الدليل والبرهان الجزء الثالث - منتديات نور الاستقامة
  التعليمـــات   قائمة الأعضاء   التقويم   البحث   مشاركات اليوم   اجعل كافة الأقسام مقروءة
أخواني وأخواتي..ننبه وبشدة ضرورة عدم وضع أية صور نسائية أو مخلة بالآداب أو مخالفة للدين الإسلامي الحنيف,,,ولا أية مواضيع أو ملفات تحتوي على ملفات موسيقية أو أغاني أو ماشابهها.وننوه أيضاَ على أن الرسائل الخاصة مراقبة,فأي مراسلات بين الأعضاء بغرض فاسد سيتم حظر أصحابها,.ويرجى التعاون.وشكراً تنبيه هام


** " ( فعاليات المنتدى ) " **

حملة نور الاستقامة

حلقات سؤال أهل الذكر

مجلة مقتطفات

درس قريات المركزي

مجلات نور الاستقامة



الإهداءات



المكتبة الإسلامية الشاملة [كتب] [فلاشات] [الدفاع عن الحق] [مقالات] [منشورات]


إضافة رد
 
أدوات الموضوع
افتراضي  الدليل والبرهان الجزء الثالث
كُتبَ بتاريخ: [ 01-13-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية الامير المجهول
 
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
الامير المجهول غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913
قوة التقييم : الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع الامير المجهول محبوب الجميع


سنتابع ما بدأناه من قبل
حول كتاب الدليل والبرهان الجزء الثالث
تأليف الإمام أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله تعالى






بيانات الكتاب
[*]
كتاب الرسائل
[*]
باب إيضاح الحق الذي اعتقدناه بالله سبحانه
[*]
مسألة أبي الحسن علي بن أبي طالب
[*]
ذكر الألفاظ التي استعملهتا الأمة ألقابالدينها

[*]
ذكر من قال : كل مجتهد مصيب والاختلاف في الفروع
[*]
ذكر أحكام الدماء والاختلاف فيها
[*]
باب في العلم الثاني
[*]
ذكر أحكام المشركين والمخالفين والملوك وخزائنهم
[*]
باب فيما ينبغي لأمير المؤمنين أن يفعله في أهل الخلاف
[*]
في أحكام الأمراء والقضاة والأعوان
[*]
في المحاربين وما يتصل بهم من أهل الفتن
[*]
في الفتنة التي تقع بيننا وبين المخالفين
[*]
باب في العلم الثالث : ذكر حال المسلمين مع أهل الخلاف ...
[*]
باب الغزو معهم والجهاد
[*]
مسائل بين علي ومعاوية
[*]
باب عمارة الأرضين وما يتعلق بذلك
[*]
أفراد المسائل فيمن كان تحت أحكام المخالفين
[*]
باب مسائل ما بيننا وبين المشركين
[*]
باب في أحكام فسقة أهل الإسلام
[*]
باب طبقات التائبين
[*]
بيان مسائل ما بيننا وبين المرجئة في الإيمان والكفر ...الخ
[*]
في الدعاء والمسألة من الله تعالى
[*]
ذكر صفة الداعي والمدعو والإجابة
[*]
ذكر أصول الشريعة البنية على ثلاث
[*]
ذكر مسائل متعددة مفيدة
[*]
مسألة هود بن محكم عن ابن عباس
[*]
قول عمروس في الجملة التي يدعو إليها رسول الله عليه السلام
[*]
ذكر أفعال المكلفين
[*]
مسائل في الولاية والبراءة
[*]
حكم الذهول والنسيان
[*]
حكم من فعل كبيرة ثم تاب
[*]
مسألة في حكم رجل كان في الولاية ثم برأ منه
[*]
مسألة في حكم رجلين متوليين شهدا على رجل بكبيرة
[*]
مسألة في رجل شهد عليه الشهود أنه سرق أو زنى
[*]
مسائل متنوعة في الولاية والبراءة
[*]
القول في أسامي الشريعة من التوحيد إلى الشرك
[*]
مسألة هل يستر الله على عبده ذنبه في الدنيا فيأخذه في الآخرة
[*]
ذكر عشرة مواطن اختلفنا فيها مع الأشعرية
[*]
مسألة في المشرك إذا دعا إلى الجملة التي يدعو إليها رسول الله عليهالسلام
[*]
باب أحكام الطاعن في دين المسلمين
[*]
جواب رسالة الشيخ محمد بن الشيخ النفوسي الأبدلاني
[*]
أقسام العلوم الثلاثة
[*]
باب السفر الثاني إلى الله سبحانه وهو التكليف
[*]
عجائب ما تضمن حديث موسى والخضر عليهما السلام
[*]
( باب ) قتل الخضر عليه السلام الغلام وما فيه من فوائد
[*]
رسائل إخوان الصفا وهي إحدى وخمسون رسالة
[*]
ذكر الخلاف في وحي أم موسى عليه السلام
[*]
ذكر المسلمات المذكورات في كتاب الله وهن عشرة
[*]
ذكر أزواج النبي عليه السلام وأولاده
[*]
الإشارة إلى الأقاليم السبعة وخط الاستواء
[*]
ذكر القصاص بين المسلمين غدا يوم القيامة
[*]
ذكر أمر النفختين والبعث والقيامة
[*]
ذكر السنن التي أحدثها عمر رضي الله عنه
[*]
القول في حجة الله تعالى كيف قامت على العباد
[*]
ذكر مسألة عجيبة وغريبة وهي من رفعة الله إلى السماء ماذا يلزمه
[*]
القول في تبليغ رسول الله عليه السلام
[*]
الكلام في مسألة المتبرجة
[*]
مسألة الوقوف
[*]
الرد عليهم في إنكارهم عذاب القبر
[*]
الرد على إخواننا النكار في جميع ما ذهبوا إليه
[*]
باب معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
[*]
بيان القول في حجة الله كيف قامت على العباد
[*]
في تبليغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم)
[*]
الكلام في مسألة المتبرجة
[*]
مسألة الوقوف
[*]
الرد عليهم في إنكارهم عذاب القبر
[*]
الرد على إخواننا النكار في جميع ما ذهبوا إليه
[*]
باب معنى لا إله إلا الله







=
=















الجزء الثالث
كتاب الرسائل
الحمد لله رب العالمين بمحامده كلها ، ما علمنا منها وما لم نعلم ، على جميعنعمه كلها ، ما علمنا منها وما لم نعلم ، لدى جميع خلقه ، ما علمنا منها وما لمنعلم .

والصلاة على محمد عبده ورسوله وخاتم النبيين ، وعلى جميع الأنبياءوالملائكة والمرسلين والمسلمين أجمعين .

(
أما بعد ) : فإن عبد الله بنالشيخ سليمان أوقفني على كتابك الأغر الأجل ن فقرأته وفهمت مضمونه ، وذكرت فيهمسألة الرضى والسخط ، وما اعتراك فيها من التحير إلى آخر الفصل.

اعلم ياأخي أنك تحيرت فيما ينبغي أن يتحير فيه المتحيرون ، ويهتبل به المتدينون ، لقلةمبلغ علومنا ، ولعظم التوبة في ديننا ، ولكن الله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل .

اعلم يا أخي أن هذه المسألة ، سالت فيها ثلاث شروط :

أولها : إصابة وجه الحق عند الله تعالى فيها ، فهذا وجه .

والثاني : إقامة البرهانعلى صواب المصيب وخطأ المخطئ فيها ، فهذا ثان .

والثالث : أن يكون البرهاننيرا ساطعا بينا قاطعا . ومن لنا يا أخي بإصابة وجه الحق عند الله إلا بتوفيق اللهتعالى ، وإقامة البرهان إلا بعون الله تعالى ، وإيضاحه حتى يكون بينا ساطعا نيراقاطعا إلا بأذن الله تعالى .

ومن لنا بك يا أخي ، بأن تنظر إلى ما نوردهعليك ونصدره عنك بعين الرضى لا بعين السخط بتأييد وتسديد من الله تعالى .

والمعذرة إليك يا أخي ما نجده من ضعف النفوس وضعف العقول فأعنا عليكبالذهن الحاضر والعقل الوافر والفهم الثاقب والتأمل الواصب ، حتى يتضح المجملويتبين المشكل ، وأن تحمل كلامنا على أحسن وجوهه وقد قال الله – عز وجل - : ( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) .

اعلم أن من أراديوقظ الصواب في نفوس المستمعين ن لابد وأن يكون في كلامه تمثيل وتشبيه واستعاراتومجاز ، والكلام لا يخلو من هذا النمط ، وفيه متعلق للأبد المشاغب الملد المذاهب ،ولكن إذا ظهرت المعاني التي أردنا ، والوجه الذي قصدنا ، فما علينا ولا بالنا .

فالمتعلق بالألفاظ دون المعاني ، راض وقانع بالقشر دون اللباب ، ألا ترىإلى قوله – عز وجل – كيف اعتذر إلينا وقال : ( يأخذوا بأحسنها) وقال : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أسحنه أولئك الذينهداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) .

فالله تعالى يا أخي يحملكوإيانا على السداد ، ويؤيدك ويلهمك سبيل الرشاد ويسددك .

ونحن نريد أن نقدمبين يدي كلامنا مقدمات ، ثم نشرع بعد ذلك في إيضاح الحق والبرهان عليه إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك يا أخي أنه محال ظهور الفرع قبلثبوت الأصل ، ومحال أن يبرهن مبرهن على حق أو باطل ، بوجوه البرهانات ، إلى من لايعرف البرهان ولا يقر به ن فإذا ما عرف وجوه البراهين وأقر بها أمكنك الكلام معه ،فإن لم يف بالشرطين جميعا كان الكلام معه لغوا ، ولابد من معرفة الحق وإقراره به .

وقد تيقنت يا أخي بأن حجج القرآن أعظم الحجج ، وبراهينه أعظم البراهين ،ولن ينفك في جاهل منكر ن حتى يقع الكلام في تثبيت القرآن أولا أنه حق من عند اللهتعالى ، فهناك نشرع في إيضاح القرآن له .

كما أنه محال يا أخي أن يرى اللونمن فقد البصر ، ويسمع الصوت من فقد السمع ، ومحال أن يستعمل النحو فاقد اللغة ، وأنيحسن اللغة أبكم ، وأن يكون أبكم من ليس موجودا ، فإذا حصل الوجود أكمن البكم ،وإذا انطلق اللسان أمكن الكلام ، وإذا أمكن الكلام أمكن النحو .

ومحال أنيعرف الحق ويقر به من لا يعرف البرهان ، ومحال أن يعرف البرهان ولا يعرف طرقه ،وهكذا عادة الله تعالى في الأمور كلها ، فالمقدمة الأولى توكيد للبرهان وتمهيد طرقه .

وذلك أن العلوم البرهانية لا تتطرق إلى العباد إلا من أحد ثلاثة أوجه :-
إما عقلية ، وإما لغوية ، وإما شرعية .

وللعلوم العقلية قوانين ،وللعلوم اللغوية قوانين ، وللعلوم الشرعية قوانين ، ولكل حد مطلع .

وعلى هذهالعلوم الثلاثة ينبني البرهان ومنها يتركب ، فمن لم يحسبها ويتعرف طرقها ، استعجمتعنه براهين الدنيا ، فضلا عن برهان واحد منها وأنا لا أدري أكنت تحسنها أم لاتحسنها .

فلو علمت أنك ممن يحسنها ، لاقتصرت لك عن إيضاح الحق في سطرين ،وأوضح لك البرهان في كلمتين ، ولكن يا أخي سأشرع لك في إيضاحها وإظهار معانيها ،حتى تكون طرق البرهان وسبل الحجاج عندك موجودة مدخرة عتيدة ، إن شاء الله لتحقيقالحق وإبطال الباطل ، والله المستعان .

وإنما وقعت المغالطات بين الخصوم منتضييعهم معرفة هذه الأصول ، فلما بطلوا عطلوا .

ويعتور على البرهان ثلاثةألفاظ : برهان صحيح ، ومموه صريح ، وخطاب فصيح .

وهذه الطرق الثلاثة هي التيسلكت بنو آدم في الدعاء إلى اعتقاداتهم ومذاهبهم .
فمن بنى برهانه على الحدوالقياس والطرد والانعكاس ، كان برهانه صحيحا في العقليات .

والبرهان المموهالصريح : هو الذي تقع المغالطة في طريق استعماله من أحد الخصمين ، فيفترقان على غيرطائل .

والبرهان في الخطاب الفصيح إقامة الحق والباطل في نفس المخاطب ، حتىيعتقده من غير دليل ولا برهان صحيح ولا تمويه صريح ، فإن سلك فيه طريق الحق كان حقا، وإن سلك فيه طريق الباطل كان باطلا ، ويسوغ للأمرين .

والتمويه ليس فيهإلا الباطل ، والبرهان (1) ليس فيه إلا الحق ، فاحترز ماقدرت من التمويه ، ولا تركن إلى القول الفصيح ، حتى يقع البرهان الصحيح .

والبرهان الصحيح – كما ذكرت لك – هو الحد والقياس وهو الطرد والانعكاس ،وقد نبهتك أولا على تحقيق المعاني واطرح الألفاظ .

واعلم أن وصولك إلى معرفةالمعاني بثلاثة مقامات : إحداها هلهلته ، والثاني ماهيته ، والثالث كيفيته .

فالهلهلة : هي ذات الشيء ، ولن تفيدك برد اليقين .

والماهية : هيرسمه ، والرسم قد يبين وقد لا يبين .

والكيفية : هي حده ، والحد هنالك الحقالمبين ، فمن لا يعرف الشيء لا بذاته ولا بشيء من صفاته ، لم يخرج منه بطائل ولميقر إلا بقول قائل ، ومن عرفه برسمه كان بينا ، ومن عرفه بحده صح اعتقاده ، وثلجفؤاده ، وانطلق لسانه وظهر بيانه ، وأنا أبين لك حقيقة هذه الوجوه الثلاثة .

وإذا قال لك رجل مثلا : ظهر بالأمس عندنا شيء موجود في ناحية البلد فأعجبالناس . هل ظفرت من هذا الخبر بفائدة ، أو ترجع إلى نفسك منه بفائدة ، فهذه معرفةالهلهلة ، وهو معرفة هل هو ومعناه موجود أو غير موجود الذات .
وأما معرفته برسمه : بأن يقول لك رجل : رأيت رجلا واقفا فأعجبني . فهذه معرفة الماهية ، وهي معرفة بعضصفاته في الرجولية والذكوريه والوقوف ، وهذه معرفة الرسم فأنت منه على لوائح لمتضبطه كل الضبط ولم تسقطه كل السقط .

وأما معرفته بحده بأن يقول لك : رأيتإنسانا حيا فعالا . فهذا هو الحد الصحيح ، الذي يمنع ما ليس منه أن يدخل فيه ، وماهو منه أن يخرج منه . وحسبي الله وحده .

ونرجع الآن إلى ذكر الطرق الثلاثةنرمز لك فيها رموزا تتعرفها وتضبط ألقابها إلى حين الحاجة إليها .

وذلك أنهذه العلوم الثلاثة المذكورة ينقسم كل علم منها إلى أقسام ثلاثة :
فالعقليةتنقسم ثلاثة أقسام : وجوب الواجبات ، وجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات .

واللغوية تنقسم ثلاثة أقسام : أسماء وأفعال وحروف .

والشرعية تنقسمثلاثة أقسام : أصل ، ومعقول أصل ، وقياس .

وتنقسم هذه الأقسام إلى أقسام أخر :
فالأصلية تنقسم ثلاثة أقسام : الكتاب ، والسنة ، ورأي المسلمين .

ومعقول الأصل ينقسم ثلاثة أقسام : لحن الخطاب ، وفحوى الخطاب ، ودليلالخطاب .

والقياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام : ارتباط الفروع بالأصول / واصطحابحال الأصل ، والاستحسان .

وأما الشرعيات فإن الكلام يطول في شرحها على قلةحاجتنا لهذه المسائل ، وإنما ذكرتها لك لتحصل ألقابها ، وتحكم أقسامها إلى حينالتفسير ، لئلا يخذلك بشيء منها ، فيضرك عند التحصيل.

وأما العقلياتواللغويات ، فسنشير لك ، إن شاء الله إلى لمع تضبطها للحاجة الماسة إليها فيمسألتنا هذه . والله الموفق للصواب .

وقولنا : وجوب الواجبات . فإن اللهتعالى خلق المكلف ، وركب فيه العقل ، وغرز في العقل هذه العلوم الثلاثة ، وجعلهافطرية لم تختلف العقلاء عليها منها وجوب الواجبات ، كدلالة الفعل على فاعل ،والصنعة على صانع ، والحدث على محدث ، ففي فطرة كل عاقل ، أنه إن ثبت عنده حدوث شيءثبت عنده وجود صانعه ، وهذه من الواجبات ، وهي مسألة شيخنا أبي نوح سعيد بن زنغيلرضي الله عنه – مع وزراء أبي تميم معاذ ، حين سألهم : ما الدليل على أن لهذه الصنعةصانعا ؟ فشرعوا في الجواب وأخذوا في الأدلة ، ولم يصنعوا شيئا .

فقال أبوتميم : أجيبوا ابن زنغيل حيث يفهم .

قال الشيخ : فنظرت إلى وجهه فرأيتهمتبسما ، فرددت إليه المسألة .

فقال : أعد سؤلك . فأعدته .

فقال: قولك صنعة ، دليل على أن لها صانعا . وقنع الشيخ – رضي الله عنه – بهذا الجواب ،ولكن لم يرد مطالبته بما وراء ذلك ، وليست المسألة الأولى إلا من جهة العقل لا منجهة الدلالة ، وإنما الدلالة في تثبيت الصنعة أنها صنعة ، وأما ما وراء ذلك فقلبي .

ومن الواجبات معرفة بقاء القديم واستحالة الفناء عليه ، وأن من سبق الحدثفقديم ، وأن من عرفته حيا عرفته موجودا ، وأن من عرفته عالما عرفته حيا ، وأن منعرفته قادرا عرفته عالما ، وأن من عرفته مريدا كارها عرفته قادرا ، ومن عرفته راضياساخطا عرفته مريدا كارها ، ومن عرفته فاعلا عرفته راضيا ساخطا .

وهذهالمسائل من ضروريات العقول ، والمسألة مطردة ومنعكسة وتنعكس المسألة .

وإنمن عرفته فاعلا عرفته راضيا ساخطا ، ومن عرفته راضيا ساخطا عرفته مريدا كارها ومنعرفته مريدا كارها عرفته قادرا ، ومن عرفته قادرا عرفته عالما ، ومن عرفته عالماعرفته حيا ، ومن عرفته حيا عرفته موجودا .
وليس كل من عرفته موجودا عرفته حيا ،وهو الذي يدلك على أن الوجود ليس بصفة ، وأن كون الموجود حيا من الجائزات ، وكونالحي موجودا من الواجبات .

فإذا اطرد لنا هذا وانعكس في أن الحي فاعل وأنالفاعل حي ، فليس يصح في العقول كون الحي لا فاعلا ، ولا كون الفاعل لا حيا ، فلهذاقلنا : إنه علم ضروري لا يتطرق إليه الشك .

واعلم أن الحب والبغض كالرضاوالسخط ، وأن الولاية والعداوة كالحب والبغض ، حتى لا يقع التكرار بعد هذا ، لأنهاقريبة البعض من البعض ، إلا أنها فوق الفعل دون الإرادة والكراهة ، والإرادةوالكراهة دون القدرة ، وفوق الرضا والسخط وأخواتها ، والقدرة دون العلم وفوقالإرادة والكراهة ، والعلم دون الحياة وفوق القدرة ، والحياة دون الوجود وفوق العلم .

وهما تتبعتها من فوق إلى أسفل كانت عموما ، ومهما تتبعتها من أسفل إلى فوقكانت خصوصا من عموم .

واختلف أهل العلم في النظام . فقال بعضهم : العلم نظامالكل .

وقال بعضهم : القدرة نظام الكل .

وقال بعضهم : الحياة نظامالكل . ولذلك قال بعضهم : إنها ليست بصفة . ويذهبون بها إلى الذات ، وليس علىالجميع ضرر ولا ضرورة ، والذي أميل إليه أن الحياة هي النظام ، لأن حد الحي الفاعل، فكل حي فاعل ن وكل فاعل حي ، وقد اطرد وانعكس ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلن يستقيمالفعل من حي ، حتى يكون عالما قادرا مريدا كارها راضيا ساخطا فاعلا .

فإذاكانت حقيقة الحي هو الفاعل ، والحي يقتضي الصفات التي ذكرنا ، والفاعل يقتضي ما دونذلك ، وهو المر والنهي يستدعيان الطاعة والمعصية ، والطاعة والمعصية يقتضيان بيانالمطيع والعاصي ، ويستوجبان الثواب والعقاب وهما الجنة والنار .

ولي فيالوجود إلا الفاعل والفعل ، فقد أشتمل اسم الحي الفعال على الكل ، وغليه الإشارةبقول الله – عز وجل - : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لاتأخذه سنة ولا نوم) ونص عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( أنها أعظم آية في القرآن الكريم)) .

وأشار بعضهم إلى أنفيها اسم الله الأعظم ما ذاك إلا لما تضمنته من الدلالة على الله تعالى .

وهذه العلوم التي قدمنا أولا من ضروريات العقول المذكورة في الجملة ، إلاإن غلط غالط على هذه الألفاظ ونحلها غير معانيها .

وغلطت فرقتان الدهريةوأصحاب الطبائع ومع ذلك لم يهدما هذا الأصل .

والدهرية تقول : إن العالمقديم . فلم يثبتوا حدثا ولا محدثا .
وأصحاب الطبائع قالوا : فاعل الكل الطبيعة . وأثبتوا الفاعل هو الطبيعة ، وهو قولنا ، إلا أنهم غلطوا فسموه طبيعة وسميناه إلهافسلمنا من أصحاب هذين المذهبين .

وقولنا : وجواز الجائزات . هو ما استوى فيالعقل وجوده وعدمه ، ليست إحدى الحالتين به أولى من الأخرى ، كنزول المطر وصدقالخبر .

وقولنا : استحالة المستحيلات . فظاهر عليه ، كالواحد لا يكون اثنينوواحدا في حالة واحدة ، وحيا وميتا ، وموجودا ومعدوما ، في حالة واحدة .

ولوقدرنا منه مسألة واحدة ولو أن رجلا قال لنا : إن عندنا فرسا يكون شرقا ويكون غربافي حالة واحدة لقلنا : محال .

ولو قال : إنه يكون في غير بلدكم هذا وينقاسفي البلاد الفلانية (2) لقلنا : محال .

ولو قال : إنه قد كان في الإعصار الماضية والأمم السالفة (3) لقلنا : محال .

ولو قال : إنه في الأدوية والعقاقير (4) ما أن استعملته اتفق لقلنا : محال .
ولو قال : هبكم عرفتم ذلك في أنفسكم ، فماعليكم في غيركم . قلنا : محال ، عرفناه بقضية العقل ، وحكم الشاهد على الغائب فيالعقليات كلها سواء واستحالته ، فلو انساغ ذلك لكان القديم حديثا ن والحديث قديما ،ولاستالحة الحقائق تبطل الكل .


hg]gdg ,hgfvihk hg[.x hgehge hg[gdg hg[.x





رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وقولنا في اللغويات ، وأما اللغوية فإن اللهتعالى لما أراد أن يخلق هذا الخلق المكلف ، خلق له العقل ، وفتق له الآذان للسمع ،واللسان للنطق ، ليفهم وليفهم . فقسموه ثلاثة أقسام : أسماء وأفعال وحروف .

فالأسماء دلالات على الذوات والأعيان ، والأفعال دلالات على الحدوثوالزمان ، والحروف دلالة على معاني البيان .

فمن لم يعرف أبنية الأسماءوتصاريف الفعال معاني الحروف انسلخ من الكلام والبيان ، لاسيما النحو والإعراب ،خصوصا للسان العرب ، فمن لم يحكم ما هنالك اختل عليه الخطاب ، وظهر في كلامهالاضطراب ، والحاجة ماسة إلى الكلام ، لأن به قامت حجة الله تعالى على العباد وبهيتوصلون إلى الأعراض والمراد .

ونفرض في هذا مسألة واحدة :-
ولو أن قارئاقرأ ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا) أليس معناه : قد فتحنا لكفتحا مبينا .

فلو قرأه : أني فتحنا لك فتحا مبينا . وهذا إنكار وهو ضد الأول .

ولو قال : أئنا فتحنا لك فتحا مبينا . على الاستفهام ، لكان كفرا أيضا .

ولو قال بالتخفيف : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، لكان فاترا . (5)
ولو قال : إنا فتحنا لك فتحا مبينا . معناه في وقت فتحنالك فتحا مبينا ، مأخوذة من قوله : ( غير ناظرين إناه) لبطلت فائدة الكلام .

ولو قال ك إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، لكن لحنا . وهكذاقوانين لغة العرب . ولو انساغ لأحد أن يبدل منها شيئا لما بلغ الخطاب مداه .

وقال الله – عز وجل - : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحمالخنزير) .

فلو ذهب ذاهب إلى أن الميتة هو البول ، والدم هو الخمر ،والخنزير هو الحمار لتبطلت معاني لغة العرب ، فالأول إبطال فائدة الإعراب والنحواللذين خص الله بهما لسان العرب ، وجعلهما لها وشيا وزينا ، فعطلوا جمال الله فيلسلن العرب فكفروا ، والآية الأخرى إبطال الغرض .

والمراد بتبديل حقائقالأشياء على المعتاد ، فلا يصح لأحد أن يجعل اسما فعلا أو حرفا ، أو فعلا اسما أوحرفا ، أو حرفا اسما أو فعلا ، فلو كان لبطلت المعاني ، وعميت العقول عن البيان ،وصار الكلام كالهذيان .

وأما دلالة أسماء على الذوات والأعيان فليس يخفى ذلكعلى أحد ، لو قلت : هذا زيد . لدل على عينه دون زمانه .

وكذلك لو قلت : زيدخارج . لدل على عين الخروج دون الوقت والزمان ، ودلالات الأسماء دلالة الإفادةوالإشارة ، ولم يدل قوله : زيد خارج . على زمان مخصوص بعينه لا ماض ولا مستقبل ولاحال ، ويسوغ لكل واحد من هذه الأزمنة ، وذلك إلى نية المتكلم ، فإن أراد به ومنامخصوصا ، فهو ذلك الزمان بعينه وصار اسم فعل ، وإن لم يرد واحدا بعينه وأطلق ، كانالاسم بدنا ، ومن هاهنا تقتبس معرفة أسماء الأبدان من أسماء الأفعال ، ومنه جوازاسم خالق ورازق على الله سبحانه فيما لم يزل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

فصل

واعلم يا أخي أن أكثر ما يوجب الاختلاف بين المتناظرين تعليقهمبالألفاظ دون المعاني .

فمن تناظر في أمر لم يظهر معناه ، ولم يتبين غرضهومغزاه ، كان المتناظران كالأحولين كل يعمل على شاكلته ، ويكون في غير مشرع صاحبه .

ونحن الآن إن شاء الله نشرع في وصف الحق الذي اعتقدناه ، وأخذناه عنأسلافنا تقليدا وتلقينا وبرهانا .


--------------------------
(1) أي البرهان الصحيح ( مراجع الطبعة الثانية ).
(2)
أي يكون الفرس في بلدين مختلفين أي في بلدكم عندكم هنا وفي بلد آخر ( مراجع ط 2 ).
(3)
أي يكون الفرس عندكم في هذا العصر وفي عصر آخر في الأمم السابقة ( مراجعط 2 ) .
(4)
لعله يريد الأدوية والعقاقير المتنافرة ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(5)
فاترا : ضعيفا منكسرا ( مراجع الطبعة الثانية ) .





باب إيضاح الحق الذي اعتقدناه بالله سبحانه
وذلك أن الله تعالى خلق الخلق ، وخلق منه هذا الجنس العالي العقل المكلف ، جعلهمفي أعلى الدرجات ، واختصهم بالعقول وفتق الألسنة بالنطق والكلام ، وفتق الآذانللسمع ، ليتوصلوا إلى الأغراض ، وعلمهم أسماء الأشياء ، وحد لهم حدودها كما قال عزمن قائل : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقالأنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنكأنت العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبائهم بأسمائهم قال ألم أقللكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) .

فعند ذلك أمر الله – عز وجل – الملائكة بالسجود تفضيلا لآدم عليهم بمعرفةالأسماء فقال : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليسأبى واستكبر وكان من الكافرين) .

وجعل الله الفعل والحرف من الكلامتابعا للأفضل ، وجعل لها موازين لغوية ، وقضى عليها بالموازين العقلية تمهيدا أوتوكيدا للموازين الشرعية ، لأن نسبة صناعة النطق إلى القلب كنسبة صناعة النحو إلىاللسان .

وحكم المنطق في المعقولات كحكم النحو في المقولات ، وليس في الوجودإلا الخالق والمخلوق فلم يفرد الرب نفسه بلغة مخصوصة يعرب لنا بها عن نفسه لايشاركه فيها خلق ، فاللغة واحدة بها يتعارب (1) وبهايتناصف ، وجعلها في حقنا حقيقة لا مجازا وفي حقه مجازا لا حقيقة ، ومن وجه آخر فيحقنا مجازا لا حقيقة وفي حقه حقيقة لا مجازا ، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميعالبصير . فعرفنا الله تعالى حقيقة الوجود ، والحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة، والكره والرضى والسخط وأخواتها ، والأمر والنهي ، والطاعة والمعصية ، والمطيعوالعاصي ، والثواب والعقاب ، والجنة والنار ، فهذه إحدى عشرة مقالة ، فالأولى منهاإثبات ، والخمس التوالي صفات ، والخمس الأخر أفعال ، وإن غلط في كل مقامة منها غالط، وسنشرح ذلك إذا صرنا إليه إن شاء الله .

فحقيقة الوجود في متعارفناالمعهودفينا : كوننا تحت المكان والزمان ، هذه حقيقة الوجود .

فتقول : فلانموجود وفلان معدوم بعكسه . ووجود الباري سبحانه بخلاف الأول ، وهذا الوجود غيرمعقول إلا من جهة الشرع ، بدليل قوله : ( ليس كمثله شيء وهوالسميع البصير) .

ولهذا قلنا : إن الإعبار عنه في حقنا مجاز ، إذقصرت عقولنا أن تعقل كنه وجوده .

وأما حقيقة وجود الله وصفاته في ذاته فهوأولى بالحقائق من وجودنا وصفاتنا للنقص الشامل لنا عن كمال وجوده وصفاته ودوامه ،إذ صفاته جل وعلا فوق النطق وصفاتنا تحت النطق ، وليس الوجودان بصفتين على حال إنماهما إثبات الذاتين .

وحقيقة الحياة في متعارفنا المعهود فينا ، كون الروح فيالجسد ، وهو عرض من الأعراض ، وحياة الباري سبحانه إنما هي صفة ذاتية ، لا هي عرضولا هي غيره .

وحقيقة العلم في متعارفنا المعهود فينا ، تحلي العلوم في نفسالعليم واعتقاد الشيء على ما هو به ، وهو عرض من الأعراض . وعلم الباري سبحانه ليسكذلك ، إنما هو صفة ذاتية لا هي عرض ولا هي غيره .

وحقيقة القدرة فيمتعارفنا المعهود فينا ، استطاعة توجب الفعل فينا ، وهي عرض من الأعراض .

وقدرة الباري سبحانه ليست كذلك ، وإنما هي صفة ذاتية ، لا هي عرض ولا هيغيره .

وحقيقة الإرادة والكره في متعارفنا المعهودين فينا ، فالإرادة ميلالنفس إلى شيء ، والكره عكسه وهو نفور الطبع عنه ، وهما عرضان من الأعراض .

وإرادة الباري سبحانه وكرهه ليسا كذلك ، إنما هما صفتان ذاتيتان ، لا هماعرض ولا هما غيره .
وحقيقة الرضى والسخط في متعارفنا المعهود فينا ، قبول الشيءوإيثاره على غيره والسخط عكسه ، وهما عرضان من الأعراض .

ورضى الباري سبحانهوسخطه ليسا كذلك ، إنما هما صفتان ذاتيتان .

الحب والبغض سبيلهما سبيل الرضىوالسخط ، والولاية والعداوة سبيلهما سبيل الحب والبغض .

وهذه المقاماتالثلاث بعضها فوق بعض درجات ، ومنها هاهنا ابتداء عالم الفعل وانقطاع أسلوب الصفاتوهو الأمر والني وحقيقتهما التكليف وهو حمل ما يشق على النفس فعله ، والطاعةوالمعصية نتيجتا المر والنهي ، والطاعة ما أوجب الله عليه الثواب لفاعلها ،والمعصية بالعكس وهما فعل العبد .

والمطيع والعاصي اسمان ملازمان إن نسبتهماإلى فعل مخصوص بأحد الأزمنة الثلاثة كانا اسم فعل ، وإن أطلقتهما للأزمنة الثلاثةكانا اسم بدن ، والثواب جزاء المطيع والعقاب عكسه ن والجنة هي الثواب والنار هيالعقاب ، وسنلوح هاهنا بفضل مختصر نبينه على وجه الدلالات على هذه المقامات الإحدىعشرة مقامة .

فإن قال قائل : ما الدليل على وجود الباري سبحانه؟

قلنا : ظهور الفعل . وعلى حياته : صدور الفعل . وعلى علمه : إتقان الفعل . وعلى قدرته : حاجة الفعل . وعلى إرادته : تمييز وقوع الفعل . وعلى كرهه : عكسه . وعلى رضاه : قبول الفعل . وعلى سخطه عكسه . وعلى حبه اصطفاء الفعل . وعلى بغضه : عكسه . وعلى ولايته : اصطناع الفعل . وعلى عداوته : عكسه . وعلى ثوابه وعقابه : حكمته . وعلى جنته وناره : شرعه .

فهذا الذي أردنا من تقرير الحق في أنفسالمقلدين ، وسنشرع الآن في إقامة البرهان للمعتقدين المقيدين إن شاء الله تعالىوالله المستعان .

ففي الدليل والبرهان الصحيح :-

فإن قال قائل : ماالدليل على صواب ما قلتم في الرضى والسخط والحب والبغض والولاية والعداوة إنها صفاتالله تعالى في ذاته ؟

قلنا ( وبالله التوفيق ) : من أحد ثلاثة أوجه : أحدهامن العقليات الضروريات ، وذلك ما شرحناه من كون الحي مرتبطا بصفاته التي لا تنفك منواحد منها إلا كان مواتا ، وهي العلم والقدرة والإرادة والرضى والحب والولاية ،ويكون مع ذلك فعالا ، فهذه حقيقة الحياة لا يعقل غيرها ، ألا ترى أنك إذا قلت : رأيت حيا . اقتضى فعالا .
وإن قلت : رأيت حيا لا فعالا . أكذبك الوجود .

وكذلك لو قلت : رأيت فعالا لا حيا . أكذبك الوجود . والمعنى في الحيوالفعال واحد .
فقولك : حي . يقتضي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والرضى والحبوالولاية
والفعل ، وقولك فعال يقتضي : الفعل والولاية والحب والرضى والإرادةوالقدرة والعلم والحياة ، ضرورة.

فإن قلت : حيا . اقتضى صفاته من العلم إلىأوائل أفعاله .

وإن قلت : فعالا . اقتضى صفاته من لدن أفعاله إلى وجوده .

ولن يصح من موجود إذا كان حيا ، إلا أن يكون عالما ، ومن عالم إلا أن يكونقادرا ، ومن قادرا إلا أن يكون مريدا كارها ، ومن مريد كاره إلا أن يكون راضياساخطا ، ومن راض ساخط إلا أن يكون محبا مبغضا ، ومن محب مبغض إلا أن يكون مواليامعاديا ، ومن موال معاد إلا أن يكون فعالا ، فالحب والبغض والولاية والعداوة منقبيل الرضى والسخط ، فأعني عن إعادتهما .

وإن خرمت الرضى والسخط ، خرم غيركالإرادة والكره ، وخرم غيركما القدرة ، وخرم سواكم العلم ، وخرم من ورائكم الحياة ،فبطل الوجود والفعل والخلق ، فتبارك الله أحسن الخالقين . ولا حجة لواحد من هؤلاءعلى الآخر إلا بإثبات الكل أو إبطال الكل .

فإن قالوا : لن يصح لأحد أن يبطلالإرادة والقدرة والعلم لأنها صفات .

قلنا : قد قال قوم من المعتزلة إنالإرادة والقدرة حكم وفعل . وقالت الأشعرية : إن القدرة والعلم معنيان لا صفتان .

فما حجتكم عليهم ولن ينفصلوا ؟

وأما من استثقل من أصحابنا أن يكونالكره صفة ، فإنما يقع الاستثقال على الكره والكراهية والاستكراه .
والذي عنديأن الكره من صفات الذات والله المستعان .


---------------------
(1) أي يتضحالمراد ( مراجع الطبعة الثانية ) .














والوجه الثاني في اللغة : وذلك إنا عرفنا التفرقة بين الوصف والواصف والصفةوالموصوف من اللغة ، فالوصف فعل الواصف ، والصفة نعت الموصوف ، فأطبقت الأمة على أنالصفات النفسانية صفاتنا ، وهي أعراض حالة فينا .

فقلنا نحن : إن كل ما كانصفة لنا نفسانية كان لله صفة ذاتية ، وقد أجمعت الأمة على أن الرضى صفة الراضي ،والسخط صفة الساخط ، منا وإخواننا كذلك .

وإنما أطلقنا على العلم والقدرةوالإرادة أنها صفات لله تعالى ، لمعرفتنا بأنها صفاتنا ، فاللغة واحدة ولم يفردالرب نفسه بلغة مخصوصة ، لقول نبينا عليه السلام : (( من عرف نفسهعرف ربه)) وإنما عرفناه من ذات أنفسنا .

وإنما قلنا : إن العلم صفة، لأن العرب أطلقت على علمنا أنه صفة ، فأطلقناه على علم ربنا أنهصفة.

وأطلقت على قدرتنا أنها صفاتنا ، وأطلقلنا على قدرة ربنا أنها صفته .

وأطلقت على إرادتنا أنها صفتنا ، وأطلقنا على إرادة ربنا أنها صفته .

وأطلقت على رضانا وسخطنا وحبنا وبغضنا وولايتنا وعداوتنا أنها صفاتنا ،فأطلقنا على رضاه وسخطه وحبه وبغضه وولايته وعداوته فقلنا : إنها صفات ذات ربنا .

ولم ينكروا شيئا مما نقول : إنه راض وله الرضى إلا قولنا : إنها صفات ربنا . بل قالوا هم : إنها أفعال ربنا . وهي الثواب والعقاب والجنة والنار .

ولوعارضناهم فقلنا : إذ قلتم : إنها أفعال . فكذلك الإرادة والقدرة والعلم . إذافالإرادة هي المراد والقدرة هي المقدور والعلم هو المعلوم ، كما قالوا هم : إن رضاهمرضيه وسخطه مسخوطه وحبه محبوب وبغضه مبغضه وولايته وليه عداوته عدوه ، لما انفكوامن شيء منها إلا أن حاولوا التفرقة بين العلم والقدرة والإرادة وبين ما ذكرنا منالرضى وأخواته ، إن كانت معلومة ومقدورة ومرادة وجب حدوث العلم والقدرة والإرادةلحدوث المعلوم والمقدور والمراد .

قيل لهم : كذلك لو كان رضاه مرضيه وسخطهمسخوطه ، في أخواتها ، لوجب لذلك حدوث الرضى والسخط .

فإن قالوا : هو قولنا .

قلنا لهم : كذلك نقول لكم في العم والقدرة والإرادة : إنها محدثة .

فإن قالوا : إن حدوثها يدل على حاجته قبل الحدوث .

قلنا : وكذلكحدوث الرضى والسخط يدل على موت الحي قبل الحدوث .

فإن عارضونا وقالوا : إذقلتم : إن الرضى والسخط صفتاه في ذاته .

فقولوا : إن الفعل والخلق صفتاه فيذاته ، كما قلتم في الرضى والسخط . وجوزته على الله راضيا وساخطا وفاعلا وخالقا لميزل .

قلنا – والله الموفق للصواب - : إن الفعل والخلق فعلان محدثان ، مأخوذعلم ذلك من لفظهما ، لأنهما لم يكونا ثم كانا ، هذا هو معنى الفعل ، وما كان محدثالم يكن صفة لقديم ، إذ لا يوصف القديم بالحدوث ، ولا الحدث بالقدم ، هكذا في قضاياالعقول .

ولهم معارضة في الأمر والنهي أيضا ، لأنه كان من قولنا : إن اللهآمر وناه لم يزل . فيقولون : إن أمره ونهيه صفتاه في ذاته .

قلنا – واللهالموفق للصواب : إن الأمر والنهي في عينهما محدثان ، وإن لم يدل ظاهر لفظهما علىحدوثهما فقد دل على معناهما ، ثم الأدلة التي دلت على حدوث العالم بأسره ، ولذلكقلنا : إنهما ليسا بصفتين . وإنما هذه المسألة بيننا وبين الأشعرية .

وأماالرضى والسخط وأخواتهما فإنهما صفات الله تعالى ، كما بينا أنها طبع الحي ، وإنماالجنة والنار والثواب والعقاب ثمرتهما .

كما أن الإرادة ثمرتها وقوع الفعال، وتمييزها بين الواقع منها من غيره .

والقدرة ثمرتها وقوع المقدور وإنمانها . والعلم ثمرته وقوع المعلوم .

فإن كان مرادهم هذا ، فقد تقول للمعلوم : هذاعلم الله . كما يقولون : اغفر لنا علمك فينا . وللمقدورقدرة الله كما يقولون : اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك .
والمراد إرادة الله كما يقولون عند التسلي : هذه إرادة الله تعالى للمقدور الكائن . والمرضى والمسخوط : رضى الله وسخطه علىالمجاز كما قالوا : وما أنزلت وما تنزله من سخط .

والوجه الثالث من جهةالشرع وذلك أن الله تعالى يقول في محكم كتابه ، حكاية عنه وعن المؤمنين : ( أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه) .

وقال : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) وقوله : ( ورضي له قولا) ، ( ورضوان من الله أكبر) .

وقال في الحب : ( إن الله يحب التوابين ويحبالمتطهرين) وقال : ( فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكمذنوبكم) وقال : ( إن الله يحب المحسنين) .

وقال في الولاية : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم منالظلمات إلى النور) وقال : ( والله ولي المؤمنين) ، وقال : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولىلهم ) وقال : ( هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخيرعقبا ) .

وقال في السخط والكراهية والعداوة : ( أنسخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) . وقال : ( واتبعواما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) .

وقال : ( من كان عدوا لله وملائكته وكتبه ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوللكافرين) وقال : ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدويوعدوكم أولياء) وقال : ( كره الله انبعاثهم فثبطهم ) .

وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – روت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنزل الله تعالى عليه : ( واسجد واقترب) ، فلما أمره بذلك سجد وتقرب إلى الله في سجوده ، ففتح الله له في عقلهوشرح صدره ، فكوشف بمشاهدة الخلق ، فنظر في الخلق وليس شيء أعظم من عقاب الله ولامن عفوه . فقال : (( اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك)) .

ثم سجد مرة أخرى ، فتقرب أعظم من تقربه الأول فكوشف بمشاهدة الصفات فلم يرشيئا أعظم من سخط الله ورضاه ، فقال : (( وأعوذ برضاك من سخطك)) . ثم سجد مرة ثالثة وتقرب أعظم من تقربه في المرتين الأوليتين ، فقصرعقله من عظمه ذات الله في الثالثة فحينئذ بهره الأمر قال : (( وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) .

وقال عليه السلام في أهل الجنة : (( قال الله تعالى : لاأرضى حتى أحل عليكم رضواني)) . فهذه الآيات والأحاديث قد وردت من كتاب اللهعز وجل – ومن سنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .

فلما أخبرنا الله تعالىعن نفسه بهذه الأمور أثبتناها له صفات ذاتية ، إذ هي بظاهر لغة العرب لنا صفاتنفسانية .

