محاربة الامام عبد الوهاب
رحمه الله للواصلية
حدث غير واحد من اصحابنا ان الامام عبد الوهاب
رحمه الله لما أوهن
الله على يديه كلمة النكار واورثهم الخزي والعار ، تحرك الواصلية بعض الحركة ، وهم قوم من البربر اكثرهم من زناتة ، وذلك لما احسوا بوقوع التفرق وحاولوا ان ينتهزوا فرصة ، فبلغ الامام ذلك فاعذر اليهم مرة بعد مرة ، وقد نشأ في الواصلية شاب حدث السن شجاع لا يقوم له شيء ، وهو ابن اميرهم ، وفيهم رجل ينتحل المناظرة فتتكاتفت كلمة الواصلية ، واجتمعوا من كل أوب منحازين من تاهرت ، واكثرهم أهل البادية . فاظهروا مخالفة الامام
رحمه الله ، فاعذر اليهم ، ثم خرج اليهم ، بعساكر كثيرة فقاتلهم مرة بعد مرة فكان الشاب الواصلي لا يدرك احدا الا قتلة ، وابوه يحرضه على القتال .
فلما رأى ما نزل به منهم ، وان حربهم مقيم ، أرسل إلى أهل نفوسه ستمدهم طالبا منهم جيشا نجيبا يكون فيهم رجل مناظر عالم بفنون الرد على المخالفين ، ورجل علام بفنون التفاسير ، ورجل شجاع ، يستعده لمبارزة الشاب الواصلي ، ولما وصلت رسل الامام
رحمه الله إلى جبل نفوسه ائتمروا فيمن يرسلونه إلى الامام ، فاجتمعوا على ان يبعثوا اربعة نفر احدهم مهدى الويغوي ، والثاني ايوب بن العباس ، والثالث ابن يأنيس ، والرابع قيل اسمه محمد ابو محمد ، وقيل ابو الحسن الابدلاني رحمهم
الله ، فاستحضرهم عامل جبل نفوسه فملا حضروا اعلمهم بما كان من استمداد الامام ، واتفاق الجماعة على توجيههم وامروهم ان يتأهبوا للمسير .
فبلغنا ان النفر تساءلوا فيما بينهم فقال لهم مهدي اما انا فاكفيكم المناظرة ، وقال محمد بن يأنيس وانا تفسير القرآن ، قد اخذته عن الثقات ، واعتمدوا على أيوب في المبارزة . وأخذ النفر في اهبة السفر فخرجوا من جبل نفوسة متوجهين إلى تاهرت ، فلما انفصلوا عن الجبل رغب اليهم محمد بن يأنيس في ان يكون لهم خادما فأبوا عليه ، فالح عليهم إلى أن اجابوا رغبته فجعلوا كلما رحلوا ، ساروا نهارهم الى الليل ، فاذا نزلوا عمد محمد بن يأنيس إلى خيلهم فعلفها ، ثم اخذ في معالجة معيشتهم فإذا طعموا أو ناموا اقبل على الصلاة راكعا ساجدا إلى الفجر ، وكان صائما نهاره وقائما ليله ، فكان هذا دأبه ودأبهم ، فلما رأوا تماديه على ذلك شق عليهم ، واشفقوا عليه . فرغبوا اليه ان يرفق بنفسه أو يدع عن بعض ما تكلفه في سفره ، وينام ساعة من ليله ، فأبى ، فعزموا عليه ان يترك ، والا نظروا في خادم سواه ، فلما تحقق جدهم وخشي ان يعزلوه عما تولى من خدمتهم . قال : قد اجبت ، على ان تأذنوا لي في ركعتين لا غير ، فطابت انفسهم وأذنوا له في الركعتين فلما كان في الليلة المقبلة وقد فرغ من خدمتهم قام ليأتي بالركعتين فقرأ في الركعة الاولى نصف القرآن ، وفي الثانية النصف الآخر ، فطلع عليه الفجر ، فلما كان من الغد وعلم اصحابه بما كان منه شق عليهم اشد مما كان قبل ، فرغبوا اليه في ان يعودوا الى الحالة الأولى ، ورأوا ذلك ارفق به مما صار اليه .
