تفريغ محاضرة الثبات على المبادئ الجزء الأول

كما فهمنا في كتاب الله سبحانه عندما يريد الله تعالى تأكيد أمر أو نهي كثيرا ما يقرن ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر كذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كقول النبي صلى الله عليه وسلم من يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي فيها تأكيد الأوامر والنواهي بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر هذا كله مما يدل على أهمية الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر هذا الإيمان باليوام الآخر أيضا شيب بشوائب هذه الشوائب جعلت كثيرا من الناس يتخبطون في هذا الإيمان

فنجد في الأمم السابقة أن هذا الأيمان شيب بشوائب الإرجاء وهذا وقع عند اليهود الذين كانوا يمنون أنفسهم الأماني والله سبحانه وتعالى بين في كتابه العزيز ما يقطع حبال هذه الأماني على الجميع على هذه الأمة وعلى اليهود إذ قال (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) وقد أدى هذا الإعتقاد الخاطئ في اليوم الآخر عند الناس أن يؤخروا جانب العمل عن الإيمان أو أن يفصلوا بين المعتقد وبين العمل ولذلك سمي هؤلاء المرجئة لأنهم أرجئو العمل أي تركوه جانبا ونجد أن الله سبحانه وتعالى يحكي عن اليهود كيف كانت أمانيهم اليهود فقد قال تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا)

هكذا كان معتقدهم كذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى بين أن هذا المعتقد عند اليهود إنحرفت بهم كثيرا عن الجادة وجعلهم يؤمنون العمل بالكتاب الذي أنزل عليهم لأنهم كانوا يأخرون جانب العمل فيرجؤن جانب العمل ويهتمون بالجانب النظري ويأخرون الجانب التطبيقي لا يهتمون بالجانب التطبيقي فقد قال سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ثم يبين ما يرد على هذا بقوله (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

ونجد أن الله سبحانه وتعالى خاطب اليهود بألا يغتروا بالأماني خاطبهم بما يقطع عليهم حبال هذه الأماني الفارغة بحيث كانوا يتعلقون بحيث أنهم أبناء الأنبياء وأن آبائهم من الأنبياء سيشفعون لهم يوم القيامة وأنهم سيدرؤون عن العذاب فقد قال الله تعالى خطابا لهم (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) وقال (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)

وإذا كان الخطاب خوطب به اليهود فنحن نجد أن هذه الأمة زجرت من الإغترار مثل هذه الأماني ايضا فالله تعالى هذه الأمة بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يخاطب الله تعالى هذه الأمة هذا الخطاب كما خاطب اليهود ولا ريب أن هذه العقيدة جرأت كما ذكر الله اليهود على الوقوع في كثير من المخالفات الشرعية ذلك لأنه زين لهم ما كانوا يفعلونه وصور لهم بأنهم سيكونون بمنعى عن المخاسبةأو عن المسائلة أو عن المعاقبة أو عن إستمرار العقاب كانوا يتصورون هذا التصور وقد إنعكس أثر هذا التصور على سلوكهم وأعمالهم فقد كانوا أهملوا الكتاب الذي أنزل عليهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى

ونحن إذا نتأمل إلى هذه الأمة وما يقع عليها من المآسي نجد أن ما اصيبت به هذه الأمة من الإنحراف العملي والتطبيقي ليس بأقل مما بقى عند الآخرين عندما انحرفوا في التصور الصحيح في الإيمان باليوم الآخر فإن إنحرافهم عن التصور الصحيحأدى بهم إلى ارتكاب الكثير من المخالفات الشرعية فجانب الكتاب العزيز وجانب السنة الثابتة الصحيحة اطلع وكذلك نجد ايضا أنهم اتبعوا الشهوات وسارعوا إلى المنكرات وانغمسوا في الموبقات نتجة هذا التصور الذي ذكرناه بل كانوا يزجرون للناس الوقوع في ذلك

كما ذكر الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء وابن كثير في البداية والنهاية وابن عماد في شذرات الذهب والذهبي الآخر في كتابه العبر في خبر من غبر ذكروا جميعا بأنه لما مات عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أراد من حكم من بعده وهو يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرة عمر بن عبد العزيز لأن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه رد الأمر إلى المذهب الشرعي المنهج الذي عليه كان رسول الله عليه وسلم والذي كان عليه الخلفاء الرشدين ورد المظالم التي ظلمها بني أمية الناس وأعاد الحق إلى نصابه فأراد الذي حكم من بعده وهو يزيد بن عبد الملك أن يسير هذه السيرة ولكن لم يرق ذلك للناس ماذا فعلوا حتى يحرفوه عن ذلك الإتجاه ماذا قالوا له جاؤا إليه بأربعين شاهدا

كما ذكرنا أن هذه القصة موجودة في المراجع التي ذكرناها جاؤا إليه بأربعين شاهدا وشهدوا جميعا وهم شيوخ كلهم كانوا من المشائخ شهدوا أن الخليفة لا حساب عليه ولا عقاب هذي شهادة إفتراء على الله تعالى شهادة تدل على الإنحراف في التصور الله سبحانه وتعالى يخاظب نبيا من أنبيائه وهو داود عليه السلام فيقول له (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) فإذا كان هذا نبي يخاطبه الله تبارك وتعالى بهذا الخطاب فكيف بغير الأنبياء

مع أن هناك الكثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد أن الذين يتحملون مسؤلية الناس هم أعظم مسؤلية عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم ما من أحد يلي من أمر الأمة شيئا معنى لا ينصفهم إلا أخذه الله تعالى بعذاب من عنده والله سبحانه وتعالى لا يجامل أحدا من الناس ما معنى هذا؟ إنما هذه المعتقد هو الذي زين لهم أن يسارعوا إلى هواهم وأن يزينوا أيضا للجبرة لكي يرتكبوا هذه الموبقات فإذا الأمة هي بحاجة إلى أن تصاغ صياغة قرآنية صيغتة على نهج النبي صلى الله عليه وسلمهذه الصياغة تطهر أولا أفكار الأمة من رجس المعتقدات التي فيها إنحراف كما قلنا الإنحراف في الإيمان بالله بحيث إن كثيرا من الناس يشبهون الله بخلقه ويشبهون الخلق بالله

وكلا الأمرين عظيم تشبيه الخلق بالله تعالى أمره عظيم وتشبيه الله تعالى بالخلق أيضا أمره عظيم لأن ليس كمثله شيء وكذلك بالنسبة إلى الإيمان باليوم الآخر كذلك مع التصور الصحيح للإيمان النافع نحن لو جئنا إلى كتاب الله من أولائك الذين ينتفعون الإيمان لوجدنا الجواب واضحا صريحا فالله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)