ولسنا ننصرف عن الظاهر إلى الباطن إلا بدليل عقلي أو بدليل شرعي ،وليس في العقليات ما يبطله ، ولا ورد في الشرع ما يمنعه ، على أن هذه الأمور التيأخبر الله تعالى بها عن نفسه ، قد حصلت ووقعت وسبقت ، ولم تحصل الجنة ولا النار ولاالثواب ولا العقاب إلى الآن ، فصح ما قلنا ، اللهم إلا أن نقول : بل هي الطاعة أوالمطيع أو هي المعصية أو العاصي .

فالمسألة على حالها كما قلنا ، ونفرضبيننا وبينهم مسألة واحدة ، تقضي بيننا وبينهم .

يقال في محمد صلوات اللهعليه وسلامه وعلى آله وسلم : أتقولون قد رضي الله عز وجل عنه في زمان آدم صلواتالله عليه وأحبه ووالاه ؟

فإن قالوا : نعم . كان ما قلنا : إنها صفات ربناذاتية لا أفعاله محدثة ، ولم يكن محمد ولا ثواب ولا جنة .

أو يقولون : لميرض عنه حتى وجد بعينه ، ولا أحبه ولا والاه إلا بعد الوجود ، أكذبهم الوجود ،لزمتهم شناعة قبيحة .

وكذلك يلزمهم بعد فقده وموته أنه لم يرض عنه ولم يحبهولم يواله حتى ينشر ليوم النشور .

ومسألة أبي جهل وفرعون وقارون وهامانوأشياعهم كذلك . ولسنا نطيل عليهم بل نقطع أن الله تعالى رضي على محمد وآله وأحبهووالاه عند آدم صلوات الله عليه وعلى الخليل والكليم والروح المسيح صلوات الله عليهوعليهم .

ولقد سمى الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) مسلمي هذه الأمة قبل كونهم، وقال – عز وجل – حكاية عنه : ( هو سماكم المسلمين من قبل) .

فمن خرج من هذه التسمية لم يدخلها أبدا ، ومن دخلها لم يخرج منهاأبدا ، أفتراهم سماهم مسلمين ولم يرض عنهم ، حشا لله من ذلك .

وأما قولنا فيالرضى والرضوان : هل هما شيء واحد أو لا ؟ فإن الرضى والرضوان معناهما واحد غير أنالمبالغة في الرضوان أكثر وأوكد والله أعلم .
وأما مسألة أسماء الأبدان ، وتسميةالله خالق ورازق وأشباههما من أسماء الأفعال ، فأقول – والله الموفق للصوابأحدهما في معرض واحد :-

أما بعد : فإن الأسماء تقتبس من جهة لغة العرب ،وذلك كما قلنا في اللغويات .

أولا : اعلم أن السماء لا تقتضي الأزمنة تصلحلكل زمان ، وتصلح لجميع الأزمنة .
فإن جاءت لجميع الأزمنة ، صارت ملازمة البدنيسوغ عليه قبل كونه ، وبعد كونه ، وبعد حال وجوده ، وليست حالة من الحالات أولى بهمن الأخرى ، فهذا معنى قولنا : اسم بدن .

وإن كانت مقصورة على زمان مخصوصتدل عليه قرائن الأحوال والأقوال ، كان اسم فعل .

وذلك أن العرب قسمتالأسماء ثلاثة أقسام : قسم منها إخبار عن الذات أنها تصلح لأن يصدر منها ذلك الفعل، لا يعتقدون فيه إلا الفعل لابد وأن يكون ، كإخبار العرب عن السيف القاطع والمهرالسابق والسم القاتل ، وربما سموه سيفا قاطعا وهو سبيكة حديد ، ومهرا سابقا أيامولادته إذا ظهرت عليه مخايل السبق ودلائل العتق ، وسما قاتلا وهو حاد في أشجارهونباته وجثته . فهذا لم تتعلق التسمية به إلى وقوع الفعل ن وربما هلكت هذه الوجوهقبل أوانها ، أو تبطلت قبل إبطالها .

والوجه الثاني : إذا شرع في أول أفعالالتي يليق بها المعنى إلى آخرها كما يقولون : رجل حاج لمن ينويه ، ولمن اشتغل فيحوائج سفره ، ولمن هو في نفس المناسك إلى أن يتمها ، فيسمونه رجلا حاجا ، وسيفاقاطعا إذا قطع ، ومهرا سابقا إذا سبق ، وسما قاتلا إذا دخل قتل . هذا بخلاف الأول .

والوجه الثالث : التسمية بهذه الأسامي لمن قد درج وذهب . كما تقول فيالموتى : فلان صالح ، وفلان طالح ، وفلان شاعر ، وآخر مؤمن ، وكافر . هذا كله بعدموته وفقد عينه ، ولزمته هذه التسمية ملازمة أبديه .

فأما المعنى الأول فيهأجزنا على مولانا : أنه خالق وخلاق ورازق ورزاق فيما لم يزل ، إخبارا عن الذات أنهاكذلك كانت ، ولا كان الخلق ولا لم يكن .

وإنما أخبرنا عن ذات إلهنا كيف كانت، أنها تصلح بأن تصدر منها الأفعال ، لا صدرت ولا لم تصدر .

وإن كان غاظهمالتسمية بهذا ( لم يزل ) فإن التسمية فعل المسلمين والفعل في الأزل محال ، والاسممنطلق على الذات ، والتسمية لا تكون إلا فعلا من مسم وهو حدث ، والاسم تبع للذات ،وكما أن الذات لم تزل عالمة وقادرة ومريدة ، والتسمية بهذه الأمور محدثات والأسماءملازمة للذات ، إذ لا تقدر أن تنفي عنها أنها عالمة وقادرة ومريدة .

وظهرالفرق بين الاسم والتسمية كما قدمنا ، في مسألة الوصف والواصف ، والصفة نعت للموصوف، وكذلك في مسألة التسمية والمسمى ، والاسم والمسمى .

فالعجب كل العجب منهؤلاء القوم الذين قصروا إلههم عن ذروة الجلال إلى حضيض السفال ، ونحلوا أنفسهمذروة الكمال ولحظوها بعين الإجلال والجمال ، إذ زعموا أنهم متسمون بأسمائهم ، قبلوجود أعيانهم ، وقبل وجود أفضالهم التي استحقوا بها أسمائهم ، ولم يطلقوا علىمولاهم أن يتسمى بشيء حتى تقع منه الأفعال ، ويصدر منه الخلق ، اللهم إلا أن زعمواأنهم ليسوا بمسلمين الذين أخبر الله عنهم على لسان الخليل أنهم يكونون في هذه الأمةفحسبهم جهلا وخيبة .

رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وأما التفرقة بين أسماء الأبدان وأسماء الأفعال ، فأما أسماء الأبدان ، فإنهامأخوذة عندنا من المآل ، لأنا قدمنا أن الأسماء تلزم الأبدان قبل كونها وبعد عدمها، فإذا كان هذا الاسم يعتور الجسم في هذه الأحوال الثلاثة ، فألزمناه اسم المآلوالعاقبة ، فصار الاسم الذي يفارق لغوا .

ومنه قول رسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) : (( خلق الناس أطوارا : منهم من يخلق مؤمنا و يحيامؤمنا ويموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، ومنهم من يخلق مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافراويبعث كافرا ، ومنهم من يخلق كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، ومنهم منيخلق كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا ويبعث كافرا)) فهذه أسماء الأبدانوأسماء الأفعال قد جمعها الله (1) في حديث واحد ، فالحكمللعاقبة وما قبله لغو .

وقوله : يخلق كافرا وقوله : يخلق مؤمنا . أراد بينأبوين كافرين أو مؤمنين .
ونفرض بيننا وبينهم مسألة واحدة :-

يقال لهم : ما تقولون فيمن أخبره الله تعالى من الأنبياء ، عن فرعون وهامان وقارون وأشياعهم ،ومن تقوم عليه النفخة في هذه الأمة ، هل يسوغ لنبي من الأنبياء أن يسموهم كفرة ، أوأن يلعنوهم ويتبرأوا منهم أم لا ؟

فإن قالوا : نعم . انقطع العتاب .

وإن قالوا : لا . ظهر الفساد ، وحسبهم .

وكذلك من أخبر عنه ( صلىالله عليه وسلم ) من أمته ممن لم يدركه منهم ، ومن أهداه السلام ن ومن أخبر عنه منأمته أنهم يكونون خيرا من خمسين من الصحابة ، وعن الذين أخبرهم عنهم أنهم إخوانه إذقال له أصحابه : ( ألسنا بإخوانك ؟ ) قال : (( لا ولكنكم أصحابي ،وإنما إخواني قوم يأتون بعدي ، وأنا فرطهم على الحوض ، يؤمنون بي ويعملون بأمري ولميروني ، فأولئك لهم الدرجات العلا ، إلا من تعمق في الفتنة )) .
وثناؤهعلى المهدي الذي يكون في آخر الزمان من ولده ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلماوجورا .

وقد أجمعت الأمة : أنه لا تقوم الساعة على مسلم .

وأما قولك : ما معنى قول الله – عز وجل - : ( ووجدك ضالا فهدى) أليسالضلال من أسماء الأبدان ؟

وقوله حكاية عن موسى : ( قالفعلتها إذا وأنا من الضالين) .

وقوله لمحمد عليه السلام : ( إنا أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) والغافل اسم مذموم .

وقوله حكاية عن يونس عليه السلام ك ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) .

واعلميا أخي أني قدمت لك قبل هذا التفرقة بين التسمية بالأفعال وبين التسمية بالأبدان ،بما فيه الكفاية ، إن شاء الله .

وإذا أطلق الرب تعالى لعبده اسما ولم يقيده، كان ذلك الاسم له مطلقا ، وهو يقول في نوح عليه السلام : ( إنهكان عبدا شكورا) . فهو شكور أبدا وهو اسمه على أنه قال له قبل هذا : ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين) .

ولما قال لمحمدعليه السلام في معرض الامتنان : ( ووجدك ضالا فهدى) . فقيد الضلال بالهدى ولم يقيد الهدى بالضلال كما قال – عز وجل – في ثمود : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) . فقيد الهدىهاهنا بالعمى ، فصاروا قوما عمين .

وأما محمد فقيد ضلالة بالهدى ، فصارهاديا مهديا ، والأسماء بالمآل والعاقبة ، وذهب الاسم الطارئ وبقي الحقيقي ، وذلكقول موسى عليه السلام حيث يقول : ( فعلتها إذا وأنا من الضالين) : ألا تراه قد فعلها إذا فقيد الفعلة والضلال بالوقت ، فعقب بالاسم الصحيح، وذهب الطارئ وبقي الحقيقي فقال : ( فوهب لي ربي حكما وجعلني منالمرسلين) فبقي اسمه كليم الله وصفيه وذهب الضلال في ضلال .

وأماقول يونس عليه السلام حيث قال معترفا : ( أن لا إله إلا أنتسبحانك أني كنت من الظالمين ) ليس فيه أكثر من الاعتراف والإنابة والتقييدبذلك والانفكاك منه إلى اسمه في المآل لقوله : ( فلولا أنه كان منالمسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) فذهب الطارئ وبقي الاسم الحقيقي .

وأما قوله في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإن كنتمن قبله لمن الغافلين ) وأنه اسم مذموم .

واعلم أنه ليس بمذموم ولامحمود إلا بقربته تدل على الحمد أو الذم ، فإن عري منهما صار لا مذموما ولا محمودا، وقد وردت هذه الوجوه الثلاثة في القرآن :
أما المحمودة فقوله : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة) فقيد هذه الغفلة بالعفة والإيمان ، وذكرها في معرض الامتنان .
وأماالمذمومة فقوله تعالى : ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهموأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) .

وأما العاري عنهما فكقوله لمحمدعليه السلام : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذاالقرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) عن حديث يوسف عليه السلام وأمثاله .

وانتهى بنا الكلام إلى هاهنا .


-----------------------

(1) أي : جميعا الله تعالى على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مراجعالطبعة الثانية ) .



فلنرجع الآن إلى البرهان الخطابي الفصيح ونذكر ما أشار به بعض السلف في مسألتناهذه ، ونورد نص قوله لتدبره ، كما قال – عز وجل – في القرآن الكريم : ( ليدبروا آياته وليتذكروا أولو الألباب) .

كان في سياقكلامه لولا التفرقة بين ما يحبه الله وما يبغضه ، وما سمي من ذلك شكرا مما يسمىكفرانا . فقال :-

(
فقد رجع حاصل الكلام إلى أن لله حكمة في كل شيء ، وأنهجعل بعض أفعال العباد سببا لتمام تلك الحكمة وبلوغها غاية المرام منها ، وجعل بعضأفعالهم مانعا من تلك الحكمة ، فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلىغايتها فهو شكر ، فكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تساق إلى الغاية المراد منها فهوكفران ) .
وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق وهو العبد المنقسم إلى ما تنتجهالحكمة وإلى ما يدفعها كلها من مراد الله وحكمته .

واعلم أن تمام التحقيقفي هذا ، يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات ، وقد رمزنا فيما سبق إلىتلويحات مبادئها .

ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها ، يفهمهامن عرف منطق الطير ، ويجحدها من عجز عن الابضاع في البر ، فضلا عن أن يجول في حقالملكوت جولان الطير . فنقول : -

إن لله سبحانه في جلاله وكبريائه صفة ،يصدر الخلق والاختراع عنها ، وتلك الصفة أعلى وأجل أن تلمحها عين واضع اللغة ، حتىيعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها ، فلم يكن في العالم لها عبارة، لعلو شأنها ، وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمد طرفة إلى مبادئ إشراقها ،فانخفضت عن ذواتها أبصارهم ، كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس ، لا لغموض فينور الشمس ، ولكن لضعف في أبصار الخفافيش فاضطر الذين فتحت أبصارهم ملاحظة جلالها ،من أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تريهم من مبادئ حقائقها شيئاضعيفا جدا واستعاروا لها اسم القدرة ، فتجاسرنا لسبب استعارتهم عن النطق فقلنا :

لله تعالى صفة هي القدرة ، عنها يصدر الخلق والاختراع .

ثم الخلقينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ، ومصدر انقسامها واختصاصها بخصوص صفاتها صفةأخرى استعيرت لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة المشيئة .

فمن توهم أمراعملا عند المتناطقين ، فاللغات التي هي حروف وأصوات المتفاهمين ، وقصور لفظ المشيئةعن الدلالة على كنه تلك الصفات وحقيقتها ، كقصور لفظ القدرة عن كنه القدرة .

ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى من ينساق إلى المنتهى الذي هوغاية حكمتها ، إلى ما يقف دون الغاية .

فكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة، لرجوعها إلى الاختصاصات التي تسير القسمة والاختلافات ، فاستعير لنسبة البالغغايته عبارة المحبوب واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة .

وقيل : إنهما جميعا توهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا عملا عند طالب الفهم من الألفاظواللغات.

ثم انقسم عبادة الذين هم أيضا من خلقه واختراعه إلى من سبقت له فيالمشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايته ، ويكون ذلك قهرا في حقهم ،لتسليط الدواعي والبواعث عليهم ، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقةحكمته إلى غايتها في بعض الأمور ، فكان لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة، فاستعير لنسبة المستعملين في إتمام الحكمة لهم عبارة الرضى ، واستعير للذيناستوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة السخط ، وظهر على من سخط عليه في الأزلفعل وقفت الحكمة دون غايتها فاستعير له الكفران وأردف ذلك بنقمة اللعن والندامةزيادة في النكال ، وظهر على من ارتضاه في الأزل الذي انساقت بسببه الحكمة إلىغايتها ، فاستعير له عبارة الشكر ، وأردف خلفه الثناء والإطراء زيادة في الرضىوالقبول والإقبال ، فهكذا كانت الأمور تسلسلت الأسباب والمسببات تقدير رب الأربابمسبب الأسباب .

وأنا أعقب لك يا أخي بذكر آية من القرآن أنبهك فيها علىمعرفة الوزن ، فالميزان العقلي الكلي الذي قرنه الله تعالى بذكر السموات والأرض فيالعشر الأوائل من سورة الرحمن ، فتجتمع لك حقيقة الوزن بالميزان العقلي والميزانالشرعي ، وأذكر حكاية جرت بين الأنبياء عليهم السلام وبين الأمم في المناظرة بينهم .

قال الله – عز وجل - : ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمودوالذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات ) فأخبر الله تعالى عنالرسل كافة أنها جاءت الأمم بالبينات .

ثم أنه أخبر عن الأمم أنها أنكرت ماجاءت به الأنبياء من البينات . قال : ( فردوا أيديهم في أفواههم) إجبارا أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل وكذبوهم .

ثم أخبر عنهم أنهمقالوا : ( إنا كفرنا بما أرسلتم به) ومعنى الكفران جحودلما الإقرار به ، ويتضمن كفرهم جحودهم لما عرفوا ، وأن الأمم قد كابرت الأنبياءوعرفت حق ما جاءت به الأنبياء والرسل فكفرت .

كما قال موسى لفرعون : ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ) لكن الأممأرادت تكذيب الرسل .
ويدل عليه قولهم الذي عقبوا به آخرا ، حين قالوا : ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) .

فكأنهم تداركواأنفسهم ، ورجعوا من لفظة الكفران إلى لفظة الشك ، وخافوا أن يتوهم عليهم متوهم ،أنهم أيقنوا وكفروا فرجعوا من الكفران إلى الشك ، لئلا يصير لهم ذلك نقيصةوللأنبياء فضيلة ، فلذلك قالوا : ( وإنا لفي شك) فبرأواأنفسهم من المكابرة ، وأقروا على أنفسهم بجهل ما جاءت به الأنبياء .

ثمنظروا إلى إثبات الشك على أنفسهم ، وخافوا أن تلزمهم الحجة في جواز صدق الأنبياءحين شكوا ، لأن في ذلك جواز أن يكون لما جاءت به الأنبياء صدقا ن فيصير ذلك نقصالهم ، لأن الشك جهل ن ثم هربوا من الشك هروبهم من الكفران قالوا : إنا لفي شك مريب، فتداركوا بقولهم : مريب ، ردا على الأنبياء ، لئلا يثبت أن ما قالت الأنبياء حق نفترددوا بين الكفر والشك والريبة ن فاختلفت عليهم الأحوال ، واضطربت منهم القوال .

وأخبر الله تعالى – وهو أصدق القائلين – عن مجموع الرسل بما قالت في هذهالمحاورة فقال : ( قالت رسلهم أفي الله شك) ردا عليهم : إنكارا عليهم أن ليس في الله شك ، وليس بعد انتفاء الشك إلا العلم.

فوجب أنالأمم قد كابرت عقولها ، حين انتفت من أمر لا شك فيه ، على لسان الأنبياء .

وعقبت الأنبياء بالعلة العقلية التي لا يختلف عليها العقلاء فقالت : ( فاطر السموات والأرض) . وإرادة الأنبياء أن من أقر بفطورالسموات والأرض لاشك أنه يعلم الفاطر ، وهو الأصل الذي قلنا أولا من أحد أقسامالعقليات وهو وجوب الواجبات .

ثم قالت الأنبياء : ( يدعوكمليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) وهذا النمط من الجائزات لا منالواجبات ولا من المستحيلات ، فلم تعرف الأمم حقيقة ذلك لا شرعا ولا عقلا .

ثم قالوا : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا) فهاهنااستدلت الأمم بالشاهد على الغائب وقالت للأنبياء : إن ما ادعيتم من هذا محال ،لأنكم بشر ونحن بشر ، وما جعلكم أولى بإصابة هذا المر دوننا وكلاننا بشر ، فمااستجاز علينا من جهل ما ادعيتم استجاز عليكم مثله ، واستدلوا بقضية العقل أنه محالأن تدرك الأنبياء إلا ما أدركوا ، وتعلم الأنبياء إلا ما عملوا ، وكأنهم قالوا : عقولنا واحدة ن وزماننا واحد ، وأجسامنا واحدة ، فمن أين لكم ما ادعيتم ؟

ثمقالوا : ( تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا) فكأنهمأشاروا أن للأنبياء في هذا غرضا ما ، وصدقوا ن وغرض الأنبياء مثل ما قالوا ، أنيصدوهم عن عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الرحمن .

ثم قالوا : ( فائتونا بسلطان مبين) فالآن أنصفت الأمم لو تمت على إنصافها ،حين تعرضت للبرهان ، بعد عجزهم عن حجة الفطور الظاهر الدال على الفاعل القادر .

وقال الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين : ( إن نحن إلابشر مثلكم) ، صدقتم نحن بشر وأنتم بشر ، ولكن هذه المسألة التي بينناوبينكم الآن ليست من العقليات الواجبات ولا من المستحيلات ولكنها من الجائزات ،والدليل عليها قولهم : ( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) .

فوقعت التفرقة هاهنا بين الجائزات والواجب ، وأن للفاعل أن يفرقويمن على من يشاء ويترك من يشاء .

فانقطعت الأمم هاهنا ، وظهرت عليهمالأنبياء ن صلوات الله عليهم وسلامه .

واعترفت لهم الأنبياء صلوات اللهعليهم : أنهم لن يقدروا أن يأتوا بسلطان إلا بأذن الله فقالت : ( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بأذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) فكأن الأمم أشارت بالمكروه لهم فقالت : ( وما لنا ألانتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكلالمتوكلون) فانقطعت الأمم هاهنا ، وانقطعت المناظرة ، وفرغت المحاورة ،ورجعت الأمم إلى قوتها وكثرة عددها بعدما غلبوا في الخصوصة . ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحىإليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسلكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) .


فصل (1)

وأما ما ذكرت من قول الله – عز وجل – لعيسىعليه السلام حيث يقول : ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلتللناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك) .

وذكرت أنك سمعتمن الشيخ أبي موسى عيسى بن يوسف – رضي الله عنه – أنه ألف الاستفهام ، ومن قال : إنه ألف استفهام . فقد أشرك ، ثم أنك قد سمعت من بعض العزابة أخبر : أنه ألفاستقرار . ومن قال : إنه ألف استقرار , فقد أشرك .

فاعلم يا أخي أن الذيأوجب الاختلاف هاهنا : تعلقهم بالألفاظ دون المعاني ، وقد أنذرتك قبل هذا وحذرتك أنلا تلتفت إلى شيء من ذلك إلا بعد تبين الحقائق .

واعلم أن القوم كلهم قدأصابوا ، وكلهم قد أخطأوا والقصور لهم شامل .

فمن قال : إنه ألف استفهام ،وأراد أن الله قد استفهمهم ليعلم فهو مشرك .
ومن قال : إنه ألف استقرار ، وإنالله تعالى أكره عيسى ، وأراد منه أن يقر بالشرك فهو مشرك ، وكذلك من قال : إنه ألفتوبيخ لعيسى عليه السلام .

وأما من قال : إنه ألف استفهام كقول عيسى ، أوألف توبيخ لهم ، أو ألف استقرار لعيسى بالحق في ذلك ، فقد أصاب .

وأما قولكفي الواو في ( وصلى الله على محمد ) .

اعلم أن تلك الواو إن عنيت بها العطفعلى ابتدائك بسم الله الرحمن الرحيم ، صلحت هنالك ، ومعنى عطفت أي ابتدائه بذكرالله ، ثم ثنيت بذكر محمد عليه السلام .
وأما قولك : ( وهل يجوز وصلى الله بمعنىالخبر الماضي ) . فهكذا جاءت الأدعية جلها . كما تقول : غفر الله لك ، ورضي عنك ،ورحمك الله ، وهو مع ذلك دعاء .

وكذلك : ( وصلى الله على محمد ) .

وإن أردت أن تظهر الدعاء فتقول : ( صل اللهم على محمد ) ، صلح ذلك أيضا ، ( واللهم صل على نبينا محمد ) . والكل سائغ . والحمد لله .

وأما ما ذكرت منمسألة الأنبياء عليهم السلام أنهم ذاقوا (2) ما خلاالخليل عليه السلام . وبلغني عنك يا أخي أنك ذبيت عني في غيبتي ذب الله عنك في يومأنت فيه أحوج فيه مني منك إذ ذاك .

وكيف يسوغ لقائل هذا القول بعد قول اللهتعالى في عيسى عليه السلام : ( وإذ تكلم الناس في المهد وكهلا) وقال عنه : ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركاأينما كنت ) وبعد قول الله في يحيى : ( ولم يك جبارا عصيا) فنفى عنه المعصية .

وبعد أولاد إبراهيم الخليل إسماعيل وإسحاقويعقوب والأسباط ، ومائة ألف أو يزيدون ، فمن ولد من الأنبياء على الفطرة وداودوسليمان وغيرهما صلوات الله عليهم أجمعين .

وهذا يا أخي ما يقوله من له أدنىعقل ، وما أظن أحدا من خلق الله يعتقد هذا ، إلا أن يكون إبليس وذريته لعنه الله ،ولا أظن إبليس دعا إليها أحد بمعرفتي بإبليس أنه لا يشتغل فيما لا يعنيه من غير ماعني به من سائر المعصية .

وأنا يا أخي ما سنحت في خاطري قط هذه المسألة ،ولا سمعتها قط من أحد سؤالا ولا جوابا .

وأنا ما أجبت هذه المسألة قط ، ولاقرعت سمعي ، وحسبي وحسيب الحاكي عني هذه المسألة الله ( يوم لاينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) ولولا جلالتك عند ، ووجوب واجب حقك الكريم ،لاقتصرت عن الكلام فيها لأني أشتغل بمثل هذا ، ولا أعود نفسي ولا لساني مثل هذا ،لأني أعوذ مما لا يغني .

والسلام الجزيل عليك ورحمة الله تعالى وبركاته .

تمت الفهرست بحمد الله وحسن عونه وتأييده .

والصلاة على نبينا محمدعليه السلام وعلى جميع الأنبياء والملائكة والروح والمرسلين أجمعين .

والحمدلله رب العالمين .


-------------------
(1) كلمة ( فصل ) غير موجودة في الطبعة البارونية ( مراجع الطبعةالثانية ) .
(2)
هكذا في الطبعة البارونية ، ولعل الصواب ذاقوا المعصية ، أو منالذوق وهو الملول لما هو فيه وذلك كما يتضح من سياق الكلام اللاحق . ( مراجع الطبعةالثانية ) .





مسألة أبي الحسن علي بن أبي طالب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم

وذكرت يا أخيمسألة أبي الحسن علي بن أبي طالب ، واختلاف من عندكم فيها : هل هي مسألة ديانة أومسألة شهوة وهوى غالب ؟

وإن بعض أصحابنا من أهل دعوتنا قد أنكروا عليك ماحكيت عن الشيخ الفاضل أبي عمار عبد الكافي – رضي الله عنه .

وادعوا أن عليالم يفعل ما فعل إلا بشهوة وهوى غالب ، وانه على عمد ارتكب ما ارتكبه من ذلك حلا ،قد عورض في التحكيم فاستدل في التحكيم بالتحكيم في الصيد ، وفي القتال من قاتل منأهل الجمل واصل صفين وأهل النهروان بأنه مأمور بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فهذه أفعال من تدين لا أفعال من اتبع الهوى .

واعلم أنه من توهم على عليأنه قاتلأهل النهروان بشهوة ، وكذلك معاوية وعمرو بن العاص في قتالهما عليا ، إنماذهب به ظاهر اللفظ في الديانة ، وقصر الديانة كلها على الحق ، وقد تكون الديانة حقاوتكون باطلا وعمدا وسهوا ، وخطأ وصوابا ، وصدقا وكذبا ، ولولا ما تعلق في المسألةمن الأحكام لكان أشبه ، ولكن أحكام المتدينين خلاف أحكام المشتهين .
فإذا وقعتالضرورة في مجاوبتك فلا غنى بنا عن تقديم الكلام اعتذارا عن فلتات الخواطر والأوهام .

اعلم يا أخي أن الكلام في مثل هذا مع من لم يسمع الأصول ولم يحكم الفصولسهوا ولغو .

والكلام ومانعيه بحران عظيمان واسعان بينهما برزخ لا يبغيان عندذوي البصائر والعقول وهما بمثابة واحدة عند ذوي الجهل والفضول .

وإنما جعلالكلام للمعاني ، وحافظا لها إلى حين تأديتها إلى الأنام ، والكلام قشر والمعانيلباب ، فمن قنع بالقشر دون اللباب فقد خاب ، ومن ألحق كلا بأصله فقد أصاب ، ومناستغنى عن القشر باللباب فقد طاب وطاب وطاب .

ومن هاهنا وقع التشبط في هذهالأمة ، والتخبط في فروع الملة ، حتى كفر بعضهم بعضا ، وقال عليه السلام : (( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم بعض)) .

وقد قال الحكيموصدق : ( ما أحسن الكلام وأحسن منه معناه ، وما أحسن المعنى وأحسن منه استعماله نوما أحسن استعماله وأحسن منه ثوابه ، وما أحسن الثواب وأحسن منه رضى من عملتله).

وقد تضمن هذا الكلام السفر إلى الله – عز وجل – والترقي إليه والقربمنه ، إذ ليس القرب من جهة المسافة ، لكن القرب من صفاته .
فالله عالم فأراد منعباده أن يكونوا علماء ، والرب حكيم فأراد من عباده أن يكونوا حكماء ، والرب حليمفأراد من عباده أن يكونوا حلماء ، والرب رحيم فأراد من عباده أن يكونوا رحماء ،وهذه مقامات المكلفين ولكل درجات مما عملوا .

الدرجة الأولى : أهل القشرة والحثالة وهم الشعراء والخطباء (1) المتشدقون المتفيهقون .

الدرجة الثانية : العلماءوالفقهاء .

الدرجة الثالثة : الربانيون والحكماء .

الدرجة الرابعة : المفلحون السعداء .

الدرجة الخامسة : السابقون المقربون الأولياء .

أما الدرجةالأولى : فهم أهل التشبيه والشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة إخوان الشياطين ،والشعراء والخطباء ، والشعراء القانعون بالقشر دون اللباب .

أما أهل التشبيهفهم الذي قصرت عقولهم أن يتجاوزوا بإلههم منازل الحواس ، مثل البهائم والأنعام ،إلى منازل ذوي العقول والإفهام ، واستعملوا ظاهر الكتاب ، ورضوا بالقشر دون اللباب، قبحا لهم وترحا .

أما الشيعة فتحذلقوا بعض التحذلق ، وترنقوا بعض الترنق ،فغاصوا في بحر الكلام حتى أنفذوه إلى بحر الظلام ، فاختلط الحلال والحرام ، وانطمستمعالم الإسلام فلم يرجعوا بعدها . والسلام .

وأما الخوارج فإنه ذهب بهمالخوف حتى سلوا السيف في الأنام ، واستعملوه في أهل الإسلام ، استعمالهم في أهلالشرك والأصنام ، والسبي في الحرم وفي الأموال الغنم ، رضوا بظاهر قول الله – عزوجل - : ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) .

وأماالقدرية فقد ناهبوا الله في خلقه بل بأفضله ، وجعلوا له شركاء فيما آتاهم الله ،فتعالى الله عما يشركون ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وأماالمرجئة فقد حلوا عرى الإسلام وأبطلوا الحلال والحرام ورضوا الله تعالى بقوله : لاإله إلا الله ولو طمسوه بالآثام .

وأما الدرجة الثانية : فهم العلماءوالفقهاء ، فأهل العلم بالله فهم المتكلمون ، وهم الذين لم يتزندقوا ، وانفتحتأبصارهم ولم يترنقوا .


رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وأما الفقهاء فالذين فقهوا عن الله تعالى معاني كتابه ، استخرجوا علوما جلة من خطابه ، حسبهم عند اسمهم .

ومن هاهنا وقعت الإشارة بقوله – عز وجل - : ( ثم أوثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بأذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) .

وأما الدرجة الثالثة : فهم الربانيون والحكماء الذين خلصوا باللباب وسر الكتاب ، واستعملوه في سواء الصواب وإليهم الإشارة بقوله : ( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) جاوزوا القشر إلى اللباب ، واستعملوه ووداهم إلى يوم الحساب إلى حسن الثواب فاستقبلوه
.

وأما الدرجة الرابعة : فهم السعداء المفلحون ، قد فازوا بثواب الله العظيم ، فأفلحوا وسعدوا بالخلود في دار النعيم فأنجحوا .

وأما الدرجة الخامسة : فهم السابقون المقربون ، أهل الظفر بالحضرة الألوهية ، المتنعمون بأسرار الربوبية فهم أهل الحل والعقد في دار البقاء والخلد .

* * *
واعلم يا أخي أن مسألتك هذه تقتضي ثلاثة علوم غريبة غير معهودة عند الناس ، يمجها السماع ، وتنكرها الطباع .

العلم الأول : في التفرقة بين الملوك ذوي الديانات وبين السلاطين أهل الشهوات .

والثاني : ما الحكم في أهل الديانات إن أبصروا الإسلام ورجعوا إليه قبل أن نقدر عليهم ، أو قدرنا عليهم قبل أن يرجعوا ، والحكم في السلاطين أهل الشهوات إن تابوا أو رجعوا ، أو أصروا واستكبروا وقدر عليهم ؟

الثالث : ما حكم المسلم إذا كان تحت هؤلاء وهؤلاء وجرت عليه أحكامهما ، وما الذي يسعه مما لا يسعه ؟ وإذا كان منقطعا في بلاد المشركين وجرت عليه أحكامهم أو أسلم وهي بلاده ولم يستطع منها الخروج ؟


-------------------------
(1)
في الطبعة البارونية الخطاب ولعل الأصوب ما أثبتناه ( مراجع الطبعة الثانية ) .





ذكر الألفاظ التي استعملهتا الأمة ألقابا لدينها
ولنرجع الآن إلى الألفاظ التي استعملها الأمة ألقابا لدينها ، وهي أربعة ألفاظ : وهي الملة والديانة والفرقة والمذهب .

أما الملة : فإنهم أرادوا بها الأصلين اللذين بني عليهما الدين : دين الله – عز وجل – ودين الشيطان ، وهما التوحيد والشرك ومقتضاها كما قال الشيخ أبو الربيع سليمان بن يخلف – رضي الله عنه - : إن الملة هي الدين المجتمع عليه في الحلال يحلونه وفي حرام يحرمونه وفي نسك يقضونها ، قال الله – عز وجل - : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) ، ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا .... ) .

اعلم أن فروع الملة لا تأثير لها في الدخول في الملة ولا الخروج منها ، وإنما ذكرها الشيخ عرضا للأصلين التوحيد والشرك ، إذ لا يقال خرج أحد من ملة الله وملة رسوله بخروجه من بعض وظائفها ، ولا دخل في الملة بشيء منها .

وكذلك ملة الشيطان لا يقال : دخل في الملة ملة الشيطان بدخوله في جميع طاعة الشيطان إلا أن يكون الشرك ، ولا خرج من ملة الشيطان بخروجه من شيء من طاعة الشيطان إلا أن يكون خرج من الشرك ، وتسمية الأعمال دون التوحيد ودون الشرك من الملة مجاز .

وأما الديانات فالديانة اسم يشتمل على ما بانت به كل فرقة من صاحبتها مما اعتقدوه دينا يدان الله تعالى به ، وقطعوا فيه عذر من خالفهم سواء كان ذلك حقا أو باطلا ، أو عمدا ذلك أو خطأ ، ألا ترى أن دين الشيطان قد علم الشيطان أنه ضلال وخطأ وأن الصواب في خلافه ، فشرعه لأوليائه وهو منه على بصيرة فسقا وضلالا وجعل فيه حراما وحلالا ، وهو دين الشيطان وديانته ، قال الله – عز وجل - : ( كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . أي في حكمة وعادته. وقال في الأشهر ( ذلك الدين القيم ) أي الحساب المستقيم .

فكل من شرع لنفسه دينا يأمره وينهاه فهو متدين ، وإن عليا قد اعتقد أن ما فعله في عثمان وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص وأهل النهروان من الدين والديانة ، كل يعتقد أن ما هو عليه دين يدان الله تعالى به ، فهم كلهم على بصيرة من أنفسهم وثقة من أمرهم .

ألا ترى إلى عثمان حين أشرف على الناس يوم الدار ، فاستشهدهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق )) . فأذعنوا له بذلك وصدقوه .

وكذلك علي وصنيعه يوم الدار ، ويوم الجمل في صفين ، وفي أهل النهروان ظن أن مذهبه في هذه المواطن دين يدان به الله تعالى عنده .

وكذلك خلفاء بني أميه من معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك وهشام (1) ابن عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك ويزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك وإبراهيم المخلوع أخيه ومروان بن محمد بن مروان .

وكذلك خلفاء بني عباس : أبو العباس وأبو جعفر المنصور ومحمد المهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد بن المهدي والمعتصم بن هارون (2) وغيرهم إلى الآن .

واعلم أن هؤلاء وإن كانوا أهل شهوات ولهو ولعب في أديانهم فليس من الشرط أن لا يكون أحد على ديانة إلا قادته ديانته ، وهذا الحجاج أعظم هذه الأمة إجراما ، فهو أقود رجل ممن ذكرنا ديانة ، فإنه لم يوبق قط في دينار ولا درهم قالوا : ولم يسرف في معيشة إسراف بني أمية وإسراف العباسيين ، لا يبالي ما لبس من الثياب ولا أي طعام أكل من الأطعمة وأحب ما إليه طعام الأعراب

دون الشبارقات (3) ، غير أن الحجاج مغرى بالدماء طلبا لثأر عثمان بن عفان وأكثرهم حنقه على القراء الذين قتلوه وخذلوه ، ولم يسع في الأموال مسعى أهل الهوى ، ولهذا منع جابر بن زيد سهمه من العطاء حين لم يخدم ، وكان جابر مكتوبا في الدواوين غير أن جابرا امتنع من الجلوس عند أصحاب الدواوين ، فعابه يزيد بن أبي مسلم من الجلوس عندهم ، وكان يرفع له ستمائة درهم وهي عطاؤه .

وأنا أشرح لك يا أخي المسألة حتى تعلم من أين أوتي علي من جهل المعاني ، واختصر الألفاظ ورضي بالقشر دون اللباب وأتخذ ذلك حظا ونصيبا ، إن شاء الله .

وأما الفرقة ومعناها فهي اسم لأهل ديانة من هذه الأمة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهن إلى النار ما خلا واحدة ناجيه وكلهم يدعي تلك الناجية )) .

وقد أنفذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوعيد في هذه الفرق إلا الواحدة ، فدل أنهم أهل ديانات ، إلا قول من يقول : إن الفرق هاهنا أصحاب أصناف المعاصي من الزناة وسفكة الدماء وأكله الأموال ، حتى عد كثيرا من أصناف المعاصي . وهو قول ضعيف ، لم يتابع عليه قائله ، وأضعف منه قول أصحاب الحديث الذين يأثرونه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم إلى الجنة ما خلا واحدة إلى النار
)) .

وأما المذهب فهو الطريق التي بانت بها الفرق في الفروع ، وليس فيها تأثيم ، وإنما ظهرت المذاهب في هذه الأمة ، حين اقتسمت الأئمة الأمة ، فبانت كل فرقة بمذهب إمامها
.

وغنما ظهرت الأئمة في آخر المائة الثانية من خلاف العباسيين ، ويحقق ذلك ويصدقه قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لحذيفة بن اليماني وقد سأله حذيفة فقال : ( يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الخير الذي أتانا الله بك هل بعده من شر ؟ ) .

قال : (( نعم ، الفتنة )) .

قال : ( وهل بعد الفتنة من خير ؟
)

قال : (( نعم إغضاء على إقذاء (4)وهدنة على دخن )) .

فقال حذيفة : ( وهل بعد الخير من شر ؟ )

قال : (( نعم ، أئمة ضالون مضلون قاعدون على أبواب جهنم ينادون إليها ، كل من أجابهم قذفوه فيها
)) .

فالخير الأول على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والخليقتين اللذين بعد رسول الله عليه السلام وهما أبو بكر وعمر وقد نص عليهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : (( اقتدوا باللذين من بعدي )) وليس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (5) إلا أبو بكر وعمر ، وقد قال رسول الله عليه السلام (6): (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي
)) .

واشترط في هذا الحديث ، ولم يشترط في الحديث الأول شيئا فصح في الثلاثة أنهم أهل الخير كما قال حسان بن ثابت :


ثلاثة برزوا لسبقهم = نصرهم ربهم إذ بشروا
عاشوا بلا فرقة حياتهم = واجتمعوا في الممات إذ قبروا


وأما الشر الذي بعد الخير الأول فالفتنة . كما قال – عز وجل – : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) وهي التي ذكرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من لدن مقتل عثمان إلى عام أربعين من الهجرة ، وهي الفتن الأربع : يوم الدار ، ويوم الجمل ، ويوم صفين ، ويوم النهروان ، ثم اصطلحت العامة على معاوية بن أبي سفيان كما قال رسول الله عليه السلام : (( يصطلح الناس على رجل )) وهو الخير الذي أراده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفسره وقال : (( إغضاء على إقذاء وهدنة على دخن )) قال : (( فيصطلح ما اصطلح الناس على رجل كورك على ضلع )) ، إشارة إلى أن الأصل وخصية ما فيه – وذلك للعامة – خير ، أن يشتغل كل بما يعنيه من دينه وخصية نفسه .

وأما الشر الأخير المرتبط بالأئمة الضالين المضلين الذين يضلون ، ويضل من اتبعهم إلى يوم القيامة ، من بعد عصر الرسول وعصر الصحابة وعصر التابعين ، فهم من تابعي التابعين إمام الحجاز مالك بن أنس ، وإمام مصر الليث ابن سعد ، وإمام العراق سفيان الثوري ، وإمام الشام الأوزاعي ، وأبو حنيفة إمام قبلهم ، وفي كل إقليم إمام من خراسان إلى ارض الأندلس .

ونحن نشرح الحكم في أساميها ولهذه الفقهيات أربعة أسام اثنان مجتمع عليهما ، وهما الحكم والعلم سائغان على القولين المختلفين جميعا ، واثنان مجتمع عليهما ، وهما الحكم والعلم سائغان على القولين المختلفين جميعا ، واثنان مختلف فيهما ، هل يسوغان على القولين المختلفين جميعا أم لا ؟ وهما الحق والصواب وأضدادهما من الباطل والخطأ ، فاتفقت الأمة على أن الأقاويل المختلفة يسوغ عليها العلم والحكم ، ولا يسوغ أضدادهما من السفه والجهل على واحد منهما بدليل قول الله – عز وجل - : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) .

وأطبقت الأمة على أن الأقاويل المختلفة – وإن اختلفت – أنها حكم وعلم .
واختلفت الأمة في الخلق والصواب ، فبعض أطلق على المختلفين أنهما حق كما أنهما علم وحكم ، ولم يسوغ ضده من الباطل على واحد منها ، وإلى هذه القولة أميل . والله المستعان .

وفي مناظرة الشيخ أبي الربيع سليمان بن يخلف في الرد على من أجاز الحق على القولين المختلفين مغمز لمن تأمله .

وأما الصواب والخطأ ، فجل الفقهاء قد أطلقوا هنا على المختلفين وإن ساغ الصواب في أحدهما ساغ الخطأ في خلافه بدليل إشارة القرآن ، إذ يقول : ( ففهمناها سليمان ) فدل على أن الصواب مع سليمان ، والخطأ في خلافه مع داوود ، وإلا فما الفائدة إن كانا مصيبين جميعا .

وشواذ العلماء قالوا : إن هذه الألفاظ الأربعة تسوغ على المختلفين جميعا ، ولا يسوغ أضدادها من السفه والجهل والباطل والخطأ . وهو قول علي بن أبي طالب وترقى بالتصويب إلى أحكام الفتنة والمختلفين فيها بشرط الاجتهاد ، وقال : كل مجتهد مصيب . وهذا يؤثر عنه في أهل الدار : عثمان وذويه ، وأهل الجمل ، وعائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير ومن معهما ، وفي أهل صفين : معاوية وعمرو بن العاص ومن معهما ، لكنه له مغمز في معاوية وعمرو أنهما غشما الأمر غشما ولم يجهلاه ، وقال في أهل النهروان : لم يظهر عليه ظهورة في أهل النهروان .
وذلك أن أصحاب علي أرادوا أن يعرفوا ما حال أهل النهروان عند علي ، فقام رجل ينادي في العسكر : ( من رأى لي البغلة الشهباء يوم قتلنا المشركين ) فناداه علي ، فقال له : ( لا تقل كذلك ، إنهم ليسوا بمشركين لكنهم من الشرك فروا ) .

