تفسير سورآل ة عمران ص 17(القرطبي) - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



علوم القرآن الكريم [القرآن الكريم] [إعراب القرآن] [تفسير القرآن الكريم] [تفسير الجلالين] [التفسير الميسر]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
افتراضي  تفسير سورآل ة عمران ص 17(القرطبي)
كُتبَ بتاريخ: [ 01-08-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية الامير المجهول
 
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
الامير المجهول غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913
قوة التقييم : الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع


الآية: 122 {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون}
العامل في "إذ - تبوئ" أو "سميع عليم". والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد. ومعنى "أن تفشلا" أن تَجبُنا. وفي البخاري عن جابر قال: فينا نزلت "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما" قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل؛ لقول الله عز وجل: "والله وليهما". وقيل: هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس. والفشل عبارة عن الجبن؛ وكذلك هو في اللغة. والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبدالله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا؛ فذلك قوله تعالى: "والله وليهما" يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم. وقيل: أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم. وقيل: كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة؛ ولم يكن ذلك الخَوَرُ مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل مغاضبا؛ إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، وسيأتي. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة. قال مالك رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون رضي الله عنهم. والمقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت؛ ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا. هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء. وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خالد بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس. وفيها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة من على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل: إن عبدالله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته. قال الواقدي: والثابت عندنا أن الذي رمى في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ابن قميئة، والذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أُحُدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك. وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، وتشبثت حلقتان من درع المِغْفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا؛ فكان اهْتم يزينه هَتَمُه رضي الله عنه. وفي هذه الغزاة قتل حمزة رضي الله عنه، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم. وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر. فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله. وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت: إيها أبا دسمة اشف واستشف. فكَمِن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين؛ فلما رجع من حملته ومر بوحشي زَرَقه بالمِزراق فأصابه فسقط ميتا رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي وعمه بكري
شفيت نفسي وقضيت نذري شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي عليَّ عمري حتى تَرِمّ أعظمي في قبري
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبدالمطلب فقالت:
خزيت في بدر وبعد بدر يا بنت وقَّاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر مِلْهاشميين الطوال الزهر
بكل قَطّاع حُسام يفري حمزة ليثي وعَليٌّ صقري
إذ رام شيب وأبوك غدري فَخَضَبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر
وقال عبدالله بن رواحة يبكي [يرثي] حمزة رضي الله عنه:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا هناك، وقد أصيب به الرسول
أبا يَعْلى لك الأركان هُدَّت وأنت الماجد البر الوَصول
عليك سلام ربك في جنان مخالطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عني لؤيا فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا عليه الطير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرا جميعا وشيبة عضه السيف الصقيل
ومتركنا أمية مجلعبا وفي حيزومه لدن نبيل
وهام بني ربيعة سائلوها ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند لا تبدي شماتا بحمزة إن عزكم ذليل
ألا يا هند فابكي لا تملي فأنت الواله العَبْرى الهبول
ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، رضي الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير. وواكل فلان إذا ضَيّع أمره متكلا على غيره.
واختلف العلماء في حقيقة التوكل؛ فسئل عنه سهل بن عبدالله فقال: قالت فرقة الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب؛ فإذا شغله السبب عن المسبب زاد عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا" [الأنفال: 69] فالغنيمة اكتساب. وقال تعالى: "فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" [الأنفال: 12] فهذا عمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد المحترف). وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السِرية. وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته؛ ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حالين: الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر. الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية؛ فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.
الآيات: 123 - 125 {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}
