفاة والي صيدا أحمد باشا الجزار سنة 1804، تلاه سليمان باشا (1804-1818) الذي تلاه بدوره عبد الله باشا (1818-1831)، وخلال هذه الفترة تولى حكم القدس عدد من الحكام المحليين الذين كان يدعى الواحد منهم بـ (المتسلم)، وقد تولى متسلم يافا محمد أبو المرق حكم القدس في خلال السنوات (1802-1803) و(1805-1807)، لكنه كان مكروهًا من قبل العامة من الناس لكثرة استبداده وتسلطه على أهل يافا والقدس والخليل والرملة وغزة، وقد ضاق أبو المرق بالحجاج المسيحيين أيضًا وفرض عليهم الإتاوات الباهظة.
أما عن واقع المدينة، فمن خلال مشاهدات الزوار والسواح الأجانب للمدينة في أوائل القرن التاسع عشر، فقد قال أحدهم أنه لم ير أثرًا للمدارس التي كانت تحيط بالحرم فقد اختفت، وهى تلك المدارس التي رآها السائح (أوليا جيلي) في الأروقة المحيطة بالحرم في القرن السابع عشر، وسبب اختفائها في الغالب هو انقراض أوقافها كما سبق الحديث عنه في الفصل السابق.
ويذكر السائح والعالم الألماني سيتزن SEETZEN الذي زار المدينة عام 1806م أن هناك مصنعًا كبيرًا للجلود قرب كنيسة القبر المقدس (كنسية القيامة) وكذلك عددًا من المشاغل بينها 5 طواحين و25 فرنًا ويبدو من وصفه للمهن المحلية أنه كان في مدينة القدس 700 من أصحاب الصنائع والتجار كحد أدني.
أما عن الجانب السكاني للمدينة فقد قدر السائح SEETZEN سكان المدينة سنة 1806 بحوالي 12 ألف نسمة. في حين قدر السائح فولني VOLNEY الذي زار المدينة في فترة سابقة أي سنة 1784 في أواخر القرن الثامن عشر بأن عدد سكانها حوالي 12 ألفًا أو 14 ألف نسمة. ولأنه من غير الممكن إعطاء أرقام دقيقة لغياب الإحصاءات الرسمية للسكان، فإن العدد حسب هذه التقديرات وغيرها لم يتجاوز 14 ألف نسمة والمسلمون كانوا يشكلون الكثرة الساحقة.
ومن أشهر علماء القدس في تلك الفترة موسى الخالدي (1767-1832) وكان عالمًا بارزًا ومؤلفًا في الفقه، وقد تمتع باحترام كبير لدى السلطان محمود الثاني وفي الدوائر العلمية في استنبول، وقد شغل في وقت متأخر من حياته منصبًا هامًا هو قاضي عسكر الأناضول، وهو أحد أعلى ثلاثة مناصب قضائية في الدولة العثمانية .
أما أهم التعميرات والترميمات التي تمت في مدينة القدس خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وبأمر من السلطان محمود الثاني فهي :
1 في سنة 1812 عمّر متسلم القدس كنج آغا قناة السبيل التي تجري فيها مياه برك سليمان إلى القدس.
2 في سنة 1816 قام سليمان باشا والي صيدا بترميم المسجد الأقصى على نفقته الخاصة وأنشئ معمل خاص للقيشاني في مدينة القدس يسد احتياجات المسجد الأقصى منه في عمليات الترميم.
3 في عامي 1817-1818 قام الوالي سليمان باشا بتنفيذ أعمال ترميم كبيرة في قبة الصخرة المشرفة كان السلطان محمود الثاني أمر بها، واستمرت هذه الترميمات إحدى وعشرين شهرًا وبلغت تكاليفها 4000 كيس.

ومن الحوادث الهامة التي شهدتها المدينة المقدسة في عهد السلطان محمود الثاني نذكر منها ما يلي:
الحادثة الأولى :
في سنة 1808 دمر حريق الجزء الغربي من كنيسة القيامة، واتهم الأرمن بإشعال النار في الجزء المخصص لهم من الكنيسة في محاولة لتغيير الوضع الراهن STATUS QUO وقدمت الطوائف جميعها عروضًا لإعادة التعمير في الكنيسة وبعد كثير من البيانات والاحتجاجات، نجح الروم في الحصول على إذن لمباشرة العمل.
وفي تلك الأوقات كان السلطان محمود الثاني قد تأكد من حالة الفوضى والفساد التي حلّت بقوات الانكشارية، وأنها من أكبر أسباب تأخر الدولة العثمانية إزاء تقدم الدول الأوروبية المستمر والتي كانت تعتمد الأنظمة العسكرية في إدارة جيوشها، فأصدر أوامره السلطانية بضرورة انضمامهم إلى الجيش، وعلى إثر إسناد مهمة حماية قلعة القدس إلى جنود آخرين محلهم قام الانكشاريون بثورة ضد الدولة، وأخذوا يعيثون فسادًا بالمدينة، حتى أنهم حرّضوا السكان المسلمين على عرقلة أعمال التعمير في كنيسة القيامة. وتلا ذلك ثورة عارمة وطرد الثائرون متسلم المدينة واعتصموا بالقلعة.
ولما علمت دمشق بما جرى استنجد واليها بسليمان باشا والي صيدا الذي أصدر أوامره بتجريد حملة لتأديب العصاة بقيادة ضابط مغربي يدعى أبو زريعة وأمره بفتح القدس وقطع دابر الفتنة.
بعد وصول الحملة إلى القدس أخذ العفيفي رئيس الانكشارية وأبو زريعة والمتسلم ينصحون المتمردين بالانصياع للأوامر والانضباط، لكنهم لم يستجيبوا للدعوة مما اضطر قائد الحملة للتنكيل بهم وإرغامهم على الاستسلام، ويقال أن أبا زريعة قطع بيديه أعناق 64 ثائرًا، وأرسل رؤوسهم إلى سليمان باشا. وفي عام 1826 تمكن السلطان محمود الثاني من القضاء نهائيًا على الانكشارية، فأمر بإبطال فئاتها وملابسها واسمها في جميع الممالك المحروسة.
الحادثة الثانية :
أنه في عام 1823 قدم إلى مدينة القدس أول جماعة من المبشرين الإنجليز أملاً بالعمل على هداية اليهود إلى النصرانية.
الحادثة الثالثة :
في عام 1824 شهدت مدينة القدس ثورة شعبية سببها زيادة عبء الضرائب، وقد روى وقائعها بالتفصيل الراهب اليوناني نيوفيتوس NEOPHYTES قائلاً: طلب والي دمشق الجديد مصطفي باشا أن يدفع الفلاحون أعشارًا أكبر، تبلغ عشرة أضعاف الأعشار المعتادة. وعندما ثار فلاحو المنطقة المحيطة بمدينة القدس، قام الباشا بإرسال 100 جندي إلى قلعة المدينة، ثم سار بنفسه من دمشق على رأس خمسة آلاف رجل لمعاقبة الثائرين، ولدى اقتراب الباشا من المنطقة، هجر الفلاحون قراهم ولجأ بعضهم إلى الأديرة التي قام الجنود بتفتيشها، ولما خشي المسيحيون أن تدمر المدفعية الأديرة، قاموا بدور الوساطة بين الباشا والفلاحين، وبعد أن دفع الفلاحون والمسيحيون غرامة كبيرة تم التوصل إلى اتفاق، ولكن فور مغادرة الباشا إلى دمشق استؤنفت الثورة، لكن هذه المرة داخل المدينة نفسها، ففي الخامس من حزيران سنة 1825 احتل أهل القدس القلعة وحرسوا أبواب المدينة حراسة دقيقة، وعندما عاد المتسلم وقد كان خارج المدينة من بيت لحم والقرى المجاورة لم يسمح له بدخول المدينة، وانتخب أهالي القدس شخصين من بينهم ليكونا زعيمين لهم وهما يوسف عرب جبجي الجاعوني، وأحمد أغا الدزدار العسلي، وكان من أوائل الإجراءات التي اتخذها الحكام الجدد تخفيض الضرائب وتحرير سكان بيت لحم والقرويين من مسلمين ومسيحيين من معظم الأعشار. ولما علم السلطان بذلك، أمر عبد الله باشا والي صيدا بإخضاع الخونة، فأرسل الباشا على الفور نائبه الكيخيا إلى القدس على رأس ألفي جندي، في البداية رفض زعماء القدس الاستسلام، لكنهم بعد أن أخذت نيران المدفعية تتساقط على المدينة من جبل الطور دون تمييز استسلموا وأعطوا الأمان للخروج من المدينة، وبذلك انتهت هذه الثورة دون سفك دماء.
الحادثة الرابعة :
وهي من أهم الحوادث التي جرت في عهد السلطان محمود الثاني والتي لم تؤثر في مدينة القدس وحدها وإنما على بلاد فلسطين والشام كلها، وهي إعلان والي مصر محمد على باشا الحرب على عبد الله باشا والي صيدا وعكا، وإرساله جيشًا بقيادة ابنه إبراهيم الذي تمكن من احتلال مدينة القدس ومعظم مدن فلسطين في عام 1831.
وبهذا الاحتلال المصري للمدينة القدسية انتهت الفترة الأولى من حكم العثمانيين لمدينة القدس خلال القرن التاسع عشر.
ثانيًا القدس في عهد السلطان عبد المجيد ( 1841-1861 ) :

بعد وفاة السلطان محمود الثاني سنة 1839 تولى السلطنة من بعده ابنه السلطان عبد المجيد الذي حاول السير على نهج أبيه في اتباع السياسة الإصلاحية في البلاد، فكان أول عمل قام به عند توليه العرش هو إصدار مرسوم (خط كلخانة الشريف) الذي دشن الفترة الأولى للتنظيمات العثمانية في الفترة الواقعة من عام 1839 إلى 1856م، وقد تضمن المرسوم الأمور التالية:
1 صيانة حياة وشرف وممتلكات الرعايا بصورة كاملة بغض النظر عن المعتقدات الدينية .
2 ضمان طريقة صحيحة لتوزيع وجباية الضرائب.
3 توخى العدل والإنصاف في فرض الجندية وتحديد أمدها.
بعد أن وضع السلطان عبد المجيد أساس الحكم والعمل في بلاده أقال إبراهيم باشا عن حكم ولاية سوريا في فرمان تاريخه 1840م.
وفي عام 1841 تمكن السلطان عبد المجيد من استعادة بلاد الشام وفلسطين بمساعدة الدول الغربية وبسط السيطرة العثمانية عليها من جديد، وهكذا عادت مدينة القدس تحت الحكم والسيادة العثمانية.
وفي عام 1856 أصدر السلطان عبد المجيد مرسوم الإصلاح الثاني المعروف بـ (خطي همايون) الذي دشن الفترة الثانية للتنظيمات في الفترة الواقعة (1856-1876) والذي يقضى بالمساواة بين جميع الرعايا العثمانيين في الحقوق والواجبات من غير تفريق بين العناصر والمذاهب. وعلى إثر ذلك انتظم المسيحيون في الجندية مثلهم مثل المسلمين.
في أواسط القرن التاسع عشر كان سور المدينة لا يزال يشكل حدود مدينة القدس، ولم تكن هناك أية مبان خارج السور الذي كانت تغلق أبوابه عند الغروب ولا تفتح لأي إنسان يأتي متأخرًا بعد غروب الشمس. وبداخل هذه الأسوار كانت لا تزال هناك مساحات كبيرة من الأراضي تستغل للزراعة، كما كان هناك العديد من البيوت والبنايات المهدمة والمهجورة.
في سنوات الأربعينيات والخمسينيات كان البروتستانت الألمان والإنجليز أول من أقام البنايات الجديدة في داخل وخارج المدينة مثل كنيسة المسيح CHRIST CHURCH التي دشنت سنة 1849، إلا أن الازدهار الحقيقي للبناء في المدينة بدأ في سنة 1856 واستمر بعد ذلك باضطراد دون توقف، وفي سنة 1858 تأسست المسكوبية خارج أسوار المدينة، وبعد ذلك أخذ المقادسة يبنون بعض المساكن خارج السور بجوار المسكوبية كما تم فتح باب صغير في إحدى درفتي كل باب من أبواب السور لتستعمل ليلاً لدخول المتأخرين إلى المدينة.
أما عن الإحصاءات السكانية لمدينة القدس، والتي تعتمد على دفتر النفوس العثماني أن التعداد السكاني للمدينة لسنة 1849 كان كما يلي:
148، 6 نسمة مسلم، 744، 3 نسمة مسيحي، و790، 1 نسمة يهودي، أي ما مجموعه 682، 11 نسمة.
منذ عودة الحكم العثماني للبلاد سنة 1841 وحتى بداية الحرب العالمية الأولى تميزت مدينة القدس تميزًا واضحًا عن غيرها من المدن الفلسطينية والعربية وذلك بتطورها الكبير والسريع والذي كان يعكس الآثار الناجمة عن السياسة العثمانية من جهة، والتدخلات الأوروبية من جهة ثانية، أما تطورها في عهد السلطان عبد المجيد فقد سار في اتجاهين:
أولهما: تطورها الإداري بالنسبة للتقسيمات الإدارية المتبعة في النظام الإداري العثماني.
ثانيهما: تطورها التاريخي لتميزها الديني وليس لتميزها الجغرافي أو الاقتصادي.

أولاً: التطور الإداري لمدينة القدس:
في عشية الاحتلال المصري لبلاد الشام وفلسطين بالتحديد في سنة 1830م وحّد الباب العالي حكم فلسطين بسناجقها الثلاثة ( القدس- نابلس عكا ) في يد والي عكا. واستمر الحال كذلك في إبان الحكم المصري لفلسطين في الفترة
( 1831- 1841 ) حيث كانت عكا هي العاصمة الفعلية لسناجق فلسطين الثلاثة.
وبعد عودة السيادة العثمانية على البلاد عام 1841 عمل العثمانيون على الاستمرار في اتباع سياسة التنظيمات الإدارية التي كانت متبعة منذ عهد محمد علي في البلاد مع المحاولة على التأكيد على أهمية سنجق القدس، فجعلوا مدينة القدس هي العاصمة المركزية للمناطق الفلسطينية الوسطى والجنوبية، كما أصبحت أقضية غزة ويافا تابعتين لسنجق القدس بشكل دائم، وحتى عام 1858 كان سنجق نابلس تحت سلطة حاكم القدس.
وهكذا برزت مدينة القدس كمركز للإدارة المركزية في فلسطين وهى إحدى التطورات الإدارية الهامة في فلسطين خلال القرن التاسع عشر.

ثانيًا: التطور التاريخي لمدينة القدس:
كنتيجة للاحتلال المصري لفلسطين وبلاد الشام توضحت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وخصوصًا أهميتها للتجارة الدولية وتوسطها بين الشرق والغرب على خطوط المواصلات العالمية.
وبما أن الغرب في ذلك الوقت كان في بداية عصر الإمبريالية والتطور الصناعي والتوسع الاقتصادي، فقد توجهت سياسات دوله الكبرى نحو المنطقة بشكل عام والمدينة القدسية بشكل خاص. وبما أن العثمانيين لم يكن بإمكانهم التراجع عن سياسة الانفتاح على العالم بشكل عام والغرب بشكل خاص، والتي اتبعها المصريون في البلاد خصوصًا وأن عودة السيادة العثمانية على البلاد قد تمت بمساعدتهم، فقد توالى إلى فتح القنصليات الغربية في مدينة القدس وهى المدينة التي لم يكن بإمكان أي دولة أن تقيم لها أي وجود فيها خلال العهد العثماني السابق للحكم المصري.
بعد أن تم افتتاح أول قنصلية غربية في مدينة القدس عام 1838م في إبان الحكم المصري لفلسطين وهى القنصلية الإنجليزية، تبعها افتتاح العديد من القنصليات الأجنبية نتيجة لتغير المناخ الدولي بعد حرب القرم، ففي عام 1856 تم افتتاح قنصلية بريطانيا للمرة الثانية، كما افتتحت نهائيًا قنصلية فرنسا وفي سنة 1857 افتتحت قنصلية لأمريكا. وفي سنة 1862 افتتحت قنصليتان لروسيا واليونان، فأصبح عدد القنصليات الأوروبية في القدس ثمانية. ولقد تم كل ذلك في عهد متصرف القدس كامل باشا الذي أمر بأن تطلق المدافع إحدى وعشرين طلقة تحية لأعلام هذه القنصليات عند رفعها، وكان أهل القدس يقابلون كل هذه المراسم باحتجاج وغضب شديدين.
لم يقف التوجه الغربي نحو المدينة المقدسة بفتح القنصليات فقط، وإنما وجدت الدول الغربية أن أسهل وأسرع الطرق لبسط نفوذها في المنطقة هو من خلال بسط حمايتها على الأقليات غير الإسلامية في الدولة العثمانية، فمثلاً لم يكن لبريطانيا وكنيستها الإنجيلية أية حقوق أو مصالح تدعيها في علاقتها بالمدينة القدسية، فعمدت إلى ادعاء قيام قنصليتها بالمدينة القدسية لحماية اليهود ولرعاية مصالحهم. فقد تلقى القنصل البريطاني الأول يونغ YOUNG تعليمات بأن يعتبر الحماية العامة لليهود جزءًا هامًا من مهام وظيفته، كما أصبحت هذه المهام عزيزة للغاية على خلفه المستر جميس فن JAMES FINN الذي تولى منصبه في ربيع سنة 1846 حتى عام 1862.
وبما أنه لم يكن للبروتستانت أي قاعدة مؤسسية في الأراضي المقدسة، تم خلق هذه القاعدة بتأسيس أسقفية إنجليزية بروسية في القدس سنة 1841 وبناء كاتدرائية بروتستانتية وهى كنسية المسيح CHRIST CHURCH التي أنشئت سنة 1849.
وفي عام 1850 تمكن البروتستانت من الحصول على الاعتراف بهم كطائفة دينية رسمية في الدولة العثمانية، مما دعم الدور البريطاني في ممارسة وظيفة الحماية لليهود والبروتستانت معًا.
بعد تأسيس الأسقفية البروتستانتية، تلاه قدوم العديد من البطاركة إلى مدينة القدس واتخذوها مركزًا لهم بدلاً من القسطنطينية، ففي سنة 1847 عين البابا بيوس التاسع أول بطريرك لاتيني بمدينة القدس هو البطريرك يوسف فالرغا JOSEPH VALERGA ، في حين هذا المنصب لم يكن له أي وجود فعلي في المدينة من قبل.
هذا وقد اعتبرت فرنسا تعزيز الوجود الكاثوليكي في فلسطين مهمتها الرئيسية، والأكثر إلحاحًا للسياسة الفرنسية في الأراضي المقدسة، كما عمدت الكنيسة الكاثوليكية على تشجيع الجاليات والإرساليات الكاثوليكية للهجرة من شتى بقاع العالم إلى مدينة القدس والإقامة فيها.
ومن الحوادث الهامة التي جرت في عهد السلطان عبد المجيد وكان لها تأثير كبير في ازدياد التغلغل الديني والثقافي الأوروبي في مدينة القدس، هي حرب القرم التي نشبت بين روسيا والدولة العثمانية في الفترة الواقعة بين 1853-1856 وسببها اشتداد الخصام بين الروم الأرثوذكس واللاتين حول النجمة الفضية التي اختفت من كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، واتهم اللاتين الروم بسرقتها، ولما ناصرت الحكومة العثمانية اللاتين وأصدرت في سنة 1852 إذنًا لهم بتسلم مفاتيح بابين من أبواب مغارة المهد وأن يضعوا نجمة من الفضة للكنيسة، احتجت روسيا وطالبت الباب العالي بالاعتراف بحمايتها للروم الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وعندما أعلن الباب العالي رفضه هذا الأمر، أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، فناصر الفرنسيون والإنجليز العثمانيين وتم قهر الروس، وعقدت على إثر ذلك معاهدة الصلح في باريس في 30 آذار سنة 1856.
ومن الآثار المترتبة على حرب القرم، دخول الدول الأوروبية في سباق فيما بينها من أجل تأمين الامتيازات الأوروبية والوجود الديني والثقافي الأوروبي في مدينة القدس، كما انتشرت في هذا الوقت الدعوة بصورة مكشوفة إلى الامتلاك الفعلي للأراضي المقدسة، وذلك على الرغم من حرص الدول الغربية على الحفاظ على وحدة أراضي الدولة العثمانية، وذلك من خلال التعليمات الموجهة إلى قناصلها في المدينة لأن التغلغل الأوروبي لم يكن يهدف إلى السيطرة الإقليمية وإنما إلى بسط نفوذه السياسي في المنطقة.
كما أخذت شركات الملاحة تعرج بانتظام إلى المواني الفلسطينية وتجلب جماعات من الحجاج والمسافرين إلى الأراضي المقدسة، حتى أنه في أيام الأعياد كانت تزدحم مدينة القدس بأعداد الحجاج الذي كان يفوق عدد سكان المدينة أحيانًا.
كذلك اتجه الرأي الروسي إلى ضرورة تأسيس وجود روسي في فلسطين، ففي سنة 1856 تم تأسيس شركة الملاحة البخارية الروسية التي كان من شأنها أن تزاحم خطوط البحر المتوسط الفرنسية والنمساوية وأن تنتزع منها بشكل خاص أشغال نقل الحجاج الروس إلى فلسطين.
وفي سنة 1857 كتبت وزارة الخارجية الروسية في تقرير إلى القيصر تقول فيه: ( ينبغي علينا أن نبني وجودنا في الشرق لا عن طريق السياسة بل عن طريق الكنيسة، فلا الأتراك ولا الأوروبيون الذين لديهم بطاركتهم وأساقفتهم في المدينة القدسية بمقدورهم أن يمنعونا ذلك إن القدس هي مركز العالم وإرسالياتنا ينبغي أن تكون هناك).
وفي سنة 1858 وصل إلى القدس في وقت واحد أسقف روسي وقنصل روسي (وكيل شركة الملاحة) كما نقل في السنة نفسها بطريرك الأرثوذكس الذي كان يقيم حتى ذلك الوقت في القسطنطينية إلى المدينة المقدسة.
وهكذا تحولت مدينة القدس من كونها مسرحًا للصراع المحدود بين الطوائف المسيحية المتنازعة، لتصبح ميدانًا تتصارع فيه كل القوى الدولية من أجل بسط نفوذها السياسي.
من أهم الأحداث التي جرت في مدينة القدس في عهد السلطان عبد المجيد ما يلي:
1 في سنة 1853 تم ترميم مسجد الصخرة بإرشاد مهندس أرمني خبير ببناء القباب اسمه (قرة بت) حيث قام بتقوية القبة، ورمم بعض النقوش والزينات الداخلية.
2 في سنة 1854 حاول اليهود الاستفادة من تمتعهم بالحماية البريطانية في أنحاء الدولة العثمانية، فتقدموا إلى الباب العالي للسماح لهم بتعمير محل عتيق على اعتبار أنه كنيس قديم يحتاج إلى إعادة تعمير ولما جرى الكشف عنه تبين أنه دير قديم، ولما لم يجابوا إلى طلبهم، أعلمهم القنصل البريطاني بالقدس أن يثيروا قضية سمح فيها ببناء كنيسة لطائفة البروتستانت، فنجحوا في مأربهم وصار لهم كنيس خاص بالسكناج يقابل كنيس السفارديم.
3 وفي ذات العام 1854 حصل السير منتغيوري على فرمان من السلطان عبد المجيد استطاع بموجبه شراء الأراضي في مدن يافا والقدس، وقد كان هذا محظورًا من قبل. فكانت القطعة التي اشتراها في مدينة القدس بموجب هذا الفرمان أول أرض يمتلكها اليهود الأجانب في البلاد، وهذه القطعة هي (يمين موشيه) فوق بركة السلطان، وقد أقيم على هذه الأرض فيما بعد حي يهودي دعي منتغيوري ولا زال يعرف بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
4 وفي سنة 1856 صدر فرمان سلطاني لمتصرف القدس بتسليم (الصلاحية) لقنصل فرنسا بالمدينة المقدسة، حيث قدمت كهدية من السلطان عبد المجيد إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، فسلمت للقنصل الفرنسي وبنى لها سورًا وحصنها.
5 في سنة 1860 تم تأسيس أهم مؤسسة تعليمية غربية في مدينة القدس هي مدرسة (شنلر) للأولاد الأيتام.
6 وفي ذات العام 1860 عمر ثريا باشا متصرف القدس قناة السبيل التي تستقي القدس بواسطتها الماء من برك سليمان.
7 في أواخر أعوام الستينيات تمكن وارن WARREN من إحصاء 1932 تاجر وحرفي مقدسي يعملون في 1320 محلاً تجاريًا منهم 143 متجرًا عام – 88 تاجر خضار – 189 متجرًا للسلع التموينية -101 مخبز – 46 بائع لحوم ودجاج – 58 تاجر خمور – 30 طحانا للبن – 37 بائع تبغ – 230 حذّاء (صانع أحذية) – 62 خياطًا – 28 صباغا – 32 طاحن سمسم – 76 صبانًا (صانع صابون) – 151 حدادًا – 36 نجارًا – 86 صانع نعوش – 56 حلاقًا – 23 ساعاتيًا – 22 صرافًا وهذه القائمة قد تمت بـ 828 مسلمًا، و601 مسيحي و503 يهوديين.