قال : ( فمنافقون يا أمير المؤمنين ؟ )

فقال : ( ليسوا بمنافقين ، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا ) .

ثم قال الرجل : ( فمن هم يا أمير المؤمنين ؟ )

قال : ( إخواننا بغوا علينا ) وترحم على طلحة ، وشهد أن عائشة زوج النبي عليه السلام في الجنة ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( بشر قاتل ابن صفية بالنار )) .

ويقول في عثمان حين شك فيه أصحابه وعاتبوه ، فصعد المنبر وخطب الناس وذكر عثمان فقال : ( إن الله قتل نعثلا وأنا معه ) فترضى العامة بهذا
.



-----------------
(1)
في الطبعة البارونية هاشم والصواب ما أثبتناه ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
في الطبعة البارونية المعظم بن المهدي والصواب ما أثبتناه ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(3)
اللحم المنوع المطبوخ ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(4)
أي صبر على أذى . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
( 5
، 6) في الطبعة البارونية لم تكن الصلاة على النبي عليه السلام موجودة فأثبتناها . ( مراجع ط 2 ) .










ذكر من قال : كل مجتهد مصيب والاختلاف في الفروع
وروي عن مالك أنه قال : ( كل مجتهد مصيب ) . لكنه في الفروع ولم يقلها في الأصول ، ولكن قوله في الأصول ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
((
إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار )) .

قيل : ( يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟
)

قال : (( لأن كل واحد منهما يريد أن يقتل صاحبه )) .

وأما قول رسول الله عليه السلام : (( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر اجتهاده ، وإن اجتهد وأصاب فله أجران : أجر اجتهاده ، وأجر إصابته الحق )) . فإن هذا مقصور على الصواب والخطأ ، لا على الحق والباطل .

ودليل من قال : إن الحق فيهما جميعا . وذلك أن الله تعالى أمر المجتهدين باجتهاد الرأي وفرضه عليهم ، وأمرهم أن يستغرقوا وسع اجتهادهم في استخراج الحكم ، وأمر جميع من رأى رأيا أن يظهره ويوضحه ويبينه للناس ، ولا يكتمه كيفما اتفق ولو أنه أخطأ عند الله تعالى ، فمن لم يفعل عصى الله وأثم.

وكذلك لو أخبر بخلاف ما رأى كان غير واثق بما عند الله تعالى ، وما كان الله تعالى ليأمر بأمر من الأمور ، ويوجب عليه الثواب لمن فعله ، وتوعد العقاب على من تركه أو كتمه أو غيره ، ولا يكون ذلك الأمر حقا .

فمن أطلق على أحد القولين أنه حق ، وأبطله عن الآخر فينبغي أن يثبته أنه باطل ، وقد قال الشيخ : ( فما استجاز في شيء استجاز في ضده خلافه ، وقد أجازها هنا في أحد القولين أنه حق ولم يجز في ضده أنه باطل ) . وجل مناظرته أن أقام الباطل مقام الخطأ والصواب مقام الحق ، وبينهما بون بعيد ومذهب أهل الدعوة : أن الحق في واحد ، والخطأ في خلافه . وإنما ينبغي أن يقولوا : فالباطل في خلافه .

وأما الصواب فإنهم قالوا : الصواب في واحد ، والخطأ في خلافه . فهذا مستقيم .

وقد تقدم آخرون بمثل هذا فقالوا : إن الحق في واحد ومع واحد . وقد ضاق على الناس خلافهم .

وهذه القولة يرويها المخالفون عنا وينسبونها إلى أبي بكر الأهتم بن كيسان ويدل عليه تفسير القرآن ، قلما يعتمد إلا على قولة واحدة ، وعن بشر المريسي أيضا وعن ابن الحسين أيضا وإسماعيل بن علية .

وأما مسألة علي في أن كل مجتهد مصيب ، فيما اختلفوا فيه ، ولو في أحكام الفتن ، وسنشير إلى بعض أدلته ، ونكل الرد عليه إلى غيرنا ، ونشير إلى اعتقاد معاوية وعمرو بن العاص فيما بينهما وبين علي ، أنهما على حق دون علي ، وأن عليا على الباطل دونهما (1) حتى تعلم أبدين كانا يعملان أم بشهوة وملك أم بدين متدين ؟ وإنما الكلام على بني أمية وبني العباس .

فأما على ما ظهر من ذلك استشهاد علي على أن كل مجتهد مصيب فإنه قال : ( لما رأيت الناس يختلفون في الفروج والدماء والأموال ، وهي أعظم الأمور ، ويسوغ لهم الاختلاف ، ولا يجوز لأحد أن يفسق صاحبه ، ولا أن يحظر على من اتبعه ، ورأينا جل الفتن مقتصرة على هذه المعاني .

أما الاختلاف الواقع في الفروج ، والذي يقع في اختلاف الناس في المرأة تنكح بلا ولي ولا بشهود أو بصداق مجهول ، أو مجهول الحين ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لا نكاح إلا بولي وصداق وبينة )) فوقع الاختلاف في مثل هذا ، فأبطل بعض هذه الأنكحة وأجازها بعض . فالذين أجازوه أباحوا فروجا محرمة عند غيرهم ، والذين حرموا منعوا فروجا محللة عند غيرهم ، وكذلك اختلافهم في نكاح المتعة ، وأبطله بعضهم ورأوه زنا منهم عمر بن الخطاب ، وقال : ( ولو قدمت فيه لرجمت عليه ) .

وأجازه بعضهم ورأوه حلالا وهو ابن عباس حين قال : ( لو أطاعني عمر في نكاح المتعة ما جلد في الزنا إلا شقي ) . وصدق وهو أشبه شيء ولا سكن ولا كسوة ، وإن حصلا في الرأس الأجل استقبلا الخرج والأجل وإلا انصرفا في حل ويل (2) وقد قال الله – عز وجل - : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ) فهو العليم حقا أنهم مضطرون والحكيم فيما فعل أياما حتى يأتي السبيل .

وانفهم لابن عباس أن لا نسخ لهذا من رأي وقد مضى الناسخ ، والأمر أرفق بالأمة ، فليس عليهم فيه أمر ، وروي أبو هريرة أو أفتى ( عن من تزوج امرأة بصداق وليس عنده وفاؤه فهو زان ما أقام عندها ) .

ومصداق ذلك حديث أم شريك وهبت نفسها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يقبلها فقال له رجل : ( زوجنيها يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة ؟ ) فقال : (( أعندك ما تصدقها ؟ )) فقال : ( عندي إزاري هذا ) . فقال رسول الله عليه السلام : (( إن لبست إزارك لم يكن عليها منه شيء ، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ، انظر ولو خاتما من حديد )) . فقال : ( لا أجد ) . فقال : (( زوجتها لك على ما معك من القرآن )) . فلو جاز نكاح الجل المجهول ولم ينقدها شيئا ، لزوجها له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك .

وأساغ عثمان الفسخ في الفداء ولم يره طلاقا ، فأوجب فيها الاستبراء حيضة ، ولو فاداها عشر مرات ليس ذلك بطلاق ، وسوغ تزوجها ممن منع منه من رآه طلاقا ، ومنع الآخر من أجازه حلالا .

وأجاز علي نكاح الربيبة إذا لم تكن في حجر أمها بظاهر كتاب الله – عز وجل – ورآه غيره زنا ،

وأباح آخرون نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها وجمهور الأمة يرونه زنا وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها )) .

وأجاز بعضهم نكاح إماء أهل الكتاب ، ورآه آخرون زنا .

وحرم بعضهم نكاح المجوسيات وأباحه آخرون في حديث حذيفة .

وحرم آخرون نكاح الكتابيات ، وأجازه آخرون .

وأجاز بعضهم نكاح الشغار ، وأبطله آخرون .

وأباح بعضهم نكاح التي زنا بها ، ومنع منه آخرون ن وساغ هذا كله للمختلفين ، ولا تأثيم ولا تفسيق ، فإن وقع التشابط في مثل هذا وقال هذا : هي زوجتي وقال الآخر : هي زوجتي ، ولم يفصل بينهما قاض ، وأخذ هذا بقول عالم واخذ هذا بقول عالم ، فأيهما المبطل من اتبع سبيل المؤمنين ودق اتبعاه جميعا ، وقد نزلت هذه المسألة بعينها في رجلين أيام المشايخ بين أهل تموصين وبين بني ياجرين ، فانحازوا عن سبعين قتيلا من الحجاج يلي غيرهم ولم يؤنبوا أحدا من الفئتين بعيب .


----------------------
(1)
قصد المؤلف – رضي الله عنه – هنا أن معاوية وعمرو قد تدينا بديانة – وإن كانت باطلة – عملا بمقتضاها فأعمالهما في الفتنة قد صدرت عن ديانة لا عن ملك وشهوة ، أما الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه فقد أخطأ فعمل في الفتنة التي أصابت المسلمين على غير ديانته ، فقد كانت ديانته صحيحة ولكنه أخطأ في عمله . فليتنبه لذلك فإنه دقيق وخاف . هذا قصد المؤلف رحمه الله في عمل معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ، والحقيقة أن من ينظر إلى الأمور سيجد أن مبعث أعمالهما هي الشهوة وطلب الملك . والله أعلم ببواطن الأمور . ( مراجع ط 2 ) .
(2)
يقال صفاة يلاء أي ملساء مستوية والمقصود هنا لا شيء عليهما ( مراجع الطبعة الثانية ) .










ذكر أحكام الدماء والاختلاف فيها
وأما أحكام الدماء والاختلاف فيها ، وقع الاختلاف فيها في القود في كثير من المسائل منها من قتل بالعصا ، فأجاز بعضهم فيها القود ، وأبطله آخرون .

وأجاز بعضهم القود في جميع من له جرح مجهز ، وفيمن له جرح غير مجهز ، فقال بعضهم بالقود فيهما ، وبعضهم بالقود في المجهز دون غيره .

وبعضهم يقول : إن كانا مجهزين إنما له القود على واحد .

وبعضهم يقول بالقود في الصائر في جميع من شغله أو منعه أو دل عليه ، ومنع منه آخرون إنما لهم القود على واحد ما بعينه .

وكذلك قتيل السباع وبني آدم والحيات والأفاعي والعقارب إذا اشتركت في قتيل واحد أن يرجعوا إلى الدية ، وبعضهم بالقتل لبني آدم ، وكذلك الصغير والكبير .

وللمجني عليه أن يعفو ، وأن يقبل ، و أن الحاكم إذا أخذ بقوله من هذه الأقاويل التي تحل بها الدماء فسفك بها دماء كثيرة ، ثم بدا له فاستحسن خلافه وأن يرجع إلى الدية ، فأبطل فيها القود ورجع إلى الدية ، أن ذلك جائز له .
ولا يحل البسط إلى دم أحد من الجناة بعد حكم القاضي بحقنها ، ويسوغ له الأمران جميعا في البدأة والعودة .

ويسوغ للناس الانتقال من حكم إلى حكم خلافه ، من تحليل إلى تحريم ومن تحريم إلى تحليل ، فإن علم الله منهم الاجتهاد ، فالكل سائغ له ما فعل على مذهب علي ، وهما إلى الجنة ، وغذا عند ربك يوم القيامة يختصمون .

فعلى مذهبه أن لأهل العراق أن يقاتلوا مع علي من امتنع من بيعته ، لأنه الإمام على أيدي المهاجرين والأنصار لأنهم الحكام على الأنام .

ولأهل الشام قتال علي ، لما انتهك من حرمة الإمام والخليفة بعد الخليفتين ، فقاتلوه طلبا لثأر عثمان ، إذ ليس لعلي شاهد يشهد أن عثمان حلال الدم إلا قتله ، ولا يقبل قولهم وهو أحدهم ، وطلب علي أن يقروا بولايته فينصفهم من حقهم خدعة صبي عن ثديي أمه .

والفريق الذين شكوا إنما شكوا في تحلة دم عثمان ، وادعت أن ذلك لها حلال ولهذا المعنى صار الأمر فتنة ، والفتنة عند العرب غير مذمومة . وإنما هي التحير والمشغلة ، ومنه قول عمر بن الخطاب الذي سمعه يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ) . فقال عمر : ( قل : اللهم إني أعوذ بك من الضغاطة ، أتسأل الله أن لا يرزقك مالا ولا ولدا ) .

ومنه قول الله – عز وجل - : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) فلهذا قال الله تعالى : ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) .
فمن صحت نيته واجتهاده عند علي سلم من الفريقين جميعا ، ومن خبثت نيته وخان اجتهاده عند علي فهم المخصمون عند الله تعالى .

فجميع أهل الشام مجتهدون عند علي إلا معاوية وعمرو ، فإنهما قد عرفا من الأمر ما عرفه علي وأهل العراق ، لأن أهل الشام لم يكلفوا علم ما غاب عنهم من الأمور واعتقادهم أن عثمان هو الخليفة وأنه أمير المؤمنين وأنه أفضل الخلق وانه أصبح مقتولا ، ولم يأت من الأمور التي قيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنها تحل بها دماء المؤمنين شيئا ، وتعلقت قتلته بأمور أخر غير التي قيد رسول الله عليه السلام فلم يقع الاتفاق عليها ، وهذا رأي من آراء علي وليس من رأي أهل الشام .
وهذا المعنى الذي عابوه في مالك بن أنس : ( أنه أباح القتل تأديبا واستصلاح الثلثين بالثلث ) .

وقد حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( أن على المعدي البينة وعلى المنكر اليمين )) ، ولا يقبل قول المهاجرين والأنصار أنه قتل مظلوما وإمامهم عائشة أم المؤمنين ثم عبد الله بن سلام ثم زيد بن ثابت ثم القتلة بنفوسهم المعترفين كطلحة والزبير وغيرهم ، وأي فتنة أعظم من هذه ؟

وهؤلاء يقولون نحن الحكام وولاة دين الله العلي العظيم واستظهروا بعمار ابن ياسر أن الحق يزول مازال عمار فأعظم منه الشاكة توقفوا في دم عثمان وهم بالحضرة .

فلو كان عثمان حلال الدم لكانوا أعلم بذلك من غيرهم فأنهم علماء هذه الأمة كسعد بن أبي وقاص إمام أهل الشورى وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة (1)الأنصاري ، لكن هؤلاء اعتزلوا ، فأفلحوا عند أنفسهم ، وأنجحوا وارتطم غيرهم ، كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ، ويوم القيامة عند ربكم تختصمون .

وقد صدق الله – عز وجل – حيث يقول : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) وقول رسول الله عليه السلام : (( فتنة لا تدع قلب مؤمن إلا لطمته )) . وأعظم حجة معاوية على علي معذرته المجتهدين .

وقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( يثير دخانها تحت قدمي رجل من عترتي يزعم أنه مني وليس مني ألا أن أوليائي المتقون )) .

ولنشرع الآن في حجة معاوية أنه على الحق دون علي (2):

اعلم يا أخي أن معاوية قد أدعى أنه على الحق دون علي ، وأنه أولى بالأمر دونه ، أن قال : ( إني سليم من فتنة الدار ) ، وأن عليا قد ارتطم فيها على تخليط منه ، تارة يزعم أن عثمان قتل مظلوما ويقول : ( ما قتلت ولا مالأت على عثمان ) . ويقول : ( لو إن بني أمية يرضون مني أن أقسم لهم خمسين يمينا ما قتلت عثمان ولا مالأت عليه ) .

وأن عليا منع قتلة عثمان والله يقول : ( فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) . ويقول لمعاوية : ( بايعني فأحملك وإياهم على الحق ) ، وأخرى أنه لم يثبت عن عثمان أنه قتل أحدا ولا زنا ولا أشرك بالله غيره ، فلم يبغ على أحد فيدافعه عن نفسه فيقتله على نفس أو مال ، وأخرى أن أهل الشورى إنما حلت لهم الإمامة ، وقصرها عليهم عمر بن الخطاب ، قبل أن يحدثوا ما أحدثوا أرأيت لو ارتدوا أو أحد منهم ، أكانت تحل له الخلافة مع الكفر ؟ وعلي قد أحدث في الإسلام حدثا وآوى محدثا ، ومع أن صاحبيه طلحة والزبير وغيرهما من أهل الشورى قد ندموا وتابوا وجادوا بأرواحهم ، تنصلا مما عملوا في عثمان ، وليس هو أولى منه بها ، وحتى قال طلحة : ( اللهم خذ مني لعثمان حتى يرضى ) .

وقالت عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - : ( نقمنا على عثمان السوط والنوط فعدوتم عليه فقتلتموه والقتل أعظم من السوط والنوط ) .

وأما سعد بن أبي وقاص وصاحبه عبد الله بن عمر ، فلم يقتلا ولم يمالئا واعتزلا الأمر ولم يعينا عليه فلم يعتزل معهما ، فاثنان تائبان واعترفا بذنبهما في عثمان ، واثنان اعتزلا فلم يعينا عليه ، فلم يسلك سبيل صاحبيه المعترفين ولا سبيل صاحبيه المعتزلين فارتطم في فتن لا تحصى .

ومنه قتاله الزبير بن العوام الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي )) . وقال فيه عليه السلام : (( بشر قاتل ابن صفية بالنار )) .

فعلي هو القاتل لابن صفية كما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر وغيرهما القاتلون لجميع من قتلت عساكرهم من المشركين ، وعلي قاتل من قتلت عساكره من المسلمين .

فلأن افتخر علي بقتل الفئة الباغية عمار بن ياسر ، ليفتخرن أهل الجمل بسلوك قاتل ابن صفية النار.

فإن كان علي على الحق بعمار فإن عائشة وطلحة والزبير على الحق بالزبير ، ومن وراء ذلك لم يقد قاتل ابن صفية .

وأعظم آفات علي أن خلف الحجاز الذي فيه الحرمان مكة والمدينة اللذين فيهما بيت الله الحرام وقبر نبي الله عليه السلام وفضلنا جميع مدن الدنيا وحرمهما ، وعوضه الله منهما العراق دار الفتنة والشقاق والقسوة والنفاق ونيران المجوس والغفاق (3) .

ومعاوية يقول : ( من الله تعالى علي بالشام التي هي قبلته في سالف الأزمان ، أرض الحشر والنشر وأرض وطنتها الأنبياء من قبل ، وهي الأرض المقدسة أرض الخليل ، وبئس البديل بلاد الفتنة وبيوت النيران من القبلتين والحرمين ) .

وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ألا أن الفتنة هاهنا )) وأشار بيده نحو المشرق نحو العراق ، وقال : (( حيث يطلع قرنا الشيطان ربيعة ومضر )) اللذين هما قرنا الشيطان وعساكر معاوية أهل اليمن الذين قال فيهم رسول الله عليه السلام : (( ألا أن الإيمان هاهنا . وأشار بيده نحو اليمن )) .

وقال عليه السلام : (( الإيمان يمان والحكمة يمانية )) .

وأعظم حجج معاوية على علي أن وعد الله تعالى النصر والظفر لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على عدوهم ، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون . كما قال الله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليكمم لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) فلم ينصر علي على أحد ، ولم يظفر بأحد ولم يفتح مدينة من مدائن الشرك في الإسلام ، لكن فتح في الإسلام أبوابا ، سلكتها الخوارج وسننا اتبعتها .
وقتل علي في قعر داره خائفا مترقبا ، وتوفي معاوية على فراشه آمنا مطمئنا ، فلم يفتح الله على يده قرية من قرى الشرك ولا مدينة من مدائن الشرك ، ولا أظهره عليها ولا أظفره بها .

وقد ظهر الظفر لمعاوية على بلاد المشركين ، فافتتح في أيامه قرى كثيرة ومدنا كبيرة ، فأعقب الله تعالى فيها الأذان بعد الناقوس والصلاة وذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار .

ونجح الإسلام في أيام وعاوية بعد الفتنة عشرون سنة ، وظهرت المساجد بعد الكنائس ، والمحاريب بعد البيع ، والتهليل والتحميد بعد الصلبان والأصنام ، وانبطل كثير من الشرك على يد معاوية ، ورأى (4) كثير من الفتنة على يد علي ، وابتلاه الله بالشيعة الملعونة الذين اتخذوه دون الله إلها وذريته أنبياء بعد محمد خاتم النبيين فأبطلوا شرائع الإسلام ، وحلوا أنشوطة عقد الحرام .

ومعاوية ممن كتب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي وأتمنه عليه ، وقد إئتمن رسول الله عليه السلام عليا على ابنته فاطمة فأغضبه فيها حين خطب على ابنة أبي جهل ، فصعد رسول الله المنبر فخطب الناس وأثنى على بعض أصهاره خيرا تعريضا به ، وقال : (( والذي نفسي بيده لا أحل حراما ولا أحرم حلالا ، ولن تجتمع بنت نبي الله مع بنت عدو الله )) ، فإنهم أولى على الأمة بالإمامة ، وأولى

بالحق ممن بخته بخت سوء ولو سلم من كل شيء ، ولو ملك الله تعالى ذرية علي على الأمة لا تخذوهم عبيد قن (5) وآفات تن والله أعلم حيث يجعل رسالاته .

وعوفي معاوية مما ابتلى به علي من إشهار السلاح والسيف في الأمة ، وأتى علي وليه وعدوه مسحا بالسوق والأعناق ، فعطل الثغور ، واستعمل القتل والقتال في داخل الدور ، فأراح الله منه العباد والبلاد ، فرجع النبل إلى نضابه ، والعز والتمكن إلى أربابه والخزي على أصحابه .

والذي ذكرناه في الملوك المتدينة لم تقتصر فيه على علي ومعاوية دون أخلافهم بعد ، بل الحكم فيهم واحد أهل ديانة ، لما أظهروا على أيديهم من الجمع والجماعات ، والأذكار والصلوات ، والنسك والعبادات ، وظهور الشرائع الإسلاميات ، وعمارات الصبيان للحاضر لقراءة القرآن ، وظهور الغزو والجهاد في جميع البلاد والثغور والعباد ، والدعاء إلى الله وإلى طاعته ، وظهور عبادته .

وقد جرى لعبد الله بن أباض شيء من هذا ، وذلك أنه أتعد مع أصحابه منارة الجامع بالبصرة أن يجتمعوا فيها آخر الليل ، للاتفاق على الخروج ، فقام آخر الليل ، فسبقهم إلى المنارة وجلس عندها ، إذ سمع تحنين المؤذنين ، ورنين المتعبدين ، وصنوف الأذكار في الأسحار . فقال لهم : ( لست منكم في شيء ، أعلى هؤلاء يجوز لي الخروج والاستعراض ؟! ) . وفارقهم ، وخرج أصحابه فاستعرضوا على طريقة الخوارج ، فسلم هو بحمد الله .

وذلك أن طريقة عبد الله بن أباض إنما هو الخروج على الملوك الجورة ، لا على العامة المسخرة كطريقة أبي بلال – رحمه الله - ، وليس في إن ظهر فجور هؤلاء الملوك في ذات أنفسهم وظهرت المناكر على أيديهم ما يخرجهم من ملة الإسلام ، بل هم من أهل الملة ، وإن كانوا أهل سوء .

ومن مناقبهم ، : أنهم أمنوا السبل والطرقات ، وجبوا الفيء والخراجات ، ونصبوا القضاة والحكومة.

وفي صنيع أبي بلال مرداس – رضي الله عنه – ما يدل على ما قلنا ، وذلك أنه لما خرج عليهم صادف أربعين جملا مالا من مال خرسان ، أخذها فأنزلها ، وأخذ منها عطاءه وعطايا أصحابه ، فسبيها إلى عبيد الله بن زياد ، وكتب لهم بذلك البراءات ، لو لم يكونوا أهل ديانة لما ردها عليهم .

وصنيع جابر بن زيد – رحمه الله – حين تخلف عن الجمعة فقال : ( اللهم لك علي أن لا أعود ) . ومن وراء ذلك أخذه العطايا من الحجاج وشبهه ، ومطالبتهم بها ، وولاية الفتوى لهم والمساحات ، وولاية شريح القضاء وغيرهم من أهل العلم كثير .

وليس في ذلك ما يخرجهم أن يكونوا أهل ديانة مخطئة مبطلة والمسلمون أهل ديانة محقة .

وكيف بعلي ، كان لا يتابع مدبرا ، ولا يجهز علي على جريح ، ولا يستخدم عبيدا ولا أحرارا ، وتأول في أهل النهروان وإن كانوا عنده من أهل الاجتهاد أن في صنيعهم الفرقة وتشتيت الأمة ، وبلوغ ابن أبي سفيان فيهم أعظم الأمنية ، وقد كان ذلك كذلك .

وأما السلاطين الجورة ن فهم الذين تغلبوا على الناس ، لا يراعون شرعا ولا يدعون إليه ، ولا يعملون به ، وعطلوا الزكاة والصدقات والعشور والخراجات ، ولا يهتمون بلأقضية والحكومات ولا بإقامة الحدود والقصاصات ، وشرعوا لأنفسهم طرقا في إقامة ملكهم ، خلاف طرائق الشرائع ، وشيدوا القصور ، وبنوا الدور ، وحصنوها بالحرس والأعوان ، ويغيرون على البلدان ، واستعملوا في جميع الموال المغارم والقبالات ، واتخذوا الأعوان والكفاة ، وأظهروا شرب الخمور ولباس الحرير والمعازف والستور والجور في جميع الأمور .

وتسمية السلاطين الجورة عندنا بالمغرب ، كأولاد بلجين بن زيري بن مناد بن مفكوش الصنهاجي ، وأولاده المنصور وباديس ، وتميم بن المعز بن باديس والمنصور بن بلجين وبني حماد بن بلجين والقائد بن حماد والناصر بن المنصور والعزيز ، وملوك بني يفرن كمعاد وزيري وملوك بني مغراوة بسجلماسة بني وانودين مثل مسعود بن وانودين والخير بن محمد والمنتصر ابن خرزون والمعز بن زيري ، وملوك سبتة بعدهم وهم بنو حمود وبنو عباد باشبيلية وبنو حبوس بغرناطة وابن ممادح بالمرية ، وبنو هود بسرقسطة ، وبنو الأفطس ببطليوس .

وأما بنو العبيد قبل هذا بأرض المغرب فليسوا من الناس ، وهم أشبه شيء بالنسناس ، وكذلك حالهم بمصر بعد ما صاروا إليها .


رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 5 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وأماالمرابطون فهم أهل ديانة أولهم يحيى بن عمر ، وأبو بكر بن عمر ، ويوسف بن تاشفين ،وعلي بن ويوسف ، وأخوهم تاشفين بن علي ، حتى كشح الله تعالى هؤلاء كلهم بالمهديوجنوده أهل التوحيد الموحدين رب العاملين فكان آخر العهد بهم ، والمشبهة أجمعين أبدالآبدين . والحمد لله رب العالمين .

------------------
(1) في ط البارونية محمد بن أبي مسلمة والصحيح ما أبتناهكما أفاده صاحب أسد الغابة . ( مراجع ط 2 ) .
(2)
ما سيرد لاحقا من كلام فهواحتجاج معاوية على علي . لا أرى المؤلف رحمه الله في معاوية وعلي ، ويستمر كلامهطويلا إلى حوالي الأربع صفحات . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(3)
الغفق : هوالإرتداد والرجوع . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
ونزل معاوية بالمغرب ونزل عليبالمشرق ، وأشارت الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه : أن نولد محمد عليه السلامبمكة وقبره بيثرب وملكه بالشام ، وأن عليا أهون ملك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالعراق .
(4)
أي ظهرت . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(5)
عبيد قن : العبيدالذين ولدوا من آباء وأمهات عبيد . ( مراجع الطبعة الثانية ) .











باب في العلم الثاني
والعلم الثاني في ذكر العلة التي أوجبوا بها أحكام المخالفين من أهل الديانات ،خلافا لأحكام فسقة أهل الإسلام وتشبههم بأحكامهم أحكام المشركين .

وذلك أنالله تعالى حكم في المشركين في أول مرة ، إذ أبصروا الإسلام وآمنوا ووحدوا إلههم أنعفا عنهم وغفر لهم جميع ما مضى لهم قال الله تعالى : ( قل للذينكفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) .

وقال : ( وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) .

وقيل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (( التوحيد جب لما قبله )) . ثم إن هذه المغفرة وقعت من الله – عزوجل – للمشركين عامة إذا أسلموا ، فذهبت أنفاس علماء الأمة إلى تعميمها في كل شيءلما علموا من رأفة الرب الرحيم الكريم سبحانه ، واستصلاح عباده بالدعاء لهم إلىالتي هي أقرب ، والترغيب في الشروع في الإسلام والتسهيل عليهم في دخوله ، فلو كلفهماستصلاح الماضي لشق ذلك عليهم فغفر لهم الذنوب السالفة والسيئات الماضية ، فهي إحدىالمغافر .

ثم الثانية : أن عافاهم من استملاح (1) ما مضى فلم يكلفهم رد المظالم ولا أوجب عليهم المغارم .

ثم الثالثة : أنهنأهم وسوغ لهم جميع ما في أيديهم من الأموال والديار والدمن والعقار ، والاستحوالوالاستخمار ، كسبا كان أو نصبا ، ذاهبة أو قائمة ، حلالا وحراما ، على أي وجه منالوجوه كانت ، مغصوبة كانت للمسلمين أو مكسوبة لغيرهم أو لهم ، فجميع ذلك معفو عنهمفيها مهنؤ لهم .

ودليل ذلك حديث الأخنس بن شريق الثقفي مع ابن ظبيان بين يديرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك أن ابن ظبيان المرادي ذكر أن أرض الطائفأرض كانت لمراد ، فأعقبتها ثقيف . فقال : ( أردد علينا بلادنا يا رسول الله ) .
فقال الخنس بن شريق الثقفي : ( إنه حاف سروات الطائف ، أرض كان لنبي مهلا بيلبن قيان غرسوا واديه ، وذللوا أحساءه ، وأكلوا أثماره ، حتى جاء الله بالطوفان ،فأهلك من على الأرض ، ثم نزلتها عاد حتى أتاها الله بالعذاب الأليم ، فأهلكهابالريح العقيم ، فتحامتها العرب ، ثم أن مرادا نزلتها فأتاح الله لها ثقيفا ،فقابلتها بسلاحها ، وفتحتها برماحها ، ففي أرضنا يا رسول الله ) .

فقال رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إنما قيل للجاهلية لجهالة أهلهاوضعف علمها ، فمن أسلم على شيء وهو في يده فهو له)) .

وحديث معاذ بنجبل : ( من استخمر (2) قوما ولهم إخوان أو جيران مستضعفونفأما قصر الملك في بيته فهم عبيدقن ، وما وراء ذلك فهم عبيد مملكة لا عبيد قن ) وحديث ذي كلاع مع همدان عند عمر بن الخطاب ، طلب أن يسترقهم ، فوقفهم لهم عمر بنالخطاب ، وهم أربعة آلاف ، فلما رأى عمر توقف فيهم ، أشرف عليه من سطح فقال : ( إنيأعتقتهم لله – عز وجل - ) . فأمضى ذلك عمر بن الخطاب .

وفي حديث الأشعث بنقيس مع أهل نجران ، وكانوا تحت حجر بن عدي ابن امرئ القيس بن حجر وهو خال الأشعثفانتحلهم الأشعث من قبل خاله ، حتى هم عمر بن الخطاب أن يدفعهم له ثم قال له : ( كدت أن يستغفلني هذا ) وخفقة بالدرة في مثل هذه الأمور .
وقول عمر – رضي اللهعنه - : ( ولسنا بنازعين شيئا من يد أحد إذا أسلم عليه ) وقضى في الأولاد بالملة .

وحديث سلمان – رضي الله عنه – حين أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستكتب وهو على دين ، فباعه المشركون لليهود ، فأمره عليه السلام أن يستكتبفاستكتب .

وأعظم من ذلك حكم رسول الله عليه السلام في دور مكة ورباعها ، وقددخلها على أهل مكة عنوة فهي لهم ، فسوغ لهم جميع ما في أيديهم من كسب أو غصب .

وأعظم من ذلك دور المهاجرين الذي أسلموا وهاجروا ، فتركوا دورهم ، فخالفعليها المشركون من بعدهم واغتصبواها ، فهنأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لهم، ولم يرد على أحد من المهاجرين داره ، ولا انتزعها من أيدي المشركين .

وأعظم من هذه كله دور رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اغتصبها عقيل بنأبي طالب ، واغتصب المولد ودور بني عبد المطلب وباعها من المشركين ، وصارت دارخديجة زوج النبي عليه السلام إلى أبي سفيان بن حرب ، التي فيها مولد فاطمة بنت رسولالله عليه السلام ، فردها إلى داره .

واغتصب أيضا أبو سفيان دار أبي أحمد بنجحش ، فاستعدى عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعده ، فقال : ( يا رسولالله ، دار أبي اغتصبها أبو سفيان ) فأعرض عنه ، ثم ناداه رسول الله مناجاة ومضىوتركه ، وقال يعرض بأبي سفيان : ( شعر )

دارابن عمك بعتها = تنفي بها عنك الغرامة
اذهب بها اذهب بها = طوقتها طوقالحمامة



وابتيعت تلك الدار بعد ذلك ، في علاء دور مكة بمائة ألف دينار ،اشتراها أبان بن عثمان في دور كثيرة على هذا النعت .

وقال أسامة بن زيدلرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان رحل رسول الله عليه السلام بيده : ( أينننزل غدا يا رسول الله في يوم الفتح ) فقال عليه السلام : (( وهلترك لنا عقيل من منزل ، أنزل بالأبطح)) .

وانتهى الأمر بدار رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى محمد بن يوسف أخي الحجاج ابن يوسف ، ثم انتهى فيأيام بني العباس إلى بعضهم ، فجعله مسجدا .

ومن العجب أنه تركها علىمناكحاتهم ومناسباتهم ، ولم يغير عليهم شيئا من ذلك .

وقد اختصم في عمرو بنالعاص خمسة أنفس فقالت النابغة : ( إنه أتاني خلق كثير ليس لهم فيه شيء ، ولكن هذهالخمسة كل قد أتاني فلا أدري لأيهم هو ، فاقتبسوا بالأزلام عند هبل ، فطار السهمللعاص بن وائل السهمي ، فانتسبه إليه إلى الأبد ، ووقعت المناسبة والموارثةوالمعاقلة والولاية على هذا النسق ) والله ولي التوفيق .

----------------------
(1) أي : إصلاحه وإحسانه ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
استخمر : استبعد ( مراجع الطبعةالثانية ) .


ذكر أحكام المشركين والمخالفين والملوك وخزائنهم
فصل (1)

فإذا ذكرناأحكام المشركين ، ومقتضى الحكم فيهم إذ هم أسلموا ، فلنذكر أحكام أهل الخلاف وأهلالديانات ، والحكم فيهم ، وهم على ثلاثة أصناف :

أولها : الملوك . والثاني : الولاة . والثالث : العامة .

أما الملوك وأحكامهم ، فقد سماهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملوكا . وقال : (( الخلافة بعدي ثلاثون عاما، ثم تتحول ملكا بزبزيا)) (2)

واعلم أن من ادعى الملك ، وتسلط علىالعباد ، وانتحل اسم الشريعة ، وحارب عليها ، وقاتل وناصب ، عمل بمقتضى معتقده فيدينه ، كعلي ومعاوية ومن دونهما والحجاج بن يوسف والأزارقة والصفرية ، وهم بمثابةأهل الدار ويوم الجمل وصفين والنهروان .

فمن تاب من سوء ما هو عليه ، ورجعوأبصر الإسلام وأهله وتبرأ من الخلاف وأهله ، من قبل أن يقدر عليه المسلمون وهو فيمنعته حتى تاب ، أنه معفو عنه كل ما جنى وأجرى من سفك الدماء وأخذ الأموال واستباحةالفروج ، كل ما أتى من ذلك مهدور عنه ، وصار كأحد من المسلمين ليس فيه جنى علىالنفوس من قود ، ولا على الأموال من مواداة .

وحرام على من يطلبه بمال أمنفس أو غير ذلك وأعدناه فيمن جاوز إليه فيما ذكرنا .

وحكمنا في علي إذا أبصرالإسلام أن يهدر عنه جميع ما فعل في أهل النهروان ، سواء باشر القتل أو أمر أو منعالجاني .

وأما من فعل بأمره ، وقاتل من أهل جنوده فقتل وفعل ما أمره به عليمن ذلك ، فمهدور عنهم جميع ما اجترحوا من ذلك ، سواء عليهم رجعوا إلى الإسلام ، أوتمادوا على اعتقاد مذهبهم ، بشرط ألا يخرجوا من حكم علي .

فإن خرجوا من حكمعلي ، رجعوا كما كانوا أول مرة ، يحل قتلهم إذ قدر عليهم ، وجرى الحكم بذلك عليهم ،وهو حدهم ، ولا سبيل عليهم في تودية مال ، وإن أغنوا لأهل الحق ولم يفارقوا مذهبهمواعتقادهم وخلافهم ، بلا قود ولا تودية ، لأنهم فعلوا بأمر سلطان شارع ، وفعلوابدين خلافا لمن فعل بشهوة .
وكذلك حكم معاوية وعمرو بن العاص إذا تابوا ورجعواإلى أهل الحق ، هدر عنهم جميع ما أصابوا من نفس أو مال في تلك الحروب وتلك الفتنوما عملوا بغير مقتضى دينهم .

فإذا كان قائم العين فهو مردود إلى أهله ،وإما إذا لم يكن قائم العين ، فالله أعلم ، وأما ما تصرف فيه فهو مهدور ، وتصرفه أنيجري فيه المواريث والأحكام والبيوع والانتقال عن يد آخذه أول مرة إلى غيرهم ، فيكل شيء إلا الأحرار ، فالعلة فيهم قاصرة ، سواء كانوا بدين أو شهوة ، إن قدرنا علىالأحرار أطلقناهم ، وجرينا الأثمان من بيت مال المسلمين ، إن لم يكن للجاني مال أوفقدوا .

وأما الحكم في خزائن الملوك وبيوت أموالهم ، فإن الحكم فيها كبيوتأموال المسلمين ، إلا أن يكون شيئا معروفا لم يسلكوا فيه سبيل الخلفاء الراشدين نولا سبيل مذهبهم هم ، فإنما هو غصب ومظلمة ، فهو مردود على أهله إلا أن يكون ذاهبالعين ومضى لسبيله .

ومن داين بيت المال مال المسلمين ، في أيام الملوكالظلمة ، فبطلوه أو منعوه ، أو حيل بينهم وبينه ن فله ماله من بيت مال المسلمين علىأحد ، وما كان لأحد من عدة في بيت مال المسلمين ، فلأمير المسلمين الوفاء بذلك ، إنرآه مصلحة له ممن يستحق ذلك ن وغلا فالخيار له .

وكل صلح بين هؤلاء الملوكوبين عدوهم من الروم وغيرهم ، فهم على صلحهم ألا إن يخافوا منهم خيانة ، فلينبذإليهم على سواء .

وكل حق للموك على الولاة ، فراغوهم بها حتى زال سلطانالملوك ، فإن لأمير المؤمنين في ذلك إمضاء الحكم فيه على وجهه . وإن عطل الذمة ماعليهم من الخراج ومن الجزية سنين عدة ، فإنا نأخذهم بذلك ، إلا إن سوغت لهم الملوكذلك ، وإن غاب أهل الذمة في بلاد بعيدة غير بلادنا ، فأتوا علينا ، فإنا لا نأخذهمبشيء من الجزاء ، إلا إذا مكثوا في بلادنا سنة كاملة ، سواء تلك البلاد التي جاءوامنها بلاد شرك أو بلاد إسلام ، إن أطاع لهم أهل تلك البلاد بها وإلا أخذنا الجزاءعدة تلك السنين ما خلا بلاد الشرك .

ولا نعشر أموالهم إلا لعام واحد ن فإنأدعوا أنهم أعطوا العشر أو الجزية لبعض أهل تلك البلاد التي جاءوا منا أو لأهلالخلاف ولهم على ذلك براءات ، فإنا نحط عنهم تلك الجزية أو الخراج ، ونعشرهم لعامناالذي جازوا فيه علينا ، وما أحدثوه أيام الملوك من الكنائس والبيع بالرشا هدمناه ،وإن كان على أذن تركناه ، أو عن ظلم أزحناه .

وإن هم أهل الذمة بالإسلاموأرادوه ، ومنعهم منه الملوك ، وصابروا إلى أيامنا ، فليس علينا منهم شيء ، إنأسلموا فبسبيل ذلك ، وإن تمادوا على ما هم عليه ، فليس علينا منهم شيء .

وذلك أنهم في أيام الحجاج بن يوسف ، جارت عليهم الولاة ، فأسلم بعضهم ،فمنعوهم من الإسلام لئلا يضيع بيت مال المسلمين ، وإن أسلم أهل الذمة ، انتزعنامنهم الفيء ورددناه على جيرانهم ، وحططنا عنهم الجزية والخراج .

وإن كانتبلادهم بلاد صلح لا بلاد فيء ، فمن أسلم فله إسلامه وماله وعليه فيه الصلح والعشر ،إلا أن أراد أن يسلمها لإخوته ، ومن اشتراها من المسلمين كان عليه مثل ذلك ، ولاينبغي لمسلم أن يذل نفسه ، وذكر أن جل أموال الليث بن سعد من ذلك .

وإن بنواالكنائس والبيع بأمر الملوك وظهرنا عليهم تركناهم وإياها وأما إن كان على يدالسلطان منعناهم منها .

وإن اصطفت الملوك الغنائم في أيامها ، وعطلوا فيهاالسهام ، وردوها إلى بيت مال المسلمين ، تركناهم وفعلهم ، وإن كانت قائمة لم يقضوافيها بأمر أجريناها على السهام .

وإن عاقبوا بالأموال جميع من عمل المعاصي ،أو خالف أمرهم ، أو فيؤه وانتزعوا منه الديار والعقار والدمن والأموال ، وهي قائمةبأعيانها في بيت مال أو في يد من أعطوها له ، وليس علينا إصلاح شيء من هذا ، ولاالنظر فيه ، تصرف أو لم يتصرف .

وإن كان بينهم نقض عهد ، أو عذر ن أو مظالمبينهم وبين أهل الذمة والمحاربين ، فإنا نصلح من ذلك ما أفسدوا ، ونحل عقد مااجترموا ، سواء كان النقص أو العذر من أهل الإسلام ، أو من أهل الذمة والمحاربين .

فمن امتنع أجرينا عليه حكم الإسلام وأهله ، ومن امتنع قاتلناه وحاربناه .



------------------------
(1) كلمة فصل غير موجودة في الطبعة البارونية أضفتها إتماما للفائدة . ( مراجع ط 2 ) .
(2)
أي مأخوذ بالغلبة والقهر ( مراجع الطبعة الثانية ) .









باب فيما ينبغي لأمير المؤمنين أن يفعله في أهل الخلاف
والذي ينبغي لأمير المؤمنين أن يستعمله بينه وبين أهل الخلاف ، أن يدعوهم إلىترك ما به ضلوا ، فإن أجابوا اهتدوا ، وصاروا إخواننا ، ولهم ما لنا وعليهم ماعلينا ، ونصير وإياهم شرعا واحدا كما تقدم كما قال أبو حمزة المختار بن عوف ، وقدخطب أهل المدينة فقال : أيها الناس نحن من الناس والناس منا ، إلا عابد وثن وملكاجبارا ، وصاحب بدعة يدعوا الناس إليها ) .

وإن امتنعوا من ذلك دعوناهم إلىأن نجري عليهم حكم الله تعالى ، من دفع الحقوق والخضوع لواجب الأحكام .