وبلغنا انهم ناموا ذات ليلة فاستيقظ احدهم فرأى ابن يأنيس قائما يصلي وكانت ليلة مطيرة شديدة البرد والريح فسمع لكساء بن يأنيس صريرا اذا ضربته الريح ، فقال : ان كان لا يدخل الجنة الا من كان مثلك يا ابن يأنيس فستستوحش فيها . بل
الله لطيف بعباده ورحمته واسعة .
وبلغنا ان الامام
رحمه الله لما سمع بخروجهم من جبل نفوسه متوجهين اليه قال لعبيدة من بشرني منكم بقدومهم فهو حر ، وكان العبيد اذا اصبح خرجوا من المدينة ينظرون يمينا وشمالا ، وكان احد عبيد الامام أعرج لا يستطيع النهوض مع العبيد فكان يرقى سور المدينة فلما كان يوم قدومهم أبصرهم العبيد الذين كانوا في خارج المدينة ، فلما تحققوا ذلك بادروا يتسابقون ليخبروا الامام فلما رءاهم الاعرج عن بعد ، عجل إلى الامام فبشره ، فخرج حرا فجاءه اصحابه فوجدوا الاعرج قد سبقهم بالبشارة فقالوا ( فاز بها الاعرج ) فلما وصل النفر المدينة اخبروا الامام بانهم اربعة فساءه ذلك ، وكان ينتظر قدوم عسكر كبير فلما دخلوا على الامام
رحمه الله ، سألهم عن احوالهم وعن قدومهم في اربعة نفر دون عسكر . فاخبره كل واحد منهم بما تكفل به ، واعلمه انهم بمعونة
الله عز وجل ومساعدة الأمام يقومون مقام العسكر . فامر الامام
رحمه الله بانزالهم في دار الضيافة ، فاقاموا في أبر حال .
وبلغنا ان الامام اجل قبل ذلك الواصلية أجلا ، قبل قدوم النفوسيين ، فلما قدموا قال لهم : تأهبوا للخروج قالوا له : دعنا حتى نستريح وتستريح دوابنا فقد اساءها السفر ، فأسعفهم ، ولما جرى ذكر المناظرة بينهم وبين الامام واعلمهم مهدى انه يكفيهم المناظرة قال لهم الامام : انه جرى بيني وبين الواصلي المنتحل المناظرة كلام ، اريد ان اعرضه عليك فقال : افعل يا امير المؤمنين ، فجعل الامام يعرض عليه ما وقع بينهما من مناظرة ، ويذكر سؤال كل واحد منهما ، وجواب الآخر فكلما وجد من كلام الواصلي حيدة ، قال : يا امير المؤمنين زاغ في الحجة ، وزاغ عن الحجة ، حتى اطلع الامام
رحمه الله على جميع ما لبس فيه المعتزلى ، ومواضع حيداته ، فوثق بان مهديا سيظفر بالمعتزلي.
وبلغنا ان مهديا لما صار بتاهرت - جعل - يغيب عن اصحابه اياما لا يدرون له مستقرا ، حتى ساءت ظنونهم ، فلما كان ذات ليلة قدم عليهم ، فقالوا له: قد استبطأناك ففيم كان مغيبك ؟ فقال لهم : انى قد رددت الى مذهب الحق سبعين عالما من أهل الخلاف .
ثم ان الامام بعث إلى رئيس المعتزلة بانه سيخرج اليهم في يوم كذا ، فلما كان ذلك اليوم وقد ساءت ظنون المعتزلة وامتلأت قلوبهم رعبا يتوقعون ما سيجلى لهم من أمر نفوسة فكانوا في غم شديد ، فامر الامام رعيته بالخروج الى الواصلية والحضور لمناظرة مهدى للمعتزلة .