ثالثًا – القدس في عهد السلطان عبد العزيز:

بعد وفاة السلطان عبد المجيد عام 1861 تولى حكم السلطنة العثمانية من بعده أخيه السلطان عبد العزيز، الذي تابع الحركة الإصلاحية في البلاد والتي كانت تتحرك خلال فترة التنظيمات الثانية على الأصعدة الإدارية والمالية والعسكرية، فانبثق عنها تحسن الأمن العام في أرجاء الدولة، وتوسع إمكانيات الاتصالات والازدهار الاقتصادي، غير أنه لم تكن هناك سياسات حقيقية في الدولة العثمانية بشأن التحتية أو الشئون الاجتماعية أو الاقتصاد أو التعليم.
غير أن مدينة القدس تميزت عن غيرها من المدن العثمانية في عهد السلطان عبد العزيز بتطورها الحضاري المتميز في مجالات شتى منها:
أولاً: التطور الإداري
حتى أواخر الخمسينيات من القرن التاسع عشر كانت المدن الفلسطينية ومنها مدينة القدس المسرح الرئيسي للتنافس والصراع على السلطة بين العائلات والشيوخ الحاكمة مع السلطات العثمانية.
إلا أن الأمر اختلف في عهد السلطان عبد العزيز حيث كان المسئولون في القسطنطينية في ذلك الوقت على اقتناع تام بأن التنظيم الإداري الذي يقوم على أساس المرسوم الصادر باسم (خطي همايون) سنة 1856م لا يمكن تنفيذه إلا من قبل حكومة مركزية وقوية وحازمة. لذا تم وضع قانون الولايات سنة 1864م الذي فصل القضاء عن الإدارة وقوى سلطة الحكومة المركزية في ولاياتها، كما قام بتجريد الزعماء المحليين في مختلف أنحاء الدولة العثمانية من السلطة وتم الاستعاضة عنها باستحداث المجالس المحلية مثل المجالس البلدية والمجالس الإدارية، فكانت مدينة القدس هي أولى المدن بعد القسطنطينية في تقبل مثل هذه المؤسسات، مما أدى هذا الأمر إلى تطورها الإداري الواضح والكبير، كما أصبحت مسرحًا رئيسًا للتنافس السياسي والمالي وبروز القادة السياسيين من أفراد العائلات العريقة في المدينة مثل آل الحسيني وآل الخالدي.
1 مجلس إدارة سنجق القدس:
منذ عودة السيادة العثمانية على بلاد الشام وفلسطين عام 1841، استمر حكم وإدارة سنجق القدس تابعًا لولاية دمشق حتى عام 1872 حينما حاول العثمانيون إعادة توحيد حكم سناجق فلسطين الثلاثة (القدس – نابلس – عكا) في ولاية القدس المستقلة، إلا أن الحكومة العثمانية سرعان ما ألغت هذا الإجراء في نفس العام وأبقتها لولاية دمشق.
وفي عام 1874 أصبح سنجق القدس مستقلاً، وأصبح حاكم القدس مسئولاً مباشرة من وزارة الداخلية في القسطنطينية.
كان مجلس إدارة السنجق يضم كلا من المتصرف القاضي- المفتي – أمين الخزنة – وممثل عن الطائفة الأرثوذكسية اليونانية وممثل عن الطائفة اللاتينية، وممثل عن التجمعات الأمريكية واليهودية، مع مجموعة من الأعضاء المنتخبين وفي الغالب كانوا هم أنفسهم أعضاء المجلس البلدي لمدينة القدس.
وبالنسبة لقانون إدارة الولاية عام 1871، كان مجلس الإدارة مخولاً بسلطة النظر في الأمور والأعمال العامة مثل الزراعة تسجيل الأراضي – الأموال – جمع الضرائب – رجال الأمن، إلا أن أهم أعماله كانت تتعلق بجمع الضرائب.
2 المجلس البلدي لمدينة القدس:
في العام 1863م تم تأسيس أول مجلس بلدي لمدينة القدس، وذلك وفقًا لفرمان خاص صدر في عهد السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني وولاية خورشيد باشا متسلم القدس، وتم تشكيله من خمسة أعضاء معينين ثلاثة من المسلمين ومسيحي واحد ويهودي واحد، وكان يرأسهم العضو عبد الرحمن الدجاني، لكن هذا المجلس لم يباشر أعماله فعليا إلا في العام 1867م، حيث يعزو البعض ذلك إلى عدم وجود قانون ينظم أعماله.
ومع صدور قانون إدارة الولايات في العام 1871م لوحظ بعض النشاط المتزايد للمجلس البلدي، إلا أن نشاطه أضحى أكثر بروزا بعد صدور قانون البلديات سنة 1877م الذي حدد مهام ومسئوليات وواجبات المجالس البلدية وطرق تشكيلها، ونص على وجوب تشكيلها من ستة إلى اثنى عشر عضوًا ينتخبون لمدة أربع سنوات على أن يتم استبدال نصفهم كل عامين، أما الرئيس فيعينه الحاكم من بين الأعضاء المنتخبين.
أما فيما يختص بقوانين الانتخاب والترشيح للمجلس البلدي، فقد كانت تنص على أن كل مواطن عثماني بلغ سن 25 عامًا وقام بتسديد جميع الضرائب السنوية المترتبة عليه والتي لا تقل عن 50 دينارًا تركيا يحق له الانتخاب في المجلس البلدي.
أما بالنسبة للمرشحين فيجب أن لا يقل عمر الواحد منهم عن 30 عامًا وأن يكون مسددًا لضرائب الأملاك والتي يجب أن لا تقل عن 150 دينارًا تركيًا في السنة.
وبناءً على صدور قانون البلديات الجديد تم إعادة انتخاب مجلس بلدي موسع لمدينة القدس مؤلف من عشرة أعضاء 6 من المسلمين و2 من المسيحيين و2 من اليهود.
ومن أوائل الشخصيات المقدسية التي تولت رئاسة المجلس البلدي السيد يوسف الخالدي، الذي ترأس المجلس البلدي للمدينة المقدسة لمدة تسع سنين متتالية، وكان له تأثير كبير في تقدم وتطور المجلس البلدي في تلك الفترة، حيث سعى المجلس البلدي إلى تطوير أوضاع المدينة من حيث التركيز على النشاطات الأولية من إضاءة وتنظيف للمدينة، وتحسين ورصف شوارعها وأسواقها، لكن أهم مسئولياته وأكبرها كانت تأمين موارد المياه للمدينة، فقام بإجراء عدة إصلاحات على قناة السبيل التي كانت تمد القدس بالماء من برك سليمان.

ثانيًا: الازدهار العمراني
إن من أهم سمات التطور الحضاري الذي شهدته مدينة القدس في عهد السلطان عبد العزيز هو الازدهار العمراني الكبير والمتميز في داخل أسوار المدينة وخارجها. ففي خلال السنوات العشر التالية لحرب القرم سنة 1856، تم تنفيذ 24 مشروعًا عمرانيًا كبيرًا في داخل وخارج أسوار المدينة، بالإضافة إلى المجمع الروسي الكبير (المسكوبية) الذي شيد في منطقة الميدان الكائنة شمال غرب المدينة في عهد السلطان عبد المجيد.
ومنذ أواخر الستينيات حدث اندفاع وتوسع في بناء دور سكن جديدة، أو زيادة الطوابق على المباني القائمة في داخل المدينة، كما أقيمت مبان لليهود في الجهة الشمالية الغربية للمدينة وعلى جانبي الطريق المؤدية إلى يافا، كما تم افتتاح العديد من المدارس التبشيرية الألمانية الغربية في المدينة، منها المدرسة التبشيرية تاليتا قومي TALITA KUMI وهى مدرسة خاصة للبنات أسست عام 1868.
وفي ذات العام 1868 زار مدينة القدس الأمير فريدريك ولى عهد بروسيا، فأهداه السلطان عبد العزيز قطعة أرض كانت في الأصل تؤلف قسمًا من المستشفى الصلاحي، حيث بني عليها فيما بعد كنيسة حملت اسم (كنيسة الدباغة) أو كنيسة المخلص، التي دشنها الإمبراطور غليوم يوم زيارته إلى القدس عام 1898. وفي بداية السبعينيات وبالتحديد في عام 1871 أمر السلطان عبد العزيز بتعمير مسجد المغاربة بالقدس.
وفي عام 1873 تم إنشاء مستعمرة ألمانية في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة وسكنها 257 شخص، كان معظمهم من الصناع المهرة وعائلاتهم.
وفي عام 1874 تم تعمير قبة الصخرة ومسجدها والمسجد الأقصى، حتى قيل إن التعميرات التي تمت في المسجد الأقصى تعد من أضخم التعميرات التي لحقت به بعد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. ويقول الخبراء إن هذه العمارة كلفت خزانة الدولة العثمانية مقادير كبيرة من الذهب الخالص، وقد اعتبر عمله هذا إسرافًا، فكان من جملة الأسباب التي أدت إلى خلعه.
وفي خلال أعوام السبعينيات أنشئت تجمعات سكنية يهودية خارج أسوار المدينة على شكل عمارات سكنية وبيوت مبنية في صفوف موحدة الشكل وشبيهة بالثكنات، وذلك لمواجهة الحاجة الملحة للأعداد المتزايدة من المهاجرين اليهود. في حين أخذت كذلك العائلات الإسلامية الثرية في التوسع بسكانها وأماكن إقامتها خارج أسوار المدينة وفي الجهة الشمالية منها.
ثالثًا : التطور الاقتصادي
بعد انتهاء حرب القرم سنة 1856 انهالت الأموال بكثرة ساحقة من أوروبا على المدينة المقدسة، مما أفاد السكان المحليين من تزايد الإنفاق وخاصة فيما يتعلق بأعمال البناء والتعمير كأثمان للمواد والأجور، فكان للازدهار العمراني الذي شهدته مدينة القدس مورد اقتصادي هام للمدينة وأهلها، كما أدى كذلك إلى انتفاع القرى والمدن المجاورة لها.
فقد راجت أعمال الكلاسين (صناع الجير) ودقاقين الحجارة رواجًا شديدًا، وفي كل يوم كانت تتحرك قوافل كاملة من الجمال المحملة بالجير والأحجار والخشب إلى مدينة القدس. وكان الأمر في البداية يقضي بجلب المعماريين ودقاقين الحجارة من خارج فلسطين كما حدث عند بناء كنيسة المسيح، حيث جلب هؤلاء من مالطا، لكن ما أن بدأت أعمال البناء والتعمير بالرواج في أعوام الستينيات حتى أصبحت تتوفر هذه المهارات محليًا وخصوصًا من مدينتي بيت لحم وبيت جالا القريبتين من القدس. فقد نشأ فيها تخصص حرفي لتلبية متطلبات مهنة البناء خاصة وأن العاملين في تلك المهنة كانوا يتقاضون أجورًا جيدة.
وفيما عدا النشاط العمراني للمدينة وما صحبه من إنفاق، فإن المدينة عاشت في معظمها على الموارد الدينية سواء من إنفاق المؤسسات التبشيرية، أو من قدوم الحجاج وزيارتهم للمدينة وما صحبه من تأمين للخدمات والسلع المختلفة.

رابعًا: تطور الاتصالات
شهدت مدينة القدس في أعوام الستينيات من القرن التاسع عشر تقدمًا وتطورًا واضحين في وسائل الاتصال من تلغراف وإنشاء وتعبيد لطرق جديدة تصل المدينة المقدسة بباقي المدن الفلسطينية.
ففي شهر آب من عام 1864 وصل خط التلغراف إلى مدينة يافا ومنه وصل الخط إلى مدينة القدس في شهر حزيران من عام 1865م، وهكذا أصبحت مدينة القدس مربوطة بالتلغراف مع كل من القسطنطينية والقاهرة، ومن خلالهم إلى العواصم الأوروبية المختلفة، هذا الاتصال بالعالم الخارجي من خلال التلغراف كان له أهمية كبرى للمدينة خاصة بعد انفصالها عن دمشق عام 1874 واتخاذها صفة الاستقلالية، واتصالها مباشرة بالقسطنطينية.
أما عن إنشاء وتعبيد الطرق الواصلة للمدينة، ففي عام 1867 بدأت السلطات العثمانية بإنشاء وتعبيد أول طريق بين يافا والقدس عن طريق أعمال السخرة وتحت إشراف المهندس الإيطالي بيروتي PIEROTTI ، وتم فتح الطريق للسير عليه سنة 1867م. وفي عام 1870م تم تعبيد الطريق الواصل بين القدس ونابلس إلا أن تعبيد الطريق الواصل بين يافا والقدس لم يكن بالعامل المؤثر في ازدياد التبادل التجاري مع المركز التجاري لمدينة القدس، وإنما كان عاملاً مساعدًا في تسهيل عمليات السفر والانتقال من وإلى المدينة.
في بادئ الأمر عمل رئيس بلدية القدس آنذاك يوسف الخالدي على تشغيل عربات نقل عادية للخدمة على الشارع الجديد، لكن في عام 1875 تمكن فرسان المعبد من تأسيس أول شركة نقل لتسيير رحلات يومية منتظمة بين يافا والقدس. وفي عام 1879 تمكنوا من الحصول على امتياز حكومي لعملهم هذا فقدوا منافسة العرب واليهود لهم.
وفي العام 1876م أطاح السلطان مراد الخامس بن عبد المجيد بعمه السلطان عبد العزيز ليقوم مقامه، لكنه لم يلبث على عرش السلطنة أكثر من بضعة أيام لكونه مصابًا بمرض الصرع، وبتاريخ 31 آب 1876م نودي بأخيه الأصغر منه عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد سلطانًا على البلاد.
عند تولى السلطان عبد الحميد الثاني حكم السلطنة وجد البلاد تعاني من ضائقة مالية شديدة، والخزانة العامة خاوية أدت إلى إشهار إفلاسها سنة 1875م وانعكس ذلك على وضعها العسكري مما هدد كيانها ووجودها، في حين كانت روسيا تهدد بالحرب وأوربا تظهر العداء والعنت الصريحين للعثمانيين.
كل ذلك دفع العثمانيين إلى زيادة الاهتمام بالولايات السورية ومن جملتها فلسطين لزيادة فاعلية وضعهم المالي والعسكري عن طريق فرض الضرائب العادية منها وغير العادية، وكانت عمليات جمع الضرائب هي المحك لكفاءة وقدرة الحاكم، ولم يكن يقبل أي عذر لأي فشل أو إهمال في هذا الشأن، كما كان يترتب على سكان السناجق تقديم كميات من المؤن (الذخائر) إلى الوالي وجنده، وكان عدم الامتثال لذلك يواجه بعقوبات قاسية جدًا، هذا إضافة إلى تكثيف عمليات التجنيد الإجباري التي كانت تتم في المناطق دون هوادة، مما دفع البلاد إلى مزيد من الفوضى والفساد وتنامي روح الثورة ضد الجور والظلم.
وبتاريخ 7 من ذي الحجة سنة 1293هـ/1876م وبتأثير من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) مدحت باشا أعلن السلطان عبد الحميد الثاني القانون الأساسي للدولة (الدستور) الذي بموجبه منح الشعب حرية القول والعمل والاجتماع، كما أمر السلطان عبد الحميد الثاني بانتخاب مجلس العموم والمؤلف من مجلسين، وهما الأعيان ومجلس المبعوثان (النواب).
إلا أن البلاد العثمانية لم تنعم بهذه الحرية زمنًا طويلاً، إذا لم ينقض سنتان على نشر الدستور إلا وقام السلطان عبد الحميد الثاني متذرعًا بإعلان روسيا الحرب على بلاده سنة 1877 بإصدار قانون يعطل العمل بالدستور، وفي سنة 1878 حل البرلمان وأغلق (ضولمة باغجة) التي كان يجتمع فيها مجلس المبعوثين، وعمل على مناوئة كافة الجهود الوطنية للإصلاح، ونفى مدحت باشا إلى خارج البلاد وكان ذلك لثبات اعتقاده وإيمانه بوجوب الحكم المطلق في يده، فراح يدير ويحكم البلاد وفق إرادته الشخصية مما دفع البلاد إلى عهد جديد من الطغيان وسواء استغلال السلطة وفسادها.
لكن سوء الأوضاع في البلاد العثمانية دفع ببعض المثقفين الأتراك لتأليف جمعية الاتحاد والترقي التي دعت إلى إقامة حكومة دستورية تدخل النظم الحديثة في الإدارة والجيش، وتحقق الحرية والمساواة وتوقف تدخل الدول الأوروبية في شئون الدولة العثمانية. وعمل أعضاء هذه الجمعية على نشر الدعوة سرًا بين قوات الجيش الذي انضم أغلبه إليها.
وفي 3 تموز سنة 1908م تم إعلان الثورة على الحكومة مطالبين بإسقاطها الأمر الذي أجبر السلطان عبد الحميد بتاريخ 25/7/1908م على معاودة إعلان العمل بدستور 1876 بعد تعطيله مدة إحدى وثلاثين سنة وإطلاق الحريات العامة.
وبعد بضعة أشهر وبالتحديد بتاريخ 13/4/1909م حاول السلطان عبد الحميد الثاني القيام بثورة مضادة للتخلص من الجمعية ومن الدستور ومن مجلس المبعوثين، عندئذ زحف الجيش من سالونيك إلى الأستانة وأعاد إلى جمعية الاتحاد والترقي نفوذها، فعمل أعضاؤها على إسقاط السلطان عبد الحميد عن عرشه وأقاموا مقامه أخاه محمد رشاد سلطانًا باسم محمد الخامس في 17/4/1909م.
رابعًا – القدس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909):

على الرغم مما شهدته مختلف البلاد العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني من تراجع حضاري واضح، وتدهور كبير في أوضاعها الاقتصادية والأمنية إلا أن مدينة القدس تميزت عن باقي المدن الفلسطينية والولايات السورية باستمرار نموها وتطورها الحضاري الناجم عن السياسة العثمانية التي عمدت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر على تأكيد أهمية سنجق القدس بفصله عن ولاية الشام وارتباطه مباشرة بالأستانة عام 1847، ومحاولة السلطات العثمانية دعم وتثبيت وجودها الإداري في فلسطين قبالة الحكم المصري السابق من ناحية، وبشكل أقوى وأكبر أمام الدول الأوروبية من ناحية ثانية.
كما عملت على الاستمرار في سياسة الانفتاح التي اتبعها محمد علي باشا وولده إبراهيم باشا في المدينة المقدسة والتي لم يعد بإمكان العثمانيين التراجع عنها، وكذلك ازدياد الاهتمام والصراع الأوروبي الغربي فيما بينها لبسط نفوذها في المنطقة بحجة الأقليات الدينية التابعة لها من خلال فتح قنصليات جديدة في القدس في عهد السلطان عبد الحميد، غير تلك التي فتحها في عهد سلفه السلطان عبد المجيد، ففي عام 1885 بدأ قنصل ألمانيا بالعمل في القدس بصفته مندوبًا عن إمبراطور ألمانيا وملك بروسيا، وفي عام 1886 اعترفت الحكومة التركية بوجود ملحق تجاري في القدس لدولة العجم (إيران) وفي عام 1888 اعترفت أيضًا بوجود قنصل روسي يحمي المصالح الروسية في القدس.
كان القنصل المعين عند وصوله إلى مدينة القدس عليه أن يقدم أوراق اعتماده إلى المتصرف والنائب، مرفقًا بها رسالة توصية من ولاة الأمر في الأستانة تشتمل على اسمه واسم سلفه والمدة التي سيمكثها في القدس، وصلاحياته تجاه رعاياه والامتيازات التي يتمتع بها، مع الطلب بأخذ جميع التدابير اللازمة لحمايته.
أما النمو والتوسع الحضاري الذي شهدته المدينة فيتمثل في الأوجه التالية:
أولاً: النمو السكاني
إن الإحصاءات العثمانية للتعداد السكاني لمدينة وقضاء القدس بين عامي 1871-1914 يبينها الجدول التالي:
إجمالي العدد
اليهود
المسيحيون
المسلمون
السنة
الموقع
14.358
3.780
4.428
6.150
1871-1872
مدينة القدس
81.059
7.105
19.950
54.364
1881-1893
قضاء القدس
120.921
18.190
32.461
70.270
1914
قضاء القدس