فإنأطاعوا بذلك تركناهم على ما هم عليه ، ووجب لهم من الحقوق والأحكام ما يجب لناوعلينا ، إلا ما كان من الاستغفار فلا حق لهم فيه ، ما داموا متمادين على ما بهضلوا ، ووسعنا وإياهم العدل ، ولهم حقوقهم من الفيء والغنائم والصدقات على وجوهها ،ولهم علينا دفع الظلم عنهم كما يجب لسائر المسلمين ، والعدل في الأحكام ، والدفاععنهم .
وإن غزوا معنا ، فلهم سهماهم كما لنا ، وإن امتنع منهم مما وجب عليه منالحقوق أدبناه بقمعه ويرده إلى سواء السبيل ، وإن جازو ذلك سفكنا دمه ، واستحللناقتاله .

وإن اعترفوا بطاعتنا ، وانفردوا ببلادهم ، وأجروا فيها أحكامهمتركناهم ، وذلك ما لم يكن ردا على آية محكمة أو سنة قائمة ، ونستقضي عليهم منهم منيقوم بواجب الحقوق عليهم ولهم ، ونقبل قوله في ذلك على أسلوب القضاة كلهم ، إذاكانوا ممن تقود لهم دياناتهم ، ولم يمنعنا من ولايتهم إلا ما هم عليه ، ونأخذ منهمكل ما يجب من الحقوق ، ونردها في فقرائهم وذوي الحاجة منهم .

وإن اتهمناهمفي شيء أعذرنا إليهم وننبذ إليهم على سواء ، ولا نتركهم يظهرون منكرا بين أيديناإذا كان عندهم منكرا في ديانتهم ، ونمنعهم أن يحدثوا في أيامنا ما لم يكن ، إلا أنيكون أمرا لا مكروه تحته ، فلنا الخيار .

وإن حاربناهم في هذا كله وهزمناهم، فإنا لا نتبع مدبرا ، ولا نجهز على جريح ، وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان لبيتالمال فإنا نجوزه على وجهه ، ولا نتورع عن جميع ما في أيديهم من المظالم عندنا ،إذا كان جائزا في مذهبهم .

وما كان في أيديهم من مال بيت للمسلمين ، فإنانأخذه ولا نرده إليهم ونصرفه في جوهه .

وإن كان مظلمة رددناها إلى أهلها ،ولا نستعمل معهم في ذلك طريقة الزهاد ، مثل ما فعل أبو منصور في ولد أحمد بن طولون، حين هرب لأبيه من مصر بستين جملا محملة ذهبا من بيت مال مصر ، فنزل إليه أبومنصور من الجبل بعسكره ، والتقى معه جون بقة ، فاقتتلوا قتالا شديدا ن ففتح اللهلأبي منصور إليه ، فولوا منهزمين ، فقتلهم المسلمون شر قتلة ، وحازوا الأموال ،فتورعوا عنها وسيبوها لأهل مدينة طرابلس ، فتوزعوها وانتهبوها مصيبة يالها من مصيبة .

وإن قدرنا عليهم ، قتلنا منهم كل من قتل أحدا منا بعينه ، ولا نستعمل فيهمحكم المحاربين ، ونقتل منهم الولاة والرؤساء، ونترك العامة بسبيلهم ، ونسرح سبيلالأسرى ، ولا نتبع المنهزمين ، ولا نعترض من العامة أحدا إلا من طعن في الدين ، أوقتل من المسلمين أو دل عليهم ، فهؤلاء يقتلون إذا قدرنا عليهم ولو تابوا ، إلا منتاب قبل أن نقدر عليه ، ونصلي على قتلاهم وندفنهم .

ونجري المواريث بينناوبينهم على وجوهها ، والعدد والأموال والحرمات على وجوهها ، ولنا الدرجات إن شاءالله ، ولهم الدركات .


في أحكام الأمراء والقضاة والأعوان
وأما الأمراء والولاة الذين هم تحت الملك الأعظم ، إن اقتطع لهم الملك شيئا منأراضي الفيء ، فإن لهم أن يأخذوه وينتفعوا به ، ولو حاباهم بذلك دون نظرائهم أو دونأهل الصلاح ، فإن ذلك لهم قطيعة أو استغلالا .

كما فعل عثمان بمروان بنالحكم بذي خشب ، وبما حاباه في أمر الخمس الذي باع له بخمسمائة ألف دينار شراءمحاباة ، وهو خمس مال أفريقية ، يسوى ستمائة ألف دينار ، فبان به وحازه ، فقد طابلمروان وأساء فيه عثمان السيرة .

وإن رجع إلينا مروان تائبا أو غير تائب ولوتاب عثمان ولم يتب مروان لكان لمروان ن وهذا في الأموال ، وأما عيون أراضي الفيءفلعثمان الرجوع فيه ، تائبا أو غير تائب ، كما جرى لعمر بن عبد العزيز وذلك أنه نظرإلى ما صار إلى بني أمية من أموال الفيء ، فرده أموالا جليلة ، فأتى بالأسفاط التيفيها وثائق الأموال فنادى : الصلاة جماعة . فاجتمع الناس فخطبهم وقال : ( أيهاالناس ، إني نظرت إلى ما في أيدينا من أموال الفيء ، فرأيته يناهز ثلث الفيء أونصفه ) ، ثم يفتح السفط ويأخذ منه الوثيقة ، ويدفعها لولده عبد الملك ، وعبد الملكعلى رأس المنبر فيقول : ( اقرأ يا بني ) فيقرأ فيقول : ( هذا ما دفع أمير المؤمنينعثمان بن عفان لمروان من مال الفيء أقطعه إياه قطيعة ) . فيقول : ( يا بني ما تقولأنت ؟ ) . فيقول عبد الملك : ( إن الله أقطعه المسلمين قبله ) ، فيقول عمر : ( مزقيا بني ) ، فيمزق عبد الملك الوثيقة ، ويتتبع جميع مكاسب مروان وعبد العزيز أبيه ،من لدن الخلفاء ، فيقول : ( مزق يا بني ) . فمزقها حتى أتى على آخرها .

ثمأن عمر قال لحاجبه يوما واحدا : ( لا يدخلن علي أحد إلا أموي ) لا يأذن لغيرهم ،ولا يستأذن لغيرهم ، فلما اجتمعوا قال لهم عمر بن العزيز : ( إني نظرت إلى ما فيأيديكم من مال الفيء ، فوجدته يزيد على الثلث أو على النصف ، فالآن انخلعوا عما فيأيديكم من مال الله ) ، فسكتوا ولم يحيروا جوابا ، وقال لهم ثانية فسكتوا ، وقاللهم ثالثة فأجابه العباس بن عبد الملك ابن مروان ، وكان أسن القوم فقال : ( إن هذهالأموال جعلتها الخفاء لأجدادنا وآبائنا لسنا ننضه ، أنفقر أبناءنا ونكفر آباءنا ؟لسنا بفاعلي ذلك ، ما دامت هذه – وإشارة برأسه – على كواهلنا ) .

فسكت عمرهنيهة ثم قال : ( وأيم الله لولا أن تستعينوا بمن أطلب له حقه من هذا المال عليفتقاتلونني بهم ما فرجتهم منها أو تتركوه ) وقال لهم : ( انصرفوا ) فانصرفوا .

فكان من رأي عمر استرداد ذلك كله .
ولأمير المؤمنين فيه الخيار إذادخلوا في الإسلام كرها ، وأما إن دخلوه طوعا فلا .

وإن اكتسب الوالي منعطاياه الأموال والرباع والمنازل والقصور ، ثم أبصر ، فرجع إلى دين المسلمين فهو لهخالصا ولو لم يرجع على مذهب المسلمين ، وكذلك ما يصيبه من عطاياه .

وأما إنأمره الملك بالمصانع من الرباع والديار والحمامات والقناطر والأجنة والمحارثوالشجار ، وامتثل ذلك كله وأخذه وتملكه ، إلى أن زال سلطان الملك الأعظم ، أو زالتولايته هو ، فإن ذلك كله مردود في بين مال المسلمين ، إلا أن يهبه له أمير المؤمنينبديا المرجوع إليه المر الآن ، وجميع ما يحدث في الفيء فهو فيء ، إلا أن اقتطعهلأحد ، فله ما اشتغل ، ومرجوع الفيء إلى الفيء .

وكذلك حكم القضاة ومااستغلوه على هذا النعت ، والفيء ما دام وقفا لم يدفعوه لأحد فلجميع المسلمين أنيأكلوا منه بأفواههم ، ولا يتخذوا منه خبية ولا تبانا ولا حال .

وإن دفعواأرض الفيء لغيرهم اقتطاعا ، فله التصرف فيه والاستئثار به ما لم يزل سلطانهم ، ولوزال سلطانهم ، ما لم ينزعه السلطان الثاني من يده فإذا نزعه صار ذلك المملوك فيئاكأول مرة .

وما أحدث الولاة والقضاة من المصانع والهياكل والمرافق والحصونوالسجون والميادين والأسواق لما يصلح للولاة والقضاة والحرس والأعوان والفيوج (1) ،وهذه الموال كلها من نفس بيوت المال اصطنعته ، أو من نفس عطايا من ذكرنا ليس له فيهمرتجع ، فهو باق على حال المعنى الذي عقل له .
وإن أخذ هؤلاء المذكورون عطاياهمأول العطاء ، فعزلوا بعد ذلك فهي لهم ، وأما إن أخذوها قبل مجيء العطايا فلأميرالمؤمنين استرداده .
وإن اكتتب في وجوه كثيرة فليأخذ بتلك الوجوه كلها ، وإناكتتب في غزوة وتخلف عنها بعدما أخذ عطاياه فإن لأمير المؤمنين معاقبته ، ولا يستردمنه العطاء ، ولا يعاقبه بحرمان العطاء ، صنيع عثمان بن عفان ، فالعطاء من اللهعز وجل – والعمل من العبد فإن جاز العمل مضى العطاء ، وفي المقبل فاصل .

وأما العطايا الدارة فهي لصاحبها ، عمل أو لم يعمل ، ولعقبه من بعده ، وإنلم يكن له عقب فلمن يوصي له من بعده ، وإن عف عن عطاياه ، فليس على أمير المؤمنينمنه شيء .


-----------------
(1) سبقتعريفها . ( مراجع الطبعة الثانية ) .


في المحاربين وما يتصل بهم من أهل الفتن
وللمحاربين أحكام مذكورة في كتاب الله – عز وجل – وهو قوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلواأو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنياولهم في الآخرة عذاب عظيم) .

اختلف العلماء في ظاهر هذه الآيةوباطنها فمن قائل : إنها على ظاهرها . فمن وقع عليه اسم الحرابة ، الإمام مخير فيجميع ما ذكرنا من هذه المعاني التي نص الله عليها ، من القتل والصلب وتقطيع الأيديوالأرجل من خلاف والنفي .

وبعض يقول : إن الآية مرتبطة بلحن الخطاب وقوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أنيقتلوا ) إذا قتلوا أحدا من بني آدم ، كائنا من كان ، فيقتلون به جميعا ، أويصلبون إذا قتلوا وهم مشركون ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا لم يقاتلواالنفوس لكن أخذوا الأموال ، أو ينفوا من الأرض.
واختلفوا فيه على قولين : قالبعضهم : النفي أن يطلبوا حتى لا يأمنوا على أنفسهم في شيء من بلدان المسلمين .

وقال بعضهم : والنفي أن يسجنوا أو ينفوا من على وجه الأرض حتى يؤمن فسادهم .

واختلفوا أيضا في الحكم : هل موقوف على الإمام أو سائغ للمسلمين جميعاإنفاذه في كل زمان ؟
قال بعضهم : هو إلى الإمام ولا ينفذه غيره كسائر الحدود .
وقال بعضهم : إن حكم الله جائز لمن قدر على إنفاذه من جميع المسلمين .
وقالبعضهم : أما القتل فجائز في الظهور والكتمان ، وأما ما سوى ذلك فلا يجوز إلا للإمام .

واعلم أن المحارب كل من أخاف السبيل وأعلن بالفساد في الأرض ، وأشارالقرآن إلى بعض أوصافه قال الله – عز وجل - : ( لئن لم ينتهالمنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونكفيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلومن قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) فأثبت الإرجاف أنه من موجبات القتل وكذلكظهور خصال النفاق .

وإن أظهر قوم إخافة السبيل والإرجاف ، أعذرنا إليهم ،وإلا أجرينا عليهم حكم الله – عز وجل -.

وقد رويت أحاديث دالة على أن بعضالأفعال أن دم مرتكبها حلال ، وقد روي في تارك الصلاة ثلاثا يقتل بعد الإعذاروالإنذار ، وروي أيضا في شارب الخمر بعد الإعذار والإنذار ثلاثا يقتل .
وممايوضح ذلك ويبينه قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لقدهممت أن أقدم رجلا من أصحابي يصلي بهم صلاة العشاء ، فأتخلف إلى قوم لا يحضرونالعشاء ، وأحرق عليهم بيوتهم)) .
ولقد رأى عمر بن الخطاب رجلا يسيءالصلاة فقال : ( والله لا نتركك أن تظهر النفاق بين أظهرنا ) فمن أظهر النفاقوخصاله بين أظهرنا ، وأخاف السبيل ، وأشهر السلاح ، وأعلن الفساد ، لكنهم لم يقتلوانفسا ولم يأخذوا مالا فإنا نضبهم السجون ، ونبسط إليهم الأيدي بالضرب والألسنبالمكروه ونؤدبهم بالتعزير والنكال .

فإن قطعوا الطريق ولم يصيبوا الأموال ،فإن قدرنا عليهم قطعنا أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ولو أكلوا من الأموال دون النصابالذي قطع به يد السارق ، فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى من خلاف.

وأما إنقتلوا الأنفس ولو نفسا واحدة حرا كان أو عبدا ، مؤمنا كان أو ذميا ، أتينا علىآخرهم بالقتل وقتلناهم أجمعين ، ولو لم يقتل منهم إلا واحد ، قتلنا من قتل ومن لميقتل ، وهذا إذا قدرنا عليهم قبل أن يتوبوا ، فإن تابوا قبل أن نقدر عليهم أسقطناعنهم حد الحرابة ، وأخذنا الجاني فيما جنى ، وقتلنا القاتل وحده فيما فعل إذا كانممن يقتل به ، ولا نقتل غيره ، ويؤدي المال من أخذه دون من لم يأخذه .

وأماإن وقعت المحاربة بيننا وبينهم ، ولم يذعنوا لحق الله تعالى فيهم ، حتى قتلوا منارجالا ، وقتلنا منهم رجالا ، وأكلوا الأموال وأفسدوها ، فإن قدرنا عليهم قبل أنيتوبوا، أجرينا عليهم حد الحرابة ، وقتلناهم عن آخرهم ، وإن لم نقدر عليهم لكنهمجاءوا تائبين ، بعد ما قتلوا منا وأكلوا الأموال ، أسقطنا عنهم حد الحرابة ،وأخذناهم بما فعلوا خصوصا ، وقتلنا القاتل فيمن قتل إذا كان ممن قتل به ، واسترددناالأموال من آخذيها وآكليها ، وهدرنا عنهم جميع ما أصابوا منا في محاربتهم ، لأناوإياهم في حال المتدينين ، لا نأخذ الحق ممن لا ندفع له الحق ، ويهدر عنهم جميع ماأصابوا منا في محاربتهم ، إلا قائم العين من الأموال ، فإنه مردود إلى أهله .
فإن وقعت المهادنة بيننا وبينهم ، أجريناها على وجوهها ، فمن نقض كان ملوما ،ومن تعرض كان مليما . ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم علىسواء) ولا نستحل عذرهم ، ولا نقض عهدهم ، ولا خيانتهم ، ولا جميع ما خالفوه، ممن ليس بيننا وبينهم محاربة ، أو كانت بيننا وبينهم مواثيق وعهود . فكمثل الفتنالتي تقع بين أهل التوحيد .

والفتن ثلاثة أوجه : الأولى : الفتنة التي تقعبين أهل التوحيد بينهم البين . والثانية : فتنة تقع بينهم وبين المخالفين . والثالثة : هذه الفتنة المعهودة التي تقع بيننا وبين العرب و الأعراب .

والأولى : وهي الفتنة بين أهل الدعوة ، وليس فيها استحلال دم ولا مال ،وحركاتهم فيها حرام والقاتل والمقتول في النار ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) : (( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فيالنار)) . قيل : ( يا رسول الله القاتل فما بال المقتول ؟ ) قال : (( لأن كل واحد منهما أراد أن يقتل صاحبه )) . وقد قال الله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) فهذه بعض فروعها : فكل من قتلفيها من يقتل به فهو به مقتول ، وتأدية الأموال كذلك ، ولا يتعدى القتل فيهاكالمحاربين ولا المال .

ومهما وقعت المهادنة بينهم فهم على تلك المهادنة ،وهم على ما هم عليه من أول مرة غير أن الهدنة منعتهم أن يحدثوا حدثا ما غير ما كان، ولا أن يبسطوا أيديهم إلى ما كان ، وليس فيهم محق دون مبطل بل هم المبطلان جميعا، إلا أن يتنصل أحدهما من الفتنة الأولى فيكونوا محقين أن بغي عليهم ، وإن بغوا همرجعوا أصحاب فتنة كأول مرة .

ومن شرط توبتهم أن يتركوا وجوه الفساد الذياستخدموه ن ويكفوا مظالمهم عمن لا يحاربهم ، وينصفوا من أنفسهم إن كان فيهم حقللغير .
وإن كانوا أهل ناحية فبغى أهل الناحية بعضهم على بعض من غير أسبابالفتنة ، فالمبغي عليه بحق ما لم يستعمل فنون الفساد كعادتهم .
وإن اتفقوا عندصلحهم أن يهدروا جميع من أصيب منهم من الأنفس والأموال ، فلا ينهدر .

وقيل : ينهدر إذا كان برأي من ينظر إليه على أيدي المسلمين .
وإن كانت لهم سلاطين وملوك، يرجع رأيها إلى تلك الملوك وتلك السلاطين ، فأنهم المأخوذون بجميع ما في تلكالفتنة .

وإن قدر المسلمون عليهم من غير أن يأتوا تائبين ، والحكم فيهم أنتقتل تلك السلاطين وجميع جنودها ، وتعفى العامة ومن أجبروه على الدخول معهم فيقتلهم .

وإن وقعت المحاشدة بينهم ، فهل للمسلمين الذين لم يدخلوا في تلكالفتنة الذب عن الحريم وعن الضعيف واليتيم أم لا ؟ فالله يعلم المفسد من المصلح . وللشيخ أبي خزر – رحمه الله - : تأثم ، وفيه أسوة ، والهروب من الفتنة أحق .

وقد قيل : إنه ما كانت فتنة قط في بلد من البلدان ، إلا شملت العامة ، ولوكان نبي من الأنبياء إلا ناله نصيبه منها حتى تنجلي .
وقد قيل عن شريح القاضي : إذا كانت الفتنة أمسك لسانه فلا يكلم أحدا حتى تنجلي .

في الفتنة التي تقع بيننا وبين المخالفين
اعلم أن الفتنة التي تقع بين أهل الدعوة والمخالفين هي على وجهين ، إذا كانأصلها الظلم من أهل الدعوة بدءا ، فهي مثل التي تكون بين أهل الدعوة بينهم البين .

وإن كان أصلها الظلم من المخالفين ، فهذه دون الأولى ، فإذا وقعت الضرورةفيسع المسلمين أن يذبوا ويدفعوا عن المظلومين ، وأن يظهروا البينونة بينهم وبين أهلالدعوة إذا ظهر منهم الفساد مثل ما يظهر من أهل الفتن وينهوهم عن ذلك ما قدروا ، أويبينوا أن ليسوا بأصحابهم فيها .
وإن رجعت من المخالفين ديانة ، دفعنا عن أهلدعوتنا ما قدرنا عليه ، ولا نساعدهم على فساد الأموال ، بل ننهاهم عن ذلك .


في فتنة الأعراب والعرب

وأما الفتنةالتي بيننا وبين العرب ، اعلم أن جميع الأموال التي بأيديهم الحكم فيها أنها السحتوالحرام ، وليس علينا من نهبهم ولا أعدائهم ولا استعدائهم شيء .

فإن انتصلوامنها تائبين حكمنا بها للفقراء والمساكين ، ولا سببا من الأموال مالا ينسب قبلدخولهم بلاد العرب .

واختلاف العلماء وأيام دخولهم أرض المغرب ، ما حكمأموالهم ؟ فقال بعضهم : هي سحت وحرام أبدا .

وقال بعضهم : كل ما تنسب إليهممن أرض الحجاز فلا بأس في مبايعتهم فيها ، وغير ذلك ريبة مجتنب ، وليس على الفقراءتباعة في جميع ما أعطوهم من تلك الأموال المسترابة ، لأن الفقير إذا تصدق بها عليهأن يأخذها .

وقال أبو عمران الفاسي : تجنب تلك الأموال إلى عشرين سنة ، ثملا تحذر معاملتهم فيها .

وطريقة العباد والزهاد التحرج عن معاملتهم .
والأصل في العرب القتل لأنهم محاربون إلا التاجر والمتسأمن .


باب في العلم الثالث : ذكر حال المسلمين مع أهل الخلاف ...
ذكر حال المسلمين مع أهل الخلاف وأهل التدين والسلاطينوالجورة

اعلم يا أخي أني أريد أن أذكر كيف حال المسلمين مع أهلالخلاف وأهل التدين منهم ، ومع السلاطين الجورة الضالين ، ومع سائر المشركين .
اعلم يا أخي أن مذهب أهل الدعوة في الخروج على الملوك الظلمة والسلاطين الجورةجائز ، وليس كما تقول السنية : إنه لا يحل الخروج عليهم ولا قتالهم ، بل التسليملهم على ظلمهم أولى .

قالوا : وقد اختلفت الأمة في هذه المسألة على ثلاثةأقول :
القولة الأولى : قول أهل الدعوة : إنه جائز الخروج عليهم ، وقتالهمومنصابتهم والامتناع من إجراء أحكامهم علينا ، إذا كنا في غير حكمهم ، وأما إذا كناتحت حكمهم ، فلا يسعنا الامتناع من كثير من أحكامهم ، وإن أردنا الشراء والخروج جازلنا ، فهذه قولة .

والقولة الثانية : قول المخالفين : أنه يجوز الخروج عليهم، ولا قتالهم ، ولا الامتناع من أحكامهم ، ولا الدفاع عنك لهم .

القولةالثالثة : مذهب الأزارقة والصفرية والنجدات في الاستعراض لسائر الخلق ، والملوكوجنودها والرعية وعوامها ، لأنهم حكموا على الجميع بالشرك ، فاستعرضوا الجميع،وأجروا عليهم حكم الشرك والقتل والسبي والغنيمة .

أما السنية فنقضواأقوالهم بأفعالهم فقد خرج التوابون في أيام يزيد بن معاوية وهم أربعة آلف ، وخرجوامن الكوفة شاهرين السلاح ، وهم يريدون الشام على أثر عبيد الله بن زياد ، وأخذواالجزيرة طولا وعرضا ، يقتلون ويقتلون ، حتى قتلوا عن آخرهم ، بعد ما وصولوا أدانالشام : البقاع . فكان آخر العهد بهم ، فتسموا التوابين لأنهم زعموا أنهم طلبوابثأر الحسين بن علي ، وقتل فيه من الفقهاء عدد صالح ، وخرجوا مع عبد الرحمن ابنمحمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، حين خالف سجستان .

وقامت العامة على الحجاجبن يوسف وخرج فيها الفقهاء زهاء خمسمائة ومنهم الشعبي وسعيد بن جبير . وقال للشعبي : ( أخرجت علي يا شعبي ) فقال الشعبي : ( أيها الأمير إنها فتنة لسنا فيها ببررةأتقياء ولا بفجرة أقوياء ) فقال الحجاج : ( صدق أطلقوه ) .

واستجازت الشيعةالخروج عليهم كما استجزناه فخرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على خالدبن عبد الله القسري ، وكان عاملا لهشام بن عبد الملك بن مروان ، فاعترضته الروافضوقالوا له : ( ما قولك في أبي بكر وعمر ؟ ) فقال لهم : ( يا قوم ليس هذا أوان ذلك ) . فقالوا : ( كلا ) فقال لهم : ( إن أبا بكر وعمر هما اللذان أخرجاني وأقاماني هذاالمقام ) . فرفضوه وخذلوه ، فتسموا الرافضة ، فانهزم عنه أصحابه ، فأخذ أسيرا وضربترقبته ، وخرج بعده ابنه يحيى بن زيد بن علي في أيام يوسف ابن عمر بن حلوان ، والرأيله ، فهزم وأخذ وقتل وصلب .

وطلحة والزبير هما الذروة لهؤلاء كلهم على نكثالصفقة وقد جرى لي كلام مع الفقيه يحيى بن أبي بكر بن الحسن بن الشيخ يوسف ابن نفاثمناظرة في سلجماسة ، في مثل هذا فقال لي : ( أول من سن الخروج على السلاطين أبوبلال مرداس بن أدية ) . قلت له : ( إن له في ذلك أسوة حسنة ) . فقال : ( أو حسنة ؟ ) فقلت : ( أو سيئة ) فقال : ( ومن هو ؟ ) قلت : ( طلحة والزبير ) . فقال لي : ( إنطلحة والزبير اجتهدا فأخطأ ) . فقلت له : ( ولعل هذا اجتهد فأصاب ) فقال لي : ( أوأصاب ؟ ) فقلت : ( ولعله اجتهد فأخطأ ) . فقال : ( الله يغفر للجميع ) .

وقولنا هو الصواب إن شاء الله . وذلك أنا نقول : لا يحل لنا أن نستعرضأحدا من الرعايا والمسافرين والتجار والحراثين وغيرهم ، إلا الملوك الظلمة الجورة ،وندعوهم إلى ترك ما به ضلوا ، ولا نعترض من العامة إلا جنودهم ، وأنهم وجنودهمبمثابة واحدة ، وأجزنا الخروج عليهم ، والكون معهم .

فإن خرجنا عليهمقاتلناهم حتى نزل ظلمهم على العباد والبلاد ، وإن لم يخرج عليهم ورضينا بالكون معهموتحتهم فجائز لنا ذلك ، ونعيش في كنفهم حراثين فدادين لسوء حال .

كما ذكر فيالكتاب فتوحات إفريقية : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمه العباس : (( ماذا تلقى ذريتي من ذريتك يا عم ؟)) فقال له العباس : ( أفلا أجيب نفسي يا رسول الله ؟ ) قال : (( لا ، أمر قضي)) . ثم قال رسول الله عليه السلام : (( تعلموا من قريش ولا تعلموهاوقدموها ولا تتقدموها وأطيعوهم ما أطاعوا الله ، فإذا عصوه فلا طاعة لهم عليكم ، ثمخذوا أسيافكم واجعلوها على عواتقكم ، واضربوهم بها حتى تبيدوا خضراءهم ، وإلافعيشوا فدادين حراثين ، حتى تلقون بسوء حال )).

وجوز الخروج والقعود، فمن خرج فواسع ، ومن قعد فواسع ، وإنما الضيق في مثل هذا عند الخروج ن فلا يجوزونالقعود لضعيف ولا لقوي ، حتى قال قائلهم :


أباخالد أيقن فلست بخالد = وما جعل الرحمن عذرا لقاعد
أتزعم أن الخارجي على الهدى = وأنت مقيم بين لص وجاحد





باب الغزو معهم والجهاد
اعلم أنه يجوز الغزو معهم والجهاد والقتال والمحاربة لجميع المشركين الذين حلقتالهم ، فالناس تحت الظلمة على ثلاث طبقات :


رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 6 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



الطبقة الأولى : من باينالظلمة وناصبهم ما قدر عليهم ، وهو يأمرهم وينهاهم عن المنكر ويرد عليهم سوء مذهبهمويناقضهم ، فكان معروفا عند الناس في ذلك ، فهذا يسوغ له الكون تحتهم والجهاد معهم، ويأخذ سهمه من الغنيمة ويلي لهم على العشر وعلى الغنيمة ، ويلي لهم على الفتوىوقسمة الساحات ، كجابر بن زيد والحسن البصري وشريح وابن عباس وكثير من الصحابة ،ممن ظهرت منهم مناقضتهم ومخالفتهم .

فهؤلاء ليس عليهم بأس أن يلوا منالأموال ما ليس به بأس ن بشرط أن يعملوا بأمر الله ، ويستعملوا طريقة العدل ، ولاتأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يكونوا بذلك معاونين لأهل الباطل الذين قال فيهمرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لعن الله الظالمينوأعوانهم وأعوان أعوانهم ولو بمدة قلم)) كما جرى للحجاج ابن يوسف مع جابربن زيد .

وذلك أنه كان يكتب إذ أسقط القلم من يده فقال لجابر : ( ناولنيالقلم ) فقال له جابر : ( قال رسول الله عليه السلام : (( لعنالله الظالمين وأعوانهم وأعوان أعوانهم ولو بمدة قلم)) ) .

فلو أنجابرا سعى في حاجة مسلم كأبي بلال وغيره ، فسقط القلم من يد الحجاج في كتابه لناولهجابر القلم والدواة وغير ذلك ، بل يرشونه بجعل من وراء ذلك .

وقد قضى شريحعلى العراق قريبا من سبعين سنة ، والعطايا دارة والأموال قارة .

وكذلك عبدالله بن الحكم بن عمرو الغفاري الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( يأتي إمام أهل المشرق غدا يوم القيامة )) .
وأما من لميكن له عهد بهذه الأمور ولا الشروع فيها ، ولم يكن ممن عرف بمناقضتهم ولا الردعليهم ، فلا ينبغي أن يلي من أمورهم شيئا ، إلا أن يكون أمر يعرف الناس صلاحه ولابأس عليه منه .

وأما أن يسير فيجا أو بريدا في مصالح المسلمين ، فإن كانأمرا يعرفه ويعرف صلاحه فلا بأس .

وأما أن راودوه على معصية أو أكرهوه عليها، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

وأما أن يلي أمور المساجد والإقامةوالتأذين والمحاضر والتذكير والتخويف ، فلا بأس عليه في كل هذا .

وأما أنيصير أمينا على الأسواق ، أو على المقاسم ، أو عونا ، أو رأس الأعوان وعريفا لهم ،أو من الحرس ، أو على الدواوين ن دواوين التحقيق ، ودواوين الجنود ، ودواوين الخراج، وجباية الأموال ، والحراسة من عدو يحاربهم ظالما أو مظلوما ، فلا في هذا كله .

وأما إن كان لهم أمينا في أمور المعصية كلها ، فمن ظهرت منه معصية ماأخبرهم بها ، ولا يأمن أن يعاقبوا العاصي بخلاف مقتضيات الشريعة ، فلا يكون أميناولا يخبرهم به .

وإن كلفوه إقامة الجمعة ليصلي بالناس أو التأذين ، أو قيامرمضان أو إمام مسجد ما ، فجائز ، كما تجوز له الصلاة خلفهم إذا أقاموها .

وأما ما يتعلق بالحدود والقصاص والرجم وغيره ، والقطع والجلد ، فيرجم معهمالمحصن الزاني ، ويقطع السارق ، ويجلد القاذف ، وتضرب رقبة المرتد في أمثالها فلابأس .

وقد كان عدو الله الحجاج بن يوسف ، امتحن عبد الله بن عمر بن الخطابرضي الله عنه – في ولده سالم ، وذلك أن الحجاج أتى برجل ، فأمر سالم بن عبد اللهليضرب عنق الرجل . قال : فقام سالم فأخذ السيف ، فأتى الرجل فقال له : ( هل صليتالغداة الصبح ؟ ) قال الرجل : ( نعم ) . فرجع سالم إلى الحجاج فقال له : ( سمعت منأتى هذا : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : (( إذا صلىالعبد المسلم صلاة الصبح فهو في ذمة الله ورسوله)) فلا ينبغي لأحد أن يحقرذمة الله وذمة رسوله ) فقال له الحجاج : ( ضع السيف ) . فأمر بالرجل فضربت عنقه .

فقال الحجاج لسالم : ( خذ برجل الرجل وأخرجه عني ) . فأخذ سالم برجل الرجلثم قال : ( لأن آخذ برجلك يا أخي ، أحب إلي من أن أضرب عنقك ) ، فقام إليه أبوه عبدالله فقبل بين عينيه فقال له : ( ما سميتك سالما إلا لتسلم ) .

وإن كلفوه أنيضرب عنق أحد على ما لا يستحق به ضرب الرقبة ، والرجل المضروب العنق ممن يحل دمه ،ممن طعن في دين المسلمين أو دل عليهم ن أو قتل أحدا على الدين ، أو علمت منه خصلةيحل بها دمه ، فلا تطاوعهم على ما أرادوا من ذلك .

وإن استحلفوه ألا يخونهمولا يغدر بهم ، أو على أن يرجع إليهم إذا أطلقوه ن فلا يغدر ولا يخون ، وأما الرجوعفالله أعلم .


مسائل بين علي ومعاوية
فإن حشد علي جموعه إلى بلد من بلدان معاوية يريد أن يتملكه ، أو يغلب عليه ،ودعا إلى الخروج معه ، فلا تخرج معه ، ولا تعنه على بلد من البلدان مما يلي معاويةأو غيره .

وإن كان الرجل ساكنا في بلد من بلدان معاوية ، وهو يأكل من خراجها، فيأخذ العطايا عنها ، فإنه يدافع مع معاوية عليا في بلدانه .

وكذلك من سكنمع علي في بلد من بلدان العراق وحشد إليه معاوية ن فإنه يقاتل مع علي ليدفع معاوية .

وبالجملة : أن كل بلد من البلدان ممن يأخذ العطايا عليها ، فإنه يدافععنها جميع من أراد ظلمها من جميع الموحدين والمشركين ، إلا أهل الحق من المسلمين ،فالواجب معاضدتهم ، والعون لهم على ما أرادوا ، والنصيحة في جميع ما حاولوا .

وإن منع أهل الذمة الجزية أو الخراج ، أو واجب الحق عليهم ، فأنت مخير فيقتالهم مع كل إمام يمنعهم من الظلم ، ويحوطهم إلى أمير المؤمنين فواجب .

واعلم أن الأرض التي تأكل خراجها لها عليك حقان : تقاتل عليها من أرادظلمها ، وتدفع عنها .

واعلم أن جميع ما يلزمك من حقوق الله – عز وجل – إنطلبها منك الملوك فواسع لك أن تدفع إليهم كل ما كان ظاهرا ، من الحب والتمروالأنعام ، وليس لك أن تمنعهم ، فإن قدرت أن تصرفه بنفسك فاصرفه .
وأما ما كانباطنا كالذهب والفضة ، فلا يجزيك أن تقصدهم بها .
وقال عبد الله بن عمر بنالخطاب : ( يجزيك كل ما دفعت إليهم ظاهرا أو باطنا ، اضطرارا أو اختيارا ) .

وقالت المعتزلة : لا يجزي عنك ما دفعت إليهم اضطرارا ولا اختيارا ، فلابدأن تعيدها في غيرها . وقال عليه السلام : (( أعطوهم حقهم ،واسألوا الله حقكم)) .

وقال عليه السلام : (( أطيعوهم ما أقاموا فيكم الخمس)) . وفي حديث : (( ما لم يمنعوكم الخمس)) .

وقال عمر : ( أطع إمامك وإنضربك أو ظلمك أو حرمك ) . فكما لك أن تدفع واجب الحق عليك من العشر والصدقاتوالزكاة والخمس ، فكذلك أن تأخذ واجب الحق لك عليهم ن وتستسلم لجميع أحكامهم عليك ،ما لم تكن بدعة أو خروجا من الملة ، ولو كان خلاف مأخوذك في تسخير السلاطين العامة .

واعلم أن السلاطين الجورة ، يستخدمون العامة في بنيان القصور والدوروالحصون والمنتزهات العظيمة في الخالي والجالي (1) وفيالقرى والرساتيق والحمامات والمصانع كلها .

فإذا زال سلطان هؤلاء الظلمةتائبين أو غير تائبين ، فهو مشاع بين المسلمين ، فإن كان ذلك في الجالي فهو مردودعلى أهله ، وللعامة الانتفاع به من غير ما مضرة أصحاب الجالي .

وإن كانت فيهمضرة صرفت ، وأعطى أثمانها للفقراء والمساكين ، وصارت لهم وجميع بيوت أموالالمسلمين فيء ، وسواء في ذلك جاءوا تائبين ، أو قاتلناهم فغلبناهم عليها ، ليس لهمإلا الانتصال من جميع ما في أيديهم إلى المسلمين ، وليسوا كأهل الديانات المسوغ لهمما في أيديهم .

وأما ما وقع بينهم وبين الناس من المظالم ، فإنا نعدي عليهمالناس ، وليس علينا منهم شيء ، وثبتت لأنسابهم كما كانت ، ولو كانت لغير رشدة ،مثلما فعلت زناتة أيام ولايتها سجلماسة ، مهما تزوج رجل منهم نكاحا صحيحا ، فعندليلة البناء يدخل على أهله ، والخلائق حضور ، ويكشف عن وجهها ويقول : أنت طالقثلاثا على رؤوس العالمين ، فيفترق الناس ، ويبني بأهله ويقول : لا يصح أن يكونالفتى إلا ابن قحبة ، يضاهون عمرو بن العاص (2) ، ويثبتنسبة على هذا المعنى .

ومن جاء إلينا تائبا ، وقد سعى أموالا كثيرة تحتأيديهم ، وجاء تائبا ، وأبصر الإسلام واستجاب به ، فإن المسلمين يأخذون جميع ما فييده ويردونه له على وجه اللقطة ، حيث أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالانتفاع بها ، فإن جاء مدعيها أداها له .

قيل : إن رجلا يقال له ورتموزيوكان ممن خدم زناتة بسجلماسة ، وكان في يده أموال كثيرة ، فأتى تائبا راجعا إلىالمذهب ، فأفتى له المشايخ أن ينتفع بتلك الأموال ن أيام حياته وأجرة لمواليه ،وهذه الأموال لا تعرف أربابها فهي للفقراء ، من أجل ذلك فتوه أن ينتفع بها ما دامحيا ، فإذا مات قسمت الأموال على ورثته على السهام انتفاعا لا تملكا صدقة على أربابالأموال ، وكان عندنا بوارجلان حتى مات ، وورث أولاده الأموال ن ولم يحرجوا على أحدمعاملته .

وقال بعض الفقهاء : إن من كان عنده أموال الناس ، غصبا وخيانة أودينا أو أمانة ، فإذا تاب إلى الله – عز وجل - ، وليس عنده ما يؤدي منه ، أن يعتقدبجميع نفقاته صدقة عليه لأرباب الأموال .

وليس عليه أن ينفقها على أفقر منه، وتخرج هذه الأموال إذا من حسناته ، كما أن جميع حسنات ماله تتبعها إذا يومالقيامة عند الفقراء ، كما أنه لو أنفق بنفسه وتصدق ، وإن لم يكن له حسنات ، رجعبها على مولاهم الله .
وإن كانوا مسلمين تحمل الله بها ، وعافى المسلمين ،والقصاص لابد غدا ، فليكثر من الأعمال الصالحات ، من ابتلى بأموال الناس ، فقد ذكرضمام ابن السائب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( أن منله عند أحد مظلمة ، إنه يأخذ من حسناته يوم القيامة ، بمقدار مظلمته ، فإن لم تبقله حسنات رجع الطالب إلى الله – عز وجل – بما بقي له على صاحبه ، ورجع المطلوب إلىفضل الله ورحمته وتوحيده)) وهذا بعد التوبة والانقطاع والندم وفقره إلىمولاها .

وفي قول : (( للغير أن يرد الطالب عليه من سيئاتهفيدخل النار )) .
وأما أموال السلاطين فليس على الفقراء منها تباعة إنأعطوهم إياها متصدقين أو مستخدمين .
وأما على وجه المعاملة فلا ، لأن ذلك تسويغلهم سحتهم ورضى عنهم ، لكن بالصدقة فنعم.

----------------------
(1) الجالي : المكان الواضح . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
قد مر ذكر عمرو بن العاص حول هذا الموضوع . ( مراجع الطبعة الثانية ) .









باب عمارة الأرضين وما يتعلق بذلك
باب عمارة الأرضين

قال الله تعالى : ( هو الذي جعل لكمالأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) .. وقال تعالى : ( وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) وذكر عنرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (( من جاز أرضا وعمرها عشرين سنة فهيله)) .

واختلف العلماء في عمارة الأرضين قال بعضهم : لا يجوز لأحدمن الناس أن يسبق إلى أرض فيعمرها إلا بإذن الإمام ، ولو كانت فيافيا وقفارا ن حتىيأذن له الإمام في ذلك ، ومنه قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : ( لنا عاديالأرض ) .
ويدل على ذلك قول رسول الله عليه السلام للذي أقطعه ملح مأرب ، فأقطعهإياه . فقال رجل : ( هو يا رسول الله كالماء العد (1) ) فقال عليه السلام : (( فلا إذا)) فارتجعها ، وبينها وبينرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسيرة شهرين أو أكثر ، وقبل أن يبلغ ملك رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) إياها .

وحديث الدهناء في حديث طويل حين سألرجل أرض الدهناء ، فأعطاها له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقالت المرأة : ( لا صاحبت الرجل ، أرض الدهناء مقيد البعير ومربض الشاة ، ومن وراء ذلك نساء بنيتميم أين تضطر مضرك يا رسول الله إلى البحر ؟ ) فقال عليه السلام : (( صدقت المسكينة ، المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ن يرعيان الشجرويردان الماء ويتعاونان على الفتان ( 2 ) )) فقالالرجل : ( أنا إذا مثله وافد عاد يا رسول الله ) . فقال عليه السلام : (( ما حديث وافد عاد ؟ )) فذكر الحديث . منعنا منه الاختصار . فمنعالرجل من أرض الدهناء بقول المرأة ن وفعله في المعادن القبلية.

وبعضهم يقول : إن جميع أرض الفيافي والخراب يسوغ لمن يسبق إليها ويعمرها . وإليه يتوجه رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( من حاز أرضا)) ويصدقالقولة الأولى فعله عليه السلام في المعادن القبلية حين وهبها لأبيض بن حمال .

فإذا أذن أحد من الملوك التي ذكرنا بعمارة الأرض ، فهي لمن عمرها ، وإن لميكن في تلك الأرض أحد من الملوك فهي للملوك التي بالقرب منهم ، وربما تقوم جماعةالمسلمين مقام الملك إذا كان لهم إمام ولو الكتمان .

فلو اقتطعها منالبغدادي فأقطعه إياها ، لكان أيام كانت الخطبة عليه في الأرض ، وأما إذا كانتالقطيعة من المهدي مضت على من أحب ومن كره .

وإن أقطع أمير المؤمنين أرضالرجل فعطلها ، فلأمير المؤمنين أن ينتزعها منه ويقطعها غيره ، ولو أعطاها أميراوملكا كان قبله إلا قطائع رسول الله ، وكان عمر يسترد قطائع أبي بكر ممن لم يشتغلبعمارتها ويقطعها غيره .
وإن عمرها بالحدود والحيطان والزروب ، فليس في ذلكعمارة ، وإن عمرها بالمحارث والأشجار والبنيان ، ثم عطلها بعد ذلك ن فلأمراء أنيرتجعوها إذا اندرست وخرجت ويدفعونها لمن يعمرها .

وإن كانت أرض فيء فدفعهاله الإمام على خرج ما ، وزاد فيها وبنى الدور والقصور ، وأحدث فيها جميع ما يزينالأرض ، أو في قيمتها على ما أعطاها له أول مرة ، فإنه يكون في تلك الأرض على الخرجالأول ، فإن أراد أمير المؤمنين أن يخرجه منها ، فإنه يدفع له قيمة ما زاد فيهاوترجع أرض فيء كما كانت .

وأما القرى الصغار التي تكون في قطر المدائنالكبار ، إن خلت واندرست من عامرها وممن تنسب إليهم ، أخرجهم الجدب أو العدو ، أوانتقلوا بأنفسهم إلى ما هو أفضل منها ، والأرض معروفة بأسماء أهليها ، والجناتوالأشجار قائمة والعيون جارية ، فهذه لا يؤكل من أشجارها ولا نباتها ، إلا بإذنأهلها .