فقال له ايوب بن العباس يا امير المؤمنين بخيل نركبها ، فامر الامام
رحمه الله ايوب بدخول دار الدواب فدخل الاصطبل فجعل كلما رأى فرسا حسن الصورة ، أخذ بناصيته وجذبه فلا تثبت حوافره على الأرض يكاد يسقط على رأسه ، حتى أتى على آخرها فلم يعجبه منها شيء فقال ايوب للامام اجمع(1) فرسي فان تعبه علي احسن إلى من غيره ، فامر الامام بفرسه فاحضر ، فلما جذبه كما فعل بكل فرس اجتذبه قبل ولم يال جهدا في جبذه فاقنع الفرس برأسه في الهواء طامحا ، ولم تزل له حوافر مثبتة في موضعها ، ثم ردد النظر في الفرس فوجد به الحفاء ، فامر باحراق الرمل حتى حمي ، وفرش ، وأمر عليه فرسه يطأ ذلك الرمل بحوافره ، ففعل به ذلك ثلاثة ايام ، فبعد ذلك امر الناس بالخروج ، فخرجوا والتقى العسكران والناس ينظرون الى ايوب ، فيتعجبون بما يسمعون عنه من اشجاعة ، وانه لا يلقى شجاعا الا قتله ، فاعذر الامام الى المعتزلة ودعاهم الى ترك ما به ضلوا ، فأبوا الا المناصبة وسألوا المناظرة ، وقد صفت الصفوف فخرج مهدى لمحمد بن يأنيس أخرج اليه فناظرة ، فقال له ابن يانيس
رحمه الله : بل اخرج اليه انت ، ولست باعلم منا ، ولكن اخشى ان يعقدني العرق الذي من قبل ذلك اسملته نفسه فارسل إلى مهدى في خفية من اصحابه : ان انا ناظرتك فظفرت بي سترت علي ، وان ظفرت بك سترت عليك ، فليس منا احد يدري لمن يكون الظفر . فارسل مهدى إلى اصحابه ان علامة ظفري بالمعتزلي ان أنزع القلنسوة عن رأسي ، واضعها تحت ركبتي ، ثم تناظرا فجرت بينهما وجوه من المناظرة والناس يعلمون ما يقولون ،فلم يظفر احد بصاحبه ، ثم دخلا في مناظرات لم يفقهها احد غير الامام ، ثم دخلا في وجه لم يفقهها أحد ولا الامام ، فما كان باوشك من ان ظفر به مهدى والقى القلنسوة ، فكبر اصحاب مهدى لعلمهم بظفره بالمعتزلي ، فلما رأى المعتزلي ذلك قال غدرت يا مهدى .
وافترقا عن مجلس المناظرة ن وقد اظفر
الله مهديا ، ونصر حجة أهل الحق ولله الحمد . ثم خرج الفتى المشهور بالشجاعة يطلب المبارزة ، فأخذ ايوب بن العباس في اهبة الخروج اليه فجبنذ فرسه حتى استوى بين الصفين واراد ركوبه بحيث يراه كلا الفريقين ، فتجاهل في ركوبه ، فضحك منه عامة الفريقين وازدروه ، فقال لهم ابو الفتى الواصلي الآن جاء من يقتل ولدي ، افلا ترون ان فرسه لما ركبه ادلى واسترسل ، ولا يفعل الفرس ذلك الا تحت الفارس الحاذق الممارس ، فخرج ايوب الى لفتى فبارزه فتطاردا قليلاً ،وتضاربا حينا ، فحمل عليه ايوب فضربه وقتله ، وذكر بعض أصحابنا اه شكه بالرمح واحتمله كالجرادة ، فلما رات المعتزلة رئيسها وفارسها صريعا ، ولوا منهزمين بعد ما حمى الوطيس وقتل الرئيس واستنجر القتل في المعتزلة وكان أفلح بن عبد الوهاب يضرب ناحية وايوب يضرب ناحية أخرى ، وكان سيف ايوب بن العباس ليس له الا حد واحد ، وقيل ان ذلك اذا عيى حمله على عاتقه ، فلما امعن اهل العسكر في قتل الواصلية ودخوهم ، وضعت الحرب اوزارها ، ولم يكن بقى من المعتزلة إلا اليسير وصار المسلمون يعدونهم من قتلة أفلح من قتله أيوب فوجدوا احدهما يزيد على الآخر واحدا ، قيل وصاحب الزيادة هو افلح ، وذكر بعض اصحابنا ان قتلى افلح اربعمائة . ولما أوهن
الله المعتزلة ، ونهزموا وعسكر الامام ي سافلتهم ، بلغنا ان ايوب بن العباس رأى شخصا قائما كهيئة ارجل فى حومة القتال ، فخاله رجلا فضربه بالسيف فأحس شدة ، فلما رجع قال لاصحابه : انى ضربت شيئا فيه ولم ادر ما هو فتصفحوا القتلى فوجدوه عمودا قائما ، فلمسوه بأيدهم ، فسقط منفصلا من الموضع الذى أصابته ضربة ايوب .