إن أرقام التعداد السكاني لعامي 1871-1872 تعتمد على دفاتر سلنام ولاية سوريا، وأرقام التعداد للأعوام 1881-1893 والتي تشمل كافة قضاء القدس بما فيه المدينة تعتمد على الإحصاء الذي تم فعليا على السكان، أما أرقام التعداد لعام 1914 فهي تعتمد على الإحصاءات السكانية لوزارة الداخلية العثمانية.
لكن الإحصاءات العثمانية وحسب الجدول السابق تعتمد على تعداد سكان ومواطني الدولة فقط، في حين كانت هناك أعداد كبيرة من اللاجئين اليهود وبعض رعايا الدول الأخرى من الأجانب لم يتم إحصاؤهم.
وعلى الرغم من صدور قانون 1882 الذي يحرم هجرة اليهود إلى فلسطين وشراءهم الأراضي فيها بعد أن تفاقم أمر هجرتهم إلى فلسطين بقصد الاستيطان فيها، فقد دلت إحصاءات عثمانية تمت في عامي 1895-1899 بوجود ما يقارب 5500 أجنبي في كامل سنجق القدس، أكثرهم من اللاجئين اليهود الذين ازدادت أعدادهم كثيرًا خلال العقدين السابقين للحرب العالمية الأولى، وذلك من خلال استغلالهم للأوامر السلطانية الصادرة عام 1900م إلى متصرف القدس، والتي تقضي بالسماح لليهود إلى مدينة القدس والإقامة فيها بصورة غير مشروعة، وذلك لفساد الإدارة العثمانية وتفشى الرشوة بين موظفيها.
وهكذا يتضح لنا من خلال الإحصاءات العثمانية لمواطني القدس أن النمو السكاني المضطرد الذي شهدته المدينة في أواخر القرن التاسع عشر إضافة إلى ازدياد أعداد المهاجرين إليها من اليهود جعلها عشية الحرب العالمية الأولى من أكبر مدن فلسطين من حيث التعداد السكاني بالإضافة إلى النواحي الحضارية الأخرى.
ثانيًا: التوسع العمراني والحضاري
شهدت مدينة القدس منذ أعوام السبعينيات من القرن التاسع عشر توسعًا كبيرًا في البناء والتعمير خارج أسوار المدينة، خاصة بعد أن تم شق وتعبيد الطريق الواصل بين مدينتي يافا والقدس سنة 1867م الذي سهل كثيرًا من عمليات نقل واستيراد مواد البناء من وإلى القدس على عربات دون عناء.
في أواخر السبعينيات ونتيجة للتوسع العمراني إلى خارج الأسوار أصبحت أبواب المدينة تفتح طوال الليل وفي أوقات صلاة الظهر من يوم الجمعة.
ومنذ أوائل أعوام الثمانينيات بدأ المقدسيون في اتباع طرق حديثة في بناء المساكن المقامة خارج الأسوار حيث أصبحت جدران المباني أقل سمكًا وغرفها مسقوفة بأعمدة خشبية، وكذلك أرضياتها من الخشب، ومن ثم تطورت عمليات البناء إلى بناء الأسقف من الأعمدة الحديدية والأرضيات من البلاط الحجري، كما تم تغطية خشب الأسقف بحجر القرميد الأحمر وهكذا بدأت في الظهور مدينة القدس الجديدة ذات الطابع الأوروبي والتي أخذت تنمو وتكبر إلى جانب مدينة القدس التاريخية.
أما المباني التي أقيمت للمهاجرين اليهود الجدد في المنطقة المجاورة للناحية الشمالية الشرقية من القدس القديمة، فقد أخذت أيضًا في النمو والتوسع لازدياد أعدادهم من جهة، ولسهولة حصولهم على أراض للبناء خارج المدينة لكونها أراض غير مملوكة للحكومة أو الأفراد أي مشاع. أما التجمعات اليهودية المقامة في داخل المدينة فقد كانت تعمل في الغالب على استئجار مساكن لها من الأوقاف الإسلامية.
هذا وقد تم إجراء العديد من أعمال البناء والتعمير في داخل المدينة المقدسة في عهد السلطان عبد الحميد، حيث تم بناء وتعمير العديد من المنشآت المائية منها تعمير السبيل الكبير المعروف بسبيل قايتباي، وقناة السبيل عام 1899م كما أنشئ السبيل الذي كان قائمًا تجاه باب الخليل إلي الغرب سنة 1907م كما أقيم برج الساعة فوق باب الخليل في ذات العام 1907م.
وقيل إن السلطان عبد الحميد أنفق على تعمير الحرم وزخرفته ثلاثين ألف ليرة عثمانية خلا الطنافس المختلفة الألوان التي اتخذت فرشًا، وبلغت قيمتها عشرة آلاف ليرة عثمانية.
ثالثًا: تطور خطوط المواصلات
من المشاريع المهمة التي أقيمت في عهد السلطان عبد الحميد وكان لها أثر كبير في انتعاش اقتصاد المدينة والمناطق المحيطة بها هو مد سكة الحديد بين القدس ومدينة يافا المطلة على البحر المتوسط بطول 86.630 كم وقد حصلت على امتياز تنفيذه شركة فرنسية عام 1889 وبدأ العمل بإنشائه في عام 1890، وتم الانتهاء منه وتشغيله في عام 1892م.
ومع نهاية القرن التاسع عشر قدرت الأرباح العائدة من تسيير الخط الحديدي بمبالغ طائلة من الأموال، حيث قدر عدد المسافرين من الحجاج والزوار بـ 85.440 مسافرًا في العام 1893 و149.200 مسافر في العام 1909م.
كما قامت السلطات العثمانية في القدس بإنشاء شبكة من الطرق الجديدة في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، وصلت المدينة المقدسة بباقي المدن في وسط وجنوب فلسطين منها رام الله – بيت لحم الخليل أريحا.
رابعًا: تطور البنية التحتية
من الأمور التي ساهمت في تطوير المدينة حضاريًا تمتعها بالمجلس البلدي الذي كان قائمًا والذي سعى جاهدًا في اتباع الإجراءات الضرورية اللازمة لتحسين البنية التحتية للمدينة والأوضاع المعيشية لسكانها.
في أوائل السبعينيات بدأت بلدية القدس إجراءاتها النشيطة لتنظيف المدينة وجمع النفايات ورصف الشوارع ومد شبكة للمجاري والتي استمر التوسع فيها حتى عام 1914، وفي عام 1886 شكلت قوة شرطة للمدينة للمحافظة على الأمن والاستقرار فيها، كما قامت البلدية في نفس العام بإنشاء عيادة وتم تعيين طبيب لمعالجة المرضى مجانًا.
ومنذ أوائل التسعينيات سعت البلدية إلى تحسين الخدمات الطبية في القدس من خلال إنشاء المستشفى البلدي ليخدم قطاعًا أوسع من الناس. ويقول د. كامل العسلي في كتابه (مقدمة في تاريخ الطب في القدس): إن حقيقة أمر المستشفى هو أن الحاج سليم أفندي الحسيني رئيس بلدية القدس اشترى قطعة أرض في حي الشيخ بدر (روميما بعد ذلك) قرب لفتا وبنى عليها مبنى ذا طابقين يضم 28 غرفة وكان البناء يضم 40 سريرًا، وكان المستشفى مزودًا بغرفة عمليات مجهزة تجهيزًا ممتازًا، كما كانت صيدلية المستشفى مجهزة بجميع الأدوية المعروفة في ذلك الوقت.
وفي عام 1892 افتتح متنزه عام للجمهور في شارع يافا وسط المدينة، وغدت الفرق الموسيقية تعزف ألحانها هناك مرتين أسبوعيًا. ومع نهاية القرن التاسع عشر تم تركيب الآلاف من مصابيح الكاز لإنارة شوارع المدينة.
ومع بداية القرن العشرين توسعت النشاطات الثقافية في المدينة حيث تم تأسيس متحف للآثار، وافتتاح مسرح قرب باب الخليل سنة 1901 كانت تقدم فيه المسرحيات باللغات العربية والتركية والفرنسية.
وفي الأول من أيلول سنة 1908م صدرت أول مجلة عربية في فلسطين وظهرت في القدس أسماها صاحبها حنا عبد الله العيسى (بالأصمعي) وكانت تعالج الموضوعات الاجتماعية والأدبية والسياسية والتربوية، لكنها توقفت عن الصدور بعد وفاة صاحبها بتاريخ 12/9/1909 بعد أن صدر عنها أحد عشر عددًا في مدة خمسة أشهر ونصف، هذا وقد شارك في تحريرها والكتابة فيها الأديبان والكاتبان المقدسيان خليل السكاكيني ومحمد إسعاف النشاشيبي.
نهاية الحكم العثماني لمدينة القدس

ما أن انقضت بضع سنوات على تولي السلطان محمد رشاد الخامس حكم السلطنة العثمانية في عام 1909 حتى أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وحارب الأتراك العثمانيون إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء الإنكليز والفرنسيين والروس في خمس جبهات هي القفقاس- الدردنيل – العراق –رومانيا – فلسطين، ولكنهم خسروا جميعها أمام الحلفاء مما أرغم حكومة الأستانة في نهاية الحرب على عقد معاهدة سيفر SEVRES ، والتي أجبرت فيها على التنازل عن جميع ممتلكاتها في أفريقيا وآسيا وأوروبا ما عدا أراضي الأناضول والأستانة، ووضعت الأستانة تحت الرقابة الدولية.
أما على الجبهة الفلسطينية وعندما خسر الأتراك مواقعهم الحصينة في جنوبها أدركوا أن القدس لا بد وأن تسقط في أيدي قوات الإنكليز، فبدءوا بالتراجع من مساء يوم الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر، كما أيقن متصرف القدس عزت بك أنه لا أمل يرجى من المقاومة فأرسل في تلك الليلة أيضًا يطلب مفتي القدس كامل الحسيني ورئيس بلديتها السيد حسين سليم الحسيني للاجتماع إليه في داره وهناك خاطبهما قائلاً:
( ها قد أحاط الجنود الإنكليز بالقدس، ولا بد أن تسقط عما قريب بأيديهم، ولقد اعتزمت مغادرة المدينة بعد نصف ساعة، وأود أن ألقي بين أيديكم هذا الحمل الأدبي العظيم ألا وهو تسليم المدينة). ثم ناول رئيس البلدية وثيقة التسليم ليسلمها للإنكليز.
فيما يلي الترجمة الحرفية لنص وثيقة التسليم كما أوردها عارف العارف في كتابه.
( إلى القيادة الإنكليزية: منذ يومين والقنابل تتساقط على القدس المقدسة لدى كل ملة. فالحكومة العثمانية رغبة منها في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب، قد سحبت القوة العسكرية من المدينة وأقامت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية كالقيامة والمسجد الأقصى. وعلى أمل أن تكون المعاملة من قبلكم على هذا الوجه فإني أبعث بهذه الورقة مع وكيل رئيس بلدية القدس حسين بك الحسيني).
8/12/1917م- 1333هـ
متصرف القدس المستقل / عزت
وفي صبيحة يوم الأحد الموافق 9/12/1917 وفي نحو الساعة التاسعة صباحًا كانت القوات التركية قد أنهت انسحابها الكامل من المدينة، وتم تسليم وثيقة التسليم من قبل رئيس البلدية ومجموعة من الشبان المقدسيين إلى قائد الفرقة الستين للجيش الإنكليزي الجنرال شي GENERAL SHEA وكان دخول الجيش الإنكليزي إلى المدينة المقدسة في تمام الساعة العاشرة والنصف من ذات اليوم.
وبدخول الإنكليز إلى المدينة المقدسة بدأ عهد التحول الجذري في مصير المدينة المقدسة حيث انتهى الحكم العثماني الإسلامي لها بعد أن دام ما يقارب الأربعمائة عام امتدت منذ عام 1517 حتى 1917 وبدأ عهد جديد من المستعمرين الجدد.




توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 16 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



سكان القدس في العهد العثماني (*)



إن الأكثرية الساحقة من سكان مدينة القدس كانت تتألف من أهالي المدينة المسلمين العرب، ولكن كانت هناك نسبة صغيرة من المسلمين الذين اختاروا الإقامة في القدس بعد أن وفدوا إليها من أقطار إسلامية وعربية مختلفة مثل المغرب ومصر وسوريا والعراق وغيرها من دول آسيا الوسطى.
أما المسيحيون – فلم تكن تعتبرهم الدولة – طائفة واحدة فقد كانوا منقسمين إلى عدد من الطوائف والقوميات: لاتين، وروم، وأرثوذكس، وأرمن، وأقباط، وأحباش، وصرب، وسريان، وكرج … إلخ، غير أن الأكثرية منهم كان للروم الأرثوذكس العرب، وكانت العلاقات بين الطوائف المسيحية طوال العهد العثماني، وخصوصًا في القرن السابع عشر، والقرون التالية مشحونة بالمنازعات والخصومات.
أما اليهود فقد تمتعوا بقسط من الحرية الدينية في فترة الحكم العثماني لم يحظوا بمثله في أي من البلدان الأوربية ، ولم تتخذ ضدهم أية إجراءات تذكر من شأنها أن تساعد على التمييز بينهم وبين السكان، وقد نتج عن ذلك قيام علاقات متينة بينهم وبين الجاليات اليهودية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية التي ازداد عددها بشكل ملحوظ بوصول الكثيرين من اليهود بعد إقصائهم وتشريدهم عن أسبانيا والبرتغال سنة 1492، وبعد سماح السلطات العثمانية لهم بالعيش في فلسطين، وبحلول سنة 1522 أصبحت في القدس جالية يهودية “سفارادية” تزايد نموها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بوصول بضع مئات من اليهود “الحسيديم ” من بولونيا سنة 1777م مما ساهم في تأسيس طائفة إشكنازية في المدينة إلى جانب الطائفة “السفارادية “وفي سنة 1806 أصبح عدد اليهود في القدس 2000 نسمة، وقفز بحلول سنة 1819 إلى 3000 نسمة وتعززت هذه الجالية خلال العقدين التاليين بوصول العشرات من يهود صفد هجروا مدينتهم بسبب الهزات الأرضية التي تعرضت لها خلال السنوات 1834-1837
يبين هذا الجدول عدد سكان القدس طيلة القرن السادس عشر، والمستند إلى دفاتر التحرير العثمانية:
السنة
يهود
عرب
المجموع
1525
1000
3700
4700
1538
1150
6750
7900
1553
1634
11.750
13.384
1562
1200
11.450
12.650
1596
100
7510
7610


ملاحظة : من الواضح أن هناك نقص في الدفتر رقم 515 من السجلات العثمانية لذلك يبدو نقص واضح في السنوات الأخيرة.

الأراضي:
وكان قد طرأ تحسن على مركز اليهود في الإمبراطورية العثمانية بشكل عام، والقدس بشكل خاص، وتعزز ذلك بعد حصول “مونتفيوري” الثري اليهودي البريطاني وآخرون على فرمان من الحكومة العثمانية في تشرين أول /أكتوبر 1840 ، يكفل حماية اليهود وحرية معتقداتهم الدينية، وهكذا اعترفت الحكومة العثمانية بالحاخام السفارادي الأكبر ” الحاخام باش” رئيسًا للطوائف اليهودية في الإمبراطورية، ومنحته صلاحية الموافقة على انتخاب حاخم سفارادي أكبر ليهود فلسطين “هاريشون لتسيون ” تكون القدس مقرًا له باعتباره رئيسًا وممثلاً لكل اليهود في فلسطين، ويمارس صلاحيات إدارة شؤونهم الدينية والدنيوية، وتنفذ السلطات العثمانية الحاكمة قراراته، وكذلك صلاحيات قضائية وسياسية، مما ركز دعائم الجالية اليهودية في فلسطين والقدس.
ومع منتصف القرن التاسع ضعفت الخلافة العثمانية لعدة أسباب:
نجاح ثورة محمد على 1831 التي لم تستطع استنبول قمعها إلا بمساندة الدول الغربية، وكذلك خلال حرب القرم عام 1856 مما أدى إلى ازدياد مطامع الغرب واهتمامهم بالمنطقة، وتدخلهم في الشؤون العثمانية، من خلال توسيع نظام الامتيازات، مما أدى إلى شعور المواطنين اليهود والمسيحيين بأنهم مواطنو للدول الأجنبية، ويجب حمايتهم بواسطة قناصلها المنتشرين في إنحاء الإمبراطورية، وأدى ذلك إلى الاهتمام المتزايد من قبل الدول الغربية لفتح قنصليات جديدة في القدس لرعاية مصالحها، وتقدم الحماية لرعاياها، ولا سيما اليهود منهم، مما أدى إلى ازدياد عددهم باطراد .
وقد قدمت هذه القنصليات خدمات جليلة لليهود في القدس خاصة وفلسطين عامة، وساعدتهم على تعميق جذورهم فيها، وذلك بواسطة ثني السلطات العثمانية عن تطبيق القوانين المرعية عليهم ، وساعدتهم على شراء الأرض واستيطانها. وعلى إثر الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في روسيا القيصرية وبولندا سنة 1881م، وما ترتب عليه من هجرة يهودية إلى فلسطين ارتفع عدد الجالية اليهودية في القدس من 6000 تقريبًا سنة 1866، إلى ما يقارب 14000 سنة 1887م، و20.000 سنة 1890، إلى 28000 سنة 1895 وفي سنة 1912 قفز عددهم إلى 48.000 وأصبحوا يشكلون أكثرية في القدس، ولكن ما لبث أن هبط عددهم إلى 21000 مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918 نتيجة الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد أثناء الحرب .





القدس تحت الاحتلال البريطاني : مخططات تهويد هادئة و ثورات فلسطينية مستمرة
قسم البحوث بموقع القدس أون لاين