قوله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر" كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع. وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا، وبه سمي الموضع. والأول أكثر. وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول. وسيأتي في قصة بدر في "الأنفال" إن شاء الله تعالى. و"أذلة" معناها قليلون؛ وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف. و"أذلة" جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون. والنصر العون؛ فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم أبتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن. وفيه عن ابن إسحاق قال: لقيت زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أنت معه ؟ فقال: سبع عشرة غزوة. قال فقلت: فما أول غزوة غزاها ؟ قال: ذات العُسَير أو العشير. وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، والتي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد والمَرْيسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح وحنين والطائف. قال ابن سعد: هذا الذي اجتمع لنا عليه. وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة. وإذا تقرر هذا فنقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده. وقول زيد: "إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة" مخالف أيضا لما قال أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه. وقال ابن عبدالبر في كتاب الدرر في المغازي والسير. أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة وَدّان غزاها بنفسه في صفر؛ وذلك أنه وصل إلى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أقام بها بقية ربيع الأول، وباقي العام كله إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة: ثم خرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودّان فوادع بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، وهي المسماة بغزوة الأبواء. ثم أقام بالمدينة إلى شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون حتى بلغ بَواط من ناحية رَضْوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، ثم أقام بها بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى، ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد، وأخذ على طريق مِلْك إلى العُسَيْرة.
قلت: ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم؛ فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دَقْعاء من الأرض فنمنا فيه؛ فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه؛ فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (ما بالك يا أبا تراب)؛ فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: (ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين) قلنا: بلى يا رسول الله؛ فقال: (أُحَيْمِر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه - ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى يَبَلّ منها هذه) ووضع يده على لحيته. فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حربا. ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الأولى بأيام قلائل، هذا الذي لا يشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. ويقال: ذات العسير بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة. ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الآية، لا في يوم أحد. ومن قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر" إلى قوله: "تشكرون" اعتراضا بين الكلامين. هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس.
تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت؛ ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد بدر: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشِّعْب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري. رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار. قال ابن أبي حاتم: لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر؛ ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعْبَد في الأرض) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين" [الأنفال: 9] فأمده الله تعالى بالملائكة. قال أبو زُمَيْل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدِمْ حيزوم؛ فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه في آخر "الأنفال" إن شاء الله تعالى.
فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمد لله. وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم) ؟ فقال جبريل: (يا محمد ما كل أهل السماء أعرف). وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها. قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به؛ ذكر جميعه البيهقي رحمه الله. وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة؛ لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني؟! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سُنْبُك فرسه وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين؛ ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة؛ فكل عسكر صبر واحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا. وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ؛ فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والأول أكثر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف؛ فذلك قوله تعالى: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين" وقوله: "ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين" [آل عمران: 124] وقوله: "بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين" [آل عمران: 125] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم؛ فهذا كله يوم بدر. وقال الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة. قال الشعبي: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين؛ فأنزل الله تعالى: "ألن يكفيكم إلى قوله: مسومين" فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع، فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد مدوا بألف. وقيل: إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة. وقيل: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله المدد إن صبروا، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد، ولو أمدوا لما هزموا؛ قاله عكرمة والضحاك. فإن قيل: فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قيل له: لعل هذا مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، خصه بملكين يقاتلان عنه، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة. والله أعلم.
نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب؛ "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس: 82]. ولكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل، "ولن تجد لسنة الله تبديلا" [الأحزاب: 62]، ولا يقدح ذلك في التوكل. وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء؛ وهذا واضح. و"مد" في الشر و"أمد" في الخير. وقد تقدم في البقرة. وقرأ أبو حيوة "منزلين" بكسر الزاي مخففا، يعني منزلين النصر. وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير. ثم قال: "بلى" وتم الكلام. "إن تصبروا" شرط، أي على لقاء العدو. "وتتقوا" عطف عليه، أي معصيته. والجواب "يمددكم". ومعنى "من فورهم" من وجههم. هذا عن عكرمة وقتادة والحسن والربيع والسدي وابن زيد. وقيل: من غضبهم؛ عن مجاهد والضحاك. كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا. وأصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد؛ وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت. والفور الغليان. وفار غضبه إذا جاش. وفعله من فوره أي قبل أن يسكن. والفوّارة ما يفور من القدر. وفي التنزيل "وفار التنور" {هود: 40]. قال الشاعر:
تفور علينا قدرهم فنديمها
قوله تعالى: "مسومين" بفتح الواو اسم مفعول، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع. أي معملين بعلامات. و"مسومين" بكسر الواو اسم فاعل، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم؛ فيحتمل من المعنى ما تقدم، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم. ورجح الطبري وغيره هذه القراءة. وقال كثير من المفسرين: مسومين أي مرسلين خيلهم في الغارة. وذكر المهدوي هذا المعنى في "مسومين" بفتح الواو، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار. وقاله ابن فورك أيضا. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة؛ فروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة اعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم؛ ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج. إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام، وقاله ابن إسحاق. وقال الربيع: كانت سمياهم أنهم كانوا على خيل بُلْق.
قلت: ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون. فقوله: "معلمين" دل على أن الخيل البلق ليست السيما. والله أعلم. وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن. وروي عن ابن عباس: تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها. وقال عباد بن عبدالله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وقال ذلك عبدالله وعروة ابنا الزبير. وقال عبدالله: كانت ملاءة صفراء اعتم بها الزبير رضي الله عنه.
قلت: ودلت الآية على اتخاذ الشارة والعلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها.
قلت: - ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد؛ كما نزل جبريل معتجرا بعمامة صفراء على مثال الزبير. والله أعلم.
دلت الآية أيضا على لباس الصوف وقد لبسه الأنبياء والصالحون. وروى أبو داود وابن ماجة واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال قال لي أبي: لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن. ولبس صلى الله عليه وسلم جبة رومية من صوف ضيقة الكمين؛ رواه الأئمة. ولبسها يونس عليه السلام؛ رواه مسلم. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في "النحل" إن شاء الله تعالى.
قلت: وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الأذناب والأعراف فبعيد؛ فإن في مصنف أبي داود عن عتبة بن عبدالسلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير). فقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة. والله أعلم.
ودلت الآية على حسن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك، وقد قال ابن عباس: من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته. وقال عليه السلام: (البسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها). وروى ركانة - وكان صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم - قال ركانة: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس) أخرجه أبو داود. قال البخاري: إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض.
الآيتان: 126 - 127 {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين}
قوله تعالى: "وما جعله الله إلا بشرى لكم" الهاء للمدد، وهو الملائكة أو الوعد أو الإمداد، ويدل عليه "يمددكم" أو للتسويم أو للإنزال أو العدد على المعنى؛ لأن خمسة آلاف عدد. "ولتطمئن قلوبكم به" اللام لام كي، أي ولتطمئن قلوبكم به جعله؛ كقوله: "وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا" [فصلت: 12] أي وحفظا لها جعل ذلك. "وما النصر إلا من عند الله" يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين؛ لأن ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران." ليقطع طرفا من الذين كفروا" أي بالقتل. ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع. وقيل: المعنى وما النصر إلا من عند الله ليقطع. ويجوز أن يكون متعلقا بـ "يمددكم"، أي يمددكم ليقطع. والمعنى: من قتل من المشركين يوم بدر، عن الحسن وغيره. السدي: يعني به من قتل من المشركين يوم أحد وكانوا ثمانية عشر رجلا. ومعنى "يكبتهم" يحزنهم؛ والمكبوت المحزون. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي طلحة فرأى ابنه مكبوتا فقال: (ما شأنه) ؟. فقيل: مات بعيره. وأصله فيما ذكر بعض أهل اللغة "يكبدهم" أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، كما قلبت في سَبَتَ رأسه وسبده أي حلقه. كبت الله العدو كبتا إذا صرفه وأذله، كبده، أصابه في كبده؛ يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده. وتقول العرب للعدو: أسود الكبد؛ قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة اسودت. وقرأ أبو مجلز "أو يكبدهم" بالدال. والخائب: المنقطع الأمل. خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. والخياب: القَدْح لا يوري.
الآيتان: 128 - 129 {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم}
ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى) فأنزل الله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء". الضحاك: هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين فأنزل الله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء". وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عامر قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عز وجل: "ليس لك من الأمر شيء" فهداهم الله للإسلام وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقوله تعالى: "أو يتوب عليهم" قيل: هو معطوف على "ليقطع طرفا". والمعنى: ليقتل طائفة منهم، أو يحزنهم بالهزيمة أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقد تكون "أو" ها هنا بمعنى "حتى" و"إلا أن". قال امرؤ القيس:
أو نموت فنعذرا
قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به. وقوله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء" تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أطمع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكى عنه؛ بدليل ما قد جاء صريحا مبينا أنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا وقالوا: لو دعوت عليهم ! فقال: (إني لم أبعث لَعّانا ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). فكأنه عليه السلام أوحى إليه بذلك قبل وقوع قضية أحد، ولم يعين له ذلك النبي؛ فلما وقع له ذلك تعين أنه المعنى بذلك بدليل ما ذكرنا. ويبينه أيضا ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه فقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" [نوح: 26] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا؛ فقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقوله: (اشتد غضب الله على قوم كسروا رباعية نبيهم) يعني بذلك المباشر لذلك، وقد ذكرنا اسمه على اختلاف في ذلك، وإنما قلنا إنه خصوص في المباشر؛ لأنه قد أسلم جماعة ممن شهد أحدا وحسن إسلامهم.
زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله بعد الركوع في الركعة الأخيرة من الصبح، واحتج بحديث ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر بعد رفع رأسه من الركوع فقال: (اللهم ربنا ولك الحمد في الآخرة - ثم قال - اللهم العن فلانا وفلانا) فأنزل الله عز وجل "وليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم" الآية. أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أتم منه. وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء ويجعل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء. فلا نسخ، والله أعلم. وبين بقوله: "ليس لك من الأمر شيء" أن الأمور بقضاء الله وقدره ردا على القدرية وغيرهم.
واختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها؛ فمنع الكوفيون منه في الفجر وغيرها. وهو مذهب الليث ويحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحب مالك، وأنكره الشعبي. وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلاة. وروى النسائي أنبأنا قتيبة عن خلف عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت؛ ثم قال: يا بني إنها بدعة. وقيل: يقنت في الفجر دائما وفي سائر الصلوات إذا نزل بالمسلمين نازلة؛ قاله الشافعي والطبري. وقيل: هو مستحب في صلاة الفجر، وروي عن الشافعي. وقال الحسن وسحنون: إنه سنة. وهو مقتضى رواية علي بن زياد عن مالك بإعادة تاركه للصلاة عمدا. وحكى الطبري الإجماع على أن تركه غير مفسد للصلاة. وعن الحسن: في تركه سجود السهو؛ وهو أحد قولي الشافعي. وذكر الدارقطني عن سعيد بن عبدالعزيز فيمن نسي القنوت في صلاة الصبح قال: يسجد سجدتي السهو. واختار مالك قبل الركوع؛ وهو قول إسحاق. وروي أيضا عن مالك بعد الركوع، وروي عن الخلفاء الأربعة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق أيضا. وروى عن جماعة من الصحابة التخيير في ذلك. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا. وذكر أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت؛ فقال: (يا محمد إن الله لم يبعثك سبّابا ولا لعّانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) قال: ثم علمه هذا القنوت فقال: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق).
الآيات: 130 - 132 {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" هذا النهي عن أكل الربا اعتراض بيّن أثناء قصة أحد. قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئا مرويا.
قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا؛ فأنزل الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" قلت وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" [البقرة: 279] والحرب يؤذن بالقتل؛ فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم. فأمرهم بترك الربا؛ لأنه كان معمولا به عندهم. والله أعلم. و"أضعافا" نصب على الحال و"مضاعفة" نعته. وقرئ "مضعفة" ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدّين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي ؟ كما تقدم في "البقرة". و"مضاعفة" إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون؛ فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة.
قوله تعالى: "واتقوا الله" أي في أموال الربا فلا تأكلوها. ثم خوفهم فقال: "واتقوا النار التي أعدت للكافرين" قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن استحل الربا، ومن استحل الربا فإنه يكْفُر ويُكَفّر. وقيل: معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار؛ لأن من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان ويخاف عليه؛ من ذلك عقوق الوالدين. وقد جاء في ذلك أثر: أن رجلا كان عاقا لوالديه يقال له علقمة؛ فقيل له عن [عند] الموت: قل لا إله إلا الله، فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه. ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة. وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة أنه قال: أكثر ما ينزع الإيمان من العبد عند الموت. ثم قال أبو بكر: فنظرنا في الذنوب التي تنزع الإيمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد. وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة ردا على الجهمية؛ لأن المعدوم لا يكون معدا. ثم قال: "وأطيعوا الله" يعني أطيعوا الله في الفرائض "والرسول" في السنن: وقيل: "أطيعوا الله" في تحريم الربا "والرسول" فيما بلغكم من التحريم. "لعلكم ترحمون" أي كي يرحمكم الله. وقد تقدم.

jtsdv s,vNg m ulvhk w 17(hgrv'fd) 17hgrv'fd jtsdv s,vNg ulvhk





رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
17القرطبي , تفسير , سورآل , عمران


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير سورآل ة عمران ص16(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-08-2011 01:17 PM
تفسير سورآل ة عمران ص16(الجلالين) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-08-2011 01:13 PM
تفسير سورآل ة عمران ص15(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-08-2011 01:07 PM
تفسير سورة آل عمران ص5 (القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-06-2011 05:22 PM
تفسير سورة آل عمران ص 1(القرطبي) الامير المجهول علوم القرآن الكريم 0 01-06-2011 04:58 PM


الساعة الآن 03:08 PM.