ومذهب ابن عباس : أن كل مالا يحيطون من ذلك من السباع والتافية ( 3) لا بأس على من يأكله ، وإن كانوا بالموضع الذي يخدمونهويحصدونه ، فليس للمارة إلا ما سقط وضاع وتأكله السباع وأما الأصل فلا ن وأما إنعطلوها وبعدوا عنها حتى لا يدركوا جذاذها ، فهي لمن احتاج إليه ولا يتملكها .

وأما القصور فإنهم يعمرونها على كرههم ومحبتهم إذا عطلوها ، وأما المزارعوالمحارث فإنها تزرع ولا تحتاج إلى إذن أربابها ، ولا يحتاج في ذلك إلى إذن الإمام .

وأما إن كان أهلها في بلاد بعيدة ، حيث لا يقدرون على عمارتها ، فللإمامالنظر فيها أن يهبا أو يقطعها لمن أراد .
فإن اندرسوا حتى لا يعرف لهم موضع ،ولم يبق في أيدي الناس منهم إلا الاسم فهذه أهنأ وأمرأ لمن يأكل ، ويأذن الإمام لمنيتملكها .

وسئل ابن عباس عن أرض بعيدة عن الناس ذات أشجار ، لا يتناولها إلاالسباع والضباع ، هل لمن يلتقط بلحها أو بسرها وحشفها فأجاز ذلك .
فقيل له : ( فإذا سقط من ثمارها شيء ؟ )
فقال : ( اللقطة ) .
قال : ( فإن التقطتها ، فأتىمولاها فطلبها مني ؟ )
قال : ( لا ، ولا نعمت عين ) .
فمذهب ابن عباس أنالأرض مشتركة فالأولى بالأولى .

وأما إن اندرست البلاد وخربت حتى لا يقف أحدعلى ماله منها ، فإنها تصير مشاعا بين القبيل ، ويتواقفون فيها بالرجال الذكور دونالإناث .

فإن أذن الإمام لمن يعمرها ، ويحرث ويبني وينزل ويسكن ، فما أحدثفيها فهو للذي أحدثه . وما كان قائم العين ، فللداخل أن يتملكه ، أعني المنافع ،ويبيع ويشتري طنيا ، والأصل لأهلها كما جرى في تاهرت أيام علي بن يوسف سيد الناسابن يلومي بعمارتها فعمر منها دورا وعقارا فهم يتبايعون المرافق ، والأعيان لأهلهافي الأموال وما يتعلق بها .
فإنا نظرنا إلى حرمتها في الشريعة ، وحرمة الدماء ،فوجدنا الأموال أعظم حرمة منها ، لأن الله تعالى حرم دماء المؤمنين وأموالهم ، قالرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إن دماءكم وأموالكموأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا )) ،ثم إن الله تعالى جعل عقوبة كثير من المعاصي في أنفس الأموال ينتهك به حرمة الدماء، ولم يجعل حرمة الدماء ينتهك بها حرمة الأموال ، أولها المحاربون : جعل اللهعقوبتهم في معصيتهم حين انتهكوا حرمة السبيل في الأموال والأنفس أن تقطع أيديهموأرجلهم من خلاف ، وقيل : إنهم يقتلون في الأموال .

والسارق جعلت عقوبته إنسرق نصابا من المال يساوي ربع دينار أن تقطع يده التي تساوي خمسمائة دينار .
ومنوراء ذلك من أراد أن يظلمك في قليل من المال ، فقد أباح الله لك دفعة وقتله ولوبخروج روحه ، والروح تساوي ألف دينار ، والمال درهم .

ومن وراء ذلك النكالاتوالتعزير والتأديب على أدنى شيء من الأموال ، ولو انتهك فرج امرأة زنا إذا أحصن رجمعليها ، وإن لم يحصن جلد عليها ، والعقوبة متوجهة إلى البدن في المال .

فإنقال قائل : قد جعل الله عقوبة الدماء في الأموال الديات في الجراحات ، وفي النفوس ،وفي فساد الأموال بينها البين .
قيل : أجل لكن لم يجاوز قيمة الدماء في الأموالبأضعاف مضاعفة كما فعله في الأموال ، ولم يحكم على من قتل عمدا أو خطأ ، أن يؤدي منالمال أضعاف جنايته كما فعله وحكم به في الأنفس .

واعلم يا أخي أن عليا قداستشهد في الأموال أن الاختلاف فيها كله صواب ، وأعظم من ذلك أن الرأي حاكم علىالسنة والكتاب ، ومصداق ذلك قضايا عمر بن الخطاب في الأموال ، وذلك أن الله تعالىحكم في كتابه بسهم ذوي القربى ، فحكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيام حياته، وقد جعله الله تعالى وقاية لهم ألا يحتاجوا إلى أوساخ الناس من الصدقات وغيرها ،ثم حكم به أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – أيام حياته ، اقتفاء بفعل رسول اللهعليه السلام ، ثم جاء عمر بن الخطاب في بعض أيام استحسن برأيه أن يمنعهم منه بماعوضهم الله تعالى من الغنائم والفيء ن فمنع سهم ذوي القربى ، وانفهم له من كتابالله – عز وجل – ما انفهم له وعليه أنزل وإليه نزل .

وكذلك المؤلفة قلوبهم ،لما نظر إلى الإسلام قد استغنى عنهم ، وأخذ ذلك من الاسم ، ونظر إلى حاجة الاسم قدأرادها الله تعالى . فقال لهم : ( إذ ذاك كان الإسلام حقيا ، وأما الآن فقد بذل ) . فمنعهم سهمهم ، وتتابع عليه المسلمون ، وما كان الله ليجمع أمة محمد عليه السلامعلى ضلال .

فلو أن ذوي القربى ، والمؤلفة قلوبهم ، قاموا في طلب سهامهم ،وانتصروا لأحكام القرآن ، أن تكون ماضية إلى الأبد ، لكان فيه ما فيه .

ومصداق ذلك : لو أن قوما قالوا : إن المواريث إنما تجري أحكامها مدة أياممعلومة ، فتنبطل بما بلغ في الناس من الغنى ، ورجعت أموال الناس زيادة في حسناتهم ،ويتصدق بها عليهم ، لكان فيه ما فيه . وكذلك الصلوات والصوم والحج .
فإن ساغلعمر ما ساغ له من ذلك ، فما بال الغير ألا يسوغ له ذلك في غيره ، وهو اليسر في دينالله تعالى ، ولو وقع التشابط والقتال على هذا كله ، فأيهما المبطل ، وكانوا كلهممبطلين ، فمن استبطلهم كلهم ، شدد على الأمة ، وحكم بأن العسر أولى من اليسر ، ومنصدق أحد الجانبين ، فمن اتبع كتاب الله تعالى أولى ممن اتبع رأيه ، ولا الرأي أصوبفي هذا ، إلا أن يكون الكل مصيبين لشريطة الاجتهاد ، ولاسيما وقد قال الله – عز وجل - : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فقدشملت الظالم والمظلوم ، والسلامة للمجتهد المصيب رحمة للعالمين . وما ربك بظلامللعبيد .


----------------------------------------------
( 1 ) العد : موضع يتخذه الناس يجتمع فيه ماء كثير . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
( 2 )
الفتان : الشيطان . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(3)
التافية : جمع التفة وهو سبع الأرض لا يقتات إلا على اللحم . ( مراجعالطبعة الثانية ) .







أفراد المسائل فيمن كان تحت أحكام المخالفين
رجل كان تحت أحكام المخالفين فتزوج وغاب عن زوجته ، فأعذر القاضي إليه فلم يفعل، فطلق عليه القاضي زوجته ، أو أوجب عليه من النفقة عليها ما أوجبه الله تعالى ،فامتنع أو لم يكن له مال ، فطلق عليه القاضي زوجته ، ما حكم هذه ؟ أهي مطلقة أم غيرمطلقة ؟ فإن كانت غير مطلقة ، فهل له أن يلم بها ، ولا ينظر إلى حكم هذا القاضي ،وتقع المواريث والحقوق والنسب أم لا ؟

اعلم أن هذه مطلقة ، وإن لم يكن فيمأخوذ المسلمين هذا الجواب فلا يحل له أن يلم بها ، ولا أن يقربها ، وقد سقطت جميعالحقوق التي بينهما ، ولها أن تتزوج غيره ، وتقع الحقوق بينه وبين زوجها الأخيروترثه ويرثها ، وإن كان نسيبها ورثها إن ماتت .

وهكذا كل حكم لم يقطعالمسلمون عذرهم في خلافه ، وكل حكم حكموه بالشاهد واليمين ، فهو ماض لنا وعلينا ،إلا أن تنزهنا منه ، ولنا معاملتهم في جميع ما حكموه بالشاهد واليمين لنا وعلينا ،وتجري فيه المواريث على وجوهها ، وليس لهم مقاضاتها إلى الديان ، إلا أن علم أصلالمال كما في الشاهدين ، وله المقاضاة إن علم أن الشهادة زور .
وأما في الفروجفلا سبيل إلى شيء من ذلك ، لاسيما إذا انقطعت العصمة بنكاح آخر أو تسر ، فلا يجعلإلى نفسه سبيلا ولو كان مظلوما .

فلو استبرأت المفتدية بحيضة ، فتزوجت ماكان له عليها سبيل بعد ، وله أن يتزوجها إن فارقت زوجها الأخير .
وأما ما يتعلقبالعبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج ، فليس إلى خلاف الإجماع سبيل ، كصومالشيعة يصومون آخر يوم من شعبان ويفطرون آخر يوم من رمضان فهذا فاحش ، وأهل الدعوةيكرهون القنوت في الصلاة .



باب مسائل ما بيننا وبين المشركين
اعلم أنه لا يجوز لأحد أن يتخذ دار الشرك وطنا لقول رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) : (( ثلاثة من الكبائر : خروجك من أمتك ، وتبديلك سنتك ،وقتالك صفقتك)) .

ومعنى خروجك من أمتك : أراد بذلك عليه السلاماتخاذك دار الشرك وطنا ، وقوله تبديلك سنتك : رجوعك إلى البادية بعد القرار ، وقوله : قتالك صفقتك : قتالك من بايعته بلا حدث .

وقال ( صلى الله عليه وسلم ) فيالمسلمين والمشركين : (( لا تتراءا دارهما)) دليل على أنلا يجوز مساكنتهم ، ويجوز لنا السفر إلى بلادهم ، إن أمنا أن لا يغدروا بنا ولايجرون علينا أحكامهم ولا يكرهونا على معصية .

ويجوز دخولنا عليهم عيوناوجواسيس ورسلا ، ودعاة إلى الإسلام وإلى الصلح ، أو نقض الصلح ، أو الأمر يحدث مماللمسلمين فيه فرج ومخرج .

وإن طلبوا منا الأمان للتصرف في بلادنا للتجارة أوللإسلام أو رسل إلينا ، فجائز لنا تركهم أو للفكوك أو للبيع والشراء بالأمان فلابأس ، قال الله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتىيسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) .

وإن افتتح المشركون بلاد المسلمين، فإن أهل البلاد جائز لهم الكون معهم وتحتهم وتجري عليهم أحكامهم ، ولا يجوز لأحدأن ينزلها وأن يتخذها وطنا من سائر الناس .

وإن خرج أحد من المسلمين منبلاده من خوفهم ، فهو مثل من لم يسكنها قط .

وإن كان المشركون أهل الكتابكاليهود والنصارى ، فللمسلمين مخالطتهم ومبايعتهم مؤاكلتهم ، ويأكلون ذبائحهموسمونهم أقطهم وجبنهم ، ما لم يظهروا على حرام ، وكذلك طبيخهم وطعامهم وشرابهم ليسالخمور ، وإن اتهموهم على النجاسة ، فليخرجوا ما قدروا .

ولا يتزوجون إليهم، ولا يتسرون ، ولا ينكحونهم ، ويعاملونهم في أموالهم ولا يحذرون منها شيئا ولو كانأثمان الخنازير ، أو من أثمان الربا ، ولا يعاملونهم بالربا ، ولا يأكلون خنازيرهم، ويدفعون عن بلدهم من أراد ظلمهم إلا عساكر المسلمين فلا يدفعونهم .

ويتقونمن المجوس جميع ما يؤكل ، كل مما يخافون عليه النجاسة ، أو من السمون والأجبانوالطبيخ وغير ذلك .
وإن غصبونا نساءنا وبناتنا ، فإنا على الأصل لا تحرم علينانساؤنا إذا رجعت إلينا ، ونستبريهن ثم لا نباليهن ولا نحتاج إلى نكاح جديد ، وأمااشتراكهن فلا .

ويجوز لنا منهم جميع ما يجوز للمسلمين الذين لم يتملكوهم ،من غدر وخيانة ودلالة ، والخروج عليهم ما لم نجعل إلى أنفسنا سبيلا ، في عهد أوميثاق أو أمانة .

وإن دخلنا بلادهم بأمان فإنا لا نخون ولا نغدر .

وإن دخلنا أسارى ، فإن قدرنا على الهروب هربنا ، ونسوق معنا من أموالهم ماقدرنا عليه ، ومن الحرم والذرية ، وليس علينا منهم شيء وليس لهم فينا عهد ولا ميثاق .

وإن دخلنا إليهم في بلادهم بأمان ، أو رسلا ، أو لافتكاك أسرانا ، فإنا لانخون ولا نغدر .

وإن جاءونا إلى بلادنا بأسرانا لنفكهم ، فإنا نتفق معهم ،فإن اتفقنا كان ذلك ، وإن لم نتفق سلمنا إليهم إخواننا ، وذهبوا بهم إلى بلادهم .

فإن وقع منهم اشتطاط في الفداء ، منعناهم في بلادنا ، ولا نمنع لهمإخواننا ، ويكونون في أيديهم ، والله أعلم في هذه المسألة .

وإن دخلوا فيبلادنا بأمان ، فما أتوا به من المحارم ، أجرينا عليهم حكمه كما نجريه على أنفسنا ،من السرقة والزنا والقصاص وغرم الموال ، إلا إن رأى أمير المؤمنين غير ذلك ، فليصلحما أفسدوا من بيت مال المسلمين .
وإن أتونا بهدايا من ملوكهم وسلاطينهم ،قبلناهم وأنبأناهم (1) عليها ، ونرسل إليهم هدايانااستصلاحا للمسلمين .

وإن طعنوا فينا ، أو في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو في السلف ، فليس علينا منهم شيء حتى يخرجوا من بلادنا .

وإن أسلمواحد منهم وهو في بلادهم ، ولم يصب السبيل إلى بلاد المسلمين ، وعليه زكاة وعشوروفطر ، ولم يصب من المسلمين أحدا إلا المخالفين فإنه يدفعها لهم ، وإن لم يصب أحدافإنه يدفعها لفقراء المشركين ، وإن أصاب إرسالها فليفعل .

وإن قاتلناهم ولمنقدر لهم على شيء ، ووقعت المهادنة بيننا وبينهم ، واشترطنا عليهم أن يخرجوا معنافي عساكرنا لقتال عدونا ، فنسهم لهم ، أو على خرج معلوم ، أما الخرج فنعم وأماالإسهام فلا .

وإن وقعت منهم شروط مذلة مثلما جرى لرسول الله ( صلى اللهعليه وسلم ) لأهل مكة ، فإنا لا نجبيهم إلى شيء من ذلك ، وقد انتسخت شروط المهادنةفي قول بعضهم .
وقال بعضهم : كل ما جاز لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جازلنا حتى تضع الحرب أوزارها .
وقد مضت أحكام كثيرة لعمر بن الخطاب في بني تغلب .

وإن أحكام الكتمان الضعيفة المثارة من الرأي تأتي على أحكام القرآن الذيجاء من عندالله تعالى وعلى أحكام السنة الماضية التي جاءت من الرسول عليه السلام ،أو قد أتت عليها .

فمن تأمل هذا بحقيقة ، انفتح له كثير من العلم والفقه فيالدين ، حتى لا يحكم بالمعصية إلا على أمهات المعاصي دون البنات ن فكيف بالشركوالكفر والبراءة .

ويؤيد ذلك قوله عليه السلام : (( أنتمفي زمان التارك العشر ما أمر به هالك ، وسيأتي على الناس زمان العامل بعشر ما أمربه ناج)) والله تعالى يلهمنا الرشاد ، ويوفقنا للسداد ، إنه الكريم الجواد . والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين ، وعلى جميع أوليائه أجمعين .


-------------------------------------------------
( 1 ) أعطيناهم وبادلناهم بهدية من عندنا . ( مراجعالطبعة الثانية ) .



باب في أحكام فسقة أهل الإسلام
وغذا ذكرنا أحكام المتدينين فلنذكر أحكام فسقة أهل الإسلام .

واعلم أنالذنوب التي يأتيها العباد على وجهين : ذنب بين العبد وبين ربه ، وذنب بينه وبينالعباد .

فإنا الذنوب التي بينه وبين العباد وهي المظالم ، فعلى ثلاثة أوجه : وجه يلزمهم منه الإثم والغرم والعار والنار ، ووجه يكسبهم العار والنار ولا غرمولا نكال ، ووجه يكسبهم الغرم ولا غير .

فأما الوجه الأول : فهو وجوهالغصوبات كلها من السرق والتعدي في الفسادات كلها في أيام الظهور ، خصوصا منعالزكاة والعشور والصدقات والخموس وشبهها ، فهذه فيها الغرم والإثم .

وأما فيأيام الكتمان فلا جبر ولا قهر .

والوجه الثاني : فأمر لا يحكم به عليهم فيالدنيا ، ويلتزمونه في الآخرة ، ويخرجونه من حسناتهم ، فكذلك الباب الأول ، إن لميستدركوه ولم يصلحوه ما داموه في الدنيا مثل ما يفسد على يديه بتضييع أموال الأغيابأو اليتامى إذا استخلف عليهم ، أو أموال الأجر كلها ، أو أموال السلاطين ، وجميع ماضيع من نفقات من وجبت عليه نفقاته من الأهل والأزواج والبنين والعبيد ومضاربات ،وما غسق بعينه ، أو دل عليه من يأكله أو يفسده ، وتنجية الأنفس كلها من ماله منالجوع والعطش والهلاك والعداة والهبات وكفارات الأيمان والمغلظات وكفارات الظهاروكفارات الدماء ، والنذور وشبه هذا ، فإنه لا يؤخذ بشيء من هذا في الدنيا ، ولاتأدية عليه فيه ، ويؤخذ به في الآخرة إن لم يصلحه بنفسه في الدنيا .

والوجهالثالث : ما يلتزمه من العواقل والنوائب والأحكام الظاهرة ، التي لا تلزمه بينهوبين الله تعالى وتلزمه في الظاهر كالحكومات بالباطل وبشهادة الزور إن عوفي سلم لاذنب ولا إثم وإن ابتلى غرم .

الوجه الأول : إذا ارتفع الخصمان إلينا ، وقدغصب أحدهما مال صاحبه ، أو سرقه أو خانه أو داينه فمنعه ، فإن أقر ألزمناه التأديةإن أثبت عليه البينة ، فإن أبى جبرناه ، فإن امتنع فإن لقاضي المسلمين أن يبسط يدهإلى ماله ، ويقضي منه غريمه شاء أو أبى .

وإن كان الشيء المطلوب قائم العين، وقد غيبه الغاصب أو السارق ، بحيث لا يقدر عليه ، فإن أتلفه حكمنا عليه بالقيمة ،وجبرناه بالسياط إن لم نظفر بماله ، وإن ظفرنا بماله قضينا منه واجب الحق عليه .

وإن كان الشيء المغصوب قائم العين فإنا نخبره بالحبس أو بالضرب ، أو بجميعما يستخرج به منع ، أو نقضي من ماله قيمته لغريمه بغير مؤامرة ولا مشاورة ، فإنامتنع فليس لنا على قتله سبيل ، إلا أن ظهر الشيء ، ومنع مع ذلك ، وإن حكمنابالقيمة عليه ، وأخذها صاحبه ، ثم ظهر الشيء المغصوب ، فصاحبه بالخيار ، إن أرادرجع إلى شيئه ورد القيمة التي أخذ .

ولسنا نأخذ بقول أبي حنيفة : إن الغاصبمخير إن شاء رد الشيء المغصوب ، وإن شاء أمسكه وأعطى القيمة ، فهذه إحدى المظالم.

وإن كان الشيء المغصوب في موضع لا يصل إليه إلا بمؤنة كلفناه جمعه ، وإنظهر العذر منه وبين ذلك الشيء ، كقطاع الطريق ، والخوف من العدو ، أو من يطالبهبظلم ، فنعذره ، وأما غير ذلك فلا .

ومن غصب مالا قيمة له ، كمن غصب ملحا فيوارجلان ، فقدر على الغاصب في بلاد السودان استأديناه الملح أو قيمته هنا في هذاالموضع الذي قدرنا عليه فيه .

وإن كان شيء له مؤنة ، فعلى الغاصب إيصاله إلىالموضع الذي غصبه منه ، وكذلك في الديون التي لها مؤنة ، إذا وقع المنع بعد حكومةالحاكم ، فإنا نستأديه حيثما قدرنا عليه ، وإن لم يقع المنع ، فلا يحكم عليه إلا فيالموضع الذي وقعت فيه المعاملة ، وليس للغريم أن يضعه في غير الموضع .

أماالمغصوبات كلها فالقول قول المغصوب ، حيثما طلبه أخذه ، والعين يأخذه به حيثما طلبهإلا أن يكون معدوما فالقيمة .

وإن غصب له حيوانا ، وأنفق عليه الغاصب ، حتىظهر فيه السمن وارتفعت قيمته ، فليس للغاصب عناؤه ولا مناه ، وذهب ماله وعناؤهخسارة وتعبا ، لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ليسلعرق ظالم عناء)) .
وقال الربيع بن حبيب – رحمه الله وغفر له - : ( يكونان شريكان بمقدار ما أنفق ، وبمقدار قيمة الشيء ) ، وقال : ( إنما الحديث (( لا عناء لعرق ظالم)) في الأصول ) ، وجل الفقهاء على ماأخبرتك.

وأما جميع ما اشتغل من المغصوبات من الثمار التي حدثت عنده ، والغللوالألبان من البهائم ، وسكنى الدور ومثلها ، فهذه كلها نستأديه إياها في الآخرة .

وكل ما أفسد في الأموال إن كان حاضر العين وأراد أن يأخذه ربه ويقفالمغرمون على حقيقة قيمته ، فليس للمغصوب إلا القيمة .

وكذلك إن كان غائبا ،واتفق الغاصب والمغصوب على الصفة ، فليس له إلا تلك القيمة ، ولا يمين بينهما .

وإن لم يتفقا على الصفة واختلفا ، أو خفيت عليهما قيمته في الزمان الذيغصبه فيه ، فليأخذ ما وجد وليلحق الغاصب ما بقي له عليه حق ، واختلف العلماء في أيالقيم له : فقيل : قيمته يوم غصبه . وقيل : يوم ترافعا . وقيل : أغلى القيمتين . وقيل أغلى القيمات .

وأما ما يكال أو يوزن فإننا ندرك عليه كليه أو وزنه ،فإن غصب في الزمان الذي يساوي فيه الصاع دينارا أو ارتفعت الخصومة في الزمان الذييساوي فيه الصاع درهما ، فإنما يحكم الحاكم له بكلية أو وزنه ، لكن القصاص غدا يومالقيامة ، فينبغي للغاصب أن يستحله أو يترضاه .

وكذلك لو غصبه الطعام حتىمات صاحبه ، فليس عليه غير قيمة ذلك الماء في الدنيا ، والقصاص في عدل الآخرة .
وإن غصب حيونا ، فهو ضامن له ولجميع مستغلاته ، والحكام ليس عليهم أن يحكمواإلا بما ظهر .

وأما الألبان والأصواف والانتفاع كله ، فيدرك في الآخرة ، فإنشاء أن يتنصل في الدنيا فعل ، وغلا فليستحلل .
ففيما قدمنا من المغصوبات أربعةشروط : أولها : المؤديات كما ذكرنا ، والثاني : الوعيد الذي حكم الله تعالى به ،والعار في الدنيا ، ومن وراء ذلك النكال على قدر ما قدر عليه المسلمون مما رأوه منذلك .

وأما الزكاة وأمثالها ، ففي أيام الظهور فيجبر عليها ، وأما في أيامالكتمان فيكسب صاحبها العار والنار والإثم فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتعلق بهالفقراء والمساكين في الآخرة ، وأما في الدنيا فلا ، إلا في زمان الظهور لا استعداءولا عداء ، وهذه ترجع إلى الأمور التي لا يحكم عليه بها في الدنيا ، مثل من يصيبالناس بالعين ويفسقهم ، فيصيبهم في الأنفس والأموال التي لا يحكم عليه بها ، فهذهكلها وأمثالها ، يضمنها فيما بينه وبين الله تعالى .

وكذلك الدلالة علىأموال الناس من يسرق أو يغصب أو يخون يلزمه ذلك غدا .
وكذلك ما ضيع من جميع ماعليه من النفقات على الأزواج والسكنى والكسوة ، وتضييع أموال اليتامى والمساكينوالأولاد والعبيد ، فإن هذه كلها ذنوب بينه وبين الله تعالى .

فإن قدرالمسلمون عليه في الدنيا جبروه وما فات ففي رقبته وليس عليه فيها مؤداة إلا الإثموالعار والنار .
وأما الأمور التي يلتزمون فيما بينهم وبين الله كالعواقل ، وذلكأن من قتل أحدا خطأ ، إنما الدية على عاقلته ن إذا حكمتها الحكام .



رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 7 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وإن كانفي زمان الكتمان ، ولم يحكمها الحكام ، فليس عليه منها شيء . وكذلك النوائب التيتجري بين الناس ، فإن طلبت إليها وإلى الأولى ، فهي عليك واجبة .

وكذلكالمؤداة التي تلقيها السلاطين على العامة ن فإن استثنوك منها فليس عليك منها شيء .

وكذلك المغارم والمظالم ، وكذلك المعونات التي تفصلها العامة على أنفسهم ،فإن عفوك فليس عليك منها شيء .
وأما كل ما يجريه الناس كالأسوار والخنادقوالحصون فعليك ، وإن لم يطلبك فلا شيء ، فإذا ذكرنا أحكام الفسقة في الدنيا فلنذكرأحكامهم في الآخرة .

واعلم يا أخي أن الله تعالى جعل للفسقة مخرجا في الدنياما داموا فيها ، وتكفير ذنوبهم مرتبطة بخمسة أشياء : أولها : التوبة ، وهي الترياقالأعظم ، فجعل الله الذنوب أدواء وللأدواء أدوية ، وأدوية الذنوب التوبة ، أن يتوبمن كل ذنب قال الله – عز وجل - : ( وأني غفار لمن تاب وآمن) فقضى بالتكثير في غفار وبالتقليل في تاب .

وقال : ( يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) . والغفور أعظم منالغافر ، والغفار أعظم من الغفور .
وقال : ( غافر الذنب وقابلالتوب) . فوعد كثيرا على قليل وجليلا على صغير بمنه ورأفته ورحمته .
والثاني : الحسنات . قال الله – عز وجل - : ( إن الحسناتيذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) . حدثني يس بن يحيى عن الشيخ : ماكسنرحمه الله – قال : ( ذلك ذكرى للذاكرين : ذلك توبة للتائبين) . وجل القرآن فيه تكفير السيئات بالحسنات كما قال الله تعالى : ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكمونكفر عنكم من سيئاتكم ) .
وإذا تتبعت جل سور القرآن الكبار ، وجدت فيهاالمغفرة بالحسنات .

وقد جعل الله تعالى في أعمال الحسنات ثلاث فضائل : أولها : تضعيف الحسنات ، وثانيها : ارتفاع الدرجات . وثالثها : تكفير السيئات ، ولكن لكلسيئة حسنة تكفرها ، لكن الترياق الأعظم يكفر الكل.

وثالث : المصائب ، قالالله تعالى : ( ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عنكثير) وقال : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعونأولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) فهؤلاء أصابوا أعظم منالمغفرة .

وقال عليه السلام : (( ما من عبد مسلم يصاب فيمصيبة إلا كفر له بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها )) .

والرابع : كفارة الصغائر باجتناب الكبائر ن لقوله تعالى : ( إن تجتنبواكبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) . وقال تعالى : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة) .

وقال : إن رجلا قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا رسول اللهإني معي امرأة ما تركت منها حاجة ولا داجة ( 1 ) إلاآتيتها غير موضع الولد ، فهل لي من توبة ؟ )
فقال له عليه السلام : ( أصليت معنا الصبح ؟ )
قال الرجل : ( نعم ) .
فقال عليهالسلام : (( إن الله غفر لك ذنبك)) حدث به أبو هريرةفسمعه ابن عباس فقال : ( الله أكبر إلا اللمم من الصغائر ، وليس فيما يعصى الله بهصغير ) .

أراد أن مناهي القرآن كبار ، ومناهي السنة هي الصغار ، فقال : ( إلا اللمم من الصغائر ) فجعل فروع الذنوب من الصغائر .

واختلف الناس فيالصغير والكبير فمن ذلك قال : ليس فيما يعصى الله به صغير . ومذهبه الآخر ما قدمنا : أن لكل ذنب معظما فهو كبير وفروعه هي الصغار .

وقال بعضهم : كل ذنب تابمنه العبد فهو صغير ، وما لم يتب منه فهو كبير وهذا لا يلائم الآية ، لابد من صغيروكبير .

والخامس : شفاعة المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) لأهل الذنوب ، فمنخنس منها خنس من فضيلته عليه السلام .

وإن وقعت الشفاعة لمن لم يتب ، فلو لميشفعوا لعذبوا وإن كانوا غير مذنبين لأنهم مسلمون ، فما الحاجة إلى الشفاعة ؟ إنماكانت للملائكة كما قال الله تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمنارتضى ) . وعلى أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله – عز وجل – فماحاجته إلى شفاعتهم ؟
دل قوله : ارتضى ، أنه تحمل عنه ، ولو لم يتحمل عنه لقال : لمن رضيه . وعلى أن جابر بن زيد قال : قال رسول الله عليه السلام : ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) .

ثم قال واللهاعلم بما يروي عن أنس بن مالك أنه قال – قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) . ففيه إثبات الشفاعةلأهل الكبائر وإن كان حديثه مرسلا ، فما يمنع جابر بن زيد أن يأتي أنس بن مالك ،وقد جمعه وإياه عصر واحد ، وسبقه جابر إلى الموت .

وأعظم من هذا كله شفاعةالباريء سبحانه لعباده لقوله – عز وجل - : ( من ذا الذي يشفع عندهإلا بإذنه) .

ومن وراء ذلك أيضا قوله غدا في المحشر لعباده المؤمنين : (( تواهبوا فيما بينكم ، وأما مالي عليكم فقد وهبته لكم )) .

وأخرى : أنالذنب الذي بين العبد وبين ربه يغفره الله تعالى ، وما بين العباد لا يغفر إلابإرضاء الخصوم .

وقول حذيفة بن اليماني لعمر بن الخطاب – رضي الله عنهماحين سأله عن الفتنة فقال حذيفة : ( أما فتنة الرجل في نفسه وماله وأهله ، تكفرهاالصلاة والصيام والصدقة وصلة الرحم ) .
فقال عمر : ( لست عن هذه أسألك إلا عنالتي تموج موج البحر ) .
فقال حذيفة : ( إن بينك وبينها بابا مقفلا ) .
فقالعمر : ( أيسد أم يهد ؟ )
فقال : ( بل يهد )
فقال عمر : ( إذا لا يسد إلى يومالقيامة )
فقيل لحذيفة : ( أفهم عنك عمر ما أردت ؟ )
فقال : ( أي والذي نفسيبيده كما أن دون غد ليله ، وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط )

ومن وراءذلك كله قول الله – عز وجل - : ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلابسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون . وإذا صرفتأبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . ونادى أصحابالأعراف رجال يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاءالذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) .

وجل الفقهاء يقولون : إن هؤلاء قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ،وقال ذلك ضمام بن السائب – رضي الله عنه - ، وقال : ( هم قوم معجبون بأنفسهم ) .

ولنشرح الآن معنى التوبة وطبقات التائبين :
اعلم أن الله تعالى بعثمحمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بجوامع الكلم فقال عليه السلام : (( الندم توبة)) لعلمه أن لابد للندامة من باعث ، والباعث هو معرفةشؤم الذنوب ، فإذا تقرر في القلب الإيمان بشؤم الذنوب ، وانبعثت الندامة لا محالة ،وإذا حصلت الندامة انبعث الإهتبال بما يعني ويغني ، لأن حقيقة المعرفة بشؤم الذنوب، تكسبه العلم بما فاته من النعيم المقيم ، وبما ارتطم به من عذاب الجحيم .

فهنالك الحرقة في فؤاده ، تبعث الندامة في قلبه .

فهناك يشتغل بمايعينه ويهتبل بما يغنيه ، عادة الله التي قد خلت إن لكل شيء سابقا يقتضيه ولاحقايتبعه .
فثمرة الندامة : العمل بالطاعة وتنكيب المعصية بما فتح الله للعبد فيها .

------------------------------------
(1) لا حاجة ولا داجة بالتخفيف : الكبيرة والصغيرة . ( مراجع الطبعةالثانية ) .








باب طبقات التائبين
الأولى من الطبقات : فاسق لم يترك لله حرمة إلا انتهكها ، ولا معصية إلا أتاها ،من سفك الدماء المحرمة ، وأكل أموال الناس ظلما ، والربا ، والفحش ، والزنا ، وشربالخمر فما دونها .

ثم إن الله تعالى من عليه بالتوبة ، فانخلع على ما كانعليه من المعصية ، ورجع إلى الطاعة وإصلاح جميع ما سفك وأفسد وأكل بالقوة ، وتأديةالأموال ، وأعقب بعد الغفلة ذكرا ، وبعد الكفر شكرا ، وبعد الفساد صلاحا وبعدالهلاك نجاحا حتى الموت ، فهذا قد انسلخ من اسم الفسوق والكفر إلى الإيمان والشكر ،وجاهد غب الله حق جهاده بنفسه وماله لإصلاح حاله ومآله .

الثانية : من فقدأصحاب الجنايات والحقوق وأرباب الأموال بعد إصلاح ما أصلح ، فهذا ينفق على المساكينجميع ما عليه من ذلك من الأموال والديات والحقوق ، فيحيل أصحاب تلك الأموال علىالمساكين غدا يوم القيامة ، كاللقطة من الأموال تنفق على الفقراء لأربابها .

الطبقة الثالثة : الناسي لما عليه من تبعات العباد وحقوقهم ، فإن علم اللهتعالى منه النية والاجتهاد ، جعل أجور ما تصدق به في الدنيا لأرباب الحقوق وأحولهمعليها ، لأن الله تعالى قال في كتابه حكاية عن أوليائه : ( ( ربنالا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .

فإن كانت له حسنات أخذوا منها ،وإن لم تكن له حسنات تحملها عنه مولاه ، وأدخله الباريء سبحانه الجنة بإيمانهوتوحيده لربه وحسن نيته .

الطبقة الرابعة : المعسر الذي لا مال له ، فإن هذايتحمل الله عنه جميع ما عليه من تباعات العباد وحقوقهم ، ويترضى الله تعالى عنهجميع أهل الحقوق ، بغرف يظهرها لهم في الجنة . ويقول : (( من تركلأخيه مظلمة كانت له عنده في الدنيا ، فهذه الغرفة له ، كما يجري لداود عليه السلاممع أوريا)) والحديث معروف . ينبغي لهذا أن يكثر من ذكر الله تعالى فيالدنيا وتكون له حسنات كثيرة ، فترضى بها الخصوم ، ويحسن إلى الناس ما استطاع ، فإنالله لا يضيع أجر من أحسن عملا ورضي له قولا .

الطبقة الخامسة : من ابتلىبما ذكرنا ، وأصلح ما قدر عليه ، ابتغاء رضوان الله تعالى وسلامته ، وكتب وصيته بمابقى عليه من تباعات العباد وحقوقهم ن واستخلف عليها الأولياء والأتقياء فأنفذوهابعده كما يجب وينبغي ، فهذا بحمد الله سالم في الدنيا والآخرة .

الطبقةالسادسة : من امتثل ما ذكرنا من وصيته واستخلف عليها أمناءه ، ثم أنهم أضاعوهاوفرطوا فيها ، أو أكلوها وأتلفوها ، فهذا قد أخبرنا الله عنه أنه بريء الذمة سالمالجنية بقوله – عز وجل - : ( فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه علىالذين يبدلونه إن الله سميع عليم ) .
ولا يتوجه قوله : ( إن الله سميع عليم) إلا على المبدلين لا إلى الموصي المجتهد . وكذلك قوله : ( فإنما ... الخ ) من حروف الحصر عند أهل اللسان .

الطبقةالسابعة : من اجتهد وعلم الله تعالى منه النية الخالصة وكتب وصيته ووضعها عند رأسه، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( ما يحق لامرئ يؤمنبالله واليوم الآخر أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)) . فعلىالناس امتثال ما أصابوه مكتوبا عند رأسه ، فلو لم يكن هذا نافعا لما نوه رسول اللهعليه السلام به ، ودل عليه ، وأوجبه عليه .

الطبقة الثامنة : إذا سلم منتباعات العباد وتخلص منها ، ولم تكن له ذنوب إلا التي بينه وبين الله تعالى ، فهذاينفعه مجرد التوبة ، وما عمل من الحسنات ، ووجوه التكفيرات ، والمصائب ، ودعاءالصالحين ، وشفاعة الصالحين . وروي عن أويس القرني أنه يدخل الجنة بشفاعته مثلربيعة ومضر .

الطبقة التاسعة : المتمادي في المعصية ن ومن نيته التوبة يوماما من الجهر ، وفي ديانته أن الله تعالى لا يغفر الذنوب إلا بالتوبة ، فغافصه الأمر، كعدو نزل به فقاتل حتى قتل ، أو داهمه العدو ، ولم يستطع سبيلا إلى التنصل مماعليه ولا إلى الوصية .

فهذا إن لم يكن الأمر الذي نزل به عقوبة من الله ،وإلا فيرجى له ، فهذه حالة أولاد يعقوب عليهم السلام لكنهم لم يفاجأوا ، وعسى أنيكون القتل لهذا كفارة ، كما قال الحسن بن علي : ( بلغني أن القتل كفارة ) .

وأما غريق أو حريق أو لسع أو هدم أو مثل هذه الأمور ، فإنه يخشى عليه ،على أن في هذه الأمور كفارة .

واللسع شهادة والسليم شهادة ، والمرأة تموتبجنين شهادة ، وكذلك صاحب السل والمبطون والغريق وصاحب الهدم .
الطبقة العاشرة : المصر . والفرق بين المصر والمتمادي : أن المصر من نيته أن يلقى الله تعالىبالمعصية ، والمتمادي من نيته الانفكاك منها يوما ما ، كما قال أخوة يوسف عليهالسلام : ( اقتلوا يوسف أو طرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوامن بعده قوما صالحين) فالمتمادي سيتوب يوما ما ، والمصر من الهالكين . وهاهنا اختلفنا مع المرجئة ، فرجوا له الجنة مع مناصبته الله تعالى بالفجور .

الطبقة الحادية عشر : صاحب بدعة يدعوا إليها ، ويعتقد أنه حق عند اللهتعالى ، وأنها دين الله يدان به ، ويقطع به عذر من خالفه عليها ، أو هدم قاعدة منقواعد الشرع ، فمهما انخرم من هذه الشروط شيء فعاد ، فهذا لا مطمع فيه ، ولا المصرالذي قبله ، فمها من أهل النار .

واعلم أن المبتدع إذا رأى وزعم أنه حق عندالله ، ولم يره دينا ، ولا قطع عليه عذر من خالفه ، فهذا محمول عنه عادة لا يحكمعليه ببدعته .

وليس في أن قال حق عند الله ما يوجب له البدعة ، لأن الأقاويلالمختلفة قد أطلق بعض عليها أنها حق عند الله . وهو قول القائل : ( إن كل مجتهدمصيب ) .

وقوله حق عند الله ، وخلافه حق عند الله ، بشرط أن يكون في الموضعالذي يجوز لهم فيه الرأي ، ولم يقطع المسلمون عذرهم في ذلك ، ألا ترى أن المشايخقالوا أول مرة أن من قال : ريح المروحة خلقه لا خلق الله ، أنه إن قاله برأي فالرأيعجز ، وإن قاله بدين هلك .

وكذلك إن قطع عذر أحد من المسلمين فيما أوسع اللهعليهم العذر فيه ، وأما من رأى خلافهم ، فلم يقطع عذرهم فواسع له ، والعلم والجاهلفي هذا سواء ، فأيهم قطع العذر أولا ، فهو المقطوع العذر.

ولا يحل لعالم أنيقطع عذر من عجز علمه عما أدركه هو ، ولا الجاهل أن يقطع عذر العالم فيما يعلمهدونه .
فمن الأشياء التي هي خطأ عند الله من زعم أن ريح المروحة خلقه دون اللهتعالى ، لكنه محمول عند من لم يبلغ علمه وجه الحق فيه عند الله ، لكنه اقتصر علىرأيه فيه ، وهو من الخطأ الذي عفا الله عنه لهذه الأمة حيث قالوا : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) .

وغلى هذا أشارجابر بن زيد – رحمه الله – في القول فيما لا يسع جهله . والاختلاف فيه قد أوجبه بعضالفقهاء : معرفة آدم صلوات الله عليه ، وأنه من الأنبياء ، وأنه أول المرسلين ،وهذه المسائل الثلاث مبنية على الرأي ، وليس فيها في الكتاب نص ولا في السنة أثر ،فإن كان فمستخرج .

وأما التسمية فإنما اقتبس الناس معرفتها من القرآنوالتواتر ، من غير أن ينص في القرآن أن علينا معرفته وأنه أبونا ونحن ذريته ، لكنهأخبرنا عما أخبرنا عن كثير من أخبار بني إسرائيل والأمم الماضية ، وليس في ذلك مايوجب علينا معرفته .

وأما نبوته ورسالته ، فليس في القرآن ما يدل عليهما نصاولا استخراجا ، إلا أن يكون من محاورة الله تعالى لأبينا آدم – اقتبسوا ذلك حيثيقول : ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا منها رغدا حيث شئتماولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) .

وقد جاءت محاورة الربلإبليس مشابهة بمحاورته لأبينا آدم صلوات الله على نبينا وعليه لقوله : ( يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ) ولقوله : ( ما منعك أن تسجد) وأمثاله ، ولكن المسلمين قد أثبتوا نبوة أبينا آدم ورسالته ، ولن يختلفوافيهما ولن تجتمع أمة أحمد على ضلال ، ولهذا قال بعض العلماء : ليس علينا من معرفةالاسم والنبوة والرسالة شيء ، فمن جهل من هذه المعاني الثلاثة التي ذكرنا شيئا ،فهو مشرك عند هؤلاء وسالم عند هؤلاء .

وأما هؤلاء المختلفون ربما يسعهم هذا، ولكن عند الأحكام يظن الجاهل لمن شركه براءته وقتله وسباه وغنم ماله أم لا .
فإن ساغ هذا لمن ذكرناه فما حال من أوسعه عذرا ؟ هل له أن يحرم براءته وقتالهوسباه وغنيمة ماله أم لا ؟ فإن كان له ذلك ، فقد وقع التشابط الذي قاله علي بن أبيطالب ، واحتاج الناس إلى تصويب الفريقين أو تخطئتهما . وأن أجزت لواحد أحكامه ،ومنعت الآخر ، كان ما قال الأول أصوب مما قال الآخر ، فقد وقع التحظير في المختلففيه . وقد قال الشيخ أبو خزر : ( لم يبلغنا في شيء من العلم أن البراءة تجب بالرأي ) .