المحاولات اليهودية والصهيونية لتغيير معالم القدس قديمة جدًا خلال كل الفترات والحقب التاريخية التي تعاقبت عليها، ولكن الحقبة التاريخية أكثر تغلغلاً هي فترة حكم العثمانيين بدءًا من سنة 1516م فقد منحوا اليهود الحرية التامة لزيارة الأراضي المقدسة دون قيد أو شرط، وبدا ذلك واضحًا في عهد السلطان سليم الأول.
وخلال الفترة العثمانية كذلك أصبح اليهود أحرارًا في التنقل في جميع أرجاء الدولة العثمانية. ولم يكن هناك مانع يمنعهم أو يحول بينهم وبين ذلك ونتيجة ذلك تزايد عددهم حتى أصبح في القدس وحدها في أواسط القرن السادس عشر سنة 1553م ما مجموعة 1634 نسمة من أصل سكان القدس البالغ عددهم آنذاك 13384 نسمة، لكن عدد اليهود أخذ يتناقص بالتدريج في أواسط القرن السابع عشر ليصل إلى 150 نسمة سنة 1688م إلى أن يصل في القرن الثامن عشر سنة 1753م إلى 115 نسمة.
على أن التأثير الفعلي والحقيقي لليهود في فلسطين عامة والقدس خاصة بدأ مع بدايات القرن التاسع عشر وذلك بتأثيرات وجهود البيوتات المالية في كل من أمريكا وبريطانيا وأوروبا وآسيا، حيث إن هذه الدول أخذت تشجع على الهجرات اليهودية الجماعية على فلسطين، وذلك تمهيدًا لإنشاء الوطن القومي، ثم أخذت الأفكار الاستعمارية واليهودية إلى امتلاك وشراء الأراضي من خلال السلطة العثمانية الذين منحوهم امتيازات واسعة كما قلنا، وتمثلت هذه الأفكار والطروحات بالحصول على فرمانات من السلطان عبد الحميد سنة 1840م بكفالة حقوق اليهود وامتيازاتهم في فلسطين. وبموجب هذه الامتيازات عين ممثلين ونوابًا في الدولة العثمانية وفي فلسطين على الخصوص لإدارة شئون اليهود كما هو الحال في الحاخام سفارادي هاريشون لتسيون الذين منح سلطات واسعة للإشراف على شئون اليهود في القدس إضافة إلى منحه سلطات واسعة في المجالين القضائي والسياسي معًا.
وبناء على ما ذكرناه أصبحنا أمام وقائع من الأعداد اليهودية الهائلة في فلسطين والدولة العثمانية لنرى أن العدد مثلاً يقدر ب2000 نسمة سنة 1806 م و3000 نسمة سنة 1819م ليقفز إلى 5000 نسمة في القدس وحدها سنة 1850م.
وغني عن القول كيف أن القنصليات الأوروبية أخذت تتنافس على حماية هؤلاء اليهود وتأمين احتياجاتهم ومطالبهم مثلاً كان في القدس وحدها من اليهود 3000 شخص تحت حماية النمسا و1000 شخص تحت حماية بريطانيا و1000 شخص تحت حماية بريطانيا.
ثم إن أعدادًا اليهود أخذت تتزايد في فلسطين بمساعدة الدول الغربية، ومع هذا التزايد أخذ اليهود يمتلكون الأرض ويشترونها وأخذ اليهود في عبور البلاد دون ضبط ليصل سنة 1890 إلى عشرين ألفًا مما حد بأهل البلاد الأصليين من العرب إلى رفع العرائض إلى السلطات العثمانية والمطالبة بوقف الهجرات اليهودية ومنعهم من شراء الأراضي ومع كل ذلك تزايد عدد اليهود ليصل إلى ثمان وعشرين ألفًا سنة 1895.
لأجل هذا التزايد في هجرات اليهود إلى فلسطين وبروز القرن التاسع عشر أخذت فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين تتبلور وتتوضح وعلى الأخص بعد أن ظهرت مقولة الإضطهاد الديني لهم في روسيا، فتأسست حركة أحباء صهيون سنة 1882م وتمخضت هذه الحركة عن ظهور الزعيم اليهودي (ثيودور هيرتزل) وفكرته في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين في كتابه الدولة اليهودية وقد نجح هيرتزل في دعوة زعماء اليهود لعقد مؤتمر لهم في بال في سويسرا سنة 1897م لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وتمخص هذا المؤتمر عن إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية للترويج لهذه الفكرة.
أما الوجه الآخر لهذا المؤتمر فهو اتصال هيرتزل بالسلطان عبد الحميد ليعرض عليه المشروع في السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين مقابل إغراءات مالية كبيرة يقدمها اليهود للدولة العثمانية للتخفيف عنهم من وطأتهم المالية لأن الدولة العثمانية كانت تعاني من مشاكل مالية، ومما قاله هيرتزل في مذكرته بهذا الشأن: (علينا أن ننفق عشرين مليون ليرة تركية لإصلاح الأوضاع المالية في تركيا مليونان منها ثمنًا لفلسطين والباقي لتحرير تركيا العثمانية بتسديد ديونها، ومن ثم تقوم بتمويل السلطان بعد ذلك بأي قروض جديدة يطلبها) لكن السلطان عبد الحميد رفض هذه الفكرة ورد ردًا مشرفًا وقال لمن توسط عنده في ذلك انصحوا هيرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لانها ليست ملك يميني بل ملك شعبي بل هي ملك شعبي وقد ناضل شعبي من أجل هذه الأرض وروها بدمائهم فليحتفظ اليهود بملايينهم وإذا مزقت امبراطوريتي يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن مل البضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من امبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.
لكن هذا الرفض من قبل السلطان عبد الحميد لم يرق لهيرتزل وزعماء اليهود وما عليهم إلا أن يدبروا حيلة للقضاء عليه وعزله لكن هيرتزل توفي قبل عزله فجاء حاييم وايزمن الذي استطاع إتمام فكرة هيرتزل بعزل السلطان عبد الحميد سنة 1909 م بواسطة جمعية الاتحاد والترق التركية الخائبة التي دبرت الانقلاب على السلطان عبد الحميد على إثر ثورة خلعته وولت مكانه أخيه محمد رشاد سلطانًا سنة 1909 وبالإطاحة بالسلطان عبد الحميد يكون اليهود قد حققوا أكبر أحلامهم فاعتبروا ذلك الحدث عيدًا مهمًا من أعيادهم.
هذا فإن جمعية الاتحاد والترقي خيبت هي ورئاستها الثلاثية التي تكونت من أنور وطلعت وجمال باشا آمال العرب بإهمالها الكثير من شئونهم وعدم تطبيق المساواة بينهم وبين الأتراك في إدارة الدولة ومبدأ اللامركزية في حكم الولايات العربية، ومبدأ تحسين حالة اللغة العربية في مدارس الحكومة ودواوينها، وزاد الحال سوءًا بالاتجاه الجديد الذي تبنته في إعلاء شأن العنصر التركي ولغته على حساب العناصر الأخرى، وفوق هذا كله ضمنت لليهود أعز أمانيهم فأخذ اليهود يصولون ويجولون في الأراضي المقدسة، وما حزب الاتحاد الترقي في واقعة إلا جماعات من يهود الدونمة الذين تظاهروا بالإسلام فحملوه سطحيًا وحملوا آراء المنفذين لخططهم فنجحوا أيما نجاح في إنشاء وكالة صهيونية في استانبول.
هذا ومما قاله السلطان عبد الحميد في حزب الاتحاد والترقي نقتطف التالي:
إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة، ورغم إصرارهم لم اقبل بصورة قطعية هذا التكليف وأخيرًا وعدوًا بتقديم مائة وخمسين ليرة إنكليزية ذهبًا فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا وأجبتهم بهذا الجواب القطعي إنكم لو دفعتم ملء الدنيا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي وأبلغوني أنهم سيبعدوني إلى سلانيك فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين.
وقد تفانى السلطان عبد الحميد في خدمة القدس ومما قاله فيها التالي:
لماذا نترك القدس؟ إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان وستبقى كذلك فهي من مدننا المقدسة وتقع في أرض إسلامية لابد أن تظل القدس لنا.
والخلاصة أن حزب الاتحاد والترقي قد خدم اليهود إلى أبعد حد فسمح لهم بالهجرة إلى القدس بالعدد الكبير كما قلنا وقدم لهم التسهيلات اللازمة.
أما في العهد الإنكليزي أو بالأدق خلال فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين عامة والقدس على وجه الخصوص فقد زادت مطالبة اليهود بإنشاء وطن قومي لهم وخاصة بعد ان دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى ضد دول الحلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا سنة 1914م أما العرب فقد دخلوا الحرب إلى جانب الحلفاء طمعًا في وعد بريطاني عقدوه مع شريف مكة الحسين بن علي بواسطة هنري مكماهون لإقامة دولة عربية إسلامية في المشرق العربي إضافة إلى السبب في سياسة التتريك التي أتبعتها تركيا ضد العرب.
ولكن موقف بريطانيا ضد العرب حال دون تنفيذ الوعد الذي قطعوه للشريف حسين، وعملت على اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم بلاد الشام والعراق وفلسطين وجعل جزء من هذه مع القدس منظمة دولية يعين شكلها بعد استشارة الشريف حسين لكن الإنكليز لم يستشيره بل كتموا المعاهة عند وذهبوا بالكتمان إلى حد الكذب عندما أخبروا الشريف جوابًا على سؤاله أن المعاهدة لا وجود لها.
كذلك سارعت بريطانيا في تنفيذ وعد بلفور وفي بذل جهودها لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فكان الوعد بمثابة حكم غيابي على العرب في فلسطين أصدرته حكومة لم يكن لها حينئذ حق السيادة على فلسطين أو على الأقل حق الاحتلال، وإذ في يوم الأربعاء الحادي والثلاثين من شهر تشرين الأول وعندما وافقت وزارة الحرب البريطانية على نص الوعد وكان جيشها على أبواب فلسطين إلى الجنوب من غزة يحتل قطعة ضيقة من السهل الساحي طولها سبع عشر ميلاً وعرضها سبعة أميال، تشتمل على بلدة خان يونس وقرى رفح وبني سهيلة وعبسان ودير البلخ، وفيها بضعة آلاف من السكان العرب ولا أحد من اليهود أمضى وزير الخارجية البريطانية آرثر جيمس بلفور نص الوعد يوم الجمعة في الثاني من تشرين الثاني، وأرسله إلى الصهيونيين وأيضًا سارعت بريطانيا في احتلال القدس نفسها بواسطة السير اللنبي مستغلة ضعف الأتراك العثمانيين الذين كانوا يعانون من الضعف العسكري والضعف المادي فخطوطهم الدفاعية كانت بحالة سيئة، مع عدم توافر المؤمن والأرزاق الكافية لدى الجند إضافة إلى فشل الحملتين العسكريتين اللتين شنهما الأتراك العثمانيين على مصر لاحتلال قناة السويس شريان بريطانيا بين البحر المتوسط والمحيط الهندي كل ذلك جعل الموقف التركي في حرج شديد مما حدا بعلي فؤاد القائد التركي في القدس أن ينسحب من المدينة المقدس تاركًا إياها للإنكليز، ليحتلوها بهجوم الكاسح سنة 1917م وفي هذا الأثناء أدرك أهالي القدس أنها واقعة في أيدي الإنكليز لا محالة، فاستدعى مفتي القدس كامل الحسيني، ورئيس بلديتها حسين سليم الحسيني من قبل متصرفيها التركي عزت بك، ولما اجتمعوا إليه بداره ليلة 8 كانون أول سلم رئيس البلدية كتابة باللغة التركية موجهًا إلى قيادة الجيش الإنكليزي هذه ترجمته:
إلى القيادة الإنكليزية في اليومين الأخيرين والقنابل تتساقط على القدس الشريف المدينة المقدسة عند كل ملة، ولما كانت الحكومة العثمانية راغبة في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب، فقد أمرت بسحب القوة العسكرية من المدينة، وعينت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية ككنيسة القيامة والمسجد الأقصى، ولما كنت آمل أن تتبعوا أنتم هذه الخطة أيضًا فإني مرسل لكم هذا الكتاب مع وكيل رئيس حسين بك الحسيني.
متصرف القدس المستقل
8/12 عزت
وعلى إثر تلك الوثيقة غادر المتصرف القدس إلى أريحا، وانسحب الجيش العثماني في الصباح الباكر في اليوم التاسع من كانون الأول، وخرج بعدها رئيس البلدية الذي كان يتكلم الإنكليزية ومعه مدير الشرطة وبعض الموظفين ومعهم علم أبيض إلى ظاهر المدينة في الغرب وهناك سلم رئيس البلدية كتاب المتصرف إلى الجنرال سيرجون فلم علم القائد العام السير أدموند اللنبي أن المدينة قد سلمت أمر أن لا يدخلها جندي بل يقف الحرس على أبوابها إلى أن يدخلها هو في الحادي عشر من الشهر واشتمل موكبه على ممثلي الدول المتحالفة، ولكن لم يكن فيه ممثل للعرب، والسبب في ذلك معارضة المندوب السامي البريطاني في القاهرة.
وفي صباح اليوم التالي 9/12/1917م كانت القوات البريطانية تحتل القدس من كل جهاتها ما عدا الجهة الشرقية حيث كانت القوات التركية لا تزال مرابطة في جبل الزيتون، وعند الساعة الحادية عشرة والنصف أخذ الأتراك يطلقون نيران مدافعهم على الجيش البريطاني فقابلهم البريطانيون بالمثل واستمر إطلاق النار حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، ثم انسحبت القوات التركية، واتجه قسم منها عن طريق أريحا واتجه القسم الآخر إلى نابلس.
وأما الجنرال اللنبي الذي صوب نحو القدس، والذي جمع مائة ألف مقاتل من قبل لفتحها فقد دخلها من باب الخليل راجلاً على الأقدام ومشى مع حاشيته إلى درج الباب الشرقي للقلعة، حيث كان في استقباله رئيس البلدية ورؤساء الطوائف المختلفة في المدينة وأذاع البيان التالي:
إلى سكان بيت المقدس وأهالي القرى المجاورة إن انهزام الأتراك أمام الجيوش التي تحت قيادتي أدى إلى احتلال مدينتكم من قبل جيوشي وفي الوقت الذي أذيع عليكم هذا النبأ أعلن الأحكام العرفية وستبقى هذه الأحكام نافذة المفعول ما دامت ثمة ضرورة حربية، ولئلا ينالكم الجزع كما نالكم من الأتراك الذين انسحبوا أريد ان أخبركم أنني أرغب أن أرى كل واحد منكم قائمًا بعمله وفق القانون دون أن يخشى أي تدخل من قبل أي مكان، وفضلاً عن ذلك بما أن مدينتكم محترمة في نظر اتباع الديانات الثلاثة الكبرى وترابها مقدس في نظر الحجاج والمتعبدين الكثيرين من ابناء الطوائف الثلاثة المذكورة منذ قرون وأجيال أود أن أحيطكم علمًا بأن كل بناء مقدس ونصب ومكان مقدس أو معبد أو مقام أو مزار أو أي مكان مخصص للعبادة من أي شكل وعلى أية طائفة من الطوائف الثلاثة سيصان ويحتفظ به عملاً بالعادات والعنعنات المرعية وبالنسبة إلى تقاليد الطائفة التي تملكها.
ومع استمرار الإنكليز في احتلاف القدس واعتلاء الجنرال اللنبي عليها استمرارًا في تهويدها حتى نضجت فكرتهم في إنشاء الوطن القومي لهم في فلسطين ومن ثم التفكير الجدي لإنشاء دولة إسرائيل وخصوصًا بعد أن عهد إلى هربرت صموئيل اليهودي بالتعيين كأول مندوب صهيوني في القدس بواسطة الجنرالي اللنبي.
وقد بدأت مراحل التهويد عقب احتلال الإنكليزي لها فقد زار وايزمن القدس وخطب في جماعة من الأعيان العرب حشدهم له الحاكم العسكري الإنكليزي في دار الحكومة، مظهرًا ارتياحه لفتح الباب أمام الشهود للعودة إلى وطنهم ومعلنًا أن اليهود لا يضمرون إلا الخير لسكان البلاد الآخرين وقد استشير هؤلاء الأعيان فانسحبوا من الاجتماع.
أما من حيث التنفيذ الفعلي للتهويد ووضع التصاميم على الواقع فقد بدأ باستدعاء الجنرال اللنبي لمهندس الإسكندرية ماكلين سنة 1918م ليصمم الخطة الهيكلية للمدينة المقدسة، فوضع الخطة والمخطط والمقاييس والمواصفات المتعلقة بالبناء حيث قسم القدس بموجب هذا المخطط إلى أربعة أقسام.
أولاً: البلدة القديمة وأسوارها.
ثانيًا: المناطق المحيطة بالبلدية القديمة
ثالثًا: القدس الشرقية العربية.
رابعًا: القدس الغربية اليهودية.
ثم وُضعت التعليمات والقيود على إثر التقسيم من حيث عدم جواز البناء في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة وجعل المنطقة الغربية القدس الغربية منطقة تطوير وقد سارع هذا التقسيم بعملية التهويد الذي يظهر فيه آثار التطويق للقدس العربية لمنع أي توسع متوقع.
وفي السنة نفسها 1918 م التي قسمت القدس بموجبها زار وايزمن القدس للمرة الثانية ليطلع على مراحل التنفيذ ولتنفيذ برامج أخرى تتعلق بالتهويد بدعوة من حاكم القدس آنذاك المستر ستورس وخلال مأدبة الغذاء دار بين المجتمعين كلامًا حول مستقبل القدس أضطر معه مفتي القدس كامل الحسيني إلى الانسحاب احتجاجًا على ذلك.
وبهذه الفصول تكون عمليات التهويد قد مرت بمراحل متقدمة من عمر وتاريخ القدس بواسطة الدولة الإنكليزية التي ثبتت دعائم وجودها في القدس كدولة استعمارية لتنفيذ سياسة التهويد وتنفيذ وعد بلفور الذي ينص صراحة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وذلك أثر قرار مؤتمر فرساي الذي أصدرته مجموعة دول الحلفاء وأذيع في القدس في 20 شباط عام 1920م.
ثم جاء دور عصبة الأمم لتبارك هذه الجهود في الانتداب لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وأعقب ذلك كله الصلاحيات الواسعة التي أعطيت للمندوب السامي البريطاني في فلسطين بحيث يكون مسئولاً عن تشكيل المجلس التشريعي والمحاكم الدينية والمدنية ولغات البلاد الرسمية في القدس، وهي اللغات الإنكليزية والعربية والعبرية، وأيضًا التعليمات التي تتعلق بحرية السكان وحق الاعتراض على شروط الانتداب.
ثم بموجب الصلاحيات التي منحت لهذا المندوب شكل المجلس الاستشاري الذي كان نصف أعضائه من الموظفين والباقون كالتالي: أربعة من المسلمين وثلاثة من المسيحيين وثلاثة من اليهود.
وفي ظل سياسة التهويد والانتداب ووعد بلفور والمندوب السامي البريطاني قدم إلى فلسطين ما بين 53 – 54 ألف يهودي خلال الفترة من 1903 – 1913 أكثرهم من روسيا.
وفي سنة 1944م أصبح عدد اليهود 97.000 وعدد المسلمين 30.630 وعدد المسيحيين 29.350 وآخرون 100 بما مجموعة 157.080 وعلى ذلك فإن عدد اليهود ظل في تزايد مستمر منذ سنة 1918 وحتى قيام الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948م وكان ذلك بجهود الحكومة البريطانية التي وضعت فلسطين في ظروف سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية تمهيدًا لإقامة الدولة اليهودية.
هذا وقد ذكر الطيباوي والتنشئة وعزمي إحصائيات جيدة عن عدد المهاجرين من اليهود إلى فلسطين وسكان فلسطين وسكان القدس يجدر بنا ذكرها كالتالي:
من شهر كانون الثاني (يناير) إلى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1919 (1.643) من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1919 إلى شهر حزيران (يونيو) سنة 1921م (15.079 من شهر تموز (يوليو) سنة 1921 إلى شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1921 (4.784) سنة 1922 (7.844) المجموع (29.350).
وفيما يلي الإحصاء الرسمي الأول الذي تم في 22 تشرين الأول سنة 1922:
المدينة
المسلمون
النصارى
اليهود
سكان فلسطين
590.890
73.524
83.794
سكان القدس
المدينة القديمة
9.345
7.262
5.630
المدينة الجديدة
4.668
7.437
28.332
المجموع
14.013
14.699
33.962
مجموع سكان المدينة
62.674
مجموع المسلمين والنصارى
28.712

أما عن المواقف والأحوال التي ترتبت عن الانتداب البريطاني على القدس ووعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وعمليات التهويد للمدينة المقدسة فإن المسلمين في أرجاء العالم عامة والعرب في القدس خاصة قد هزمهم المصير الذي آلت إليه القدس فبدأوا الثورة تلو الثورة والاحتجاج تلو الاحتجاج كان من بينها:
ثورة 1920 من نيسان التي اشترك فيها نحو أربعين ألف شخص، ومن ثم وقع الصدام الدموي الرهيب في تلك السنة بين العرب من جهة واليهود من جهة أخرى على أثر خطف اليهود العلم العربي أثناء احتفالات المسلمين بموسم النبي موسى عليه السلام في السلام في القدس وقد قتل في هذه الصطدامات أربعة من المسلمين وجرح واحد وعشرون، ومن اليهود قتل تسعة وجرح مائتين وخمسون، وتنادى العرب في تلك السنة أيضًا إلى الوقوف في وجه المؤامرة على القدس ورفعوا صور الملك فيصل ونادوا بالوحدة العربية والاستقلال ورفض الهجرة الصهيونية أما موقف السلطات البريطانية من هذه المظاهرات فقد أعلنت الأحكام العرفية ومنعت الناس الخروج من بيوتهم بعد الساعة السادسة مساءًا، وعطلت جميع الصحف فأضربت المدينة كلها وأغلقت أبوابها، وأصدرت المحكمة العسكرية حكمًا غيابيًا بالسجن عشر سنوات على كل من الحاج أمين الحسيني وعارف العارف اللذان شاركا بالمظاهرات والاضطرابات في تلك السنة.
ثم ثورة 1921م التي تميزت بالثبات والاتساع والشمول، هاجم العرب فيها المستعمرات اليهودية، وهاجم اليهود بلدة قلقيلية ونهبوها مستعينين بالجيش البريطاني وطائراته، وتصدى الفلسطينيون وقاتلوا بشراسة وصدوا الاعتداءات وكانت حصيلة الإصطدامات التي استمرت أسبوعًا استشهاد ثمان وأربعين عربيًا وقتل ثمان وأربعين يهوديًا وجرح عدد كبير من الطرفين.
ثم ثورة 1929م التي أُطلق عليها ثورة البراق كما هو معلوم ذلك المكان الملاصق لجدار الحرم القدسي من الزاوية الجنوبية الغربية وفيه الباب الذي دخل منه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء والمعراج حين عرج به عليه السلام إلى السموات العلا، ويدعى هذا الباب أيضًا بباب محمد وسمي فيما بعد بباب المغاربة، والسبب في ذلك أن جماعات كثيرة كانت تستفيد من الوقفيات حينما أصبحت القدس بعد الفتح الإسلامي موئلاً للقراء والعباد من جميع بقاع الأرض الإسلامية، فقطن في هذا المكان أي من الجهة الغربية للمسجد الأقصى جماعات من المغاربة، وذلك على إثر إيقاف الملك الأفضل نور الدين على الابن الأكبر لصلاح الدين هذه الجهة عليهم، وبني لهم في هذا المكان مدرسة عرفت باسمه، وعرف المكان بحي المغاربة أو بحارة المغاربة، ووقفية هذا المكان مؤيدة بصكوك محفوظة لدى دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، ولو أن صحيفتها الأصلية ضاعت، فأعيد تقييدها بأمر القاضي الشرعي، وبحسب الأصول الشرعية.
وبهذا فإن اليهود يدعون أن هذا الحائط المبكي فيعتقدون بقية من هيكل سليمان (عليه السلام)، ولذلك فإنهم أي اليهود يقدسونه، ويقيمون بعض الشعائر التعبدية، ويبكون عنده في احتفالات وأعيادهم، ويحضرون معهم الكراسي والمقاعد والستائر ليفترشوها ويجلسوا عليها، كما فعلوا في الحادثة المشهورة سنة 1925م فثارت ثائرة المسلمين عندما تصدوا لليهود، وكاد الأمر أن يؤدي إلى قتال لولا تدخل السلطات البريطانية، وأصدرت على إثره قرارًا يمنع اليهود من مثل هذه الممارسات، لكن اليهود عادوا لتكرار هذه المحاولة سنة 1928م وتدخلت السلطات البريطانية كما تدخلت المرة الأولى ومنعتهم.
وعلى إثر تلك الأفعال من اليهود ففي الحائط الذي يزعمون أنه المبكي تنادى العرب في فلسطين لمؤتمر إسلامي للتداول في هذا الأمر الخطير، وعقدوا مؤتمرًا بالقدس سنة 1928م برئاسة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الأعلى، وأطلق عليه (المؤتمر الإسلامي الكبير) وتداول المؤتمرون في أحقية اليهود في هذا المكان، وتعاهدوا على منع اليهود بأي ممارسة لهم من هذا القبيل في المستقبل. ومطالبة السلطات البريطانية من رفع أصواتهم التي تستهين بشعائر المسلمين، وقرروا كذلك إنشاء جمعية تعرف بجمعية (حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة) وقد رفعوا مطالبهم تلك إلى السلطات البريطانية، وإلى وزير المستعمرات البريطاني الذي قرر الاستجابة لهذه المطالب، وإبقاء الوضع على ما هو عليه، لكن اليهود تحدوا هذه المطالب التي تقدم بها العرب مما حدا بالعرب أن يقابلوا ذلك بمثله.
وسرعان ما تحولت هذه التحديات من كل من الطرفين العرب واليهود عند حائط البراق إلى اشتباكات حقيقية، وذلك في العام نفسه 1929م لأن اليهود احتشدوا عند الحائط، ورفعوا العلم الصهيوني مستخفين بشعائر المسلمين، وهتفوا قائلين (الحائط حائطنا)، وازداد التوتر عندما أحرق المسلمون منضدة لليهود وبعض الأوراق التي كانت موضوعة في ثقوب الحائط، وبعضها عليها تراتيل دينية تتعلق بصلوات اليهود، وبلغ التوتر حدته عندما هاجم المسلمون اليهود يوم الجمعة، 23 من آب/ أغسطس 1929 فقتلوا منهم 135 وجرحوا 340 بينما استشهد من المسلمين العرب 116، وجرح 240؛ حيث إن معظم الشهداء سقطوا بفعل القوات البريطانية، الذين انحازوا لليهود هذا وقد امتدت ثورة العرب في تلك السنة إلى كل بقاع فلسطين وأعلنوا الاحتجاجات على القوات الإنكليزية التي تحالفت مع اليهود، كما وأعلنوا الإضرابات العامة في كل أنحاء فلسطين لكن القوات الإنكليزية ألقت القبض على البعض وحكمت عليهم بالإعدام لكنها عادت وغيرت الحكم إلى السجن المؤبد باستثناء ثلاثة نفذت فيهم حكم الإعدام وهم فؤاد حجازي وعطا الزير، ومحمد جمجوم.
وقد أرسلت بريطانيا لجنة تحقيق برئاسة (والترشو) وقدمت تقريرًا جاء فيه:
للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءًا لا يتجزا من ساحة الحرم الشريف التي هي أملاك الوقف وللمسلمين أيضًا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفًا حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير، يمنع جلب أية خيمة أو ستار أو ما شابههما من الأدوات إلى الحائط لوضعها هناك ولو كان ذلك لمدة محدودة.
والخلاصة أن ثورة البراق كانت بسبب أمر يتعلق بعقيدة المسلمين وهو بقاء الموضع الذي انطلق منه سيد البشرية محمد بن عبد الله ليلة المعراج الشريف مفتوحًا للأجيال، وليظل كذلك علامة بارزة في تاريخ الإسلام مع أنه حائط ليس للتقديس ولكن لأنه يرمز إلى معان جليلة في الإسلام فإن له أهمية عظيمة عند المسلمين اعتبروه وقفًا لا يباع ولا يشتى ولا يوهب وقد كان.
أما عن طول الحائط وعرضه وارتفاعه فإنه يبلغ مائة وستة وخمسون قدمًا، وارتفاعه ستة وخمسون قدمًا ويبلغ طول بعض حجارته ستة عشر قدمًا.
أما عن ثورة 1933م فإنها قد نحت منحنى آخر اعتقادًا منها بأن الأمة العربية عامة والقدس خاصة هي نتيجة مؤامرة استعمارية تزعمتها الدولة الاستعمارية الأولى بريطانيا لتنفيذ الوعد الذي قطعته على نفسها بإنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، ولذلك ما كان عام 1933م يأتي حين عقدت اللجنة التنفيذية العربية اجتماعًا لها يوم 8 تشرين الأول وقررت ما يلي:
1- إعلان سخط الأمة العربية في فلسطين على عبث الحكومة البريطانية بحقوق أصحاب البلاد بفتحها أبواب البلاد للهجرة الصهيونية وتسهيلها انتقال أراضي العرب إلى اليهود واستبدالها بالحكم المباشر.
2- دعوة الأمة العربية إلى الاضراب برًا وبحرًا في جميع مدن فلسطين وقرارها يوم الجمعة 13 تشرين الأول 1933م.
3- إقامة مظاهرات كبرى في اليوم المذكور في مدينة القدس في الساعة الواحدة بعد الظهر على أن تبدأ من باب الحرم وتنتهي في باب العمود، وعلى مقربة من دار الحكومة التي يقيم فيها المندوب السامي (آرثر واكهوب).
4- بعد انتهاء المظاهرة يذهب جميع أعضاء اللجنة التنفيذية إلى دار اللجنة حيث يقررون حالاً القيام بمظاهرة ثانية في مدينة أخرى.
5- اشتراك جميع أعضاء اللجنة التنفيذية في كل مظاهرة.
6- إن مظاهرة القدس التي ستقام يوم الجمعة المقبل لا تُخاطب الحكومة في شأن الترخيص بها وفي كل المظاهرات.
7- إن عرب فلسطين قد يئسوا تمامًا من الحكومة فهم لا يخاطبونها في شيء ولا يطلبون منها شيء.
8- العدول عن سياسية الاحتجاجات والخطب غير المجدية.
هذا وعلى الرغم من تحذير الحكومة البريطانية بعدم القيام بالمظاهرات إلا أن المظاهرات اشتعلت في موعدها المقرر وانطلقت من ساحة الحرم القدسي الشريف ودارت اشتباكات بين المتظاهرين ورجال الشرطة فجرح 35 من المتظاهرين و5 من رجال الشرطة وما لبثت المظاهرات أن اندلعت في كل أنحاء فلسطين وتحولت إلى ثورة عارمة وراح ضحيتها عدد كبير من الشهداء والجرحى برصاص القوات العسكرية البريطانية.
أما عن ثورة 1936 فإنه يمكن القول أنها استمرار للثورات التي سبقتها نتيجة الشعور بالظلم الذي اتبعته بريطانيا كدولة منتدبة في فلسطين، وهذا سبب عام أما السبب الخاص الذي يعد الشرارة الأولى لها هو استشهاد عز الدين القسام ورفقاه في أحراش يعبد على يد القوت العسكرية البريطانية في 20 تشرين الثاني سنة 1935 فكانت الثورة هذه موجهة إلى الإنكليز واليهود معًا، فأعلن الإضراب العام في جميع أنحاء فلسطين ودوت صيحات الاستهجان والاستنكار من القدس، ودعت اللجنة العليا التي تشكلت من مفتي القدس الحاج أمين الحسيني ورئيس المجلس الأعلى للاستمرار في الإضراب حتى تبدل الحكومة سياساتها المتبعة في فلسطين تبديلاً أساسيًا تظهر بوادره في وقف الهجرة اليهودية.
واستمر العصيان في جميع أنحاء فلسطين وامتنع عن دفع الضرائب وزاد تأجيج الثورة وتحولها من مرحلة العصيان إلى مرحلة الثورة المسلحة السماح بدخول 4500 مهاجر يهودي فالتهبت مشاعر الناس واشتد الهجوم على المستعمرات اليهودية وكثرت عمليات تدمير السكك الحديدية وقلب القطارات ونسف الجسور وتخريب الطرقات وقطع الأسلاك والهجوم على المخافر.
واستمر الإضراف لستة اشهر كاملة وتنادى الشعب العربي إلى المساعدة والنجدةوهب الجميع خلف فوزي القوقجي القائد السوري الذي دعا العرب إلى الاستمرار في القتال حتى تتحرر فلسطين وتلتحق بقافلة البلاد العربية المحررة.
هذا وكان لقدوم القاوقجي تأثير وصدى كبير لدى عرب فلسطين الذي ازدادوا حماسًا واندفاعًا أدى إلى امتداد الثورة واتساع نطاقها لتشمل معركة باب الواد المشهورة والتي أطلق الثوار من خلالها النار على قافلة سيارات يهودية ذاهبة من يافا إلى القدس بالقرب من باب الواد وفي الحال اشتبك حراس القافلة مع الثوار واشتغلوهم برصاص البنادق والمدافع الرشاشة فتراجع الثوار على ما وراء غابة الحكومة الواقعة على الجانب الآخر من الجبل وجاءت طائرة إلى مكان القتال وطلبت الإمداد لاسلكيًا من القدس فجاءت من هناك مفرزة مزودة بالمدافع الرشاشة والبنادق السريعة الطلقات والمدفاع الجبلية والطائرات وأحاطت بالثوار وكان عددهم ستة عشر ثائرًا، وكانت لديهم كميات وافرة من الذخيرة استطاعوا بها مداومة القتال نحو ساعة، وبإشارة من قائد الجند شرعت الطائرات تلقي قنابلها المحرقة على الثوار بكثرة فأحرقت الغابة كلها واستشهد من الثوار 12 شخصًا تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين سنة.
واستمر الإضراب بل زاد حدة أمام إصرار الإنكليز عدم إيجاد الحلول المناسبة لثورتهم مما اضطرهم إلى فرض الأحكام العرفية، وتدخل الزعماء العرب لإيجاد حلول مناسبة، وتعهد الإنكليز بإيجاد حل يرضي العرب في فلسطين، وقامت بإرسال لجنة ملكية إلى فلسطين لتقصي الحقائق برئاسة اللورد (بيل) وقد تقدم العرب بالمطالب التالية منها:
1- العدول عن تجربة الوطن القومي اليهودي.
2- إيقاف الهجرة اليهودية.
3- منع انتقال الأراضي العربية لليهود.
4- إنهاء عهد الانتداب وعقد معاهدة بين بريطانيا وفلسطين تقوم بموجبها حكومة مستقلة وطنية ذات حكم دستوري.
لكن لجنة التحقيق الملكية هذه لم تقم بواجبها، وضربت بالمطالب العربية عرض الحائط، وأصدرت قرارًا بتقسيم فلسطين إلى المناطق الثلاث التالية:
1- منطقة تقام فيها دولة يهودية.
2- منطقة تقام فيها دولة عربية.
3- منطقة الأماكن المقدسة فتبقى تحت إشراف بريطانيا.
أما ما جاء على لسان اللجنة بخصوص القدس: لابد من منطقة ثالثة تشمل القدس وبيت لحم وتمتد حدودها من نقطة شمال القدس إلى يافا شاملاً مدينتي اللد والرملة، وهذه المنطقة تظل تحت الانتداب على ألا يسري عليها تصريح بلفور وتكون اللغة الإنكليزية اللغة الرسمية الوحيدة فيها، ويجب أن يشمل هذا الانتداب الناصرة وشواطئ بحيرة طبرية لقداستهما.
وما كادت توصيات لجنة بيل تظهر حتى عمت الاضطرابات من جديد، وبدأت موجة من العنف والاسيتاء في جميع أنحاء فلسطين، ووقعت اشتباكات بين العرب والسلطات البريطانية، مما حدا بتلك السلطات إلى وسائل القمع والتقتيل والنفي فنفي الحاج أمين الحسيني إلى لبنان مع عدد كبير من الثوار، وتمكن الثوار في جهات أخرى من تحقيق بعض الانتصارات، كما فعلوا عندما احتلوا القدس القديمة وسيطروا عليها سيطرة عظيمة حتى أن وزير المستعمرات البريطاني المستر (ملكولم مكدونالد) اعترف بقوة الثورة وقوة ردود الفعل العربية وفي هذا الشأن قال:
(إن قمع الثورة ليس بالسهولة المظنونة).
واضطر الإنكليز أمام اشتداد الثورة، وعدم القدرة على إيقافها الدعوة إلى مؤتمر عربي في لندن للتداول والتشاور في القضية الفلسطينية، وانتهى المؤتمر بالفشل بعد أن استمر انعقاده عدة أسابيع، وبعدها أصدرت بريطانيا ما سمي بالكتاب الأبيض أعلنت فيه تراجعها عن فكرة تقسيم فلسطين لكنها سمحت بدخول خمسة وسبعين ألف يهودي مهاجر إلى فلسطين خلال خمس سنوات، وقوبل هذا الطلب من العرب بالرفض والاستياء، كما هو الأمر قبل صدور الكتاب الأبيض، واستمرت الاضطرابات والاحتجاجات إلى أمد غير قصير، وبتعبير أدق إلى ما بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، وإزاء طول المدة بتعرض العرب إلى نقص في الإمدادات والذخيرة والمؤن والمضايقة من قبل فرنسا وبريطانيا مما أجبرهم على الانتظار إلى ما سيكون عليه الوضع بعد الحرب العالمية الثانية.
يتعين التأكيد منذ البداية على ضرورة الاهتمام بالجانب القانوني في أبعاد هذه القضية التاريخية والدينية والسياسية لقضية القدس التي تعتبر الحجر الأساسي في قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، ويعتقد الكثير من المراقبين أنه لا سلام ولا أمن في المنطقة إلا بحل عادل يلتزم بحكم القانون واحترام الحقوق في قضية (القدس الشريف) منارة الأديان.
وبموجب قرار تقسيم فلسطين الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 من نوفمبر 1947 وقرارين لاحقين صدرا في 11 من ديسمبر 1948 وفي ديسمبر 1949 تم وضع نظام للإدارة الدولية لمدينة القدس، نظرًا لاحتوائها على الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين واليهود، ويشمل النظام الدولي بلدية القدس أي مدينة القدس بأكملها بما فيها من أحياء قديمة وحديثة والقرى المحيطة بها، والتي تشكل معها وحدة واحدة، وتم تحديد مكوناتها في خريطة ألحقت بقرار التقسيم الصادر في 29 من نوفمبر 1947.
وقد تقرر في هذا التقسيم وضع القدس تحت السيادة الجماعية للأمم المتحدة بحيث يكون مجلس الوصاية مسئولاً عن إدارتها، ويعين مجلس الأمن حاكمًا للمدينة المقدسة يعاونه مجلس تشريعي يتكون من أربعين عضوًا توضع القدس في حالة حياد دائم ويكون لسكانها رعاية خاصة.
لكن النظام الدولي المقترح للقدس لم ير الحياة، وبيان ذلك أن مجلس الوصاية قد كلف بوضع مشروع لهذا النظام تمهيدًا لعقد اتفاق دولي بشأنه لكن هذا المشروع تعذر إقراره بواسطة الجمعية العامة نتيجة لمعارضة كل من البلاد العربية وإسرائيل لتدويل القدس فبقي التدويل معطلاً.
وظل القسم القديم من القدس تحت سيطرة الأردن، وهو الجزء الذي يحتوي على الأماكن المقدسة أما القسم الحديث فقد احتلته إسرائيل منذ إنشائها سنة 1948 وفي 7 من يونيو 1967 احتلت إسرائيل مدينة القدس بأكملها عقب عدوانها في 5 من يونيو 1967 ومنذ ذلك العام – وحتى الآن – هناك انتهاكات إسرائيلية لا يمكن حصرها للحقوق المدنية والمعتقدات في مدينة القدس.
ولم تكتف سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة بانتهاك حقوق الإنسان، بل امتدت يدها للعبث بالمقدسات، وخاصة في مدينة القدس حيث عملت على إجراء الحفريات حول الحرم الشريف في القدس، واغتصاب وهدم وإزالة العقارات والمقدسات الإسلامية بها، وتشريد سكانها مستهدفة إزالة الحرم الشريف ومسجد الصخرة والمسجد الأقصى، وإزالة ما حولهما وما يجاورهما من تراث إسلامي ومسيحي وحضاري، واستبدال كل ذلك بهيكل جديد مزعوم لليهود.
وقد عملت السلطات الإسرائيلية منذ احتلال القدس على مواصلة إجراءات الحفر حتى وصلت إلى أسوار الحرم الشريف من الجهتين الجنوبية والغربية. وقد حدد أحد علماء الآثار الإسرائيليين طول هذه الحفريات ب 485 مترًا كان قد تم حفر 32 مترًا منها حتى أكتوبر 1970، ثم استمرت هذه الأعمال بصفة متدرجة حتى وصلت إلى أجزاء منها إلى اكتمال حفر إلى ما تحت قبة الصخرة والإعلان عن ذلك وفتح النفق للإسرائيليين والسائحين في سبتمبر 1996.
وقد تجلت قمة الأعمال الإجرامية للسلطات الإسرائيلية بقيامها بإحراق المسجد الأقصى في 21 من أغسطس عام 1969 في محاولة منها لتهويد القدس العربية، والقضاء على أهم معالمها الإسلامية، كل ذلك من أجل بناء هيكل اليهود المزعوم مكان المسجد الأقصى.
وتؤكد قواعد القانون الدولي على حماية الأماكن المقدسة والأماكن الاثرية، وذلك لأنها تعتبر تراثًا إنسانيًا حضاريًا، ولا يقدر بثمن كما تلزم هذه القواعد سلطات الاحتلال احترام هذه الأماكن، وعدم المساس بها، والعمل على احترام حرية ممارسة الشعائر الدينية، كما تحذر من التدخل في هذه الشئون أو العمل على تعطيلها، وعلى سبيل المثال اتفاقية لاهاي الرابعة لسنة 1907 في نص المادة 56 الذي يقرر أن امتلاك البلديات والمؤسسات الدينية والتعليمية، حتى ولو كانت للدولة يجب أن تعامل كالأملاك الخاصة، وأن الاستيلاء أو التدمير أو الإضرار المتعمد لهذه المؤسسات أو المباني التاريخية أو التحف الفنية محظور، ويجب أن تتخذ قيد المخالفين لنصوص هذه الاتفاقية كل الإجراءات القضائية.
كما جرى النص أيضًا على حرية ممارسة الشعائر الدينية والتزام السلطة المحتلة بوجوب احترام ذلك في نص المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 الخاصة بحماية المدنيين والتي أكدت على حق السكان في المناطق المحتلة في ممارسة شعائرهم الدينية حسب عاداتهم وتقاليدهم.
وقد أكدت محكمة نورمبرج في أعقاب الحرب العالمية الثانية على أن تعرض سلطات الاحتلال للأماكن الدينية أو المساس بها، وكذلك إعاقة أو تعطيل الشعائر الدينية في الأراضي المحتلة يشكل جريمة من جرائم الحرب تدينها قوانين وأعراف الحرب والاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية والمبادئ العامة المعترف بها من قبل الدولة المتمدنة، وقد أصدرت محكمة نومبرج أحكامًا عديدة بإدانة الأشخاص الذين قاموا بإغلاق الأديرة وسلب أموال الكنائس والمعابد، وانتهاك حرمتها، وتدخلوا في ممارسة السكان المدنيين لعقائدهم الدينية واضطهادهم للقساوسة ورجال الدين.
إلا أن إسرائيل عملت على نقل الأملاك العربية في القدس إلى أفراد وهيئات إسرائيلية.
إذ إنه بعد قرار التقسيم لجأت القيادة الصهيونية إلى حيل وأساليب عديدة لترسيخ وجودها في الأراضي الفلسطينية، واحتلال أكبر مساحة منها خاصة القدس الشرقية، التي تتميز بخصوصية كبيرة لدى العرب والمسلمين، وفي هذا السياق وضعت خطة هجومية كبرى سمتها الخطة ” د ” (لتنفيذ قرار التقسيم بقوة السلاح، وكان هدفها الأول احتلال العديد من القرى تمهيدًا لاحتلال القدس بكاملها، وبالفعل بدأت الحكومة الإسرائيلية بتنفيذ الهجوم العام على القدس في الأسبوع الأول من أبريل 1948 عبر سلسلة من العمليات المحكمة الترابط، وذلك قبل دخول الجيوش العربية بستة أسابيع، وأدت هذه العمليات إلى سقوط ما سمي بالقدس الغربية بحلول 15 من مايو 1948.
وقد شكلت القدس الغربية المحتلة 84.13 في المائة من مساحة بلدية القدس الانتدابية، وكانت تضم أهم مراكز التجارة، والأحياء السكنية العربية خارج البلدة القديمة، وكان يقطن هذه الأحياء 25000 مواطن مقدسي من المسيحيين والمسلمين من أصحاب المهن الحرة والتجار وكبار الموظفين، وقد شردوا جميعًا واستولت إسرائيل على أملاكهم، ولم تتعد ملكية اليهود في القدس الغربية المحتلة الـ 30 في المائة، وهكذا كان ما بقي في أيدي العرب في الخامس عشر من مايو 1948 وسمي بالقدس الشرقية لم يتعد 11.48 في المائة من مساحة بلدية القدس الانتدابية، ولم تنقذ القدس الشرقية إلا بعد تدخل الجيش العربي في اللحظة الأخيرة.
من هنا يمكن القول إن وجود إسرائيل في القدس الغربية يقوم على الاحتلال العسكري خرقًا للقانون الدولي لكونه خرقًا لمشروع التقسيم وللكيان المنفصل الذي نص عليه المشروع، كما أن هذا الاحتلال يخضع قانونًا لاتفاقات لاهاي وجنيف الخاصة بالأراضي المحتلة من خلال الحرب.
وبذلك فإن إسرائيل عملت طيلة السنوات 1949 1967 إلى نقل الأملاك العربية في القدس الغربية إلى أفراد وهيئات إسرائيلية، وأعلنت القدس العربية عاصمة لها، وبنت على الأملاك المغتصبة أهم مؤسساتها الرسمية ضاربة عرض الحائط بكل اتفاق أو قانون دولي، وهو ما يدفع معظم دول العالم إلى عدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الغربية حتى الآن.
ومن هنا يقول وليد الخالدي إن السيطرة العسكرية اليهودية على الحرم الشريف وحائط المبكي في أعقاب حرب يونيو وللمرة الأولى منذ أن هدم الإمبراطور الروماني هيكل هيردوس الثالث عام 70 للميلاد، أحدثت هذه السيطرة زلزالاً عاطفيًا في أعماق نفوس اليهود، وعلى يمين إسرائيل ويسارها على حد سواء فكانت سكرة لم يصحوا منها إلى الآن.
وفور احتلالها للقدس الشرقية أقامت إسرائيل استعراضًا عسكريًا في باحة الحرم الشريف، ورفعت العلم الصهيوني على مسجد قبة الصخرة، ونفخ كبير حاخامي الجيش، عند الحائط إيذانًا بالنصر، وأنذر سكان حي المغاربة أمام الحائط بمغادرة منازلهم خلال ساعات ودكت الجرافات كل منزل فيه وقضى بعض المسنين تحت الأنقاض وتحول وقف (الأفضل بن صلاح الدين) و(أبي مدين التلمساني) إلى باحة فسيحة ألحقت بحائط المبكي، وكان هذا رد إسرائيل على لجنة التحقيق الدولية، التي قدمت إثر ثورة البراق، وإعلان رفضها للثوابت العتيدة التي بقيت قائمة منذ العهدة العمرية.
وتشير الكثير من الدراسات التاريخية والسياسية إلى أن البلدة القديمة داخل الأسوار قلب القدس وقصبة فلسطين حيث الحرم الشريف وكنيسة القيامة والبراق تتألف من خمسة أجزاء مجموع مساحتها أقل من كلم مربع واحد، وهذه الأجزاء الخمسة هي: الحرم الشريف، والحي العربي الإسلامي، والحي العربي المسيحي، والحي الأرمني المستعرب، والحي اليهودي القديم قبل 1948 أصغر هذه الأحياء لا تتعدى مساحته خمسة دونمات، وتعود معظم ملكيته إلى وقف ذرية إسلامية يقطنه حوالي 2000 من المستأجرين اليهود بيد أن إسرائيل سارعت بعد الاحتلال إلى مصادرة الأملاك العربية المجاورة، وضمها إلى الحي اليهودي بحيث تضاعفت مساحته عشرين ضعفًا أقيمت عليها مبان جديدة يسكنها اليوم حوالي أربعة آلاف إسرائيلي، ومع ذلك بقيت الأكثرية الساحقة داخل البلدة القديمة عربية إلى يومنا هذا، حيث يبلغ تعداد العرب فيها حوالي خمسة وثلاثين ألف نسمة، مقابل أربعة آلاف وخمسمائة إسرائيلي.
وتحت الضغوط العربية والدولية قامت إسرائيل بإنزال العلم الصهيوني عن مسجد قبة الصخرة، وسمحت لإدارة الأوقاف الإسلامية بإدارة الحرم الشريف، ولكنها فرضت سيطرتها الأمنية على داخله، وعلى أبوابه، وأباحت لنفسها الحفر من حوله وأحيانًا تحته، ومنحت اليهود حق الدخول والصلاة فيه، ولكنها ربطت ممارسة هذا الحق باعتبارات أمنية يعود إليها تقديرها، وأبقت موضوع السيادة عليه مضمرًا فكانت هذه المعالم الجديدة التي فرضتها بقوة السلاح، ولعل المشهد الدرامي الذي خلفته زيارة السفاح شارون لباحة المسجد الأقصى يؤكد مكانة القدس في الوجدان الفلسطيني والإسلامي.



توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 17 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



الانتداب البريطانى 1917-1948
سمير جريس



احتل الحلفاء مدينة القدس في 9 من ديسمبر 1917، وأنشأت بريطانيا حكومة عسكرية في فلسطين قبل أن تكمل احتلالها لشمال فلسطين والذي تم في سبتمبر 1918 وعينت الحكومة الإنجليزية الجنرال “كلا يتون ” على رأس الإدارة العسكرية في فلسطين، والتي عملت بمساعدة لجنة صهيونية أرسلت إلى فلسطين بموافقة الحكومة البريطانية -على وضع التدابير الضرورية التي من شأنها أن تضع السياسة التي انطوى عليها تصريح بلفور موضع التنفيذ .
لقد عين الجنرال كلايتون حكاما عسكريين في مدن فلسطين وعين “الكولونيل رونالدستورز” حاكمًا عامًا لمدينة القدس الذي تسلم وظيفة في 28 من ديسمبر 1917، وعين كذلك موظفين آخرين معظمهم من المسيحيين العرب في وظائف مترجمين وكتبة، علمًا بأن معظم الوظائف الرئيسية قد احتلها موظفون يهود.