ومن تحرى أن يسبي ويغنم من علم جميع مالا يسع ، فسباه وغنمه على جهلهلأبينا آدم وجهله لنبوته ورسالته ، فقد تجرأ وأوعد عليه مع هذا النار .

وكذلك جهله جبريل عليه السلام أنه من الملائكة ومعرفة الملل وأحكامهاوتحريم دماء المسلمين .

وكذلك من قصر علمه أن يثبت الشرك لجاهل محمد عليهالسلام ، وجعل معرفته فرضا لا يبلغ جاهلها الشرك .

وأما الذين قالوا بتشريكالجبابرة والطائعين لهم من الجنود ، وتشريك كل من أتى معصية الله تعالى ، فليسعلينا منه شيء حتى يشرعه دينا ويقطع عذر من خالفه عليه ، أو يخالف إلى الأفعال التييصادم فيها القرآن والسنة .

ولهذا قالت المشايخ في نافع بن الأزرق حين أظهرتشريك الجبابرة : دعوه حتى تروا ما يحدث من الأحكام ، وإن لم يتجاوز قوله ذلك إلىالأفعال فخطأ محمول عنه وخطؤه لم يتجاوز اللغة ، والرب تعالى قد عفا عن هذه الأمةخطأها ونسيانها ، وما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم ، فلما أحدث من الأحكام ما خرق بهالإجماع ، ورد فيها السنن القائمة ، قطعوا عذره وألحقوه بالمتدينين .

وعلىهذا المعنى عول أصحابنا من أهل عمان ، الذين لم يقولوا بخلق القرآن ، فإذا لميعتقدوه دينا ولم يقطعوا عليه عذر أحد من المسلمين الذين خالفوهم عليه ، فلا بأسعليهم بذلك ، وذلك خطأ محمول عنهم .

وكذلك القول له الرضى والسخط والحبوالبغض ، والولاية والعداوة ، واعتقادنا أن هذه المعاني صفات الباريء سبحانه ،واعتقادهم أنها أفعال ، فكل له معنى ، غير أن علمهم قصر عن أن يبلغ الغاية القصوى ،فنظروا نظر الخفافيش .

وقد روي مذهبهم هذا عن محمد بن محجوب ، وإليه يدعواأهل الهند أيام كان بالهند ، فمن ذهب به مذهب الأفعال خلافا لمن ذهب به مذهب الصفات، ولكل معتقده ما لم يبغ بعضهم على بعض ، والباري أظلم والتالي أسلم .


بيان مسائل ما بيننا وبين المرجئة في الإيمان والكفر ...الخ
فصل(1)
مسائل ما بيننا وبين المرجئة ، في الإيمانوالكفر ، والمؤمنين والكافرين ، والإسلام والنفاق ، والمسلمين والمنافقين .
اعلمأن قولنا في الإيمان : إنه جميع ما أمر الله به من قول واعتقاد وفعل ، والكفر هوجميع ما توعد الله تعالى عليه النار ، فمن أتى كبيرة عندنا فهو كافر .

وأماقول المرجئة فهو إن الإيمان في الضمير واللسان ، ولا يسمى شيء من أفعال الجوارحإيمانا ، وقولنا أيضا : إن النفاق في الأفعال . وقالوا : إن النفاق في الضمير لاغير ، فالمؤمن : الموفي عندنا ، والمؤمن : الموحد عندهم .

واعلم أن اسمالمؤمن قد ورد في القرآن على وجهين ، ورد على التسمية لمن ادعى الإيمان وانتحله ،وورد على التحقيق بالقول والفعل وله الجزاء في الآخرة غدا .

فأما المؤمن علىالمجاز والانتحال ، فقول الله – عز وجل - : ( ومن يقتل مؤمنامتعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) . وقد دخل في هذا الاسم كل من انتحل اسمالإيمان وأقر بالشهادتين .

وقال أيضا : ( وما كان لمؤمن أنيقتل مؤمنا إلا خطأ) . فقد وقع هذا المؤمن على جميع من أقر بالشهادتينبدليل الأحكام ، أن من قتل مؤمنا متعمدا قتل به ، وإن كان أفسق الفاسقين ، على أنالله تعالى قال : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لايستوون ) .. يريد في الجزاء والمثوبة غدا .

ومن قتل مؤمنا خطأ ولوكان فاسقا فالدية لا محاله ، ومن تعمد قتله فهو في النار خالدا . وقال الله – عزوجل - : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) . فهذا على الانتحال والتسمية.

وأما المؤمن الحقيقي الذي له الجزاء عند اللهتعالى في الآخرة فالمقر بالشهادتين والعمل بالأركان ، أعني أركان الإسلام ، علىاجتناب أركان المعاصي . قال الله تعالى : ( إنما المؤمنين الذينإذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ،الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا) وغيرهمالمؤمنون باطلا .

والكفر نقيض الإيمان ، والإيمان قول وعمل ، والكفر قولوعمل . بدليل قول الله – عز وجل - : ( ولله على الناس حج البيت مناستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) . ومن لا يحج فإنالله تعالى غني عنه ، ومن أقر وأبى أن يحج فما فائدته وهو مستطيع . ولهذا قال رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ماقدرتم عليه ، ولو لم تفعلوا إذا لكفرتم)) .
وقوله عليه السلام : (( من لم يحج حجة الإسلام فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا )) وقال : (( ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة )) . وقال : (( من ترك الصلاة كفر )) . وقال عليه السلام : (( سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر )) . وقال : (( الرشا في الحكمكفر )) . وقال عليه السلام : (( من أتى امرأة في دبرها أو حائضا كفر )) .

واعلم أن من ضاق ذرعا بمذهبنا هذا أو توقف دونه ، فإنه يسعه ذلك على الشروطالتي قدمنا ، بأن لا يقطع عذر أحد من المسلمين في خلاف قوله ، ولا يعتقده دينا يدانالله به ، ولا يغير من الأحكام شيئا البتة ، فهذا واسع له ، وقليل ما هم ، وإنمارجعوا إلى تحسين مذاهبهم واعتقادهم أنها دين يدان الله تعالى بها وقطعوا عذر منخالفهم ، هؤلاء المختلفون ، فبهذا قطعنا عذرهم ويوسعنا ذلك فيهم .


رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 8 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وكذلكالشبهة في تخلفهم عن مذهبنا واعتقادنا في إلهنا ، فواسع لهم ما لم يحدثوا أحكامايخرقون فيها الإجماع ، أو يرجعون صرحا إلى المعنى المكروه في الإله العظيم ، الذييشبهون الله تعالى بخلقه .
فإن فعلوا فمآلهم إلى الشرك ، وأن تذبذبوا جهلاعذرناهم ، وإن كان عن بصيرة قطعنا عذرهم ، ولم نخرجهم من الملة حتى يصرحوا بالمعنىالمكروه .

وقد قطع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثلاث فرق أنهم أهلبدعة ، وأنهم أهل النار : وهم القدرية والمرجئة والمارقة .

وقطع المسلمونأيضا عذر ثلاث فرق ، لم ينص عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم : المجسمةوالشيعة وأصحاب الفتنة ، وانقسمت هذه الفرق الست على فرق كلها إلى النار تزيد علىالسبعين ، كما حكم رسول الله عليه السلام فيهم ، في أصناف البدعة وتفاوتهم فيها .

اعلم أن أصناف المبتدعين : أولهم من ابتدع في دين الله غير دين الإسلامورآه دينا ، واعتقده أنه حق عند الله تعالى ، وقطع عذر من خالفه ، فهذا هو المبتدعالذي قضينا عليه بالنار والخلود فيها ، ولا مطمع له في التوبة ما دام على مذهبهمعتقدا ، ولا تكفر عنه سيئة بحسنة يعملها ، ولا بمصيبة يحتسبها ، ولا بشفاعةالمصطفى ، ولا بمجاورة الله المتعالي إلا إن رجع عن مذهبه واعتقاده ، إذ ليس منالحكمة المجاوزة عن من ناصب وأصر .

ويسوء اعتقاد الأمة بينهم البين انطبقواعلى المبتدع ، ألا يغفر لهم انتصارا لمذهبهم على مسامحة بعضهم لأهل الكبائر العظام، وطمعوا لهم في الغفران مع الإصرار .

الثاني : من سمع منه هذه البدعة ،ورضيها وقبلها ، وسلك سبيل صاحبها الذي ابتدعها ، ونصبها دينا قيما حنيفا ، مثلصاحبها الذي اخترقها أول مرة ، فهو بمثابة صاحبها وعلى أسلوبه .
وفي مثلهم قالالله – عز وجل - : ( قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتممؤمنين) . ولم يقتلوهم ، ولكن هم رضوا بفعل آبائهم وقلدوهم .

والثالث : من سمع منه البدعة وعلم أنها من مذهبه واعتقاده ، ولم يكنمستبصرا مثل الأولين ، ولم يعلم صوابه من خطئه ، ولا خطأه من صوابه ، ولم يتخذهدينا ، ولم يقطع عذر من خالفه ، ولا عذر من خالف صاحبه . ولو قيل هذا المذهب رأياولم يعتقده دينا ، ما لم يكن ما ذكرنا من الشروط ، ولا حملة على فعل يخالف دينالإسلام . فإن سلم هذا ، فبفضله وبرحمته ، وإن هلك فبعدل الله تعالى .

الرابع : من بلغته هذه البدعة ، ولم يعتقد في هذا حقا ولا باطلا ، ولميقبلها ولم يردها ، ولم يرضها ولم يسخطها ، ولم ينتصر لها بقول أو فعل ، وهذا ربمايسلم وقليل ما هم .

والخامس : من لم تبلغه البدعة ، ولم يبلغه إلا شرائعالإسلام ، من الصلاة والصوم والزكاة والحج بعد توحيد الله تعالى ، ولكنه يواليإمامه ويقدمه في الدين ، وربما لم يبلغه اختلاف الأمة ولا الفرق ، كأصحاب الثغوروالرباطات فالله أعلم بهذا ، أو هو أقرب من الذين قبله .

السادس : من جهلالاختلاف في هذه الأمة ولم يسمعه ، ولو سمعه ما فهمه ، وهو في غفلة كالعيال والبلهوأهل البلد . فالله أعلم بهؤلاء . وقد قال الله تعالى : ( لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت) .

والكسب سهل والاكتساب صعب ، وقد بعث رسولالله ( صلى الله عليه وسلم ) بالحنيفية السمحة السهلة ، ولم يبعث بالرهبانيةالمبتدعة .

وروي عن لواب بن سلام ، فيمن وقع في خواطره تشبيه الباريء سبحانه : أنه لا يضره ذلك ، ما لم يتخذه دينا ، ويقسم أن الله تعالى كذلك كان . وقد قالتالمشايخ في المنقول : إ، قاله بدين هلك ، وإن قاله برأي عجز ، لأن الرأي عجز .

على أنهم قالوا في حديث نافع بن الأزرق وحديث ريح المروحة حديث القدرية : إن قالوه بدين هلكوا وإن قالوه برأي فالرأي عجز .


------------------------------------
(1) كلمة فصل غير موجودة في الطبعة البارونية أضفتها . ( مراجع الطبعةالثانية ) .







في الدعاء والمسألة من الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلمتسليما

والذي كتبت يا أخي من أمر مسألة الدعاء إلى اللهعز وجل – أعامة أم خاصة ؟

قوله تعالى : ( ادعونياستجب لكم ) . وقوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذادعان ) . وقوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخيفة ) . وقوله تعالى : ( وادعوه خوفاوطمعا ) .

وسألت يا أخي عن هذه الأدعية : إن كانت عامة لجميع الناسفتجب إجابة الكافر إذا دعا وإن كانت خاصة فلم ؟ إلى آخر الفصل .

اعلم يا أخيأن ظاهر هذه العموم وهي في ذواتها خصوص واعلم أنه لا يتعرف المراد والغرض من مثلهذه الأشياء لمن لم يحكم ثلاثة أشياء :
أولها : لسانالعرب وهي لغتهم ، وهم الحجة فيها .
والثاني : ما يقتضيهاللسان من المعاني .
والثالث : ما آذن الشرع فيه منالمعاني وهو الفقه . فاللسان مذانب ، والمعاني أدوية والفقه رياض .

فمن لميحكم هذه الثلاثة الأصول اختل علمه وعزب حلمه ، وقال الله تعالى : ( ادعوني استجب لكم) . في أخواتها من الآي عموما في الظاهر خصوصافي الباطن .

ولابد من شرح هذه الأمور . أولها : الدعاء ومحصوله ، ثم الداعيومحصوله ، ثم المدعو ومحصوله .
أما الدعاء في لغة العرب فعلى ثلاثة أنحاء :
أولها صيغة اللسان : ( اللهم اغفر لنا ) ، ( اللهم ارحمنا وتب علينا ) ، فقولك : ( اللهم ) فنداء ودعاء . وقولك : ( اغفر لنا وارحمنا ) فسؤال وطلب . وروي عن رسولالله ( صلى الله عليه وسلم كان يتعجب من قول أمية بن أبي الصلت في عبد الله بنجدعان يقول :
·
كفاني من تعرضك الثناء *

فذهب رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) أن من أثنى على الله تعالى فقد تعرض لطلبه وسؤاله ، وإن لم يأت بضيغة الدعاءوالطلب .

وأما الفعل الماضي فكثير كما تقول : ( غفر الله لك ورضي عنك ) . فهذا وجه مقطوع بع وهو الحقيقة .

والوجه الثاني : ما يقوم مقام الدعاءوالطلب من الحركات والإشارات من الإيماء بالرأس والإشارة بالإصبع ومد اليدين ،ولهذا روي عن رسول الله عليه السلام : (( ترفع الأيدي في سبعةمواطن)) .

وأما الإشارة بالأصابع ، فما روي عن ابن عباس أنه قاللرجل يدعو الله – عز وجل- وشخص ببصره إلى السماء ، فقال له ابن عباس : ( ليس الدعاءكذلك ، ولكن أن تبسط اليسرى ، وتقبض اليمنى ، وتشير بإصبعك المسبحة ) فهذه الصفةعند العرب دعاء وسؤال وطلب .

ولا تنس نصيبك من الصلاة وما سميت الصلاة صلاةإلا أنها دعاء وسؤال ، فاختلف الناس فيها . فقال بعضهم : هي كلها صلاة ودعاء وجميعما يعمل فيها . وقال بعضهم : إنما الصلاة منها ما تعرضت به إلى طلب الباريء سبحانهودعائه ، وما وراء ذلك تبع لها .

وقال الأعشى ميمون بن قيس :

تقولبنتي وقد قربت مرتجلا = يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
واستشفت من سراة الحي ذاشرف = فقد عصاها أبوها والذي شفعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي = نوما فإن لجنبالمرء مضجعا


وقال أيضا :

وصهباءطاف يهوديها = فصلىعلى دنها وارتشم


غير أن ما ذكرناه من الحركات والإشارات دعاء وصلاة عند العرب لكنها ماقدمنا .

والوجه الثلث : أن يكون جميع ما يتقرب به العبد إلى الباريء سبحانهمن طاعته دعاء سؤال ، لأنه يسأل بذلك الجنة والقربة من الباريء سبحانه ويطلب منهالأجر ، ولذلك ترى السودان يسجدون لسادتهم وملوكهم ، وهذا الوجه طارئ على اللغة منجهة الشرعيين استخراجا من المعنى ، وللطارئ حكمه . فهذه فصول الدعاء من الأوجهالثلاثة .



ذكر صفة الداعي والمدعو والإجابة
وأما صفة الداعي ومحصوله فعلى ثلاثة أوجه :
أولها : أن يكونطالبا راغبا ، لأن صفة الدعاء وصفة الأمر واحدة ، وإنما يفترقان في صفة المتكلم . فإن كان الخطاب ممن فوقك ، كان أمرا . وإن كان ممن دونك ، كان طلبا وسؤالاودعاء . ألا ترى إلى الله تعالى يقول : ( اتقوا الله وأطيعون ياأولى الألباب ) فبإجماع أمر .
وقولك : ( ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) فبإجماع دعاء وسؤال .

والثاني : يتأدب في طلبه وسؤاله مع الباري سبحانهولا يكون كالعجوز التيقالت : رب أعطني وإلا تفعل فمالك هاهنا عجوز تتضرع .

الثالث : ألا يطلب من أمور إلا ما أذن له الشرع ، وإن طلب ودعا وعصى فما هو بداعولا بطالب.

ولا يطلب المحال ، فمن فعل فما دعا ، لأن جميع ما يتعلقبالمحال فليس بدعاء ولا يجوز ذلك . مثل من يدعو : أن يجعله الرب إلها ، وأن يجعلالجسم عرضا والعرض جسما والأكثر أقل من الأقل ، والأقل أكثر من الأكثر ، في أمثالهذه مما يتعلق بالمحال . وأن يفعل له ما أخبره الباري سبحانه : أنه لا يكون كالكافرأن يجعله من أهل الجنة ، أو أحد من أهل الجنة أن يجعله من أهل النار ، أو أن يعافيهمن التكليف ، أو يجعل التكليف في الأطفال والمجانين ، أو أن يكون نبيا ، أو شبه هذا . فكل ما تعلق من ذلك فهو محال .

وأما صفة المدعو ومحصوله : أن يدعو ويسألما يليق به ، مما هو ظاهر الحاجة إليه ، كالجنة والإسلام والإيمان والسلامةوالعافية والخلاص من النار في مثل هذا من غير شرط وهو على ثلاثة أوجه : هذا هو مثلالأول .

والثاني : إذا كان الشيء المدعو منهما أن يشترط الأصلح . اللهمارزقني من المال ما يصلح لي ومن الولد ما ينفعني ، واحيني إذا كانت الحياة خيرا ليوأمتني إذا كان الموت خيرا لي ، في مثل هذا .

والثالث : الدعاء بجميع مافعله الباري سبحانه أن يفعله ، كالذي يدعو ويقول : اللهم اجعل السموات سبعا ،والأرضين سبها ، والجبال شدادا ، والعقلاء مكلفين ، والأطفال معفوين ، والماءمبلولا ، والهواء رخوا ، والنار محرقة ، والثلج باردا ، في مثل هذا فهذا الباب ممالا يعني ، وشبه له وهو دونه من جعل عمره في لعنة إبليس وأن يخلده في النار ، وأنيجير أهل النار من النار وأن يضيق عليهم أنفاسهم وأن يديم إتعاسهم ، غفل عن نفسهوندم يوم القيامة لم يطلب جنة ولا هربا من النار .

صفةالاستجابة على ثلاثة أوجه :
الأول : أن يعطيه الباري سبحانه ما سأل ،وطلب على إدلاله كما سأل ، كان ذلك محمود العاقبة أو مذمومها ، على ما يتعارف الناسأنه قد أجيبت ، كما قال الله – عز وجل - : ( قد أجيبت دعوتكمافاستقيما ) وكما قال تعالى : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) وهذه بين محمدعليه السلام وأبي جهل لعنه الله فدعوا فاستجيب لها فهذه هي الإجابة المعقولة .

والثاني : أن يصرف الله تعالى الإجابة إلى الأصلح له ، ويجعلها له مكانعود (1) ، كالذي يسأل الله تعالى أن يدفع له من المال ألفدينار ، وقد علم الله سبحانه وتعالى أن يموت تلك الليلة ، فإن أعطاه كانت عقوبةللداعي لا فائدة ، وإن صرفه الباري إلى أجر يدخره له كانت أفضل ، أو يمن عليه تلكالليلة بفعله تساوي ألف دينار ينال أجرها في الميعاد كان أفضل .

وأكثر دعاءالصالحين منصرف إلى هذه الجهة ، وقد جرى علينا في طريق ..الخ . ما فيه معتبر لمنيتذكر ، وذلك أنا عللنا وجعلنا وعطشنا ، فقلت لهم : ( هلموا ندعوا الله – عز وجلأن يهيئ لنا الماء ) فما استتممنا دعاءنا حتى طلعت علينا سحابة ، فاستدارت فوقرؤوسنا ، فأبرقت وأرعدت ، ثم صرفها الله تعالى ، فتعدت البحر إلى الجانب الغربي ،فكاد أصحابي أن ينسوا ، فصبرتهم ووعظتهم ، وذكرت لهم حديث الشيخ أبي زكريا يحيى بنأبي بكر – رحمه الله – التي جرت للعزابة في المسجد الكبير في جربة وأظنك تعرفه ،فتصبرنا وسرنا مع البحر أربعة أيام ، وانتهينا إلى رأس أيله ، ثم رجعنا مع البحرإلى الجانب الغربي مسيرة ثلاثة أيام ، ووصلنا مستنقع سحابتنا وقد عطشنا أكثر من أولمرة ، فأغاثنا الله بمائها .

وربما يعلم منه الباري سبحانه لو أعطاه ألفدينار لضن به ودفنه حتى يموت لا ينتفع به ، أو يدخره لولده ، فربما يعطيه سبحانهلولده من بعده ، ويقوله : يا عبدي قضيت حاجتك إنما تريد لولدك قد أعطيت الألف لولدك . وهذا الفن كثير .
والثالث : كما روي لك عن أبي عمر وقد روي في الإسرائيلياتأنه قال الله – عز وجل – لموسى عليه السلام : (( قل لظلمة بني إسرائيل ألا يدعوني ،فإني قد جعلت على نفسي أن أجيب من دعاني ، وإن دعاني منهم أحد أن أجيبه باللعنة )) وعموم هذه الآيات قد خصها الشرع كما قدمنا ، وخصها العقل ، وذلك غير مستنكر منالقرآن .

وأما قول الله تعالى : ( وأضله الله على علم) معناه : وأضله على بيان أي ليس في ضلالته ولا لبس.

وقوله : ( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا) بعض المفسرين يذهب إلى أن الذكرهو الرسول ، يعني أنزل إليكم ما يذكركم وهو الرسول .

وبعض يذهب إلى ما فيهذكر تذكرة لكم ومعتبر ، وهو الرسالة . والكل قريب .

وأما الحروف الخمسةالمعجمة إذا لم يعجمها القارئ في صلاته ، فإن كان القارئ أعجميا فإنه محمول عنه مالم يتعمد ، وقد ذكر عن رسول الله عليه السلام أنه اشتكى إلى جبريل عليه السلام أنفي أمته العجمي والشيخ الفاني ومن لا يحسن القراءة .

وفي بعض الروايات : أنهقال : ((اقرأه على حرف فما زال يستزيده )) . فقال : (( اقرأه علىسبعة أحرف ، كلها شاف كاف )) .
وفي رواية أخرى : (( أن الملك قال له : اقرأه علىحرف ، فأمره جبريل أن يستزيده إلى سبعة أحرف )) .
وفي رواية أخرى : (( أن جبريلقال له : كل ذلك محمول عن أمتك فمن قرأه بخلاف ما هو به أصلحه الملك)) ،لمن تعمد اللحن في صلاته ، فإن كان يخرجه إلى خلاف القرآن انتقضت صلاته ، وإن كانلا يخرجه إلى خلاف القرآن انتقض أجره ، وهذا في المتعمد ، وأما غير المتعمد فقدتقدم ذكره .

وأما قولك : ( إنكم في زمان التارك فيه لعشر ما أمر به هالك ،وسيأتي على الناس زمان العامل فيه بعشر ما أمر به ناج ) فالرواية صحيحة عن الرسولعليه السلام .

فالظاهر من الرواية أن من كان في زمان النبي عليه السلاموظهور الدين ، كان عليه إقامة أمهات الطاعة كما أمر في ذلك الزمان وربما يشق عليهما يتخلف عنه من شذوذ الدين فلذلك شدد عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأما قوله في المتأخرين فظاهر ، لأن الله – عز وجل – أسقط عنهم كثيرا منالأحكام التي تتعلق بالظهور من الجمع والجهاد والحدود والأحكام ، فالذي يخص الواحدفي نفسه هو الملتزم ، وربما يعذر الرب سبحانه كثيرا من خلقه بالتقية التي ظهرت فيزماننا .

وإن كان في علم الله سبحانه ما يسقطه ويعذرهم فيه عن أهل آخرالزمان ، فغير مستنكر ، ولهذا شرح يطول ، وليس فيه ما ينقص ديننا ولا مذهبنا .

والإيمان عندنا : جميع ما أمر به الباري سبحانه ، ولو رجع أكثر أصلالفرائض نوافل فما ذاك مما ينقص أصلها ، والطاعة كلها إيمان .

فلو كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نسخ بعض الفرائض لكان جائزا ، وبقيت مع ذلك من الإيمان ،ليس لهم من الرواية متعلق ، معنى الإيمان بالفرائض والتوحيد والنوافل واحد .

فلو نسخت الفرائض كلها عن الخلائق إلا التوحيد ، لكانت مع ذلك مع النوافلمن الإيمان ، لا يخرجها إلى أن يكون الإيمان قولا بلا عمل .

وإنما الاتساعفي الإيمان الذي دون التوحيد ، فلو أراد الله تعالى لجعله أولى من الإيمان المضيقالمؤكد ، ولو أراد الله تعالى لجعله منه ما أراد من الإيمان الموسع . وقد سنحت فيخاطري نكته من هذا الحديث : (( إنكم في زمان التارك لعشر ما أمربه هالك ، وسيأتي على الناس زمان العامل فيه بعشر ما أمر به ناج)) .


-------------------------------------------
(1) لعله يقصد أن الله تعالى يجعل له أجرها يوم الميعاد أو ستعود له فيمكان آخر . والله أعلم . (مراجع الطبعة الثانية ) .


ذكر أصول الشريعة البنية على ثلاث
اعلم أن أصول الشريعة مبنية على ثلاثة أمور : الكتاب والسنة ، ورأي المسلمين . فالكتاب أصل للسنة والسنة أصل للرأي ، وبالعكس ، إن الرأي يقضي على السنة ، والسنةتقضي على الكتاب . فيا سبحان الله ، كيف صار الأصل فرعا ، والفرع أصلا ، حيث يقضيالأدنى على الأعلى ، ومع أن الأعلى أعلى له .

وبيان ذلك أن الله – عز وجلقال : ( وما أرسلناك إلا لتبين للناس ما نزل إليهم) فأولذلك قول الله تعالى : ( يأيها الناس ) ( يأيها الذين آمنوا )فهذا الخطاب يستغرق جميع الناس وجميع المؤمنين ، فخصت السنة منه الطفل حتىيكبر ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ .

وعم عموم هذه الآي جميعالعقلاء البالغين ، من الرجال والنساء . فقال : ( فاتقوا اللهوأطيعون يا أولي الألباب) فأمر بطاعته وتقواه جميع أولي الألباب ، فدخلالنساء في الخطاب ، على أن لهن خطابا مفردا .

وقد يكون ذلك عند العرب على أنالأفضل آت على المفضول والرجال على النساء . ثم قال : ( وقاتلواالمشركين كافة ) ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ) ثم قال : ( جاهدالكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ) فخرج النساء من الجملة بحكم الشريعة والسنة .

ثم إن السنة جاءت معلومة فكر عليها المسلمون بآرائهم فضعضعوها ، من ذلكالأخذ باليمين على الشمال ، وهو من سنن المرسلين ، وتركته الأمة حتى ترك ، والزكاةلليهود ، والإحسان إلى أسارى المشركين قال الله – عز وجل - : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) .

ومعلومأن الله تعالى قال : ( قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم ) فهذه عموم محتملة للتبعيض ، فنسخ الله تعالى منهم أهل الذمة ، فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللهورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهمصاغرون).

ثم خص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الجملة النساء ،فنهى عن قتل نساء المشركين . ثم نسخ أبو بكر الرهبان الذين هم في الصوامع . ثم نسخمنها عمر بن الخطاب نصارى بني تغلب ، وأسقط عنهم الجزية ، وأخذ منهم الصدقة ، وأزاحعنهم اسم الذلة والمسكنة ، غزوا معهم المشركين ورضخ لهم وسالمهم .

ومن وراءذلك عشرة أحكام نطق بها القرآن ومضت بها السنة ، أن عمر بن الخطاب تتبعها حكما حكماوثلمها ثلما ثلما ، وغير الأحكام المتقدمة إلى غيرها ، وسوغ الله تعالى ذلك له ،ورضي المسلمون وأذعنوا ، وأتى رأيه على الكتاب والسنة .

ولهذا قلنا : إنالرأي يقضي عليهما جميعا ، أولها : تعطيل حق القرابة من الخمس ، والثاني : بطل سهمالمؤلفة قلوبهم ، والثالث : إسقاط القطع عام الرمادة عن السارق ، والرابع : اطراحالصدقات عن الناس عام المسبغة ، والخامس : اعتاقه أمهات الأولاد على أربابها ،والسادس : صلحه نصارى بني تغلب ، وما أسقط عنهم من الأسامي التي سماهم الله بها . والسابع : منعه في الفيء الذي أفاءه الله على المسلمين ، والثامن : تحرير المشركينبعد ما صاروا أرقاء ، والتاسع : إجلاؤه اليهود والنصارى من بلادهم بعد ما تركهماعليه السلام فيها ، والعاشر : تمصيره الأمصار ، وتدوينه الدواوين وقسمة الفيء .

فإذا ساغ هذا كله لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقد صادم فيها القرآنوالسنة ، فلم لا يسوغ لأهل آخر الزمان من المسلمين – مع الضر وكثير من محظوراتالشريعة – أتباعا لسنة عمر وغيره ، ولاسيما الشدائد في أيام الدجال ، وطلوع الشمسمن مغربها ، ويأجوج و مأجوج ، وهذا السحت الذي عم البلاد ، وشمل العباد ، والملوكالجورة الذين عكسوا الشريعة ، وقلبوها ظهرا لبطن .

وفي امرأة فرعون آيةللسائلين ، كيف لها بالدين مع فرعون وأهله وحشمه ودخلته ، وقد حار عقلي في هذاالحديث ، وحديث آخر : أن أمته تكون في ثمانين صفا من مائة وعشرين من أهل الجنة ، معما ذكر من الثلاث والسبعين فرقة ، كلهن إلى النار إلا واحدة . فما بقي وقد تقدم فيالجزء الأول الإشارة إلى شيء من هذا .


ذكر مسائل متعددة مفيدة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

عونكاللهم وتوفيقك .

اعلم يا أخي أنه وصل كتابك الأغر والأكرم ، فوقفنا علىمضمونه ، وقد شفيت وكفيت ، فجزاك الله عنا أفضل الجزاء ، وصادفني ذلك وأنا فيورجلان سدراته ، ولم ألتق بالشيوخ أبي عمرو عثمان وصالح حفظهم الله ، وكان إذ ذاكأبو عمرو عثمان ن سلمه الله ، مريضا ضعيفا كما استنقذ من مرض به .

وأما ماذكرت من كتاب زهرة العيون لابن قتيبة ، حديث الأوزاعي عن محمد بن علي بن الحسين بنعلي بن أبي طالب : سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) . فقال عليه السلام : (( لا سررنا بها ، لا سررت بها يا علي ، سر بها أمتي من بعدي : الصدقة على وجهها ، واصطناع المعروف ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، يحولن الشقاءسعادة ، ويزدن في العمر ، ويقين مصارع السوء )) .

اعلم يا أخي أن ابنقتيبة عالم رواية ، وليس بإمام عند أهل مذهبه ولا حديثه مما يكون حجة بين المذاهب ،ولقد أخذ عليه المتكلمون في مذهبه في استواء الله تعالى على عرشه ، وذهب به إلىالاستواء المعقول ، ورد على من قال بغيره وأنبهم ، وزعم أن الله تعالى خاطب الناسوالعامة بما يعقلون ويفهمون ، فأحالتهم المتكلمة عن ذلك .

أما الأوزاعيفإمام أهل مذهبه ، وأهل الشام قاطبة غلب عليها مذهبه ، حتى انتهى مذهبه إلى الأندلسوعلى مذهبه كان أهل الأندلس إلى اليوم ، وليس ينتحل مذهب مالك في الأندلس إلا خدمةالمرابطين في أيامهم ، وهم ينظرون إليهم بعين الزراية ، أعني بقية أهل الأندلسينظرون بعين الزراية إلى من خدم المرابطين ، أما أحكام مالك فمهجورة في الأندلس ،والمرابطون أيضا ينظرون إلى من خدمهم من فقهاء الأندلس بعين الشك والارتياب ، وهذاالذي شاهدناه منهم في زماننا هذا .

وقد دخل الأندلس من أصحاب مالك أربعة لاغير : يحيى بن يحيى ويحيى بن بكير وفرغوس ، وذهب عني الرابع ، فلم يقضوا شيئا ، ولميتجاوزهم علمهم إلا بعد الأربعمائة والخمسين سنة من الهجرة ، دخلها البجائي وبعدهابن عبد البر ، فغلب البجائي على أهل غرب الأندلس بطليوس وقطرها ، وغلب ابن عبدالبر على المرية وحواليها .

واعلم أن الأوزاعي إليه انتهت إمامة الشام ، وفيأيامه كانت الأئمة : مالك بالحجاز إمام ، وسفيان الثوري بالعراق إمام ، والليث بنسعد إمام بمصر ، وهم في الصدر الرابع ، لأن الصدر الأول صدر الصحابة ، والثاني صدرالتابعين ، والثالث صدر تابعي التابعين ، والصدر الرابع صدر الأئمة ، وإلى هذاالصدر الإشارة بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لحذيفة حين سأله فقال : ( يارسول الله هذا الخير الذي أتانا الله بك ، هل بعده من شر ؟ ) قال : (( نعم ، الفتنة)) . قال : ( وهل بعدها من خير ؟ ) فقال : (( نعم ، إغضاء على إقذاء وهدنة على رهق)) . فقال : ( وهل بعدالخير من شر ؟ ) قال : ((نعم ، أئمة مضلون قاعدون على أبواب جهنمينادون إليها ، كل من أجابهم قذفوه فيها)) .

على أن هذه الأئمة ذكرتهذه الأحاديث التي جاء فيها التشبيه تشبيه الباري سبحانه في الرؤية وغيره . فقالوا : أمروها كما جاءت .


رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 9 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً



وأما محمد بن علي بن الحسين فهم بيت العلم ، غير أنعلمهم قد هجنته الرافضة ، وعلي بن الحسين هو القائل :

يارب جوهر علم لو أبوح به = لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي = يرون أقبح ما يأتونه حسنا


وأما أخبار جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم اللهوجهه (1) فقد ضعفتها العلماء ، وجعلوا حديثه مرسلا ، لأجلروايته عن جده ، لأن علي بن الحسين لم يدرك جده

علي بن أبي طالب ، فإن أرادالحسين فإن محمد بن علي لم يدرك جده الحسين ، فلهذا المعنى طعنت الأمة في حديث مالكفي الشاهد مع اليمين ، ورواه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) وجعلوه من المراسيل.

وأما قوله : (( يحولن الشقاء سعادة)) . ونحن نذكر الآن قبل مذاهب الأمة في قولهتعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) .

ذهب ابن عباس إلى أن الحفظة إذا نزلت من السماء ، كتبت عمل العبد وصعدتإلى العرش ، وتنزل أيضا ملائكة يكتبون ما عمل ، فتلتقي الملائكة في السماء الدنيا ،فتتقابل النسختان ، فما صح في نسخة اللوح المحفوظ ، فهو الذي يحاسب عليه العبد ،وما خالف ترك هناك فيمحى ، وهو معنى قوله تعالى : ( إنا كنانستنسخ ما كنتم تعملون) .

وقيل : معناه أن الله قسم الأرزاق والآجاللكل أمة ، فمن زيد في رزقه وأجله فيفعله ، ومن نقص من رزقه وأجله فيفعله ، ومصداقذلك قول رسول الله عليه السلام : (( أعمار أمتي من الستين إلىالسبعين)) .

وليس في ذلك ما يوجب أن من جاوزها أو مات دونها ، أنهليس من الأمة ، ولكن الأجل المرفوع لأمته ما ذكرنا ، ويكسبون طول الأعمار والأرزاقبالأعمال التي ذكرناها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، من الصدقة والمعروف ،وبر الوالدين ، وصلة الرحم ،ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وتنخرم أعمارهم وأرزاقهمبنقيضها .

وقيل : إن معنى قول الله – عز وجل - : ( يمحوالله ما يشاء ويثبت.. ) آجال من توالد وأرزاقه ، وآجال وأرزاق من انتقصتآجاله وأرزاقه .

وقيل : يمحو الله ما يشاء من السيئات بالحسنات ، ويثبت مايشاء من السيئات ولا يمحوها بالحسنات ، كالترياق الأعظم الذي هو التوبة ، وما دونهامن الحسنات التي هي كالأدوية تصلح لشيء ولا تصلح لشيء .

وقيل : إن معناه : يمحو الله ما يشاء من المنسوخ ، ويثبت ما يشاء من الناسخ .

وقال بعضهمبالبدا في أفعال الله تعالى ترويه الشيعة عن أهل البيت محمد بن علي وذويه ، ويرويهعن جده علي بن أبي طالب . وقالوا عن علي : ما منعه أن يخبر عن كل ما يكون إلى يومالقيامة إلا مخافة أن يبدو فيه لله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهذه القولة أفحشالأقاويل .

فرووا عن محمد بن علي أنه قال : ( هو ديننا ودين آبائنا فيالجاهلية وفي الإسلام ) وهذا مذهب الروافض .
ولقد صدق مالك بن أنس الذي قال : ( تحملوا ويل غيهم ) (2) فتحمل حين قال هذا عنهم ، وإنماأرادوا هذا كله حمية في علي وأولاده فتعاموا لهم .


--------------------------------------------------------------
(1) عبارة ( كرم الله وجهه ) جاء في ط البارونية فوقالسطر ، فالله أعلم هل هي أصلا عن المؤلف رحمه الله تعالى أو من غيره . ( مراجعالطبعة الثانية ) .
(2)
في الطبعة البارونية : تحملوا أو يزغيهم . ولعل الصوابما أثبته . ( مراجع الطبعة الثانية ) .










مسألة
وأما المسألة التي جرت بين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباسرحمهما الله – وهل يجوز أب يقول الرجل : أنا مسلم عند الله حقا ، أم لا يجوز له ذلك؟
قال ابن عباس : ( لا يقول ذلك ) .
وقال ابن مسعود : ( بل يقول ذلك ) .
فكتب إليه ابن عباس : إن لم تقل ذلك فأنت شاك في دينك ) .
وقلت : ما معنىقول ابن مسعود ؟ وهل يجوز للرجل أن يقول : أنا مسلم عند الله حقا ؟ ولم ينزل فيهخبر .
اعلم أن هذه الرواية ما وقفنا عليها في كتاب ابن بركة العماني ، إلا أنطرأ له من الدواوين ما لم نقف عليه .

والذي صح عندنا وثبت عكس هذا ، عن ابنمسعود في كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام أمين الحديث : أنه قال : ( قال رجليوما من الأيام بين يدي ابن مسعود : ( أنا مؤمن ) . فقال له ابن مسعود : ( فأنت إذافي الجنة ) . فقال له الرجل : ( إن شاء الله ) . فقال ابن مسعود : ( أفلا وكدت فيالأولى كما وكدت في الثانية ) . وهذه الرواية عكس الأخرى , وسنجيب في الوجهين جميعاإن شاء الله ، ومنه التوفيق .

وذلك أن الأمة قد اختلفت في هذه الأمور ،فأثبت أهل الدعوة التسمية بالعاقبة والمآل .
وقال غيرهم : بل بالحيل والحال . وكلا الأمرين سائغ في لسان العرب في حقنا ، ومذهبنا ظاهر في حق الباري سبحانه .

فظل الفريقان يتخاطفان أبصارهما ويتخالسان فيها بينما ، فعول أهل الدعوةعلى المعاني ، والغير على الألفاظ ، والمعاني والألفاظ بحران عظيمان زاخران ، قدغرق فيهما كثير من الناس ، إلا من قاده التوفيق إلى سواء الطريق وأعطى كل ذي حق حقهفالألفاظ وقشور المعاني لباب ، فاختر أيهما شئت ، وقد يسوغ ما قاله الغير فيمابيننا ولا يسوغ في بارئنا سبحانه فأبى الغير من (1) فمارأينا في هذا سواء ، ونحن – إن شاء الله – نوضح المذهبين جميعا .

اعلم أنأصول هذه المسألة في اللغة وبعدها الشرع ، أما اللغة ، فإن معهود العرب في الأفعالوالأسماء متفاوتة ، وذلك أن الأفعال تدل على الحدوث والزمان ، ماضيا وحالا ومستقبلا، فجعلوا لكل زمان صفة تدل عليه من الأفعال ، والأسماء من وراء ذلك تقتضي هذهالثلاثة المعاني ، وهي موقوفة عليها ، ونقدر كلمة واحدة من الأفعال ، ونركب عليهامحتملاتها الأدنى فالأدنى حتى يتضح المعنى ، وهي كلمة ( فعل ) وقد جعلها اللهمعيارا لجميع الأفعال . فقال عز من قائل : ( لا يسأل عما يفعل وهميسألون ).

فلو قلت ( فعل ) لدل على الحدوث في وقت ماض من الزمان ،ولو قلت ( يفعل ) لدل على الحين الذي أنت فيه من غير تحمل ، ولو قلت ( سيفعل ) لدلعلى الآتي من الزمان .

فالأمس دال على ما مضى ، والآن دال على الحين ، وغدادال على المستقبل ، وكل واحد منهما دال بصيغته على مقتضى معناه ، لا تنوب إحداهماعن الأخرى إلا مجازا ، ونحن الآن في الحقائق .

فلما استغرق الفعل الزمان ،وبقي الاسم يصلح للكل : ماضيه وحاله ومستقبله ، فليس يقتضي معنى دون معنى إلابقرينة وتقييد . وقولنا : ( فعل ، يفعل ، سيفعل ) فهو فاعل .

ثم إنا رجعناإلى أبنية الفاعل فوجدناها على وجوه كثيرة ، كلما زيد في المعنى تغيرت له الصورة ،فأولها فاعل ثم فعيل ثم فعول ثم فعلان ثم فعال ثم فعاله ثم فعلة .

فهذهالسبع الكلمات لا تختص بوقت دون وقت ، ولا حال دون حال ، وتصلح للجميع وبرهانه فيلغة العرب :
إنك تقول : هذا رجل حاج . لمن أراد السفر إلى الحج واشتغل فيحوائجه وإن كان في عقر وطنه . وحاج : لمن جازه السفر إلى حجة . وحاج : لمن كان فيالمناسك . وحاج : لمن فرغ منها . وحاج : لمن كان في القبر ميتا . وحاج : لمن كان فيالرحم جنينا إذا ورد فيه خبر .

ولنرجع إلى قولنا ( مسلم ) فأجريناه على هذاالمجرى . وأوله : لمن أخذ في شرائع الإسلام ، ولو لم يكن إلا الشهادة . ثم لمن تقولفي معظم الإسلام وصدر منه القول والعمل ، ثم لمن تحلى به في حياته ولو كان ميتا فيقبره ، ولمن لم يخلق بعد أن صدر القول من الصادق كإبراهيم الخليل حين سمى هذه الأمةمسلمين ولما يخلقوا .

فإن وقع التخاطب بأن هذا مسلم لمن شرع فيه ، كاليهوديوالنصراني والمشرك الشارع فيه نصا ، مسلمان على أنهما لم يلتبسا من الدين إلا باسمه . والثاني : لمن تغلغل فيه وإن بقيت عليه العاقبة . والثالث : من فرغ من الإسلامبموت أو جنون . والرابع : من جرى عليه حكم الإسلام كالصبيان وأهل الجنة .

فمن العادة المتقدمة أن بيضة الإسلام تسمى مؤمنة وإن خالطها الغير ، وإنكنا نعرف الضمائر ولم نبل السرائر ، فمن علم أن هذا مراده ، فإطلاق اسم الإيمانعليه سائغ . فهذا بحر الألفاظ .

أما بحر المعاني فإذا كان الله – عز وجلعالما بالعاقبة والمآل ، فإن المكلف لابد أن يوجد ، ولابد له بعد الوجود من الإيمانأو الكفر وعلى أحدهما الخاتمة .