الإدارة العسكرية:
ومن ثم أخذت الإدارة العسكرية تعمل على تنظيم دوائر الإدارة في فلسطين، فنظمت المحاكم المدنية والتي بقيت معطلة في فلسطين حتى أواسط عام 1918، ومعنى ذلك أن القضاء كان يتبع الأحكام العسكرية حيث أصدرت الإدارة العسكرية بعد ذلك قرارًا بإنشاء محكمة استئناف في القدس، كما أنشئت محكمتان ابتدائيتان في القدس، تخدم قضاء القدس والخليل وبئر السبع .
كما اهتمت الإدارة العسكرية بالشؤون المالية للبلاد، فأدخلت العملة المصرية إلى فلسطين وجعلتها العملة الرسمية، كما أصدرت تعرفه رسمية حددت فيها أسعار النقود الرسمية بالنسبة للعملة المصرية، وأصدرت قانونًا للضرائب كما حددت الأسعار، وأسس الحكام العسكريون شركات اقتصادية لبيع الأقمشة التي تستورد من مصر، وألغت الإدارة العسكرية معاملات الأراضي وأغلقت دوائر الطابو .
ومن ناحية ثانية أوكلت بريطانيا مهمة حفظ الأمن في مدينة القدس إلى حراس من المسلمين الهنود كانوا جنود في الجيش البريطاني المحتل لفلسطين وأصبحت المحافظة على الأمن منوطة بالإدارة العسكرية، لكن الإدارة العسكرية سمحت للمستوطنات اليهودية بإنشاء حرس خاص لها وظل هذا الوضع ساريا حتى في زمن الإدارة المدنية. أما من الناحية الإدارية فقد قسمت فلسطين إلى عدة ألوية، يحكم كل لواء حاكم إنجليزي وقسم اللواء الواحد إلى عدد من الأقضية، ويطلق على حاكم القضاء (قائمقام) وغالبًا ما يكون من العرب، حيث اقتصرت المناصب الرئيسية والعليا في حكومة فلسطين على الإنجليز واليهود، فكان منهم المندوب السامي والسكرتير العام وقاضي القضاة وحكام الألوية.
ومنذ احتلال القدس ظهر التواطؤ الاستعماري البريطاني مع الصهيونية فقد سمحت بريطانيا لوفد صهيوني برئاسة “حاييم وايزمان” بالحضور إلى القدس، وقام الكولونيل “رونالد ستورز” حاكم القدس العسكري ببذل مساعيه ليعقد اجتماعات مع وجهاء واعيان العرب مع أعضاء اللجنة الصهيونية، والتي كانت تقوم بشرح أهداف الزيارة لإزالة مخاوف الفلسطينيين من إقامة الوطن القومي اليهودي في بلادهم. وحاول (ستورز) إقناع أعيان المسلمين ببيع ممر حائط المبكى مقابل 80 ألف من الجنيهات، الأمر الذي رفضه المسلمون .
ومن جهة أخرى، كان أعيان ووجهاء القدس قد أبدوا استياءهم واستنكارهم من خطاب الجنرال اللنبي الذي فتح القدس في 11 من ديسمبر 1917 حيث أظهر غطرسته أثناء إلقاء خطابه أمام حشد كبير من أعيان القدس وضواحيها، وخاصة عندما قال جملته المشهورة (اليوم انتهت الحروب الصليبية).
ولم تكتف الإدارة العسكرية بالسماح للجنة الصهيونية بزيارة القدس ومحاولتها شراء ممر حائط المبكى بل سمحت للجنة الصهيونية برئاسة “حاييم وايزمان” أن تعقد اجتماعات في مدن فلسطين التي زارتها، حيث عقدت اللجنة الصهيونية مؤتمرها في مدينة يافا، أعلن فيه اليهود برنامجًا متكاملاً من أجل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين يكون لليهود حق تقرير شؤونهم واتخاذ (نجمة داوود) شعارًا للعلم الصهيوني، واستعمال أرض إسرائيل بدلاً من فلسطين. وقوبلت البعثة الصهيونية بمظاهرات واحتجاجات من عرب فلسطين عمت معظم مدن فلسطين، وخلال ذلك شعر الفلسطينيون بعمق التحالف البريطاني – الصهيوني مما دعاهم إلى تشكيل الجمعيات، وإقامة المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القدس وغيرها، ومن أهمها النادي العربي في القدس برئاسة “الحاج أمين الحسيني”، والجمعية الإسلامية وجمعية الفدائية، والمنتدى العربي، ونادي الإخاء وغيرهم. وتمحورت نشاطات هذه الجمعيات في تسليح الأعضاء بالأسلحة الخفيفة، وتدريس بعض الشبان اللغة العبرية لمتابعة، ما ينشر في الصحف اليهودية، وتعليم الأطفال مبادئ الوحدة العربية والعمل على بث الدعاية بين بدو شرق الأردن وتركيز الجهد على الضباط الفلسطينيين في عمان حتى يكونوا على أهبة الاستعداد إذا أعلنت سياسة موالية للصهيونية. كما تم تشكيل جمعية إسلامية مسيحية يهدف برنامجها إلى مقاومة السيطرة اليهودية، ومكافحة النفوذ اليهودي والحيلولة دون شراء اليهود للأراضي.
لقد قام اليهود في 2/11/1918م بتنظيم الاحتفالات في الذكرى الأولى لوعد بلفور مما حذا بالعرب القيام بمسيرات معاكسة، فيما هددت بريطانيا العرب بإلقاء القبض على أي عربي يقوم بالتظاهر، ورغم ذلك قامت أول تظاهرة عربية في القدس وعلى رأسها “موسى كاظم الحسيني” رئيس بلدية القدس. وعلى أثر هذا أصدر الحاكم العسكري البريطاني في القدس وثيقة في 7/11/1918م تضمنت أهداف بريطانيا من الحرب في منطقة الشرق الأوسط وهو تحرير الشعوب من الحكم التركي وتأسيس حكومات تقوم على اختيار الأهالي لها اختيارًا حرًا، ونتيجة لذلك عقد أول مؤتمر عربي فلسطيني في القدس في الفترة ما بين 27 من يناير- 10 من فبراير 1919 م حضره سبعة وعشرون مندوبًا عن الجمعيات الإسلامية والمسيحية من مختلف أنحاء البلاد برئاسة “عارف الداوودي الدجاني”، وأعلن المؤتمر أن قراراته تعبر عن أماني، ومطالب شعب فلسطين، وتتمثل في اتحاد فلسطين مع سوريا واعتبارها جزءًا منها، منع الهجرة اليهودية، ومنع قيام وطن قومي يهودي، كما أشارت إلى أن اليهود الذين يقطنون فلسطين يعتبرون مواطنين يتمتعون بكافة الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المواطنون العرب غير أن الجنرال اللنبي منع إصدار هذا المنشور .

الإدارة المدنية البريطانية

طبقا للمخططات البريطانية وما تقتضيه مصلحة الحركة الصهيونية، تم إنهاء الإدارة العسكرية، وإحلال الإدارة المدنية مكانها باسم (حكومة فلسطين)، ورفعت الإعلام البريطانية على جميع الدوائر الحكومية في فلسطين، وصاحب ذلك الإعلان عن” هربرت صموئيل” تولى سلطاته كأول مندوب سامي على فلسطين منذ أول يوليو 1920 . لقد تولى صموئيل رئاسة المجلس التنفيذي الذي تكون من :
السكرتير العام: وهو نائب الرئيس ويضطلع بشؤون الإدارة -وتولاه ( يندهام ديدس).
السكرتير المالي: ويختص بالشؤون المالية والاقتصادية.
السكرتير القضائي: ويختص بالشؤون العدلية والقانونية وتولاه (نورمان بنتويش). وشكل “صموئيل” مجلسا استشاريا يتكون من عشرين عضوا نصفهم إنجليز وسبعة من العرب وثلاثة من اليهود وتكون وظيفته الاستشارية فقط .

مع بدء تولي صموئيل سلطاته كمندوب سامي على فلسطين دعا ممثلين عن جنوب فلسطين للاجتماع بهم في القدس بتاريخ7 من يوليو 1920، وفي يوم 8 من يوليو اجتمع إلى ممثلين عن شمال فلسطين في حيفا، وألقى بيانًا حول السياسة البريطانية في فلسطين وتلا على المجتمعين رسالة الملك جورج الخامس التي أكثر فيها النزاهة المطلقة التي تتبعها الدولة المنتدبة، وتصميم حكومته على احترام حقوق جميع الأجناس وجميع العقائد الممثلة في فلسطين، وأخذ يشرح القواعد الأساسية للحكومة وأعمالها، وتحدث عن الوطن القومي لليهود، وأعلن أن قيام الوطن القومي لليهود يساعد على ترقية أحوال البلاد اقتصاديا .

وبذلك أوضح صموئيل النقاط الأساسية التي جاء من أجل تنفيذها والعمل على تثبيتها في فلسطين، حيث تمثل هدنة الرئيس في وضع الأسس الكفيلة بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ولذلك فقد فتح فلسطين للهجرة اليهودية وحددها سنويا 1650 مهاجر، وعمل على إنشاء لجنة للأراضي، كان هدفها تسهيل عمليات البيع لليهود ومنح اليهود استثمارات ومشروعات كبرى منها مشروع “روتنبرغ “للكهرباء ومشروع “بوتاس البحر الميت” وغيرها من المشاريع المهمة والإستراتيجية في فلسطين، كما اعتمد اللغة العبرية لغة رسمية في البلاد مع أن غالبية الشعب عربي مسلم، وتم عرض برنامج صموئيل هذا على مجلس العموم البريطاني فوافق عليه في 27 أكتوبر 1920 م .

وهذه كانت البداية الحقيقية التي كشفت اللثام عن الوجه الزائف للاحتلال البريطاني الأمر الذي أثار الصراع السياسي في البلاد منذ بداية الانتداب حتى نهايته، خلال ذلك أكد الشعب العربي الفلسطيني عزمه على مكافحة السياسة الاستعمارية والسياسة الصهيونية الاستيطانية ومقاومتهما، حيث أعلنت حربا شعواء على الصهيونية لا هوادة فيها فقامت المظاهرات والثورات المتلاحقة وعقدت المؤتمرات التي نددت بالصهيونية والاستعمار، وشكلت الحركات والأحزاب الثورية والمجالس والجمعيات النقابية والوطنية، وكرست كل جهدها لمقاومة الاستعمار وسياسة التهويد التي ينتهجها .

وفي شهر آذار /مارس 1921 أصدر المندوب السامي “هربرت صموئيل ” أمرًا بتشكيل مجلس إسلامي أعلى يشرف على إدارة الأوقاف الإسلامية، وتعيين قضاة المحاكم الشرعية، وعرف بالمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، ومركزه القدس، وتألف من رئيس العلماء، وأربعة أعضاء، وأنيطت به إدارة ومراقبة الأوقاف الإسلامية، وتعيين القضاة الشرعيين، ورئيس وأعضاء محكمة الاستئناف الشرعية حيث اختير مفتي القدس الحاج “أمين الحسيني” رئيسًا للمجلس الإسلامي الأعلى، وذلك بعد وفاة أخيه “كامل الحسيني” في عام 1922 .

لقد اهتم المجلس بالأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية والمعاهد الدينية وغيرها من المؤسسات الإسلامية ولا سيما المسجد الأقصى .

التنظيم البلدي خلال فترة الانتداب:

لقد قام الجنرال اللنبي بعد فترة قصيرة من دخوله القدس، باستدعاء ماكلين (Mclean) مهندس مدينة الإسكندرية لوضع الخطة الهيكلية الأولى للمدينة، والمقاييس والمواصفات والقيود المتعلقة بالبناء والتطوير فيها، وقام الأخير بوضع أول مخطط هيكلي لها سنة 1918 كان بمثابة أساس للمخططات، التي تلته وبناء على هذا المخطط تم تقسيم المدينة إلى أربع مناطق:
1 – البلدة القديمة وأسوارها.
2 – المناطق المحيطة بالبلدة القديمة .
3 – القدس الشرقية ( العربية) .
4 – القدس الغربية ( اليهودية) .
حيث نصت الخطة على منع البناء منعا باتاً في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة ووضعت قيودا على البناء في القدس الشرقية “العربية” أعلن عن القدس الغربية “اليهودية” كمنطقة تطوير .
لقد اتسم هذا المخطط بتعزيز الوجود اليهودي في المدينة كما عمل على تطويقها استيطانيا لمنع أي توسع عربي محتمل، ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي كخطوة نحو الاحتلال الكامل للمدينة وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية
ومن ناحية أخرى قامت سلطات الانتداب بحل المجلس البلدي وتعيين لجنة لادارة البلدية مؤلفة من ستة أعضاء، اثنين من كل طائفة، وكان يرأس هذه اللجنة أحد أعضاء المسلمين، وينوب عنه في حال غيابه عضوان من الطائفتين الأخريين ويقومان بمهام الرئيس بالتناوب.
ومع تطبيق الإدارة المدنية عام 1920 أعيد تشكيل هذه الجنة حيث عينت السلطات البريطانية مجلسًا استشاريًا لإدارة شؤون البلدية يتكون من 17 عضوًا منهم عشرة ضباط بريطانيين وأربعة أعضاء مسلمين وثلاثة أعضاء يهود، ثم استبدل هذا المجلس بمجلس آخر يرأسه عربي يتكون من 12 عضوًا نصفهم من العرب (4 مسلمون + 2 مسيحيون ) والنصف الباقي من اليهود، وخلال الفترة ما بين 1918- 1947، تشكلت مجموعة من العوامل الخارجية أدت إلى خدمة الحركة الصهيونية، فمع تزايد أعمال العنف ضد اليهود في مختلف أنحاء أوربا، وصعود النازية إلى الحكم في ألمانيا سنة 1933 ازدادت هجرة اليهود من دول أوربا وقدومهم إلى فلسطين بتشجيع سلطات الانتداب البريطاني فقفز عدد السكان اليهود في القدس حيث تضاعف عددهم.

السكان:
وتركز تقارير السكان المنشورة في الوثائق الإسرائيلية على معلومات مغلوطة عن نسبة عدد السكان، وذلك لتجنب المناطق الجغرافية التي يقطنها العرب، لان تعيين الحدود البلدية خلال عهد الانتداب رسم بطريقة ترتبط بالوجود اليهودي. حيث امتد خط الحدود ليشمل جميع الضواحي الاستيطانية اليهودية، التي أقيمت غربي المدينة، فقد امتد الخط من هذا الجانب إلى عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجوانب الشرقية والجنوبية على بضع مئات من الأمتار، بحيث أن خط الحدود وقف باستمرار أمام مدخل القرى العربية المجاورة للمدينة، وهنا بقيت قرى عربية كثيرة خارج حدود البلدية مثل (سلوان، العيسوية، الطور، دير ياسين، لفتا، شعفاط، المالحة، عين كارم، بيت صفافا) على الرغم من تداخلها، والتصاقها بالمدينة.
لقد أثارت السياسة البريطانية التي تلخصت بتسهيل إقامة الوطن القومي اليهودي مخاوف الشعب العربي الفلسطيني، وكذلك الأرقام المتصاعدة للمهجرين اليهود إلى فلسطين طبقًا لسياسة الانتداب، إذ تبين أن هذه الهجرة ستجعل من العرب الفلسطينيين أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة، فقام الشعب الفلسطيني بعدد من الثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي، وكان من أبرزها ثورات 1920، 1929، 1933، 1936، 1939 حيث كانت القدس مركز هذه الثورات أو نقطة الانطلاق.

لقد حاول البريطانيون طيلة فترة الانتداب التوصل إلى “تسوية” بين العرب واليهود، وقدموا العديد من المشاريع، التي تعزز مكانة اليهود في فلسطين والقدس فعلى أثر ثورة 1929، ارتأت حكومة الانتداب تقسيم فلسطين إلى كانتونات (مقاطعات) بعضها عربي والبعض الآخر يهودي، يتمتع كل منها بالحكم الذاتي في ظل الانتداب، ولكن العرب في فلسطين قاوموا هذا المشروع وأحبطوا أغراضه .

وعاودت بريطانيا طرح فكرة التقسيم من جديد في أعقاب ثورة 1936، إذ شكلت على أثرها لجنة تحقيق ملكية( لجنة بيل Peal ) وأنهت اللجنة المذكورة أعمالها، وخرجت بتوصية مفادها (تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، ووضع القدس تحت نظام دولي لقدسيتها، بحيث تشمل المنطقة الممتدة من شمال القدس، حتى جنوبي بيت لحم مع ممر بري إلى يافا).

وقد فشل هذا المشروع أيضًا أمام ثورة العرب عليه ومقاومتهم له. ثم ما لبثت بريطانيا أن تخلت عنه وفقًا لتوصية لجنة من الخبراء ( لجنة وودهيد ) شكلت لبحث إمكان تنفيذ التقسيم وفقًا لمشروع لجنة “بيل ” ومع نشوب الحرب العالمية الثانية عادت قضية القدس إلى إطارها كجزء من القضية الفلسطينية، وعادت السياسة البريطانية إلى دورها أثناء الحرب العالمية الأولى بإصدار الوعود للعرب وتحقيق الأهداف الصهيونية العالمية. كانت السياسة البريطانية ترى أن تقسيم فلسطين هو إحدى الوسائل لتهويدها تم تحويلها إلى دولة يهودية ولتحقيق ذلك اتجهت بريطانيا إلى الأمم المتحدة وسعت لاستصدار قرار بشأن مصير فلسطين يكون له قيمة دولية وتلزم به دولا كثيرة وهذا يوفر لها مخرجا للتملص من تنفيذ ما تضمنه صك الانتداب من وعود للعرب وواجبات نحوهم .

وعندما هيأت الحكومة البريطانية الجو الدولي الملائم، أعلن وزير خارجيتها في 18 فبراير 1947 م عن اعتزام “حكومة صاحب الجلالة … عرض المسألة لحكم الأمم المتحدة لتوحي بتسوية لها “، وبعد مشاورات مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى طلبت إدراج مسألة فلسطين على جدول الأعمال للدورة العادية المقبلة بتاريخ 18 من أبريل 1947. وتم عقد دورة استثنائية لتشكيل لجنة خاصة للنظر في مسألة فلسطين، ورفع تقرير عنها إلى الجمعية العمومية في الدورة العادية المقبلة، وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه عقدت الجمعية العامة دورة استثنائية طلب فيها مندوب بريطانيا أن تقتصر أعمالها على تشكيل لجنة تحقيق. وقدمت الدول العربية اقتراحًا لإدراجه على جدول الأعمال يقضي “بإنهاء الانتداب على فلسطين وإعلان استقلالها ” وكان قد قدم الاتحاد السوفيتي اقتراحًا مشابهًا إلا أنه قد فاز الاقتراح البريطاني بتشكيل ” لجنة خاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (unscop). ويكون من مهامها تفحص جميع القضايا والمسائل ذات العلاقة بمسألة فلسطين ودرس قضية فلسطين من جميع وجوهها، كذلك أحوال اليهود المشردين في أوربا والموجودين في معسكرات الاعتقال“.

وبذلك نجحت بريطانيا في الربط بين قضية فلسطين ومشكلة اليهود المشردين في أوروبا، وأحالت الجمعية العامة قرارها إلى لجنتها السياسية التي أقرت تشكيل اللجنة في 22 من مايو 1947، والتي أوصت بدورها على تقسيم فلسطين الى دولتين يهودية وعربية وإنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، وإقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين الأمر الذي رفضته الهيئة العربية العليا للفلسطينيين، كما رفضته الدول العربية على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن، أما الحركة الصهيونية التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية وجعل القدس عاصمة هذه الدولة فقد قبلت به بتردد كثمن للحصول على قرار دولي بإقامة دولة لليهود.

وإذا ما حاولنا التطرق بنوع من التخصص إلى القدس العربية والممارسات البريطانية عليها فهي لم تختلف عن الممارسات البريطانية بشكل عام تجاه القدس، فقد تميزت جميعها بتسهيل سيطرة الصهاينة على المدينة والحكم البلدي فيها، ومن أجل تحقيق ذلك تلاعبت الإدارة البريطانية بحدود مسطح البلدية وبقوائم الناخبين بحيث كانت تستثنى الأحياء العربية، بينما أدخلت الأحياء اليهودية مسطح البلدية برغم بعدها عنها وبذلك سهلت الإدارة البريطانية على اليهود الادعاء بتحقيق أكثرية في المدينة والمطالبة برئاسة البلدية . ففي عام 1937 قامت سلطات الانتداب باعتقال رئيس البلدية العربي الدكتور حسين فخري الخالدي ونفته إلى جزر سيشل مع أعضاء الهيئة العربية العليا وعينت نائب رئيس البلدية “دانييل واستر” رئيسًا.

لكنها تراجعت في السنة التالية أمام شدة المعارضة العربية، وعينت رئيسًا مسلمًا للبلدية هو مصطفى الخالدي، وقد تكررت هذه المحاولة مرة أخرى في آب/ أغسطس 1944 عندما توفي رئيس البلدية العربي، حيث قام البريطانيون بتعيين نائبه اليهودي خلفًا له مرة أخرى، لكن العرب عارضوا هذا الإجراء فاقترح البريطانيون اتباع نظام التناوب على رئاسة البلدية مرة كل سنتين بحيث يكون أول رئيس يهوديًا والثاني عربيًا والثالث بريطانيًا.
فلجأ العرب إلى مقاطعة جلسات المجلس البلدي، فقام البريطانيون بحله في 11 من يوليو 1945، وتعيين لجنة بديلة من ستة موظفين بريطانيين، وتم حرمان العرب من رئاسة البلدية وفي هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الثانية قد توقفت، فاستأنفت المنظمات الإرهابية الصهيونية نشاطها ضد البريطانيين والعرب، والذي كان قد اتخذ أبعادًا جديدة من سنة 1939 في أعقاب صدور الكتاب الأبيض.

الصراع العربي اليهودي
عندما أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14 من آيار/مايو 1948، وضمن تلك الظروف التي صنعتها لولادة الدولة اليهودية، أخذت المنظمات الصهيونية الإرهابية في تصعيد حرب الإبادة وأعمال العنف، واستخدام كافة الأساليب النفسية لبث الذعر في نفوس عرب فلسطين، وإجبارهم على الفرار من بيوتهم، وأخذ الأراضي خالية من السكان فقامت لهذا الغرض بتنفيذ العديد من المجازر البشعة ضد المدنيين العزل، ومنها المذبحة التي نفذتها العصابات الصهيونية في قرية دير ياسين بالقرب من القدس في 9 من نيسان / إبريل 1948، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من ثلاثمائة شخص. وكتب العقيد “مئير باعيل “كشاهد عيان للمجزرة قائلاً “بعد أن خرج رجال البلماخ من القرية “أي دير ياسين ” بدأ رجال اتسل وليحي مذبحة مخجلة بين السكان العرب : الرجال والنساء والشيوخ والأطفال دون تمييز بتوقيفهم بجانب الجدران وإطلاق النار عليهم “وأضاف أن خمسة وعشرين رجلاً نقلوا إلى سيارة شحن واقتيدوا إلى مقلع للحجارة يقع بين غفعات شاؤول ودير ياسين، وهناك أطلق الرصاص عليهم بدم بارد ” ووصف الكاتب العملية بأنها (وصمة عار في تاريخ الشعب الإسرائيلي)
وبحلول 4أيار (مايو) 1948 موعد إنهاء الانسحاب البريطاني من فلسطين أعلن مخلص الدولة المؤقت (الإسرائيلي ) عن قيام دولة إسرائيل الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع القدس الغربية بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت السيطرة الإسرائيلية، والتي تجاوز بكثير الأراضي التي نص عليها قرار التقسيم، وبقيت القدس العربية تحت سيطرة الأردن، وتوقف القتال باتفاقية لوقف إطلاق النار بين الجانبين أبرمت في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر ) 1948 ثم تحولت إلى اتفاقية هدنة بين البلدين عقدت تحت إشراف الأمم المتحدة في 3 نيسان /إبريل 1949.

ملكية الأراضي بعد اتفاقية الهدنة في القدس
عندما أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14 من آيار/مايو 1948، وضمن تلك الظروف التي صنعتها لولادة الدولة اليهودية، أخذت المنظمات الصهيونية الإرهابية في تصعيد حرب الإبادة وأعمال العنف، واستخدام كافة الأساليب النفسية لبث الذعر في نفوس عرب فلسطين وإجبارهم على الفرار من بيوتهم واخذ الأراضي خالية من السكان فقامت لهذا الغرض بتنفيذ العديد من المجازر البشعة ضد المدنيين العزل، ومنها المذبحة التي نفذتها العصابات الصهيونية في قرية دير ياسين بالقرب من القدس في 9 من نيسان / إبريل 1948، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من ثلاثمائة شخص. وكتب العقيد “مئير باعيل “كشاهد عيان للمجزرة قائلاً ” بعد أن خرج رجال البلماخ من القرية ” أي دير ياسين ” بدأ رجال اتسل وليحي مذبحة مخجلة بين السكان العرب: الرجال والنساء والشيوخ والأطفال دون تمييز بتوقيفهم بجانب الجدران، وإطلاق النار عليهم “و أضاف أن خمسة وعشرين رجلاً نقلوا إلى سيارة شحن واقتيدوا إلى مقلع للحجارة يقع بين غفعات شاؤول ودير ياسين، وهناك أطلق الرصاص بدم بارد “ووصف الكاتب العملية بأنها (وصمة عار في تاريخ الشعب الإسرائيلي).
وبحلول 4 من آيار / مايو 1948 موعد إنهاء الانسحاب البريطاني من فلسطين أعلن مخلص الدولة المؤقت (الإسرائيلي )، عن قيام دولة إسرائيل الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع القدس الغربية بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت السيطرة الإسرائيلية، والتي تجاوز بكثير الأراضي التي نص عليها قرار التقسيم، وبقيت القدس العربية تحت سيطرة الأردن، وتوقف القتال باتفاقية لوقف إطلاق النار بين الجانبين أبرمت في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 ثم تحولت إلى اتفاقية هدنة بين البلدين عقدت تحت إشراف الأمم المتحدة في 3 من نيسان / إبريل 1949.

ملكية الأراضي بعد اتفاقية الهدنة في القدس

المنطقة
المساحة بالدونم
النسبة المئوية
المساحة الواقعة تحت الحكم الأردني
2220دونم
11.48%
المساحة الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي
16261دونمًا
84.13%
مناطق الأمم المتحدة، والمناطق الحرام
850دونمًا
4.39%




وبوقوع الجزء الأكبر من مدينة القدس تحت السيطرة الإسرائيلية، أخذت إسرائيل تعمل على دمج هذا الجزء العريض من المدينة بالدولة الإسرائيلية، وبذلك جاوزت إسرائيل قرار التقسيم الذي كانت قد قبلته على مضض أثناء مناقشات إلحاق عضويتها بالمنظمة الدولية.

ومن الجدير ذكره هنا أنه في منتصف تموز / يوليو 1948 قام الجيش الإسرائيلي بمحاولة فاشلة لاحتلال المدينة القديمة سميت عملية (كيديم). وفي أواخر أيلول / سبتمبر 1948، تلقى بن غوريون نكسة أخرى عندما تحالف ثلاثة من وزراء حزبه ( شاريت، كابلان، وريميز ) مع أعضاء آخرين في الائتلاف لرفض اقتراحه القيام بعملية عسكرية ضد اللطرون من أجل تأمين ” قدس يهودية ” حسب زعمه، وعندما حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك “بن غوريون” زملائه من أن معارضتهم هذه ستسبب “بكاء الأجيال ” ثم قدم بن غوريون اقتراحًا مماثلاً سنة 1952 لاحتلال قضائي القدس والخليل، ولكن الحكومة عارضت هذا الاقتراح بأكثرية أعضائها.





توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 12-08-2017 ]
 
 رقم المشاركة : ( 18 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي
خليل التفكجي *



إثر إعلان قيام دولة “إسرائيل” في 15 من آيار / مايو 1948 وانسحاب سلطة الانتداب البريطاني من فلسطين دارت معارك بين الجيوش العربية والقوات اليهودية في نواح متعددة من فلسطين، وفي فترة لاحقة تم توقيع اتفاقيات وقف إطلاق نار تبعتها اتفاقيات هدنة بين الأطراف المتحاربة في ربيع سنة 1949 بعد أن سبق ذلك تعيين الخط الفاصل بين الجزء الغربي من القدس والجزء الشرقي منها، وذلك بتاريخ 22/8/1948، وعلى الرغم من أن قرار التقسيم رقم 181 الصادر بتاريخ 29/11/1947، والذي أوصى بتدويل القدس لم يلغ أو يعدل فإنه نتيجة الوقائع المادية، التي تلته بما في ذلك رفض الفلسطينيين ممثلين باللجنة العربية العليا للقرار، وقيام “إسرائيل” على مساحة جغرافية تفوق ما خصص للدولة اليهودية بموجبه بات واضحًا أن قرار التقسيم لم يعد واقعيًا كأساس لحل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي لكن فكرة تدويل القدس بقيت قائمة.
إن احتلال أحد طرفين متحاربين لمنطقة تابعة للطرف الآخر لا يعني في أي حال من الأحوال انتقال السيادة على تلك المنطقة نتيجة الاحتلال من الطرف المهزوم إلى الطرف المحتل، بل عن حكومة الإقليم المحتل الشرعية تحتفظ بالسيادة عليه لكن هذه السيادة تكون معلقة، وتنتقل صلاحيات السلطة السابقة من تشريع وتنفيذ وإدارة إلى السلطة المحتلة طوال فترة الاحتلال إلى أن يتم تقرير مصير الإقليم المحتل، وتخضع الصلاحيات التي تمارسها القوة المحتلة خلال فترة الاحتلال لقانون الاحتلال الحربي الممثل بلوائح لاهاي لسنة 1907، وباتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في زمن الحرب لسنة 1949، وبناء عليه يجب التفريق بين الإجراءات، التي تمارسها القوة المحتلة في الإقليم المحتل، وبين ممارستها سيادتها داخل إقليمها الأصلي ولا يجيز القانون الدولي ضم منطقة محتلة إلى البلد المحتل بناء على رغبة الأخير فقط.
كما أن السيادة لا تنتقل نتيجة الاحتلال إلا في حال التوصل إلى اتفاقية بين الفريقين المتحاربين تنص على انتقال المنطقة المحتلة من الفريق المهزوم إلى الفريق المنتصر، ويشترط بعض فقهاء القانون الدولي أن يكون انتقال المنطقة المحتلة من الفريق المعتدي إلى الفريق المعتدى عليه (أسامة حلبي مجلة الدراسات الفلسطينية 31/1997، ص 97 118).
الاستيطان في القدس:
بات من المعروف جيدًا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أولت مدينة القدس ومنطقتها منذ احتلالهما سنة 1967 اهتمامًا خاصًا في المشاريع الاستيطانية التي تضعها للمناطق الفلسطينية المحتلة، وكانت تلك الحكومات سواء العمالية منها أو الليكودية ترمي من وراء ذلك إلى إيجاد واقع مادي يجعل من القدس الموحدة، والمهودة عاصمة أبدية لإسرائيل، وقد جرى استثناء القدس ومناطق حيوية أخرى من قرار تجميد الاستيطان الذي اتخذه حزب العمل سنة 1992 ومع عودة الليكود مجددًا إلى الحكم سنة 1996 تواصلت المسيرة الاستيطانية بعد أن كانت حققت رصيدًا كبيرًا يتمثل في نحو 15 موقعًا استيطانيًا، و170 ألف مستوطن يهودي في القدس الشرقية ذاتها.
غالبًا ما كانت الأنشطة الاستيطانية في القدس تتم بهدوء، وبوصفها عملاً من أعمال السيادة الإسرائيلية على المدينة، وإعلان مشروع سنة 1997 لإقامة مستوطنة هار حوما على جبل أو غنيم ترافق مع اقتراب الشروع في ما يسمى قضايا التسوية النهائية، بما فيها القدس.
يقع جبل أبو غنيم على بعد كيلو مترين تقريبًا إلى الشمال من مدينة بيت لحم عند أقصى الطرف الجنوبي لحدود بلدية القدس، وذلك ضمن أراضي يملكها فلسطينيون من بيت لحم وبيت ساحور وأم طوبي وصور باهر، وتغطي الجبل غابة من أشجار الصنوبر، وقد واصلت سلطات الاحتلال زراعتها، وأعلنت المنطقة منطقة خضراء الأمر الذي حظر على الفلسطينيين بناء أية منازل سكنية فيها، وفي حزيران / يونيو 1991 أصدر وزير المالية الإسرائيلي آنذا يستحاق موداعي أمرًا بمصادرة 1850 دونمًا من أراضي المنطقة للأغراض العامة، وهو ما يسمح بإقامة مستوطنة مقطورات لإسكان مهاجرين جدد، وقد أتاح أمر الوزير هذا المجال لبناء الضاحية الاستيطانية الجديدة.
لقد صادقت اللجنة الوزارية لشئون القدس بالإجماع على خطة بناء مستوطنة جبل أو غنيم، التي اتخذت مؤخرًا اسم بسغات شموئيل، وتشتمل الخطة المؤلفة من ثلاثة مراحل، على بناء ما مجموعه 6500 وحدة سكنية على أرض مساحتها 1992 دونمًا، وبحسب المصادر الإسرائيلية فإن معظم هذه المساحة نحو 1800 دونم أراضي مصادرة منها نحو 400 دونم من مالكيها العرب ونحو 1800 دونم من مالكين يهود وفي المرحلة الأولى التي صودق على خطتها التفصيلية سيتم بناء 2345 وحدة سكنية بالإضافة إلى مؤسسات عامة على مساحة 266 دونمًا ومناطق أعمال وتجارة تفصيلية في حيز التنفيذ لكن يخطط للضاحية الاستيطانية الجديدة أن تستوعب ما مجموعة 35 ألف مستوطن تقريبًا.
إن لمستوطنة جبل أبو غنيم أهمية خاصة في الاستراتيجية الاستيطانية الصهيونية الرامية إلى استكمال تهويد القدس، وتتمثل هذه الأهمية في أن إقامة المستوطنة تؤدي إلى إغلاق الحلقة الخارجية من الأحياء اليهودية التي تم بناؤها في القدس منذ سنة 1967 بحي إضافي بين الموقعين الاستيطانيين قصر المندوب وغيلو خشية أن تمتد بيت لحم إلى هذا الفراغ، وتدخل حدود الولاية القضائية للقدس وهي الأهمية ذاتها التي حددت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على القول إنه يريد أن يوضح بصورة قاطعة أننا سنبني في جميع أجزاء القدس بما فيها هارحوما، وإننا نرى في ذلك ضرورة حيوية، وأضف نتنياهو في تفسيره لهذه الضرورة أن بناء المستوطنة الذي يحل أزمة السكن في العاصمة هو جزء لا يتجزأ من حقنا غير القابل للتصرف بوصفنا أصحاب السيادة في القدس.
ومن المشاريع الاستيطانية المعدة للقدس:
خطة رأس العمود :
وهى تهدف إلى بناء 132 وحدة سكنية في ضاحية رأس العمود العربية، الواقعة على الطريق الرئيسية بين القدس وأريحا، على أرض مساحتها 14.7 دونمًا، وتحول الخطة، في حال تنفيذها، دون إقامة ممر بري ضيق منطقة أريحا والحرم القدسي الشريف.
الخطة E-1:
وهى تهدف إلى الوصل بين القدس ومستوطنة معاليه أودميم، من خلال بناء 1500 وحدة سكنية و3000 غرفة على مساحة 10.000 دونم تمتد بين المدينة والمستوطنة. وقد أقر وزير الدفاع، يتسحاق مردخاي، هذه الخطة.
خطة أبو ديس:
تعد بلدية القدس خطة لبناء أكثر من 200 وحدة سكنية على عشرات الدونمات، ” التي اشتراها يهود منذ أوائل القرن”، وتهدف الخطة إلى إيجاد ثقل يهودي في أبي ديس يقابل المؤسسات المركزية للسلطة الفلسطينية في هذه القرية التي يمر خط حدود القدس بداخلها.
هارحوما ب:
وتتضمن مصادرة مئات من الدونما الأخرى، المجاورة لجبل أبو غنيم، بهدف توسيع البناء اليهودي في المنطقة مستقبلاً.
وإن خطة وزارة البناء والإسكان لسنة 1997 تلحظ بناء نحو 900 وحدة سكنية جديدة لليهود في أنحاء متفرقة من بلدية القدس، بالإضافة إلى البناء في جبل أبو غنيم، الأمر الذي يرفع مجموع المنازل التي ستبني ضمن نطاق البلدية إلى نحو 3250 منزلاً، وتلحظ الخطة نفسها بناء ما يزيد على 5800 وحدة سكنية في المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، كان لمعاليه أدوميم النصيب الوافر منها. وهذا ما يصل بنا إلى المشاريع الاستيطانية التهويدية خارج حدود بلدية القدس الكبرى، بدءًا بمستوطنة معاليه أدوميم الواقعة خارج الحدود البلدية، والمستهدفة أكثر من غيرها بأن تضم ضمن هذه الحدود.
في القرار الذي اتخذته اللجنة الوزارية في 23 من كانون الثاني، والقاضي بإدراج 84 مستوطنة في الضفة في قائمة المستوطنات المصنفة “مناطق أولوية قومية” أ أوب. وتحظى مثل هذه المناطق عادة بمنح مالية كبيرة في مجالات بناء المساكن والتعليم والعمل والإعفاءات الضريبية والرفاه. فعلى سبيل المثال، تتراوح الهبة التي يحصل المستوطن عليها، من أجل شراء منزل، بين 15 ألف دولار و18 ألف دولار تقريبًا، في حين يتراوح ثمن المنزل نفسه أحيانًا بين 30 ألف دولار، و40 ألف دولار.
وهكذا، فإن هناك خطورة حقيقية على عروبة القدس، من خلال الاستيطان المتواصل فيها، والذي كانت مستوطنة بسغات شموئيل في جبل أبو غنيم إحدى حلقاته. فخطة البناء في جبل أبو غنيم جزء من خطة أشمل لتهويد القدس، هي بدورها جزء من الاستراتيجية الشاملة لاستكمال تهويد فلسطين كلها، من خلال فرض الوقائع الاستيطانية ـ كما فعل المشروع الصهيوني منذ بدايته.
إلغاء إقامة الفلسطينيين في القدس الشرقية:
تطبق منذ زمن سياسة ترحيل سري لفلسطينيين مقيمين بالقدس الشرقية. ويتم ذلك بوسائل متعددة تشمل قوانين وتنظيمات وأحكامًا قضائية وتكتيكات إدارية، وقد تسببت هذه السياسة بفقدان المئات، إن لم يكن الآلاف، من الفلسطينيين المقيمين بالقدس الشرقية حقهم في الإقامة بالمدينة. ونتيجة ذلك، طلب من كثيرين من الفلسطينيين ترك منازلهم وعائلاتهم. ونظرًا إلى عدم شفافية هذه السياسة، فإن عشرات الآلاف من الفلسطينيين باتوا يعيشون حيرة فيما يتصل بوضعه ومستبقله في المدينة.
تعني السياسة الجديدة لوزارة الداخلية أن كل فلسطيني مقيم بالقدس الشرقية، ولا يستطيع أن يبرهن على أنه يسكن حاليًا في القدس، وأنه عاش فيها في الماضي على نحو متواصل، يفقد حقه في الإقامة بالمدينة التي ولد فيها. وبالتالي، فإن جميع الفلسطينيين الذين عاشوا خارج القدس فترة من الزمن، سواء كان ذلك في بلد أجنبي أو في مكان آخر من الضفة الغربية، أو حتى في ضواحي القدس، وعلى بعد أمتار من الحدود البلدية، عرضه لفقدان حقوقهم.
لم يجر مطلقًا تنبيه فلسطيني القدس الشرقية إلى أنهم بتركهم المدينة إنما يعرضون للخطر، بوضعهم كمقيمين بالمدينة أو حقهم في الإقامة بها.
تقوم السياسة الجديدة على افتراض أن فلسطيني القدس الشرقية هم مهاجرون، يعيشون في بيوتهم بموجب إذن إقامة دائمة تمنحه إسرائيل لهم، وبالتالي فإن مكانتهم وحقوقهم رهن بالاعتبارات السياسية والأريحية الإسرائيلية. إن معاملة سكان القدس الشرقية (من الفلسطينيين) كمهاجرين هي “الخطيئة الأصلية” التي ارتكبتها إسرائيل فهؤلاء، بخلاف المهاجرين الذين اختاروا من تلقاء أنفسهم العيش في إسرائيل، ولهم بلد يرجعون إليه، ليس لديهم مساكن أو أوطان أخرى. بل إنهم لم يختاروا العيش في إسرائيل، وإنما إسرائيل هي التي احتلت القدس الشرقية وضمتها إليها.
إن هذه السياسة تميز بصورة صارخة بين المقيمين الفلسطينيين بالقدس الشرقية وبين المواطنين الإسرائيليين، ذلك بأن في وسع المواطنين الإسرائيليين ترك البلد والعيش في المستوطنات في الأراضي المحتلة لا يمس هذه الحقوق. بل إنه، ونظرًا إلى الوضع الخاص للمستوطنات، يمكن حتى للأجانب الحاصلين على الإقامة الدائمة أن ينتقلوا إلى المستوطنات من دون أن يمس ذلك حقوقهم. بيد أن الفلسطينيين بالقدس الشرقية يفقدون وضعيه الإقامة الدائمة إن هم انتقلوا إلى الضفة الغربية.
يشكل الترحيل السري استمرارًا مباشرًا للسياسة العامة لإسرائيل في القدس الشرقية منذ سنة 1967، التي تهدف إلى إيجاد واقع ديموغرافي لا يمكن معه تحدى سيادة إسرائيل على القدس الشرقية. ولقد اتخذت إسرائيل على مر الأعوام تدابير عدة لحمل فلسطيني القدس الشرقية على مغادرة المدينة. وفعلاً، فإن التقييدات الكثيرة على البناء في القدس الشرقية ورفض الموافقة على جمع البلدية للمدينة. وهم لم يدركوا إلا الآن أنهم فقدوا بذلك نهائيًا حقهم في العودة إلى العيش في المدينة التي ولدوا ونشأوا فيها، والتي يعتبرونها موطنهم وبلدهم.
يعيش في القدس الشرقية نحو 170 ألف فلسطيني يحملون بطاقات هوية إسرائيلية. وقد دأبت وزارة الداخلية الإسرائيلية، على إلغاء حق الإقامة للفلسطينيين بالقدس الشرقية الذي عاشوا، في مرحلة من مراحل حياتهم، خارج الحدود البلدية للمدينة. وبناءً على ذلك، طلب من الكثيرين من الفلسطينيين ترك بيوتهم وعائلاتهم.
بعد حرب الأيام الستة، ضمت إسرائيل، منتهكة بذلك القانون الدولي، القدس الشرقية التي تبلغ مساحتها 70 كلم2، وطبقت القانون الإسرائيلي في الأراضي المضمومة. وأجرت بعد الحرب مباشرة إحصاء في القدس الشرقية، ومنحت وضعية الإقامة الدائمة لجميع سكان القدس
الشرقية الذين كانوا موجودين فيها لدى إجراء الإحصاء. كذلك أعلنت إسرائيل أن في إمكان سكان القدس الشرقية أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين إذا ما تقدموا بطلبات في هذا الشأن. لكن لأسباب سياسية لم يطالب معظم فلسطيني القدس الشرقية بالجنسية الإسرائيلية.
اعتبرت المحكمة العليا الإسرائيلية أن قانون الدخول إلى إسرائيل هو الذي يحدد وضعية سكان القدس الشرقية الفلسطينيين، وأن بطاقة الهوية التي تمنح لهم مشابهة لإذن الإقامة الدائمة الذي يمنح وفقًا لذلك القانون. كذلك اعتبرت المحكمة العليا أن صلاحية إذن الإقامة الدائمة تنتهي عندما يستقر المقيم الدائم خارج إسرائيل.
إن إسرائيل بتطبيقها قانون الدخول إلى إسرائيل على سكان القدس الشرقية، إنما تنظر إلى هؤلاء أنهم مهاجرون، وذلك على الرغم من أن هذه العائلات تعيش في المنطقة منذ عشرات الأعوام، وأن إسرائيل هي التي دخلت إلى المنطقة لا العكس.
وتعتبر القوانين التنظيمية أن من تنطبق عليه صفة الاستقرار خارج إسرائيل هو من يبقي في الخارج لمدة تزيد عن سبع سنوات، أو من يحصل على حق الإقامة الدائمة بدولة أخرى أو على جنسيتها. وقد اعتبرت المحكمة العليا أيضًا إن في الإمكان إلغاء إذن الإقامة الدائمة إذا بينت حقائق أخرى أن الشخص المعنى استقر خارج إسرائيل، وإن كانت فترة إقامته بالخارج تقل عن سبع سنوات.
في الماضي، كان فلسطينيو القدس الشرقية الذي يعيشون خارج حدود المدينة يتوجهون بصورة اعتيادية إلى مكتب وزارة الداخلية في القدس لتجديد أذونات إقامتهم، الأمر الذي يتيح لهم تجديد فترة السنوات السبع. ذلك بأن سياسة وزارة الداخلية كانت تعتبر أن خسارة حق الإقامة تنطبق على الإقامة خارج القدس مدة سبع سنوات متواصلة.
بيد أن إسرائيل غيرت من سياستها وبمفعول رجعي، وبات الذين لم يعيشوا داخل حدود بلدية القدس بصورة متواصلة معرضين لخسارة حقهم في الإقامة بالمدينة، حتى لو كانوا عاشوا خارجها لفترة تقل عن سبع سنوات، وحتى لو لم يحصلوا على إذن إقامة دائمة ببلد آخر، أو على جنسية ذلك البلد.
إلى ذلك، يطلب من كل من يحتاج إلى خدمات وزارة الداخلية لأمر من الأمور، كاستبدال بطاقة الهوية أو تسجيل طفل أو الحصول على بطاقة هوية أول مرة في سن السادسة عشرة، أن يأتي بأدلة موثقة على أنه يعيش في القدس. ويتعرض الذين يعجزون عن توفير هذه الوثائق لإبلاغهم أن مدة صلاحية أذونات إقامتهم قد انتهت. وعندئذ يتوجب عليهم إعادة بطاقات هوياتهم ومغادرة إسرائيل في مهلة 15 يومًا. ويطرد أيضًا أفراد العائلة الآخرون (الزوجة والزوج والأطفال) الذين تعتمد أذونات إقامتهم على الشخص المطرود.
وبما أن صلاحية إذن الإقامة تنتهي تلقائيًا، فإن إلغاء وضعية الإقامة يتم من دون جل استماع أو توضيح أو أي التفات إلى حق الاستئناف، ومن دون أن يبلغ المعني أن السياسة المعتمدة تغيرت.
وتنطبق ضرورة إثبات الإقامة بالقدس على الفلسطينيين المقيمين بالولايات المتحدة، وعلى أولئك الذين يعيشون في الرام الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من الحدود البلدية لمدينة القدس، سواء بسواء.
إن الترحيل السري استمرار مباشر لسياسة إسرائيل العامة المطبقة في القدس الشرقية منذ سنة 1967، والتي تهدف إلى تقليص عدد الفلسطينيين المقيمين بالمدينة، واستحداث واقع ديموغرافي وجغرافي في القدس الشرقية يحبط أية محاولة لاحقة لتحدي السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية. ولقد تضمنت هذه السياسة تدابير متنوعة جعلت الكثيرين من الفلسطينيين الذين يودون البقاء في القدس لا يملكون أي خيار سوى الرحيل عن المدينة.
تشددت إسرائيل كثيرًا في القيود التي فرضتها على تشييد الفلسطينيين للمباني السكنية، الأمر الذي تسبب بازدحام شديد نتيجة النقص الكبير في المساكن.
قبل سنة 1994، كانت إسرائيل ترفض طلبات جمع شمل العائلة التي تتقدم النسوة المقدسيات بها نيابة عن أزواجهن من غير المقدسيين. وكانت السياسة الإسرائيلية تفرض على هؤلاء النسوة مغادرة المدينة للالتحاق بأزواجهن.
وتنطوي خسارة وضعية الإقامة بالقدس على عواقب مهمة، فالمقيمون بالقدس الشرقية غير خاضعين للحكم العسكري كغيرهم من المقيمين بباقي أنحاء الأراضي المحتلة. هم وحدهم لا يحتاجون، كما يحتاج أبناء المناطق المحتلة، إلى أذونات خاصة لدخول إسرائيل والعمل فيها.
وبما أن وزارة الداخلية لا تنشر المعايير التي تعتمدها لإلغاء وضعية الإقامة، فإن فلسطيني القدس الشرقية باتوا غير متأكدين من وضعهم القانوني. وبالتالي، فإن كثيرين منهم استغنوا عن الاستفادة من خدمات وزارة الداخلية خشية أن تعيد هذه النظر في إقامتهم بالقدس وتقرر أنه يعد لهم حق في حمل بطاقة هوية إسرائيلية.
وتنوى وزارة الداخلية أن تستبدل خلال الأشهر الأربعة المقبلة جميع بطاقات الهوية العائدة لجميع المواطنين الإسرائيليين والمقيمين بإسرائيل. وسيضطر الفلسطينيون المقيمون بالقدس الشرقية إلى الذهاب إلى وزارة الداخلية، حيث يقرر الموظفون المختصون ما إذا كان يحق لهم الاحتفاظ ببطاقة هوية إسرائيلية وبالتالي فإن عشرات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين بالقدس الشرقية معرضون لخسارة وضعية الإقامة. وسيكون لذلك عواقب وخيمة فيما يتصل بقدرة هؤلاء على التمتع بحقوقهم المدنية وبالمنافع الاقتصادية والاجتماعية. (مجلة الدراسات الفلسطينية، 31، 1997).
نشأت النواة الأولى لمدينة القدس على تل أوفل المطل على قرية سلوان، حيث اختير هذا الموقع لأسباب أمنية، وساعدت عين سلوان في توفير المياه للسكان، وهجرت هذه النواة إلى مكان آخر وهو جبل بزيتا ومرتفع موريا الذي أقيمت عليه قبة الصخرة المشرفة. وأحيطت المدينة بالأسوار، ثم بدأت تتقلص حتى بني السلطان العثماني سليمان القانوني السور الحالي، محددًا حدود القدس القديمة جغرافيًا، بعد أن كان سورها يمتد شمالاً حتى وصل، في مرحلة من المراحل، إلى منطقة المسجد المعروف بمسجد سعد وسعيد في سنة 1863، أسست أول بلدية للقدس. وفي منتصف القرن التاسع عشر، بدأت الأحياء اليهودية تظهر طابع هذه الحدود السياسية لمدينة القدس. فمن أجل هدف أيديولوجي، أقيم حي يمين موشيه سنة 1850 في منطقة جورة العناب، ليكون نواة لأحياء يهودية تقام خارج الأسوار في اتجاه الجنوب الغربي والغرب. ثم أقيم حي منا شعاريم في منطقة المصراراة، وماقور حاييم في المسكوبية سنة 1858.
ونتيجة نشوء الضواحي الاستيطانية في المنطقة العربية، علمًا بأن مساحة الحي اليهودي في اليهودي في البلدة القديمة في القدس لم تتجاوز خمسة دونمات، وعدد سكانه لم يتجاوز التسعين أسرة فإن حكومة الانتداب البريطاني وقادة الصهيونية اتفقوا على رسم البلدية بطريقة ترتبط بالوجود اليهودي، فامتد الخط من الجهة الغربية عدة كيلو مترات لتدخل ضمنه أحياء غفعات شاؤول، وشخنات مونتفيوري، وبت هكيرم، وشخنات هبوعليم، وبيت فجان، التي تبعد عن أسوار المدينة سبعة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجهتين الجنوبية والشرقية على بضع مئات من الأمتار،بحيث وقفت حدود البلدية أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة، ومنها قرى عربية كبيرة بقيت خارج الحدود، مثل الطور، وشعفاط، ولفتا، ودير ياسين، وسلوان، والعيسوية، وعين كارم، والمالحة، وبيت صفافا، على الرغم من أن هذه القرى تتاخم المدينة حتى تكاد كل واحدة منها تكون ضاحية من ضواحيها.
ثم جرى ترسيم الحدود البلدية سنة 1921، حيث ضمت حدود البلدة القديمة وقطاعًا عرضيًا بعرض 400 متر، على طوال الجانب الشرقي لسور المدينة، بالإضافة إلى أحياء باب الساهرة ووادي الجوز والشيخ جراح من الناحية الشمالية. ومن الناحية الجنوبية، انتهى خط الحدود إلى سور المدينة فقط. أما الناحية الغربية، التي تعادل مساحتها أضعاف القسم الشرقي، فقد شملتها الحدود لاحتوائها على تجمعات يهودية كبيرة، بالإضافة إلى بعض التجمعات العربية (القطمون، والبقعة الفوقا، والتحتا، والطالبية، والوعرية، والشيخ بدر، ومأمن الله).
أما المخطط الثاني لحدود البلدية فقد وضع سنة 1946، وجرى بموجبه توسيع منطقة خدماتها. غير أنه توسع تركز أيضًا على القسم الغربي ليتسنى استيعاب وضم الأحياء اليهودية الجديدة التي بقيت خارج منطقة التنظيم العام سنة 1931. وفي الجزء الشرقي أضيفت قرية سلوان من الناحية الجنوبية، ووادي الجور، وبلغت مساحة المدينة وفق هذا المخطط 20.199 دونمًا توزعت ملكيتها على النحو التالي:
النسبة
الأمــــــــــــــــــــــــلاك
40 %
أملاك إسلامية
1
26.13 %
أملاك يهودية
2
13.86 %
أملاك مسيحية
3
2.9 %
أملاك حكومية وبلدية
4
17.12 %
طرق وسكك حديد
5
100 %
المجمــــــــــوع