ومن كانت عاقبته الجنة فاسمه مؤمن مسلم ،ومن كانت عاقبته النار فاسمه كافر ، أجرينا الاسمين عليهما قبل أن يوجدا أو قبل أنيخلقا وهذا ليس فيه اختلاف . والدليل عليه فعل إبراهيم الخليل ، عليه وعلى نبينامحمد السلام حين سماهم المسلمين .

وقول الجميع : إن الساعة لا تقوم إلا علىكافر . وفي لغة العرب مصداق ذلك ، وذلك أنهم مهما أبصروا شمائل السبق في مهر سموهسابقا ، كما ولد قبل أن يسبق ، فلم يبق إلا المعارضة التي بينالفريقين.

فقال أصحابنا : إن جميع من علم أن مآله إلى الجنة ومرجعه ، فهومسلم عند الله في جميع حالاته ولو كان عابد وثن ، في تلك الحالة فهو مسلم عند اللهفي جميع حالاته ، وقبل أن يخلق وبعد ما خلق طفلا ، وبعد ما بلغ أشده .
واختصبالكفر والشرك والنفاق إذا علم الله تعالى أنه يموت على غير الإسلام ، ولا يجوزلأحد أن يسميه بغير هذا الاسم إن علم بذلك من عند الله تعالى .

وقالت الفرقةالثانية : إنه لا يسمى بشيء من هذه الأسماء حتى يصدر منه فعل ، فيسمى مسلما إن فعلالإسلام ، وكافرا إن فعل الكفر والشرك والنفاق ، ولو علمنا العاقبة والمآل . وكلاالفريقين قد انتصر لمذهبه .
فمذهب من قال بالمآل ، وقد ذكرناه حكاية عن الخليل ،صلوات الله على نبينا وعليه ، عن آخر هذه الأمة .
واستدلت الفرقة الثانية بقولالله تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقالإنني من المسلمين ) وبقوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولهأمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) فإن حصر الاسم إلى معلومة خرج غيره منهذه التسمية ، فيكون الخطاب خاصا لمن علمه الله أنه مؤمن ، وإن كان الجميع دخل فيهالمسلم والكافر .

وقال أهل الدعوة : إنه أراد المسلمين عندكم . وقد سمى أهلالدعوة مؤمنا بمعنى مقر ، وسموا مسلما بمعنى مدع ، وهذا منتقض علينا من وجهين : أحدهما : أن صاحب الكبيرة عندنا كافر قاتلا كان أو مقتولا . فإن خرجنا من هذاالخطاب ، ووقعت الإباحة لهم أفلن نقيد فيمن قاتل منافقا لأنه ليس بمؤمن . وكذلكقوله : ( ومن يقتل مؤمنا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) فوقعتالإباحة في قتل صاحب الكبيرة .

والوجه الثاني : قولنا : ومن يقتل مؤمنا ،يريد المؤمن عندكم ، فهذا التحكم يرجع علينا في فروع الشريعة كلها ، وخصالها منموحد ومصل وصائم وحاج ومزك وظالم ، فما وسعت من ذلك وسعهم.

وأما لتسميةأنفسنا بمؤمن ومسلم ، وذلك على وجهين : فإن كان السؤال فيه عن المآل ، فالجواب عنهيرجع فيه إلى علم الله الكبير المتعال ، وإن كان السؤال عن الحال فالجواب مرتبطبالحال .

وقد وردت أحاديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، في مثل هذاحديث محجن ، وذلك أن رسول الله عليه السلام جالس في مجلس له ، وأذن المؤذن لصلاةالعصر ، فقام عليه السلام بالناس ، ونظر إلى محجن جالسا في موضعه ، فأتاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجلس بين يديه وقال : (( ما منعك منالصلاة ؟ ألست برجل مؤمن ؟)) قال : ( بلى يا رسول الله ، ولكن صليت في أهلي ) فقال عليه السلام : (( إذا جئت والناس يصلون فصل معهم وإن صليتفي أهلك)) وفي بعض الروايات (( واجعلها فرضك )) .

وفي الأمة حين سألها عن الله فأشارت إلى السماء ، ثم سألها عن نبيهافأشارت إليه فقال : (( اعتقها فإنها مؤمنة)) ( 2 ) .

وحديث سعد بن أبي وقاص ، حين قسم رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) غنائم هوازن ، فأعطى فيها رسول الله عليه السلام عطايا جليلة ،فقام إليه سعد بن أبي وقاص ، وذكر رجلا من أصحاب رسول الله عليه السلام فقال : ( أين أنت عن فلان يا رسول الله ؟ ) فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأسه ،فلم يكترث به هنيهة . فقال إليه ثانية فقال : ( يا رسول الله أين أنت عن فلان ؟ إنهمؤمن ) . فلم يكترث به رسول الله . قال سعد : ( فأخذني ما قرب وما بعد . ثم قمتإليه ثالثة فقلت : يا رسول الله أين أنت عن فلان ، إني أراه والله مؤمنا ؟ ) فقامرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والتفت إلي فقال : (( أو مسلما)) فقال عليه السلام : (( إني والله أعطي الرجل عطاءاوغيره أحب إلي منه ، وأعطي هذا أتألفه ، وأكل هذا إلى إيمانه)) .

واعلم أن الحكم في المسئول إن سئل فقيل له : ( أمؤمن أنت ؟ ) فالذي ينفهمللناس منه : هل ادعيت الإسلام ، أو طريقة الإيمان ، أم لا ؟ فالجواب : إني مؤمن .

ومعنى قوله : ( فأنت في شك من دينك ) ، معنى إن سئلت عن الحركة وقد تحركتأن تقول : تحركت عند الله . ومن شك أنه يتحرك وقد تحرك عند الله كدافع الضرورات ،وإنما أوقع في نفسه : هل هو على الإسلام أم لا ؟
فإن قلت : أنا مسلم عند اللهحقا . فإنما ذلك عندك على الحال ، كما لا تشك أنك متحرك كذلك لا تشك أنك مسلم عندالله حقا ، وإذا وقع ما عنده على ما عند الله لم يجز ، وإذا وقع ما عند الله على ماعنده جاز .

وليس في هذه المسألة طائل فائدة حيث وقع الاختلاف في الأسماء : هل هي على الفور أو على المآل ؟ وليس بين الفريقين تناقض كل يعمل على شاكلته ،الأجوز له حمل المآل على الحال ، ولا الحال على المآل .


------------------------------------------------
(1) بياض في البارونية . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
هذا الحديث لم يصح هكذا . ( مراجع الطبعة الثانية ) .


مسألة هود بن محكم عن ابن عباس
مسألة :
وأما ما ذكرت في مسألة هود بن محكم عن ابن عباس : ( أن إبليس لو كانمن غير الملائكة ، لم يؤمر بالسجود معهم ) .

والذي تحكم عليه ابن عباس غيرمحال ، كما أنه ليس بمحال كونه من الملائكة ولا يؤمر بالسجود ، لأنهم قالوا في بعضالأخبار : ما سجد إلا أربعة وعشرون ملكا من الملائكة .

فإن ادعى ابن عباسالتوقيف فمصدق ، وأما من ظاهر الخطاب فلا ، وقد قال الله تعالى : ( ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون ) يريد الملائكة ، فالجنة قبيل منالملائكة . ومن الجنة أيضا إبليس .

وأما قول الله – عز وجل - : ( وما أنزل على الملكين) فمن قرأه بالفتح فإنه أراد ملكين منالملائكة ، ومن قرأه بالكسر فإنه أراد ملكين من ملوك الدنيا ، والكل سائغ ، وهومعركة العلماء التي يسوغ لهم فيها الاختلاف ، ولا يقطع فيه بالحق عند الله تعالى .

وأما ما ذكرت عن معصيتهما من جهة الأخبار فليس عندنا في ذلك نصوص تحيل عنهمالمعصية إلا عموم القرآن المحتملة للتخصيص ، وليس أيضا عندنا توقيف على معصيتهما .

واعلم أن أفعال الملائكة وعلومهم منوطة بالاجتهاد والإلهام ، وأن الخطأيقع في اجتهادهم ولا يؤديهم ذلك إلى المعصية ، وعلومهم كذلك .

واعلم أن مندين الله – عز وجل – غير مبرأ من الخطأ والزلل ، وأفعال المكلفين تتعاورها ألفاظكثيرة ، من ذلك الطاعة فيها فرض ونفل ، والمعصية كبير وصغير ، وبينهما أسام متغايرة .

منها : المباح لا ثواب ولا عقاب . والخطيئة : ما في فعله مكروه وفي تركهثواب .

والسيئة : ما في فعله خطيئة وليس فيها معصية . والمعصية إما صغيروإما كبير . وترتبط بالمعصية الخطيئة والسيئة وإن كانت دونها . والخطيئة : إتيانمالا ينبغي ولا يليق بالعبد .

والسيئة : ما أساء فيه العبد إلى نفسه ولايحكم عليه فيه بالمعصية .

وأول درجات العقوبات المعصية ، وأول درجات الثوابالنفل ، وما بينهما فمحمول على العبد إن فاز وسلم .
والكلام الآن على الخطيئةوالسيئة ، لأن من الناس من لا يفرز بينهما وبين المعصية .

والدليل على أنالخطيئة تكون ولا معصية : ما حكى الله – عز وجل – عن عبده إبراهيم الخليل عليهالسلام : (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) ولمتؤثر عليه خطيئة إلا في أمر يماحل فيه عن الإسلام ليس بمعصية ما .

والثانية : حديث داود عليه السلام حين سجد ومكث في سجوده فيما قالوا : أربعين يوما حتى نبتالبقل من دموعه ، ثم غفر الله له . ثم قال : ( يا رب أنت الحكم العدل ، وقد أخطأتعلى الرجل فيما فعلت ، فطيف لي به أن يغفر لي وقد غفرت لي أنت يا رب ؟ ) فأمره اللهتعالى أن يذهب إليه ويبعثه من قبره ، فأتاه فصلى ركعتين فضرب القبر بالعصى فناداهفأجابه ، فسأله المغفرة فغفر له ثم ذهب وبقي في قلبه وحشة الخطيئة . فقال : ( ماهذا يا رب ؟ ) فقال : ( وحشة الخطيئة ) . فصاح فوقع مغشيا عليه ، فمكث أربعين يوماأخرى ، فأتاه الملك فصاح به . فقال : ( ارفع رأسك فقد غفر الله لك ) ، فلم يكترثبالملك ، ثم قال له الملك : ( ارفع رأسك ، فإن آخر أمرك شبيه بأوله ، فأوله خطيئةوأخره معصية ) ، فكان معنى المعصية خطيئة بلجاجته ففرق بين الخطيئة والمعصية .

ونحن الآن نتقلب في سهمنا من خطيئة أبينا آدم ، صلوات الله عليه ، وعلىنبينا محمد عليه السلام .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ((البزقة خطيئة وكفارتها دفنها)) ولهذا قال ابن عباس : (( ليس فيما يعصى اللهبه صغير )) حتى قال بعضهم : إن مناهي القرآن كبير ، ومناهي السنة خطيئة وليستبمعصية .
وأما أفعال الملائكة واجتهادهم ، اعلم أن الله تعالى فوض إليهمالاجتهاد في أفعالهم ، وربما يقع الخطأ فيها نادرا ، وليس ذلك بضارهم شيئا .

ويدل على ذلك قصة طينة آدم عليه السلام ، قال الله تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسدفيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) .
ففي هذا الخبر أمران : الاعتراض على الله تعالى في أفعاله . والثاني : مدحهملأنفسهم . والذي ينبغي لهم التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه ، ولكن الحبيبمحبوب .

وأما تحكمهم أن بني آدم مفسدون في الأرض وسفاكون الدماء ، اقتبسوامن قول الله – عز وجل – حين سألته الملائكة عن صفة الخليفة ونسله ، قال الله تعالىلهم : ( لو عذب أحدهم أو أذى فقرض بالمقاريض ما فارق أمري ) .
فقالوا : ( منيفعل هذا بهم ؟ ) .
قال : ( بعضهم ببعض ) . فلذلك قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) .
فأجابهم الله – عزوجل – وقال : ( إني أعلم مالا تعلمون) .
فلما أجابهمبهذا الجواب اتهموا أنفسهم وخافوا أن يكون الله غضب عليهم من قولهم ، فقصدوا نحوالعرش فطافوا به ساعتين ونصف ساعة .
فقال الله لهم : ( ابنوا لي يبيتا في السماءالسابعة ، وطوفوا به على نحو طوافكم بالعرش ) فهذا البيت المعمور .

فلماأحكم الله – عز وجل – خليقة آدم عليه السلام وأمرهم بالسجود له ، خلق الأوانيوأدارها بآدم عليه السلام . فقال : ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إنكنتم صادقين) .
فاعترفوا وأجابوا . فقالوا : ( سبحانكلا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) .
فقال الله – عز وجلمعجزا لآدم عليه السلام ومفاخرا لهم حين نازعوه فعله وعلمه . ( يا آدم أنبئهم بأسمائهم) .
فلما أطاعوا لذلك ، وعلم اللهآدم الأسماء بالطبع قالوا : ( يا آدم ما هذه الأواني ؟ ) .
قال لهم : ( هذهالقصعة ) .
قالوا : ( ما هذا ؟ ) (1)
قال لهم : ( للخبز يثرد فيها ) .
قالوا : ( وما يثرد ؟ )
قال : ( يطبخ بالماء الحار ويسكبعليه ) .
وقالوا : ( من أين ؟ )
قال : ( من القدر يوقد تحتها النيران لغليانالماء ) .
فما زالوا يسألونه عما علمه طبعا ، فعلموه منه خبرا.

فلماظهروا على أسامي الأواني وخواصها ، قال : ( ألم أقل لكم إني أعلمغيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) .
فاعترفوا وأطاعواوأذعنوا بعد السؤال والجواب والمديح والعتاب .
وكذلك قصة الملك الذي سأل اللهتعالى وقال : ( يا رب هذا الخلق خلقته وهو محدود ، فمن رمى بسهم إن سار ففي الخلق ،وإن رجع إنما رده الخلق ) .
فقال الله – عز وجل - : ( طر حتى تصل طرفي الخلق ) . فطار مائة عام . فقال : ( يا رب طرت مائة عام ) .
قال : ( فطر ) . فطار مائة عامأخرى .
فقال له : ( يا رب قد طرت مائة عام أخرى .
قال له : ( طر مائة عامأخرى ) . فاتهم الملك نفسه وفعله . فقال : ( حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ،ليس وراء الله منتهى ، ليس وراء الله مرمى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليالعظيم ) .
فقال الله تعالى : ( وعزتي وجلالي لو لم تقل هذه الكلمات لتركتك تطيرإلى يوم القيامة ) .
وقصة الملائكة أيضا ، حين أراد الله – عز وجل – أن يخلق آدمبعث إسرافيل إلى الأرض أن يأخذ منها من كل موضع قبضة ، فجاء إلى الأرض فقالت الأرض : ( أعوذ بالله من أن تأخذ مني من يعصي الله تعالى ) فقال إسرافيل : ( لقد عذتبمعاذ ) وقال الله – عز وجل - : ( ما فعلت ؟ ) وهو أعلم به منه ؟ فقال : ( يا ربعاذت بك فأعذتها ) .
فقال الله تعالى لميكائيل : ( اذهب إلى الأرض خذ منها من كلموضع قبضة ) ، فأتاها فصنع معها كما صنع إسرافيل .
فبعث الله جبريل الروح الأمين، فكان كذلك . فبعث الله عزرائيل فاستعاذت منه كما استعاذت من الأولين ، فقال لها : ( وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أفعل ما أمرني به ربي ) .
فقال الله : ( أنت علىقبض أرواح بني آدم ) .
وقد تختلف الملائكة فتبتلي بني آدم فتحكم بينهم ، كقصةالذي قتل مائة نفس بالعالم الذي استفتاه ، والقضية مشهورة .

وكما ابتلى محمدعليه السلام بالروح الأمين حين جاء يعلم المسلمين دينهم . وقصة ملك الموت مع موسىعليه السلام .
وقصة ميكائيل وجبريل عليه السلام ، حين لعن إبليس ، فقعدوايبكيان فقال الله – عز وجل - : (( ما يبكيكما وقد آمنتكما ؟ )) قالا : ( فمن يأمنمكرك يا ربنا ) فقال : (( أصبتما كذلك فافعلا )) . فجرت القصة على الملكين ببابل ،وذكر المحدثون ما ذكروا ، وليس بمستنكر منهم شيء فيما ذكروا أن لو ورد عن تثبت ، إذالملائكة مثل بني آدم ، وبنو آدم عليه السلام أفضل منهم ، وليس في عموم القرآنالوارد بتنزيههم ما يحيل ذلك عنهم ، إذ العموم يحتمل والمحتمل ساقط من يد المحتج .

ولقد وردت أخبار تدل على أن بني آدم أفضل منهم . قال الله تعالى : ( نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) فهم حفظتنا وخدمتنا، وناهيك فضلا منهم من خدمنا ، وخلقت الجنة والنار لنا ، وخلقت السموات السبعوالأرضين السبع لنا ، وأباح لنا ما في السموات والأرضين ، قال الله تعال : ( خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير) . فقصر العلم إلينا ، وهم سفرة بيننا وبين ربنا .

وفي الحديث : (( إن المؤمن من بني آدم أفضل عند الله من جميع الملائكة)) .
وحدثني الشيخ نوح بن تافي عن الشيخ أبي سليمان صاحب الشيخ أبي خزر إلى مصر ،أنه روي له عن الشيخ أبي خزر قال : ( إن المسلم عند الله من بني آدم أفضل من الملك ) من أمثال هذه .

والملائكة مكتسبة لأفعالها كنحن ، ولو يصدر منهم ما شاء أنيصدر حين ختم بالتوبة بعد الفتنة وتعليم السحر ، فأيهما أحسن حالا ، من عوفي أو منابتلي مثلهما ؟ وليس علينا فيما ذكر عن الملائكة شيء لمن اعتقد أنهم أولياء الرحمنوقد قال الله – عز وجل - : ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون مايؤمرون) فهو مخصوص في الزبانية .

وأما قوله : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون) هكذا حال أولي العزم من الرسلوالأنبياء والصديقين والسابقين والمقربين .
وأما قوله : ( ومنيقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) . وعيد شديد .
وأما قوله : ( ولا أقول إني ملك) فهذا الذي ينبغي ويليق به ألا يتعظمعليهم ، وليس في اعتذاره لمن لا يعي ولا يفهم متوهما أن الملائكة أفضل من النبيينومن سائر الصالحين طائل ، ومحمد ونوح صلوات الله عليهما متواضعان .

مسألة :
والذي ذكرت أن الجان أبو الجن وهو رجل صالح ، فهذا غيرمستحيل لو جاءت به الأخبار الصحيحة ، وإنما يخشى على قائل هذه المقالة ، وإن كانإبليس أبا الجن أن يجعله رجلا صالحا ، وليس في المسألة ما يحتمل الإطناب .


----------------------------------------------
(1) خ : لماذا .









قول عمروس في الجملة التي يدعو إليها رسول الله عليه السلام
مسألة :
وقولك : ( ما معنى قول عمروس في كتابه – رضي الله عنه - حين ذكرالجملة التي يدعو إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فألزم الناس معرفتهاوالنطق بها ، ثم ذكر غير ذلك من مسائل التوحيد مما ذكره أبو الربيع سليمان بن يخلفرضي الله عنه – في ( باب ما لا يسع الناس جهله ) أن ذلك كله من تفسير الجملة ،وأن ذلك كله واسع على الناس ما لم يخل بالتفسير ، ثم بعد ذلك ذكر مسألة الأخوينومحاورتهما ، وجعل الشك في البعث شركا بربه ، اشرحوا لي ذلك كله ، وكل ما لا يسعجهله مما لا اختلاف فيه ) .

اعلم – وفقنا الله وإياك – أن العلم إنما يؤخذمن أصله لا من فصله ، وأنا أحب – إن شاء الله – أن قدم لك مقدمة ، أحصل لك مسائلمما لا يسع الناس جهله جملة وخصوصا ، آتي من وراء ذلك – إن شاء الله – على طريقةالإمامين : عمروس وعزان بن الصقر ، وطريقة الشيخ الفاضل أبي الربيع سليمان بن يخلف، رضي الله عنهم أجمعين وعلى أوليائه المسترشدين .

واعلم أن الله تعالىأرأف بعباده وأرحم من أن يتركهم ولما يوضح مسائلهم التي لا يسعهم جهلها .

وكذلك محمد خاتم النبيين الرؤوف الرحيم بالمؤمنين والمؤمنات ورحمةللعالمين ، وقد شرع لهم الدق والجل والنقير والقطمير ، وبين وأوضح لهم ما يأتون ومايتقون ، حتى حلف صلوات الله عليه وسلامه فقال : (( والذي نفسي بيده ما تركت لكمشيئا مما أمرني الله به إلا أمرتكم به ، ولا تركت لكم شيئا مما نهاني الله عنه إلانهيتكم عنه )) وأنا أشرح في الأمر – إن شاء الله ، وحسبي الله ونعم الوكيل – ومعوليبعد الله تعالى على أمرين : آية من كتاب الله – عز وجل – وحديث من حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأما الآية فقول الله تعالى : ( آمنالرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرقبين أحد من رسله) .
والحديث : حديث جبريل عليه السلام حين جاء أصحابرسول الله يعلمهم أمور دينهم .
وأما قوله : ( آمن الرسول بماأنزل إليه من ربه) فالرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل لام التعريف، فهو تعريف العهد إذ ليس بتعريف الجنس ، فلو قال قائل : أرأيت رجلا ؟ فقيل : منالرجل ؟ لدل لام التعريف أن المرئي هو المسئول عنه ، ولم يكن منكرا بدليل قول رسولالله في تفسير قول الله تعالى : ( فإن مع العسر يسر إن مع العسريسر ) . وقال : (( لن يغلب العسر يسرين )) . فدل تكرار المعرف أنه واحد ،وتكرار المنكر أنه إثبات ، فقال : ( آمن الرسول بما أنزل إليه منربه) فأخبر الله عنه أنه آمن ، فأطلق ولم يقيد ، فأثبتناه أنه آمن قولاوعملا واعتقادا .
ثم قال : ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته) فظهرت العلة في ذلك : إنما سموا المؤمنين لأجل الإيمان ، والحكم تابعالعلة .

وأسماء الصفات إذا قرنها الباري سبحانه بحكم دلت على التعليل ، وفيالتعليل أوضح الدليل على منهاج السبيل .

ألا ترى إلى قوله تعالى : ( اقتلوا المشركين كافة) لأجل ماذا ؟ لأجل شركهم ، السارقوالسارقة والزاني (1) لأجل ماذا ؟ فهذا الأمر الذي عزاهإليهم ووصفهم به .

ولو عرف الاسم من الصفة والشرط وصار لقبا ، لكلف العلماءللبحث عن علمه ، فلهذا المعنى كلفت العلماء استخراج العلل والألقاب دون الصفات .

واعلم أن الأسماء لا تفهم إلا بحقائقها وحدودها ، فلو سمعت قائلا يقول : ( هذا عبد ) لا نفهم لك منه إنسانا تملكه وتحكم عليه وله فيه التصرف في البيع والشراءوالأخذ والعطاء والاستخدام والعناء وأنه كونه في منزله .
ولو قال لك : ( هو صاحب ) لا نفهم لك منه المقارنة والمصاحبة .
ولو قال : ( ملك ) لا نفهم لك منهالاستيلاء والقهر والرعية والجنود .
ولو قال : ( هو الإله ) لا نفهم لك منهالمحدث الفعال القادر . ولهذا قال الله – عز وجل - : ( قل أعوذبرب الناس * ملك الناس * إله الناس ) إلى آخرها .

ثم إن الله تعالىقصر الإيمان على الله فقال : ( والمؤمنون كل آمن بالله) . فمن أقر بالله انفهم له أنه المحدث وغيره الحدث قال الله تعالى : ( أفي الله شكفاطر السموات والأرض ) فأثبت انتفاء الشك عمن انتفى عنه الشك في الفطور .

فحصل من قولك : الله الفاطر المحدث ، وجوده أولا ، إذ محال محدث ولا محدثله ، وهذا تلقيناه من قول الله – عز وجل – حكاية عن كل نبي مرسل محتجين به علىأممهم .

وقد حصل لنا من المحدث الوجود والإيجاد ، ومن الوجود والإيجاد القدموالحياة ، ومن حصل له القدم والحياة حصل له العلم والقدرة ، ومن حصل له العلموالقدرة حصلت له الإرادة والمشيئة ، ومن حصلت له الإرادة والمشيئة حصل منه الفعل ،لأنه محال فاعل ليس يشاء ، وشاء ليس بمريد ، ومريد ليس بقادر ، وقادر ليس بعالم ،وعالم ليس بحي ، وحي ليس بموجود .
وقد تضمن قولك : ( الله ) جميع ما يتصف بهالباري سبحانه كنا قدمنا . وهذا تفسير قول الله تعالى : ( الله لاإله إلا هو الحي القيوم) . فالحي يتضمن الصفات ، والقيوم يتضمن التكليفوالتصرف .

فإذا دل قولنا : ( الله ) أنه قديم ، وأنه حي ، وأنه عالم ، وأنهقادر ، وأنه مريد ، وأنه شاء ، وأنه فاعل ، فهذه السبع يقتضيها قولك : ( الله لا إله إلا هو الحي) ويقتضي قولك : ( القيوم ) الفعل وهوالخلق والتكليف وهو الأمر والنهي ، ويقتضي الأمر والنهي والطاعة والمعصية ، ويقتضيالطاعة والمعصية الثواب والعقاب ، ويقتضي الثواب والعقاب الجنة والنار ، والجنةوالنار يقتضيان المصير .

فهذه الستة يتضمنها قولك : ( الفاعل ) فهذه الثلاثعشرة خصلة اقتبسنا معرفتها من معرفة الله – عز وجل – والإيمان به .
ثم أن اللهتعالى شرع مالا يتضمنه قولنا : ( الله ) وهو الإيمان بالملائكة والكتب والرسل . فهذه الثلاثة لابد من سماع فيها .
فثبت أن مسائل مالا يسع الناس جهله عموم ،فحصل لنا من قوله تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) على جميع ما لا يسع الناس جهله نصا أو متضمنا .

ومصداق ذلك قولهتعالى : ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقدضل ضلالا بعيدا) .

ويؤيد ذلك حديث جبريل عليه السلام ، وذلك أنرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جلس ذات يوم مع أصحابه ، إذ أقبل إليهم رجل فيهيئة عظيمة ، وعليه عمامة حسنة طيب الرائحة نقي اللون ، فلما كان من رسول الله عليهالسلام قريبا سلم وجلس ، فرد عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) السلام ثم قال : (( أأدنوا منك يا رسول الله ؟ )) قال : (( نعم )) . فدنا منه ،فلما كان بين يديه جلس فأوقف إحدى ركبتيه وأضجع الأخرى . فقال : (( إني أريد أنأسألك )) فقال : (( اسأل عما شئت )) . فقال الرجل : (( ما الإيمان يا رسول الله ؟ )) قال : (( أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله وبلقائه وباليوم الآخر وتؤمن بالقدرخيره وشره )) . فقال الرجل : (( صدقت )) فتعجب الناس من قوله لرسول الله : (( صدقت )) . ثم قال : (( ما الإسلام يا رسول الله ؟ )) فقال : (( شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام شهر رمضان ، وحج بيت الله الحرام من استطاعإليه سبيلا ، وتغتسل من الجنابة )) . فقال له الرجل : (( صدقت ، ما الإحسان ؟ )) قال : (( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) . فقال : (( صدقت )) . فقال : (( متى الساعة يا رسول الله ؟ )) فقال عليه السلام : (( ما السؤول عنهابأعلم من السائل عنها ، وسأنبئك بأشراطها : وهي إذا ولدت الأمة ربها أو ربتها ،ووسد الأمر إلى غير أهله ، وتطاول رعاة البهم في البنيان ، في خمس لا يعلمهن إلاالله ، فتلا رسول الله عليه السلام : ( إن الله عنده علم الساعة ) إلى آخر الآية . فقال الرجل : (( صدقت )) . ثم قام وانصرف ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : (( علي بالرجل )) . فقاموا في أثره فنظروا يمينا وشمالا فلم يجدوه ، فناداهم رسولالله فرجعوا إليه فقال لهم : (( إنه جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم)) .

فهذه المسائل المذكورة هاهنا هي المسائل التي لا يسع الناس جهلها بقضهاوقضيضها ، ولم يؤثر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما لا يسع جهله غير ماذكرنا ، فلو كان لما خفى عن أمة أحمد عليه السلام فالرواية مقبولة فمن شرع غير هذارضينا به ، وقد شرع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الدق والجل من أمر دينهم ،حتى الاستطابة بالأحجار وأمورا يستحي من ذكرها أفيدع مالا يسلمون إلا بمعرفته؟

وقد ذكر الشيخ أبو الربيع هذه المسائل ، وذكر فيها معرفة آدم وجبريلعليهما السلام وعلى نبينا محمد ، وتحريم دماء المسلمين وتحليل دماء المشركين وولايةالمسلمين وبراءة الكافرين ، ومعرفة الشاك والشاك فيه إلى يوم القيامة ، ومعرفةالقرآن مفروزا من جملة الكتب .

وتأول فيه قول الله تعالى : ( يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله) الآية .

وقد ورد في القرآن ما هو أوكد من هذا ، فلم يوجبوا معرفتهكقوله تعالى : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلىإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون منربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) مع إجماع الأمة أنه ليس علينامن معرفة إبراهيم شيء ولا معرفة سائر الأنبياء وما أنزل إليهم ، وإن كان عليناالإيمان بهم جملة من غير قصد إلى معرفة أحد منهم باسمه وما أنزل عليه ، على أن ظاهرالقرآن لم يدعنا إلى الإيمان بهم هكذا بل إلى القول بالإيمان بهم وعلى أن اللهتعالى لم يكلف أحدا الشهادة إلا قول : (( لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وما جاءبه الحق )) وما سوى هذا فليس عليك فيه من الشهادة شيء ، إلا الإيمان بما قامت عليكبه الحجة .

وأما معرفة جبريل وآدم عليهما السلام ، وفرز القرآن من الكتب ،فلم يرد فيه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) توقيف إلا أن يكون حمل ذلك علىالشهرة ، والله أعلم .

ولم يرد في نبوة أبينا آدم صلوات الله على نبيناوعليه ، ولا في رسالته أمر يقطع به الشهادتين لا متواترا ولا مسندا .
وأما ولايةالمسلمين فاعلم أن من قبل عن الله دينه فقد تولاه وتولى الملائكة والأنبياء والرسلوالمسلمين أجمعين الذين هم على دينه ، كما أنه قد تبرأ من الكفار والمشركين حينفارق دينهم ، وحصل في ولاية هؤلاء ، وفي عداوة هؤلاء وتم له الأمران جميعا ، وربمايجب عليه من حقوقهم والمعاضدة والمعاونة إذا شاهدهم ، وتبرأ من جميع الكفاربمفارقتهم وترك دينهم .

وقد رأينا في خطبة الإمام عبد الرحمن بن رستم – رضيالله عنه – أنه خطب لهم ذات يوم بتاهرت فقال : ( أيها الناس أنه من صلى صلاة الصبحفقد تولى جميع المؤمنين الذين أمر الله بولايتهم ، وتبرأ من جميع الكافرين الذينأمر الله بالبراءة منهم ) .

وذكر في خطبته أيضا أخرى : ( أن من نوى التشهدفي الصلاة أنه أتى بجميع ما لا يسعه جهله ) على أن التشهد إنما زيد في آخره زيادةما قد كان من شروط رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على من عرض عليه الإسلام ، وفيكتبه إلى الآفاق : (( أن يكون مع المؤمنين ويفارق المشركين )) .

ولقد سألتالشيخ يحيى بن أبي بكر – رضي الله عنه – عن هذه المسألة المذكورة في الجملة التييدعو إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خصوصا . فقلت له : ( فمن أين وجبتالشهادة أن ما جاء به الحق ) ؟

قال : ( كان رسول الله عليه السلام يدعوالمشركين إلى الإيمان فمن أظهر الإيمان وقبله ودخل فيه اجتزا عنه ، أو قال : صدقت ،أو قال : نعم يا رسول الله ، أو سأل عن فريضة أو حاجة ، فمهما ظهر منه القبول لهذهالدعوة قبل عنه .
فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأظهر أهل الكتابأنه رسول إلى الأميين دونهم ، خرج المسلمون من أراد الدخول إلى النطق بالشهادة علىالله : (( أنه لا إله إلا هو ، و أن محمدا عبده ورسوله ، وإن ما جاء به الحق من عندالله )) ) .
وقد ذكر في كتاب الترمذي ، وهو من الكتب الصحاح (2) في الحديث : وروي عن ربعي بن خراش عن علي بن أبي طالب : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : (( والله لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنيرسول الله ، ويشهد أن الذي جئت به الحق من عند الله ، ويؤمن بالقدر خيره وشره )) .

وفي قول الله – عز وجل – بعض الإشارة إلى القول : بأن ما جاء به محمد عليهالسلام هو الحق . قال الله تعالى : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذينآمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ) إلى قوله : ( وما لنالا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهمالله بما قالوا) فأثبتوا لهم القول في أن الذي جاء به محمد هو الحق .




رد مع اقتباس
كُتبَ بتاريخ : [ 01-13-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 10 )
::الـمـشـرف العـام::
::مستشار المنتدى::
رقم العضوية : 8
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : عمان
عدد المشاركات : 7,603
عدد النقاط : 913

الامير المجهول غير متواجد حالياً




(1) أي عرف ( السارق والسارقة والزاني والزانية ) لأجلاتصافهم بالسرقة والزنى ، كتعريف ( المشركين لاتصافهم بالشرك . ( مراجع الطبعةالثانية ) .
(2)
يصنفه أهل الحديث من الكتب الحسان . والله أعلم . ( مراجعالطبعة الثانية ) .


وذكرت فرز ما لا يسع الناس جهله ، وقد تقدم القول في الإيمان بالله اعتقاداوقولا ، وكذلك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تصديقا ونطقا ، وقد قرنه الله تعالى عندذكره معه لقوله : ( ورفعنا لك ذكرك) وقوله في التشهد : (( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله )) . وقوله فيالأذان : (( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله )) .

وربما كان هذا في أول الإسلام كما قال الشيخ يحيى بن أبي بكر – رضي اللهعنه – وجل الأمة لا يرون النطق بالشهادة (( على أن ما جاء به الحق )) . ويجتزئونبقولهم : (( أشهد أن محمدا رسول الله )) . فهذه الكلمات الثلاثة عندنا هي الجملةالتي يدعو إليها رسول الله عليه السلام في أيامه وعلى عهده .

والثانية : الإيمان بالملائكة : أنهم أولياء الله ، ثم ولايتهم وهو الكون معهم على دين اللهوعلى طاعته ويحبهم ، وقال أهل الدعوة : ( يترحم عليهم ) ، فليس عليهم أكثر منالمعنيين : الإيمان بوجودهم وولايتهم .

وأما معرفة جبريل عليه السلام بالقصدومعرفة اسمه ومعرفة نزوله بالقرآن العظيم على محمد عليه السلام ، فإن أهل الدعوةيرون الإيمان بذلك واجبا ، قصدا واعتقادا ومحبة وترحما .

الثالثة : أنهميوجبون الإيمان بكتب الله تعالى ، ولابد من معرفة معنى الكتب وأنها منزلة من عندالله تعالى ، وائتمروه بأمره ونهيه وخبره وباستخباره .

ولابد من معرفة هذهالمعاني الثلاثة : معنى الكتاب معنى النزول والفرض هو الأمر والنهي ، ومن جواب أهلالدعوة أن عليه عرفة هذه الأمور جملة ، وعليه القصد إلى القرآن الذي جاء به الروحالأمين قصدا واعتقادا ، ويعرف معناها لا لفظها جملة وخصوصا .

الرابعة : أنهميوجبون معرفة الرسل ويوجبون الإيمان بها جملة ولا تصح له معرفة الرسل إلا بمعرفةأربعة معان أولها : الرسل ، والثاني : المرسل . والثالث : الرسالة ، والرابع : الإرسال .

فإن انخرم منها واحد بطل معنى الرسل ، وقد قال الشيخ – رضي اللهعنه - : ( إن علينا أن نعرف الرسل من نسل آدم عليه السلام أجمعين ) .

وأوجبمن هذه معرفة أبينا آدم عليه السلام ، وليس علينا في إيجاب معرفة آدم ، ومعرفةالمسلمين من الجن ، ومعرفة الملل إلا تقليد الأئمة الراشدين – رضي الله عنهم – ومانص من القرآن أو توقيف من السنة . فلا الخامسة .

وقد ذكرنا المعاني التيتتضمنها معرفة المصير ، والأسباب التي توجب الأسباب ، فالتكليف وهو الأمر والنهيوالطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجنة والنار .

ولابد من معرفة الجنةبمعناها والنار بمعناها ، ولا يدرك معناها إلا توقيفا أو تعريفا وما يتضمن ذلك منالأبد ، وليس تكمل لك معرفة شيء حتى تحصل اسمه وذاته وصفته ، ولنرجع إلى أولى هذهالمسائل ولنظهر حقيقة ما قلنا . والله المستعان .

أولها : الإيمان باللهومحمد رسول الله وما جاء به أنه الحق من عند الله ، ومن عرف هذا الاسم أنه الله ،ولم يعرف معناه أنه القديم المالك للغير لما صح له معنى الاسم ، فربما تنوب الصفةعن الاسم ولا غنى عن الذات .

ومن لم يظهر على معنى الاسم كان بمثابة اللقبولابد من معرفة الاسم بمعناه كما قلنا ، ولابد من معرفة الذات أول ما فيها وجودها ،وربما يكون عنده الاسم لما لا ذات له ، كالحال والأزل والقدم ، ومعرفة الذات أنهليس كمثله شيء .
ومعنى الصفة أن تعلمه أنه حي ، فيحصل لك من هذه الثلاثة معانمعرفة الله والإيمان به أنه الله الموجود الحي .
وأما قولك محمد بأن تعرفه بأياسم من اسمائه لقبا أو غيره .
ومعرفة ذاته : أن تعرفه أنه من جنس بني آدم ،ومعرفة صفته أنه رسول مبلغ أمين وولي لله ولك ، وأنه من أهل الجنة .

ولابدعند أهل الدعوة أن تعرفه بهذا الاسم محمد ، وتعرف أن الذي جاء به من القرآن أنهالحق من عند الله .
ومن جهل الملائكة أنهم أجسام لم يعرفهم ، ومن لم يعلمهمبإسلامهم وإيمانهم تولاهم وتولاهم الله (1) ، فلم يعرفهم . ومن وراء ذلك الأفعال والاكتساب ، وجبريل منهم فمن لم يعرف أنه منهم لم يعرفهوأنه ولي الله نزل على محمد بالقرآن .

وكذلك معنى كتب الله المنزلة ، فلايصح له الكتب حتى يعرفها كلاما ، فلو توهمها شجرا أو حيوانا أو سماء أو أرضا لماعرفها من حقيقة الكتاب ، ولم يعلم أنها نزلت من عند الله وتوهم أنها من عند إنسانأو جان أو شيطان ، أو ليطاف ( 2) لكان بها جاهلا ، حتىيعلم أنها نزلت من عند الله فلو علمها كتبا ونزلت من عند الله ولم يعلم المعنىالمراد بمنزولها من عند الله من الأمر والنهي والوعد والوعيد كان بها جاهلا .

وكذلك الرسل ، لو لم يعلم معنى المرسل الذي هو رب العالمين ، والمرسل الذيهو الإنسان ، والإرسال من عند الله ، والرسالة التي جاءت بها الرسل من الكتبوالتكليف ، لكان جاهلا .

وكذلك لو علم التكليف ولم يعلم معناه ، وعلم الطاعةوالمعصية ولم يعلم بمعناهما ، والوعد والوعيد ولم يعلم معناهما ، فلا غنى عن الاسموالذات والصفة .

وأما محاورة الاثنين : فإن البعث من الأمور التي أوجبنامعرفتها مما لا يسع جهله مع البلوغ ، وهو معنى قوله : ( وإليهالمصير) ولا يسع جهله لا سمع ولا لم يسمع ورأى ذلك شكه بعد قيام الحجة ،فإن معنى شكه إنكار ، ولم يكن شكه موقوفا على البعث بل في الكل في الرب وغيره ، ولايغرنك قوله : ( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) كماقال الله – عز وجل – عن نظائره : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولداأطلع الغيب أم أتخذ عند الرحمن عهدا ) .

والخامسة : وأيضا ذكر عن بعضفقهاء مصرنا من نفوسة أنهم قالوا : ( من تزوج ذات محرم منه مثل أمه أو أخته وهومتعمد لذلك لا يرجم ولا يقتل ) (3) واعتلوا بأن ذلك نكاح فاسد ، وهل أحد من العلماء قال بقولهم أم لا ؟ الجواب : أنهلم يقل أحد من أمة أحمد إلا أبو حنيفة وهو مذهبه .

وأما ما ذكر عن الشيخعمران بن علي أن أنساب المشركين فيما بينهم لا تثبت بعد قول الله – عز وجل - : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وإن نكاح المشركين فيمابينهم حرام عليهم ن ولا يثبت نسبهم فيما بينهم ، كما لا يثبت نكاح المسلمينللمشركات .

اعلم أن هذه المسألة ما سمعناها عن أحد من هذه الأمة ، ولو قالهاأحد لظهر وشهر ، وتلزمه الشنعة العظيمة في أن يبيح بنات جميع النسوة اللاتي دخل بهن، وهذا خرق الإجماع ، وقد أثبتت الأمة أنساب المجوس قديما وحديثا .
وأما المسألةالمذكورة عن الشيخ حنيني أنه أفتى بالشرك والكفر فيمن أباح الثلاث للمطلق ، اعلمانه لما ورد علينا كتاب عبد الرحمن عن الشيخ يتدين بهذه المسألة ، وكتبت إلى حنينيفي أمرها . فرد إلي الجواب وقال : ( ما أفتيت بهذه ) .

وأما الحكاية عنالشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر – رضي الله عنه – قال : ( من أباح الدخولفي دور الناس بغير إذن ، بعد قول الله – عز وجل - : ( لا تدخلوابيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) أنه مشرك ، ومن أباحنكاح الحائض بعد قول الله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذىفاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يظهرن) أنه مشرك ، ومن أباحالرجعة للمطلقة ثلاثا قبل أن تنكح زوجا غيره ، بعد أن يكون الطلاق واحدا بعد واحد ،فهو كافر ، وأما أن يحجر عن الناس الطلاق ثلاثا فلا ) .

وأما المسألةالمذكورة عن عزان : ( من بزق في غير وجوهكم وقال : ( في وجه إبليس ) إنه إن أصابوجه إبليس أنه كافر ) والله أعلم . لا أشك أن من قال بهذه المقالة (4) إنما قالها عن لسان إبليس ، ولو علم هذا القائل ما بين آدمعليه السلام وبين إبليس اللعين لما حكى هذا عن أحد ، ولو كان بين الحاكي وبين آدمنسب أو حسب لاستحى من قوله هذا .

ألم تعلم أن الله تعالى لما أهبط آدم عليهالسلام من الجنة نزل كئيبا حزينا ، وأن إبليس اللعين كان فرحا مسرورا اكتنفه وقوعه، ويدور به يمينا وشمالا ، فظل يصرف ويضرط ويصفق ويعفط (5) ويتشفى منه ويتخذه ضحكة ، وآدم صلوات الله عليه يبكي ويبكي ،ولو علم إبليس أن من بزق في وجهه من بني آدم أنه كافر لما ترك بزقة تصل إلى الأرضليوقع الناس في الكفر .

وإن كان هذا إنما غضب لإبليس حين ظلم وبزق في وجهه ،لهو من نسل إبليس لا من نسل آدم صلوات الله عليه ، ولا أظنه إلا من الجن نسل إبليستخيل في صورة بني آدم ، أوله فيه شرك في أمة وهو عريق النسبة كريم الحسنة حيث انتصرلأبيه .