وازدادت المساحة المبنية من 4130 دونمًا سنة 1918 إلى 7230 دونمًا سنة 1948. وجاء قرار التقسيم والتدويل( 1947-1949) لأن فكرة تقسيم القدس وتدويلها لم تكن جديدة، فقد سبق أن طرحتها اللجنة الملكية بشأن فلسطين (لجنة بيل) حين اقترحت إبقاء القدس وبيت لحم، إضافة إلى اللد والرملة ويافا، خارج حدود الدولتين (اليهودية والعربية)، مع وجود معابر حرة وآمنة. وجاء قرار التقسيم ليوصي مرة أخرى بتدويل القدس. وقد نص القرار على أن القدس ستكون كيانًا منفصلاً (Corpus Separatum) يقع بين الدولتين العربية واليهودية، ويخضع لنظام دولي خاص، وتتولى الأمم المتحدة إداراته بواسطة مجلس وصاية يقام لهذا الغرض. كما أنه عين حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت، إضافة إلى المدينة ذاتها، أبو ديس شرقًا، وبيت لحم جنوبًا، وعين كارم وموتسا وقالونيا غربًا، وشعفاط شمالاً.
لكن حرب 1948 وتصاعد المعارك الحربية عقب التقسيم أديا إلى تقسيم المدينة قسمين. ففي 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948.
وقد أولت البلدية تعيين حدودها البلدية وتوسيعها اهتمامًا خاصًا. وصودق على أول مخطط يبين حدود بلدية القدس (القدس الشرقية) في 1 نسيان / أبريل 1952. وجرى ضم المناطق التالية إلى مناطق صلاحية البلدية: قرية سلوان، ورأس العمود، وأرض السمار، والجزء الجنوبي من قرية شعفاط. وأصبحت المساحة الواقعة ضمن صلاحية البلدية 6.5كلم2. وفي 12 شباط /فبراير 1957، قرر مجلس البلدية توسيع البلدية التي كانت ضيقة نتيجة القيود التي وضعها كاندل لمنع البناء على سفوح جبل الزيتون والسفوح الغربية والجنوبية لجبل المشارف (جبل سكوبس)، بالإضافة إلى وجود مساحات كبيرة تابعة للأديرة والكنائس، ووجود مشكلات أخرى، مثل كوزن أغلبية الأرض مشاعًا ولم تجر في شأنها أية تسوية (مثل الشيخ جراح وشعفاط). وهكذا، ناقش مجلس بلدية القدس في 22 من حزيران/ يونيو 1958 مشروع توسيع حدود البلدية شمالاً بحيث تشمل منطقة عرضها 500 متر من كلا جانبي الشارع الرئيسي المؤدي إلى رام الله وصولاً إلى مطار قلندية. واستمرت مناقشة موضوع توسيع حدود البلدية، بما في ذلك وضع مخطط هيكلي رئيسي للبلدية، حتى سنة 1959. من دون نتيجة. وفي أيلول / سبتمبر 1959، أعلن تحويل بلدية القدس إلى أمانة القدس، لكن هذا التغيير في الاسم لم يتبعه تغيير في حجم الميزانيات أو المساعدات. وفي سنة 1964، بعد انتخابات سنة 1963، كان هناك توصية بتوسيع حدود البلدية القدس لتصبح مساحتها 75 كلم2، لكن نشوب حرب 1967 أوقف المشروع، وبقيت حدود البلدية على ما كانت عليه في الخمسينات.
أما القدس الغربية، فقد توسعت في اتجاه الغرب والجنوب الغربي، وضمت إليها أحياء جديدة منها: كريات يوفال، وكريات مناحم، وعين غانيم، وقرى عين كارم، وبيت صفافا، ودير ياسين، ولفتا، والمالحة، لتبلغ مساحتها 38 كلم2. وقد شرعت بلدية القدس الغربية في إعداد مخطط هيكلي للمدينة سنة 1964، ثم أعيد تصميم المخطط سنة 1968.
اندلعت حرب 1967، فاحتلت إسرائيل شرقي القدس، وبدأت خطوات تهويد المدينة. واتفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، سواء حكومات المعراخ أو حكومات الليكود، على هذه السياسة، ووضعت البرامج الإستراتيجية والتكتيكية لبلوغ هذا الهدف. فبعد أن أعلن توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها في 28 من حزيران / يونيو 1967، وطبقًا للسياسة الإسرائيلية الهادفة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقل عدد من السكان العرب، رسم رحبعام زئيفي حدود البلدية لتضم أراضي 28 من القرى والمدن العربية، وتخرج جميع التجمعات السكانية العربية. ونتيجة ذلك، أخذت هذه الحدود وضعًا غريبًا: فمرة مع خطوط التسوية (الطبوغرافية)، ومرة أخرى مع الشوارع .
وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية، لتزداد مساحة القدس من 6.5 كلم2 إلى 70.5 كلم2، وتصبح مساحتها مجتمعة (الشرقية والغربية) 108.5 كلم2. ثم وسعت مرة أخرى سنة 1990 في اتجاه الغرب لتصبح مساحتها 123 كلم2. ومنذ الساعات الأولى للاحتلال، بدأت السياسة الإسرائيلية والجرافات الإسرائيلية رسم العالم لتهويد القدس من أجل فرض الأمر الواقع وإيجاد أوضاع جيوسياسية يصعب على السياسي أو الجغرافي إعادة تقسيمها مرة أخرى. وشرع في وضع أساسات الأحياء اليهودية في القدس الشرقية لتقام عليها سلسلة من المستوطنات تحيط بالقدس من جميع الجهات، وإسكان مستوطنين فيها لإقامة واقع جغرافي وديموغرافي، وإحداث خلخلة سكانية في القدس العربية. وبعد أن كان السكان الفلسطينيون يشكلون أغلبية في سنة 1967، أصبحوا أقلية في سنة 1995. وبعد أن كانوا يسيطرون على 100% من الأراضي، أصبحوا بعد عمليات المصادرة، وإقامة المشاريع الاستيطانية، وفتح الطرق، والبناء ضمن الأحياء العربية، يسيطرون على 21% من الأراضي. ثم أتت مرحلة أخرى من مراحل التهويد ورسم الحدود، وهى رسم ما يسمي حدود القدس الكبرى (المتروبوليتان) لتشمل أراضي تبلغ مساحتها 840 كلم2، أو ما يعادل 15% من مساحة الضفة الغربية، ولتبدأ حلقة أخرى من إقامة المستوطنات خارج حدود البلدية، لكن هدفها هو التواصل الإقليمي والجغرافي بين المستوطنات الواقعة في الضفة الغربية وخارج حدود البلدية بالإضافة إلى إقامة شبكة من الطرق تصل بين هذه المستوطنات. وهكذا، فإن خريطة الحكومة الإسرائيلية للاستيطان في منطقة القدس الكبرى تشمل إفرات، وغوض عتسيون، ومعاليه أدوميم، وغفعات زئيف.
تشكل زيادة عدد السكان اليهود داخل القدس وحولها جزءًا أسياسيًا من الاستراتيجية الإسرائيلية، لضمان سيادتها المستمرة، وقد وزع السكان اليهود في كل مكان من القدس الشرقية ( التي ضمت إلى إسرائيل) من خلال بناء أحياء جديدة متقاربة ذات كثافة سكانية عالية. وتركز معظم هذه الزيادة في عدد السكان اليهود في هذه المستوطنات، وكانت نتيجة ذلك أن حققت إسرائيل توازنًا ديموغرافيًا مع الفلسطينيين في القدس الشرقية ( 165 ألف يهودي في مقابل 170 ألف فلسطيني). وبلغ عدد اليهود في القدس (الشرقية والغربية) نحو 413.7 ألف نسمة، أو ما يعادل 70.9% وعندما يتم إشغال آلاف المنازل التي يجري التخطيط لها، والتي هي في طور البناء في المستوطنات، فإن عدد السكان الإسرائيليين في القدس الشرقية سيفوق عدد الفلسطينيين ليصل إلى نسبة 1.3 ولتصل نسبة الفلسطينيين إلى 22% من المجموع بالعام.
تم مصادرة 14 كلم2، من مساحة القدس الموسعة، أي ما يساوى 34% من مساحتها البالغة 70.5 كلم2. وخلال فترة 1967-1995، تم بناء 76.151 وحدة سكنية، منها 64.867 وحدة سكنية داخل حدود البلدية، أقامتها الحكومة وباعتها للإسرائيليين، وهو ما يعادل 88% من مجموع الوحدات السكنية التي بنيت. أما على الجانب الفلسطيني، فتم خلال الفترة نفسها بناء 8890 وحدة سكنية أي ما يعادل 12% من مجموع الوحدات السكنية التي أقيمت في معظمها بمبادرات خاصة (شخصية لا حكومية). أما الوحدات السكنية التي أقيمت على الأراضي المصادرة من أصحابها العرب في القدس الشرقية، فبلغ عددها 38.534 وحدة سكنية، أو ما يعادلها 59.4% من الوحدات السكنية التي بنيت للإسرائيليين داخل حدود بلدية القدس (الشرقية والغربية).
وفي فترة 1990-1993، تم بناء 9070 وحدة سكنية في القدس، منها 463 وحدة سكنية للعرب بمبادرة خاصة، وهى تشكل 5.1% من مجمل عدد الوحدات السكنية للعرب وفي سنة 1993، تم الانتهاء من بناء 2720 وحدة سكنية، منها 103 وحدات سكنية للعرب، تشكل 3.8% من مجموع عدد الوحدات السكنية التي بنيت في تلك السنة.
وفي سنة 1991، شكلت المنطقة التي بنيت فيها وحدات سكنية للعرب 8.5% من مجمل المنطقة، التي بنيت ضمن حدود بلدية القدس.
1990 9.3%
1991 6.3%
وبمقابلة حجم البناء سنة 1967 بحجمه سنة 1995 في القدس الشرقية فقط، نجد ما يلي:
معظم المصادرات التي أعدت للتطوير والبناء في شرقي المدينة خصص للأحياء اليهودية الجديدة.
إن سلطات التخطيط الإسرائيلية- تتجاهل الضائقة السكنية الخطرة وسط السكان الفلسطينيين في المدينة، وتتنصل من واجب الاهتمام بالسكن اللائم لهم. ويشارك في هذا التجاهل أيضًا كل من اللجنة المحلية للتخطيط والبناء، واللجنة اللوائية للتخطيط والبناء، واللجنة الوزارية لشؤون القدس، ووزارات حكومية متعددة. وهى تعبر عن تجاهلها بأشكال شتى. ففي وثيقة “أحياء للترميم في القدس” الصادرة عن قسم سياسة التخطيط والإسكان التابع لبلدية القدس، سنة 1975، جاء أن المذكرة تتطرق إلى غرب القدس فقط (الأحياء اليهودية).
ونتيجة وجود مواصفات اجتماعية واقتصادية في شرق المدينة، وهى مواصفات تختلف عما هو موجود في غربها، بالإضافة إلى السياسة الواضحة تجاه شرق المدينة بغية تقليص الامتداد العمراني والسكاني، فقد قرر عدم ضمها إلى هذه المذكرة، علمًا بأن أجزاء كبيرة من العمران الفلسطيني بحاجة ماسة إلى ترميم أو إعادة بناء.
وفي حالات أخرى، امتنعت اللجنة المحلية للتخطيط والبناء واللجنة اللوائية للتخطيط والبناء من تقديم اقتراحات بشأن سبل تطبيق الخطط والأهداف التي حددتها هما أنفسهما لتحسين الوضع السكني للسكان الفلسطينيين. ففي سنة 1973، أوصت لجنة غافني الحكومة بأن يتم توجيه اهتمام كبير وخاص إلى البناء للقطاع العربي، وأشارت إلى مجموع الوحدات السكنية التي يجب أن تبني في العقد المقبل هو 10.000 وحدة، منها نحو 300 وحدة ترميم واستبدال وحدات غير صالحة (هدم)، ونحو 7000 وحدة للزيادة الطبيعية. ولم تتطرق اللجنة لغى الجانب التنظيمي لتنفيذ هذه الخطة.
لكن من بين توصيات لجنة غافني، التي تطرق إلى تطوير المدينة حتى سنة 1985، ثمة توصية ببناء مساكن لليهود فقط. وحين وصلت التوصيات إلى اللجنة سنة 1975 من أجل مناقشتها في اللجنة المحلية للتخطيط والبناء التابعة لبلدية القدس، صدق عليها من دون اقتراح الجهاز المنفذ سبل تطبيق التوصيات المتعلقة بالبناء لمصلحة السكان الفلسطينيين في الفترة نفسها.
ومنذ أن أوصت لجنة غافني، سنة 1973، بناء نحو 10.000وحدة سكنية للسكان الفلسطينيين خلال 10أعوام، مر 22 عامًا ازداد خلالها عدد السكان الفلسطينيين من 89.100 نسمة إلى أكثر من 170.000نسمة، ولم يبن حتى اليوم إلا نحو 8890 وحدة سكنية بمبادرة خاصة.
بعد أن حوصرت القدس العربية بالمستوطنات من جميع الجهات، وأقيمت آلاف الوحدات السكنية اليهودية، وصودر 34% من مساحة القدس، وأسكن آلاف المستوطنين، بدأت مرحلة أخرى من عملية التهويد وضرب العصب الاقتصادي الفلسطيني، وذلك بإعلان مخطط جديد لمركز المدينة من أجل تقييد النشاط التجاري بطمس التجارة والصناعة في المدينة العربية. ولقد امتد النشاط التجاري بصورة ضئيلة جدًا وراء صفين من المجال التجارية والمكاتب موجودة قبل سنة 1967. وكان من الممكن أن تكون الأراضي التي صودرت شمالي القدس مساحة للتوسع التجاري وللمؤسسات الفلسطينية التي انتقلت جراء سياسية المصادرة من المنطقة التجارية؛ بإخلاء مواقف الشاحنات والسيارات العامة وإزالة البسطات لتنظيف الشوارع المحيطة بأسوار البلدة القديمة. إعادة تخطيط طريق الحركة السيرة تخفيفًا للازدحام. ولكن من دون إيجاد بديل للوصول إلى المناطق التجارية، ومن دون إيجاد مناطق تجارية جديدة، فإن هذه التغييرات ستضعف القدس الشرقية أكثر من حيث موقعها التقليدي كمركز للمواصلات التجارية في الضفة الغربية. وبدأت ظاهرة نقل المؤسسات التجارية والاقتصادية من قلب المركز تأخذ بعدًا سياسيًا واقتصاديًا، وباتت المدينة تبدو بعد الساعة الرابعة من عصر كل يوم أشبه بمدينة أشباح.

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
التاريخ , الشريف , القدس , والمكانة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
شخصيات من التاريخ العماني عابر الفيافي علماء وأئمة الإباضية 0 07-02-2013 08:40 PM
نداء القدس إلى حملة القدس أبو روح نور همس القوافي 4 11-12-2011 11:29 AM
تقرير بعنوان: عمان التاريخ والحضارة عابر الفيافي نور البحوث العلمية 0 10-27-2011 10:20 PM
من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي عابر الفيافي المكتبة الإسلامية الشاملة 4 11-14-2010 07:28 PM
قصائد في القدس الامير المجهول نور همس القوافي 4 05-13-2010 09:38 PM


الساعة الآن 11:04 PM.