وها هنا مسألة عارضة لو ظهر إلينا إبليس ، هل يجوز لنا أن نضربه أونحبسه أو نقتله أو نشتمه ، أو يمنعنا منه تأخير الله إياه إلى يوم القيامة ، فمناحتمى لإبليس ينبغي له أن يحظر هذا عن الناس ، ويقوم في حمية الوسواس الخناس إبليس، فيما بينه وبين آدم صلوات الله عليه ، أن النار مهلكه للأرض ، وأنشد فيه شعرا :-

الأرضمظلمة والنار مشرقة = والنار منفعة مذ كانت النار




-------------------------------------------------
(1) هكذا وجدتها ولعل الأصح ( لم يتولاهم وقد تولاهم الله ) . والله أعلم ( مراجع ط 2 ) .
(2)
لعلها من الخفاء أي أنها خافية غير معروفه . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(3)
كان في العبارة الأصلية حسب ط البارونية خللكبير ، أصلحتها بقدر المستطاع . والله أعلم بالصواب . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(4)
أي أم هذه المسألة ليست من كلام عزان . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(5)
كان في ط البارونية ( ويعطفد ) والصواب ( ويعفط ) والعفط هو نثير الضراط ( مراجع ط 2 ) .










ذكر أفعال المكلفين
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمتسليما
بلغني يا أخي كتابك الأغر الأكرم ، تذكر فيه المسألة المذكورة في كتاب (( العدل والإنصاف )) في باب أفعال المكلفين ، وهي أن العبد هو الفاعل الكاسب المريدلأفعاله وكلامه وقوله ونطقه وقراءته ، وأما صوته ( * ) فلا ، وأن حواسه كلها أجسام ، وكذلك محسوساته كلها أجسام وهي اللون والطعم والريحوالصوت ( * ) وملموسة كلها أجسام ، وأما الحواس فالسمع والبصر وحاسة الذوق واللمسوحاسة الشم فهذه أيضا أجسام .

اعلم يا أخي أن الأشياء تؤخذ بالتقييد لابالتقليد ، وتقتبس من أصولها لا من فصولها ، والذي أذهب إليه أن الصوت كسائر أخواتهفي التجسيم ، أو هو أقرب من أخواته إليه .

واعلم أن هذه المسألة ليست بدينيةولا شرعية ، وإنما هي مسألة طبيعية ، وإنما يقتبس عليها من أحد ثلاثة أوجه : أولها : اللغة . والثاني : قول ولاة هذا الأمر وهم الأطباء والطبائعيون الذين ينظرون فيذات العالم . والثالث : الشرع ، ولم يرد فيه سمع يقطع أنه جسم أو غيره إلا أن يقتبسمن قول الله – عز وجل – الصاخة والقارعة .

فلنرجع إلى الوجه الأول وهو اللغة، وذلك أن أهل اللغة سموا الصوت وأخواته محسوسات ، وسموا مقتضياتها حواس ، وبعضهمسموها جواس ، فعلى الوجهين جميعا يقتضي هذه التسمية للجس بتجسيم الصوت ، إذا صارمحسوسا كسائر أخواته ، كما أن حاسته جسم فهنالك أخواته ، فما بال الصوت من بينها أنيكون عرضا .

فالحس والجس يقتضي محسوسا ومجسوسا مدركا لجاسة مجسوسه ، ولايتبين لك تجسيمه حتى يطالب بالبرهان من يدعي أخواته أجساما ، فهنالك يبين لك أنهجسم .

فإن قال القائل : ما الدليل على أن اللون جسم ؟
قيل له : لأنه يدركبالبصر ومتميز في موضع دون موضع .
فإن قال : ليس في دركه ما يدل على أنه جسم ،لأن حاسة السمع جسم وتدرك الصوت وهو عرض على قول من يقوله .
قيل له : وكذلكالطعم لا دليل على تجسيمه من جهة دركه بالذوق ، لأن حاسة الذوق جسم أدركت عرضاكالصوت .
وكذلك الرائحة واللمس على هذا الحال ، وليس في الحواس على أنها أجسامما يدل على محسوساتها أنها أجسام لأجل الصوت (1) .
وإنقال : إنما قلنا في اللون والطعم والريح وسائرها أجسام لأنها موجودة في الجسممتمكنة أو معترضة ، أيما قال في ذلك ، فالصوت أظهر تحيزا وتمكنا من سائرها .

وأما قول الخائضين في هذا الشأن وهم الأطباء والطبائعيون الذين هم أربابهذا الشأن قالوا : إن الدليل على أن الصوت جسم ، أن المصوت إذا صوت فإن صوته يتضمنهالمكان ، ويقله الهواء والفضاء وهما جسمان ، ويتمكن فيه من أجل أنه كروي الشكل .

فإذا صدر صوت من مصوت سرى في الجهات الست ما خلي وطبعه ، فصار الصوت مركزاوقطبا ، وصار في الست الجهات على نسبة واحدة ، فمقدار ما يسمع هذا الصوت من فوق فهوحده من أسفل ، ومقدار ما يسمع يمينا هو حده يسارا ، ومقدار ما يسمع أمامه هو حده منخلفه ، وإن وقع الصارف والمانع انصرف وامتنع من تلك الجهة ، مثل الريح ، فأنه يذهببه إلى جهته وربما يسري به فيبلغه مسافة وأعظم من مسافته لو خلي وطبعه .

فإنقوي الريح صرفه بالكلية من جهة إلى جهة ، ويكون له صارف من حائط أو غائط (2) ، وتتبين الجهة التي يأتيك منها ، ويكون له حاجز عن الأسماعولو ضربت طبول الدنيا لمن كان في قارورة ما سمعه ، أو تنشق القارورة ، ويسري إلىجبل ويرجع صداه بصوته كما هو لا يحرم منه شيء ، ومن وراء ذلك أنه متصف ببعض صفاتالأجسام من الخشونة والليونة والدقة والحدة والصفير والبحوحة ، ويهد الجبال ويقرعالآذان ويصم الأسماع ، ويزهق النفوس ويطرب ويكون ، فهذه كلها صفات الأجسام ، ومنأراد معرفة هذا فليأخذه من أهل الموسيقى ، وربما يحدر الأخلاط ، ويضر بالأفراط ،ويلذ ويؤلم ، ويهيج الشجاعة والجبن والهواء المستكن .

وإنما وقعت الشبهة فيهلامتزاج الصوت والتصويت وتعذر الانفصال . وأما كلامنا وقولنا ومنطقنا وقراءتنا فهيأفعالنا ، وكذلك تصويتنا . وأما صوتنا فهو فعل الله – عز وجل – وهو جسم ، أفعالناأعراض .

فإن قال قائل : ما الفرق ؟ قيل له : إنا وجدنا العبد يتكلم ويقولوينطق ويقرأ من غير صوت ، فكان الصوت شيئا طارئا على هذه المعاني ، والصوت شيء واحد، جعله الله تعالى حد المستمع بالسمع.
وأما الكلام وأخواته قد يقع من غير ما صوت، وأول ذلك الكلام فيحده تحريك اللسان بالحروف والشفتين ، وتقتضي بنظمها المعاني .

فإذا وقع تأليف حروف باقتضاء معاني سمي كلاما وقولا ومنطقا وقراءة .

وقد يقع الكلام بصوت وبغير صوت ، وإنما الصوت بعض أوصافه غير الملازمة ،ألا ترى أنك تقول : كلمته إيماء وإشارة ورمزا ، وليس في شيء من هذا صوت . كما قالالله تعالى عن زكريا عليه السلام قال : ( آيتك ألا تكلم الناسثلاثة أيام إلا رمزا ) .

وأما القول كما حدوه في الكلام : أنه حروفمنظمة تقتضي معاني . قال الله – عز وجل - : ( ويقولون في أنفسهملولا يعذبنا الله بما نقول ) . وهذا القول باللسان يخاطب نفسه من غير ما صوت، إلا بنظمه الحروف بلسانه .

فإن عورضنا وقال : إذا جعلتم القول في النفس منغير ما صوت ، فقولوا في الكلام كذلك ، فهذا دليل أن الكلام كلام الله – عز وجلصفة له في ذاته أزلية .

قلنا : لابد من الكلام والقول من نظم الحروف ،فيتعدى ذلك النفس ، فإن لم تكن حروف ولا نظم كان علما ، والعلم اعتقاد في النفس ،والكلام والقول معنى جاوز النفس إلى نظم الحروف المعنوية ، فهذا الفرق بين العلموبين الكلام في النفس ، وبين القول أيضا .
ولابد من معنى زائد على العلم وهوتصوير المعنى في النفوس ، وهذا الزائد هو القول ويكون بغير صوت ولا يتوجه إلى الغير .

فأما النطق أيضا فهو على هذا الأسلوب مما يتعلق باللسان والشفتين ، وقديكون بصوت وبغير صوت ، وقد جعل الله تبارك وتعالى للحكل منطقا ، وباتفاق أن ليسللنمل صوت . فلقبوه باسم الحكل ، ففهمه الله تعالى لسليمان عليه السلام . فقالتعالى : ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنودهوهم لا يشعرون ، فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليوعلى والدي) .
وقال في منطق الطير : ( علمنا منطقالطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين).
وكذلك القراءة علىهذا النمط ، فمهما كان معها صوت صارت جهورة . وإن لم يكن معها صوت صارت سرا وهيالقراءة التي كلفنا بها في صلاة النهار التي قال فيها رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) : (( صلاة انهار عجماء)) . ولم يرتبط شيء من هذابالصوت ، فلا جرم أن الصوت لاحق بكلامنا .

وقولنا ونطقنا وقراءتنا إن وقعبها الصوت والتصويت فعلنا ، وهو الحركة باللسان والشفتين كما قدمنا في سائرها .
والتصويت في مقابلة التحريك ، فمهما حركنا شيئا كان فعلنا منه التحريك ، وفعلالغير الحركة . وكذلك التصويت والصوت فعل الله – عز وجل - .


---------------------------------------------------
( * ) الظاهر أن هنا تناقض بين اعتبار الصوت من الأجسامأولا ، ولعل المؤلف – رحمه الله – أثبت كلام صاحبه الذي ذكر له عبارته في (( العدلوالإنصاف )) كما هي ، ثم أنه علق عليها بأنه يعتبر الصوت أيضا جسما . والله أعلم . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(1)
في عبارة الطبعة البارونية السابقة اضطراب حاولتإصلاحها قدر الاستطاعة والله أعلم بالصواب .( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
الغائط : المكان الواسع من الأرض . ( مراجع الطبعة الثانية ) .







مسائل في الولاية والبراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلمتسليما
جواب مسائل إخواننا من أهل الجبل نفوسه

بعثوا بها إلينا ، رعاهمالله وصانهم وحفظهم ، وحفظ عليهم دينهم ، على لسان أخينا مدارا ، أحاطه الله وألهمهالرشاد والسداد .
اعلم يا أخي أن هذه المسائل تدور على ثلاثة أصناف :
صنفمنها في الولاية والعداوة والبراءة ، وما يتعلق بها .
الثاني : الطعن في دينالمسلمين ، وما يتعلق به من المسائل .
الثالث : ما يتعلق بصفات الباري سبحانهوبأسمائه .

ونحن نريد أن نذكر عند كل مسألة صنفا من هذه الأصناف الثلاثة ،أصله وفصله وموجب الحق فيه ، والبرهان على ما ذهبنا إليه أنه الحق واعتقدناه ،ونأخذ بعد في تفريع المسائل واحدة بعد واحدة ، وأول ذلك الولاية والبراءة .

فإن سأل سائل : من أين لكم التدين بأن الولاية ولاية المسلمين واجبه ؟وأنها توحيد ؟ وبراءة الكافرين توحيد ؟ وأن ولاية الأشخاص طاعة واجبة ؟ وكذلك براءةالأشخاص واجبة وطاعة ؟
واعلم أن ولاية المسلمين بعضهم بعضا صحيحة لقول الله – عزوجل - : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والله وليالمتقين ) .
ونهى الله تعالى عن ولاية الكفار ، وأنفذ فيه الوعيد . قالالله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم) .
ومن يتولىالمشرك كان مشركا ، ومن تولى الكافر كان كافرا ، ومن تولى المنافق كان منافقا ، ومنتولى صاحب كبيرة كان صاحب كبيرة .
وقال الله – عز وجل – في الولاية : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
واعلم أن الولاية مرتبطة بثلاثة أوجه :

أولها : الموافقة فيالشريعة ، لأن الله تعالى أمر المؤمنين أن يكونوا على شريعة واحدة ولا يختلفواعليها وأمرهم بالتعاون ، وهذا أصل الولاية في الموافقة في الشريعة .

والثانية : المحبة بالقلوب والتودد بالجوارح ، فمن عري من محبتهم ومودتهملن ينتهي دون بغضهم (1) وهي البراءة . قال إبراهيم عليهالسلام وعلى آله : ( وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا باللهوحده ) .

والثالثة : حقوقهم من المعونة والإسعاف والاستغفار والرحمة ، وحسنالمعاشرة بعد المحبة والمودة ، ولابد من الاستغفار ، قال الله تعالى : ( واستغفرلذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) . وكذلك في ولاية الأشخاص .

وقد اجتمعت الأمةعلى ولاية الجملة ، وإنما الاختلاف في ولاية الأشخاص . وقال هؤلاء القوم : ليسعلينا من ولاية الأشخاص شيء . وقال ابن الحسين : إلا بشريطة إن كان من أهل الجنة . قلنا لهم : كذلك قول الله – عز وجل - : ( اقتلوا المشركين كافة ) فليس علينا منقتلهم واحدا واحدا شيء إن لم نقدر على قتلهم بالجملة ، وقد قال الله تعالى حكاية عنخليله إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا : ( قد كان لكم أسوة حسنةفي إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون) . فلنيسع إبراهيم والذين معه أن يتبرأوا من أفرادهم . ثم قالوا : ( وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) .

أما العداوة باللسان فأطلق لهم العقال في عداوتهم بجميع ما قدرواعليه من الشتم باللسان والدعاء لهم بالنيران .
وأما البغضاء فالاعتقاد لهم بكلمكروه من الشر في الدنيا والنار في الآخرة .

فمن أقر لأخيه المسلم عليهبالمودة والمحبة ، فالحنان والاستغفار باللسان ، فقد أقر بالولاية فهومرادنا.
ومن أبطل هذا فقد أبطل حقوق المسلمين بعضهم من بعض . قال الله – عز وجل - : ( من يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وحسبنا الله ونعمالوكيل ) .

فأول ولايتك المسلمين كونك على شريعتهم ، قال الشيخ أبو خزر يغلاابن زلتاف : أصل الولاية الموافقة للشريعة ن فمن وافقته في الشريعة فقد وجب عليكبعض ولايتك عليك في اخذ الحقوق والتعاون معه على البر والتقوى . والبراءة أيضامفارقة الكفار .

وأكثر شروط رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على من اسلمعلى يديه ممن تابعه أن تكون مع المؤمنين وتفارق المشركين ، فهم نفس الولاية ونفسالبراءة . ومن وراء ذلك توابعهما والله المستعان .

مسألة :
قولك : رجل متولى إذا فعل فعلا .
اعلم أن المتولي من فعل الولاية ،وأنت تريدها هنا من تولاه الناس واسمه الولي ، وإنما ينبغي له أن يقول : رجل وليفعل فعلا .

واعلم أن لغة العرب في مثل هذا هي الحجة العظمى لأن بها عرفنامراد الله – عز وجل - .

ويدل عليه قول الله تعالى : ( ومنيتولهم منكم فإنه منهم) فرد من فعل الولاية لا المفعول فيه الولاية ، وهذامعروف من جهة لغة العرب وتصاريفها تقول : تولى يتولى توليا فهو متول والمفعولمتولى.

فلو قال رجل : متول فعل فعلا . لكان أشبه . وإنما ذكرنا لك هذهالنكتة لتكون منها على بصيرة ، فإن العزابة قد عودوا في التولي أنه المفعول فيهالولاية واسمه الولى والمتولى ، وأخرى ربما يقف أحد على كتابنا إليكم فيستهجنهويستسمجه ، ويحملنا وإياكم على الجهالة والغلط .

فإن صرفت هذه الكلمة فتقول : ولي يلي ولاء وولاية فهو ولي (2) ، والمفعول مولى وولىويولى تولية فهو مول ومولى ، وتولى يتول توليا فهو متول ومتولى ، ووالى يواليموالات فهو موال وموالي ، وأولى يولي إيلاء فهو مول ومولى ، وتوالى يتوالى فهومتوال ومتوالى ، واستولى يستولي استيلاء فهو مستول ومستولى .

وما بقي علىالنعت والمفرد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث أحكام معروفة عند العرب لا تتبدلولا تتغير .
ثم قلت : فعل المتولى فعلا لا يدري ما هو ، تريد لا تدري أحلال أمحرام ، أم طاعة أم معصية ولا تدري ما الحكم فيه .
وقلت : هو ما يسع الناس جهله ،فتبرأ منه رجل على ذلك الفعل ، أو كفره ، أو شركه ، أو استحل دمه على ذلك الفعل ،وهما وليان تسأل عن السامع ما حاله ؟

اعلم أن السامع ليس عليه شيء فهو علىولايته لهما ولا يغير من أحاكمهما شيئا ولا يقف فيهما ، وهذه المسألة التي بينناوبين النكار يقفون في الفاعلين ونحن نقف في الفعلين ولا نقف في الفاعلين ونكون علىأصل ولايتنا لهما .

وأصل هذه المسألة هي التي جرت بين أصحاب رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) وأهل الدار : عثمان وأصحابه والمتوقفة سعد بن أبي وقاص أحد الشورىوعبد الله ابن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وبعض الأنصار .
وذلكأن سعدا وأصحابه ، كان عندهم عثمان في صحابة بعض صاحبيه ولم يقفوا له على خصلةمخصوصة يحل بها دمه ، على أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان، وقتل النفس التي حرم الله)) .

وإن عمارا وأصحابه قتلوا عثمان ،وتبرأوا منه على أفعال شادوها منه ، ولم يثبت تحلة دمه منها عند الغير ، وحل دمهبها عندهم يوسع الأمر للكل ، فسفك هؤلاء دمه وتبرأوا منه . وتوقف هؤلاء وكانوا علىولايته وولاية عمر وأصحابه ، فجمعوا بين الأمرين ، إذ لم يتبين لهم المخطئ منهما ،ووسعهما الحق ما لم يقتحموا أحد الشروط ، ولم يزعموا أن ما لهم عليه دين الله ولايسع خلافه ، ولا يقيم أحدهما حجة على صاحبه ولا سيما من تأول قول الله – عز وجل - : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فاتهمواأنفسهم وغيرهم ، فعذرهم الله ما لم يقع الابتلاء .

فكل معصية ليس عليك فيهاإلا الكف ، وكل فرض ليس عليك إلا أن تعرف أنه واجب عليك وتعصي بتركه .

وكذلككل من وجب عليه شيء فضيعه ، فليس عليك من معرفته ومعرفة الفاعل إلا أن تعلم حرامعليه تركه ، وليس عليك من معرفة أسمائه شيء ، لا من الكبير ولا من الفسق ، ولا منالنفاق ، ولا من الشرك ، إلا الشرك الظاهر الذي ظهرت به تسوية الباري سبحانه بخلقه، أو نفي وجوده ، أو قصد إلى شخص بعينه .

فهذه الوجوه الثلاثة لا يسعك إلاتشريكه وتكفيره وإيجاب العقاب له . وأما ما سوى ذلك من المحرمات فليس عليك منها شيء، فأوجبت عليك معرفة شيء من ذلك ، فتعلم أنه حرام ، وأنه معصية .

وأما سوىهذين الأمرين وهو الشرك الباطن والفرض الواجب ، من معرفة محمد عليه السلام والبعثوالحساب والجنة والنار والمسلمين والمسلمات ، وجميع ما لا يسع جهله ، فليس عليك منهشيء إلا أنه حرام ، وأن علينا أن الفعلة التي صدرت من ولينا هي معصية ولا ندري مامبلغها فهي كالمسألة الأولى ، فولينا ولينا على حالة ، والمستبرز منه ليس علينا منهشيء ونكون على ولايته كأول مرة ، وقد قال الشيخ يغلا أبو خزر بن زلتاف – رضي اللهعنه – يسع جهل جميع أهل الحرام ما خلا الشرك . وقد تقدم ذكره .

وأما قولالشيخ : ( والاستحلال لما حرم الله والإصرار على ما حرم الله ) ثم قال : ( وذلك إذاعلمت أنه استحل ما حرم الله ، أو أصر على فعل ما حرم الله ) وشرط في هاتين ( إذاعلمت وكذلك في سائر المعاصي إذا علمت ) وأما إذا لم تعلم ، فليس عليك منه شيء .

مسألة :
ثم قلت : والمتولون إذا فعل واحد منهمفعلا ، لا يدري ما هو ، فبرأ منه آخر على ذلك الفعل ، فجاء آخر فبرأ منهما . ماالذي يسع السامع ؟
اعلم أن هذه المسألة مثل المسألة الأولى إلا في الثالث الذييبرأ من الفاعل والمفعول فإنه هالك ، لأنه لا يخلو أن يكون أحدهما مصيبا ، فبرأ منهفيهلك ، أما الفاعل أو المفعول ، فلا نجاة له مما تورط فيه ، فعلى السامع أن يبرأمن هذا الثالث الذي برئ منهما جميعا ، ومعنى المسألة إلى الضروريات أقرب .

مسألة :
والمتوليان إذا فعل أحدهما فعلا لايدري ما هو ، فبرئ منه الآخر على ذلك الفعل ، وبرئ الفاعل من الذي برئ منه ، ماالذي يسع السامع ؟
اعلم أن السامع في هذه المسألة كالأولى ، ليس عليه منهما شيء، ويكون على ولايته لهما حتى يتبين له الحق .
وأما إن زاد متول آخر إلى أحدهما ،فالمتوليان هما الحجة على الآخر .

مسألة :
والرجلان المتوليان إذا قال أحدهما : برئ منه فلان . ما الذي يسعالسامع ؟
اعلم أن يبرأ من القائل ، لأنه حكى عن ولينا كبيرة ، فإن كان الراميمن أهل الجملة ، فليس علينا من قول الولي شيء ، فهي دعوى .
فإن كان من أهلالجملة ، فليس علينا منهما شيء البتة .

مسألة :
ومن قال في شيء من الأفعال : ( إن هذا الفعل كبيرة أو كفر ) ثم فعله ،إن كان يبرأ منه أم لا ، فهو إلى البراءة أقرب ، أو قال : ( هذا نبي ) ثم أنكره ،أو قال ( هذا حرف من كتاب الله ) ثم أنكره ، فلا مخرج له في الوجهين جميعا . هو إلىالبراءة أقرب .

مسألة :
ورجل قال : ( برئت منواحد من هذه الجماعة ) وهم كلهم من أهل الولاية ، فهو هالك .
وإن كان بعضهم منأهل الوقوف ، فإن هذا ليس علينا منه شيء .
وإن قال : ( برئت من أهل ولايتكم ) برئنا منه ولو لم يخص أحدا من أحد .
وكذلك إن قال : ( هذا مما يوصف الله به ) ثمأنكره . وكذلك إن قال : ( هذا حرام ) ثم حلله ، أو ( حلال ) ثم حرمه ، ففي هذا شبهة، لأن العلماء تختلف فتقول : ( هذا حلال ) . وبعضهم يقول : ( هذا حرام ) ، إلا إنقال : ( إن الله حرم هذا مطلقا ) فأحله ، أو ( حلل هذا ) فحرمه ، قال الله تعالى : ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قلآلله أذن لكم أم على الله تفترون) .فجعل الفقهاء يقصرون التحريم والتحليلإلى الله ، ولا يجوز لغيره أن يحلل ولا أن يحرم .
وإنما ينبغي للعلماء أن يقولوا : يجوز ولا يجوز ، أو ينبغي ولا ينبغي . وأما حلال أم حرام ، فلا ، والشارع هو اللهسبحانه .

مسألة :
وقوله في رجل أقر بمعرفة نبي أوملك ، ثم أقر بجهله فقال : ( لا أعرفه ) ، لأنه يسأل إن كان عن عهد جهله وأنكر ماقال أول مرة . فهذا راجع عن علمه على بصره من أمره .
وإن أدعى النسيان في ذلك أوحملناه عليه ، ففي المسألة توسعة ، لكن المشايخ أكثر معلومهم أن هذا راجع من علمهفيما علم ، ولا يوافقني هذا الجواب ، وخلافه عندي أشبه وأولى وأرحم بنا وأرأف .


----------------------------------------------------
(1) في عبارة ط البارونية اضطراب أصلحتها بقدر المستطاع . والله أعلم ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
في ط البارونية ولي ساقطة أثبتهاتماما للمعنى والله أعلم . ( مراجع الطبعة الثانية ) .











حكم الذهول والنسيان
في مسألة النسيان والذهول

اعلم أن مسألة النسيان والذهول ، قد وردت فيكتاب الله – عز وجل – عموما ، فنحن على عمومها حتى يرد ما يخصصها ، قال الله تعالىفي كتابه في بعض الامتنان حكاية عن أوليائه – عز وجل – حين أثنى عليهم : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبهورسله لا نفرق بين احد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . لايكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسيناأو أخطأنا ) .

فجل المفسرين يقولون : أو أخطأنا أي تعمدنا . ويحكيالله – عز وجل – عن سائر المؤمنين أنهم استوهبوه النسيان ، فوهبه لهم ، وليس من صفةالكريم أن يستوهب إلى شيء – فيخبرنا أنه قد استوهبه – فيبخل به ولا يجود به ، وأنماهذه صفة للئيم أن يشنع على نفسه أنه استوهب ويذكر ذلك عن نفسه ثم أنه لا يهب .

ولو ساغ لأحد أن يقول : لم يسغ النسيان . لساغ لغيره أن يقول : وكذلكالمغفرة حين حكى عنه : ( غفرانك ربنا وإليك المصير) شهادةانتصاب النون من غفرانك ، يشهد لك .

ولو قال : غفرانك بضم النون ، لما حكمناعليهم بمسألة الغفران ، ولكن نصبه يدل على مسألتهم الغفران .
وكذلك سائر مااستوهبوه في هاتين الآيتين . وفي وقوله : ( ربنا لا تحمل عليناإصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عناواغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فإن جادلهم بهذاكله ، فما بال النسيان من بينهم ؟

فأجمعت الأمة على أن المؤمنين استوهبوا منالله تعالى هذه العشر كلمات فوهبهن لهم ، فمال بال الاستثناء في بعضها دون بعض ؟! والمسؤول كريم ، وهو أولى ما جاد لهم به .

فلو كان الاستثناء في بعضهاوالمنع ، لكان في آخر الآيتين أو في وسطهما ، فلو كان الاستثناء يسوغ في أول الأمر، لكان في العقوبات ، كما قال الله تعالى : ( وهو القادر على أنيبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعضانظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) فلما فرغت الآية سمع رسول الله ( صلىالله عليه وسلم ) قال : (( أعوذ بوجه الله)) فعاذه اللهتعالى من الأوليين .

وأما أن يستثني عليه ما أمتن به عليه وتفضل من غير ذنبولا سبب ، إلا برأي ذي الرأي فبعيد ، وأخرى : أن الاستثناء أمر غالب ليس للعبد فيهصنع ن ولم ترد شدة في نسيان شيء إلا في ناسي القرآن ، قد ورد فيه التخصيص .
قالالرسول عليه السلام : (( إني نظرت في ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظممن ناسي القرآن)) . وذلك أنه ينساه إلا بهجرانه إياه وهجران تلاوته ، وإنماأراد القراءة ولم يرد نسيان نفس القرآن .

وقد عذر الله المؤمنين في نسيانأعظم العبادات وهي الصلاة ، فكيف بما في دونها .

ولو كان النسيان من اختيارالعبد لانتبه ، وقد اجتمعت الأمة على أنه ليس من اختياره ، واجتمعت على النسيان : أنه محطوط عن هذه الأمة ن إلا شواذ ذهب بهم الرجوع عن العلم ، وليس النسيان بالرجوععن العلم في شيء .

والرجوع عن العلم : أن يقصد إلى ما أقره به ، فينكره علىعلم بإقراره ، أو تخطئه ما صوبه ، أو تصويب ما خطأه ، والرب تعالى يتجاوز عن كثيرمن هذه الأمور ، فكيف بأمر ق سقط عن أذهانهم وأوهامهم لا باختيارهم ، وليس هذا منصفة الحليم الرؤوف الرحيم ..!

وقال الشيخ أبو خزر يغلا بن زلتاف – رضي اللهعنه - : ( بلغنا أنه ما سقط عن وهم الإنسان لا يؤخذ به ) ، فأين ذهب بهم وبمن قالبخلافة وهو الإمام الغاية القصوى ، والرب تعالى حطوط جعل النسيان عنهم بمثابة لهم ،حين آمنوا كلهم بالله وملائكته وكتبه ورسله وقولهم : ( سمعناوأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فرغبوا في المغفرة فبشرهم أنه ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) .

فلما خفف عنهم سألوه ترك النسيان فقالوا : ( لا تؤاخذناإن نسينا أو أخطأنا) فما بال الشدة في أول موهبة الله – عز وجل – للمؤمنين .

وجل العلماء والمفسرين يذهبون في الخطأ إلى العمد : يقلون : (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) أي تركنا أو تعمدنا .
وقالموسى بن عمران عليه السلام للخضر عليه السلام : (لا تؤاخذني بمانسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) . فلوجب أن ذلك من الخضر عليه السلام أي فعلإرهاق عسر ، ولا يليق بالحكيم الرحيم.

وقال يوشع بن نون – رضي الله عنه - : (( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)) . فجعل الله تعالىمعذرة المؤمنين في أمر نسوه ، وإحالة الذنب على الشيطان ، فمن نابه أمر نسيه أحالهعلى الشيطان ، وقال الله تعالى في آدم عليه السلام معتذرا له : ( فنسي ولم نجد له عزما) على عمل المعصية .


معارضة :
فإن قال قائل : على مذهبك في النسيان أنه يسوغ نسيانالرب تعالى ونسيان آياته ، وقد قال الله تعالى ذما لهم : ( نسواالله فنسيهم ) . وقال : ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) وقوله : ( ولا تنس نصيبك من الدنيا) .

فلو لم يكن النسيان من أفعاله لما أمرهالله تعالى بترك النسيان ولا نهاه عنه والاهتبال نصيبه .

اعلم أن هذهالثلاثة الآي ، قد أجمع أهل التفسير فيها أنه يريد بها العمد ، وأن كلامنا على نسيهالواحد منا طبعا .
وأما قولك إن تنسى الباري سبحانه ، فلم يستقم لأحد بعد معرفتهإياه أن ينساه ، لكن عمدا لا ذهولا ، لأن العبد يتصرف بين خلق الله تعالى فلا يكاديرى شيئا إلا تذكره وحصلت عند معرفة الله تعالى به ، كما لا يستقيم من مضروببالسياط أن ينسى الضرب وهو يتوالى على ظهره .
وكذلك آيات الله تعالى ، لما علمالخلق البلوى بها أين ما تصرفوا والحاجة الماسة التي لا تفارقهم بعذر نسيانه ، علىأنه ذم الله – عز وجل – فاعل ذلك قال : ( نسوا الله فنسيهم ) .

نسأل من ضيق من المسلمين في هذه عن أسئلة ثلاثة :
أولها : ما البرهانعلى ما قاله ؟ ولن يجده من كتاب الله تعالى ولا من سنة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا من العقل .
والثاني : الأحكام ، أن التشريك والكفر والقتل والسبي والغنيمة ،ولا سيما في أمر مختلف فيه ، أكثر الأمة على حطوطه ، فإن يكاد فشاذ غير معروف فيالصدر الأول ، فإن كان تقليدا فبخلاف ما أشار إليه القرآن والسنة والرأي والعقل .

أما القرآن فقد أشرنا إلى ما فيه المعذرة للناس ، والسنة كذلك . أما منجهة العقل : فإن الله تعالى لا يؤاخذ عبده بالضروريات ، والنسيان أمر ضروري ، قالالله – عز وجل - : (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) .
أما من جهة الشرع : فإنه روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيمايرويه عن ربه أنه قال : قال الله تعالى : (( أنا عند ظن عبديفليظن بي ما شاء)) . فإن شدد على نفسه أمرا وسعه الله عليه شدد الله عليه .

فليس من العقل أن تأخذ بالشدة في أمر اختلف فيه العلماء ووسع لجميع فيهبالشدة ، فيعاملك الله تعالى على تلك الشدة ولك عنه مندوحة ، ولابد للباري سبحانهأن يسأل عبده هذه المسألة ، من وسع ومن حظر . أما من وسع فقد أشرنا إلى ما فيالقرآن فيها والسنة .

وأما من شدد فالاختيار بيده فليظهر حجته ما دام حيافهو الحزم ، فإن كانت فليظهرها ، وإن لن تكن فليقطع عنها ، ويعامل الكريم بالكرم ،ولا يعامله باللؤم .

والثالث : ما حال المخالف في هذه المسألة أمقطوع العذرأم لا ؟ فليقل ما شاء .


حكم من فعل كبيرة ثم تاب
مسألة :
ورجل رأينا منه كبيرة ثم تاب منها ، أو أوفى بدين الله عند بعضنا ،فتوليناه ، ثم برئ منه بعد ذلك آخر على ذلك الفعل ، أيبرأ منه أم لا ؟ فهذا فيه مافيه .

وأما من جاء وبرئ منه هكذا ، فلم يصف فعلا ولم يذكره ، فهذا أقرب إلىالملامة .

وقد سأل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في أبي بكر أنه شهد علىالمغيرة بن شعبة أنه زنى في ثلاثة أنفس ، فأقام عليهم عمر بن الخطاب حد القذف ،وتمادى أبو بكر في الشهادة عليه . ثم قال عمر : ( ولو عاد أبو بكر إلى قذف المغيرةسبعين مرة ما عليه إلا الحد الأول ) .


مسألة في حكم رجل كان في الولاية ثم برأ منه
مسألة :
ورجل كان عندنا في الولاية ، ثم برأنا منهعلى فعل المستحق عليه البراءة ، ثم أصر وأبى من التوبة ، فجاء رجل حكى عنه أفعالامن الكبائر ، والحال التي كان عندنا من أهل الولاية والصلاح ، أكان يبرأ من الحاكيأم لا ؟
اعلم أن ليس علينا منه شيء ، وسقطت حرمته .
مسألة :

ورجل تبرأ من رجل ، وقال للمتبريء منه : قد توليتك على براءتكإياي ، أكان يبرأ من أحدهما ، وهما من أهل الولاية ، أو من غير أهل الولاية ؟
اعلم أن من تولى عن خصلة واحدة هالك .

وعن رجل تولى رجلا من أهل الكبائرعلى خصلة من الطاعة رآها منه ، أكان يبرأ منه أم لا ؟ أو على فعل الطاعة ولا معصية، أو تبرأ منه على خصلة من الطاعة ، أو على شيء لا يستحق منه البراءة ، ماذا يفعلالسامع ؟
اعلم أن هذا في هذه المسائل الثلاث هالك ، فإن علم السامع تبرأ ، وإنلم يعلم فلا شيء عليه .



مسألة في حكم رجلين متوليين شهدا على رجل بكبيرة
مسألة :
ورجلان متوليان شهدا على رجل بكبيرة ، فبرأنا منه ، ثم شهد عليهأحدهما بالنفاق ، ماذا يفعل بهما ؟
أما من شهد بالشرك فقد رمى الموحد بالشرك ،إلا أن أظهر الفعل الذي شهد عليه الشاهد فليس علينا منه شيء .

وأما من شهدعليه بالنفاق فليس علينا منه شيء ، لا ظهر الفعل ولا لم يظهر .
وأما من شهد عليهبالزنا بعد ما برأنا منه ، أو قال الكبيرة التي برأنا منه بها زنا .
اعلم أن هذاالأحق بصاحبه بالهلاك ، وليس علينا من رده إلى الولاية شيء .


مسألة في رجل شهد عليه الشهود أنه سرق أو زنى
مسألة :
ورجل شهد عليه الشهود انه سرق أو زنى أو قذفأو أكل ميتة أو دما أو لحم خنزير ، ولم يشهدوا على أن الذي فعله من هذه الأفعالكلها : أنه كبيرة أو غير كبيرة ، فجاء رجل آخر غيرهم فقال : إن هذه الأفعال كلهاكبائر أو كفران ، كان يبرأ من هذا وهم متولون كلهم .

اعلم أن هؤلاء الثلاثةما علينا من براءتهم شيء ، ولا براءة الذي شهدوا عليه ، فهم أهل الولاية إلى الآنإذا ظهر الفعل ولم يكن عندنا منه علم ، ولو لم يظهر الفعل أيضا .

مسألة :
وإن أقر رجل أنه شرب خمرا ، ولم يعرف السامع ثم أفتىله أمين واحد : أنه كبيرة ، فحتى يجتمع أمينان ، وكذلك يحكم ببراءته .
وأما إنكان عنده قبل أن يفعل الفاعل ، أو شهد الشاهد أنه كبيرة قبل فعل الفاعل ، فليبرأمنه .
وأما إذا وقعت شهادة الشهود على التحريم لا غير ، فليس هنالك شيء .



مسائل متنوعة في الولاية والبراءة
مسألة :
ورجل رأى رجلا يضربه الإمام العدل الحد ،فقال له رجل واحد أو اثنان : إنه زنى فأقام عليه الحد . أكان قذف أم لا ؟
اعلمأنه قذف ، يبرأ منه .

مسألة :
ورجل رمى متوليابكبيرة ، ولم يعرف أن الذي رماه به كبيرة أو غير كبيرة ، ثم فعل بعد ذلك المتولىكبيرة فبرأنا منه ، ثم عرفنا أن الذي رماه به الرامي في حال الولاية أنه كبيرة ،أكان يبرأ من الرامي أم لا ؟ أو كان ليس عليه منه شيء ؟ فإنه يبرأ من الرامي .

مسألة :
ورجل شهد عليه الشاهدان الأمينانبالولاية فتوليناه ، ثم قالا بعد ذلك : إنما توليناه بشهادة فلان وفلان ممن لايتولى بهما ، أكان يرده إلى الوقوف أم لا ؟
فالجواب : لا يرجع إلى الوقوف .
وكذلك إن قالا بعدما تبرأنا منه بشهادة فلان وفلان ، ممن لا يبرأ بهما عندنا ،فليس علينا في هذه المسألة شيء ، والمبرئ مبرأ والشاهدان سالمان عندنا .

مسألة :
ورجلان متوليان قال أحدهما لصاحبه : أحدهما (1) كافر ، أما أنت وأما أنا . أكان يبرأ منه؟
الجواب : أن هذا القائل هو المبرأ .
وإن قال : واحد من هذه الجماعة كافر ،وأنا وهم من أهل الولاية جميعا . فهذا هو إلى الكفر أقرب.

مسألة :
ورجل رأى من رجل كبيرة فبرأ منه ، ثم رأى منه أخرىشركا أو نفاقا ، فليس عليه إعادة البراءة .
ورجل وجبت عليه ولاية رجل وبراءة رجل، فتولاهما جميعا معا ، أو برأ منهما جميعا معا ، ثم نزع قوله من الذي أخطأ فيه ،أكان تجزيه البراءة للمتبرأ ، أو ولايته للمتولي أم لا ؟
اعلم أن ولايته وبراءتهبنى بهما على أهل المعصية ، فلا يجزيه حتى يعيدها للصحيح ، وعلى أن الشيخ أبا خزرقال : ( اعلم أن الضمير في ذلك يجزي ) .

مسألة :
ورجل فعل كبيرة فاستتيب منها فتاب ، ثم جاء بعد ذلك فقال : لم أتب قط مما فعلت، وإني متماد عليه ومصر . فهذا يبرأ منه .
ورجل ولايته توحيد ، وآخر ولايته طاعة، فتولاهما جميعا بلفظ واحد ، فنزع قوله من أحدهما ولم يبينه لنا ، فما أبلغه نزوعه، أشرك فعله أم نفاق ؟
اعلم أن ذلك إذا نزع ولايته من المنصوص كان شركا ، ومنغيره كان نفاقا .

مسألة :
ورجل لم يكن فيه خبرمن الله ولا بيان أنه مسلم عند الله أو كافر ، ولم يكن علينا بيان . فقال : إنهكافر عند الله ، أو مسلم عند الله .
اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذه المسألة :
فعلى مذهب أهل الدعوة فقد أخطأ ، ولن يعلم المسلم والكافر عند الله أحد إلابخبر من الله تعالى ، وقد قال في عثمان بن مظعون ما قال حين ذكرته امرأة وثبت عليه . وقالت : ( إن شهادتي عليك شهادة باتة ثم مات . فقال رسول الله ( صلى الله عليهوسلم ) : (( إني والله لرسول الله ، ولا أدري ما يفعل بي وما يفعل بكم )) .
وكلام العجوز في حارثة الضبي الذي قتل ببدر . وقالت : ( سقيا لك حارثة . فقاللها رسول الله عليه السلام : (( وما يدريك لعله يمنع ما يضره ، ويتكلم فيما لايعنيه )) .
وبعضهم يقول : إن من أظهر من الإسلام الشهادة ، فهو مسلم عندنا ومسلمعند الله ، ومن أظهر الكفر فهو كافر عند الله وعندنا ، كما أنه إن تحرك فهو متحركعند الله وعندنا ، والساكن كذلك .
فعلى هذا الوجه الكلام محتمل ، والمحتمل ساقطمن يد المحتج .

مسألة :
ورجل يبرأ من رجل علىالتوحيد ، ما يوصله ذلك أشرك أم نفاق ؟
اعلم أن من تبرأ من احد على التوحيدمطلقا بهذا اللفظ فهو مشرك ، وإن كان يبرأ منه على خصلة ، مما هي عندنا توحيد وليستبتوحيد عند المخالفين ، فهذا محتمل ، فهو متأول ، مثل من يزعم أن الإقرار بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بتوحيد ، ولكن إن وجه البراءة على الإقرار بمحمد عليهالسلام فهو مشرك . وإن بعض الناس ابن الحسين وأصحابه (2) . إن الإقرار بغير الله ليس بتوحيد .

مسألة :
ورجل قال قولا يشرك به . ثم قال : تبت إلى الله أكان يجزيه ذلك ؟
اعلم أنهيجزيه .
ورجل قال لآخر : توليتك . فقال له الآخر : تبرأت منك على ولايتك إياي . ماذا يفعل السامع بهما ، كانا من أهل الوقوف ، أو كانا من أهل الولاية ؟
فإنكانا منة أهل الوقوف ، فليس علينا منهم شيء .
وإن كانا من أهل الولاية ،فالمتبريء من المتولى هالك .

مسألة :
ورجل متولىبريء منه رجل متولى . فقال له متوليان : توليناك على براءتك إياه ، أكان يبرأ منالرامي ؟
اعلم أن القول قد تقدم فيمن تولى على خصلة واحدة أنه هالك ، وهذانالمتوليان رجلا على براءة رجل ، هالكان .


---------------------------------------
(1) لعل الصحيح ( أحدنا ) . ( مراجع الطبعة الثانية ) .
(2)
لعل منتمام الكلام وجود ( قال ) في هذا الموضع والله أعلم . ( مراجع الطبعة الثانية ) .






رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثالث , الجليل , الجزء , والبرهان


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب : الفتاوى كتاب الصلاة ج1 لسماحة الشيخ أحمد الخليلي عابر الفيافي نور الفتاوى الإسلامية 8 10-26-2011 09:29 PM
الدليل والبرهان الجزء الثاني الامير المجهول المكتبة الإسلامية الشاملة 6 01-13-2011 01:27 PM
الدليل والبرهان الجزء الاول الامير المجهول المكتبة الإسلامية الشاملة 7 01-13-2011 01:13 PM
تشكيلة فريدة من الأدوات في مكتبة المصمم المحترف عابر الفيافي الفوتوشوب وملحقاته 2 01-02-2011 03:48 PM


الساعة الآن 08:40 AM.