منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - تفسير سورة البقرة...للشيخ العلامة محمد بن يوسف اطفيش
عرض مشاركة واحدة
افتراضي  تفسير سورة البقرة...للشيخ العلامة محمد بن يوسف اطفيش
كُتبَ بتاريخ: [ 02-24-2011 ]
رقم المشاركة : ( 1 )
الصورة الرمزية cdabra
 
cdabra غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 176
تاريخ التسجيل : Oct 2010
مكان الإقامة : ابراء
عدد المشاركات : 493
عدد النقاط : 20
قوة التقييم : cdabra على طريق التميز


سُورة البَقَرَة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الــــم (1)

الله هو العالم بمعناه ، وبمعنى ، المص ، و ، المر ، الر ، و ، كهيعص ، و ، طه ، و ، طسم ، و ، طس ، و ، يس ، و ، ص ، و ، حم عسق ، و ، ق ، و ، ن ، وأذكر ما قيل ، الهمزة الله ، واللام لطيف ، قال الخليل : نحو به ، وكه ، بالحركة وهاء السكت ، مسميات ، ونحو الباء والكاف اسم ، قلت ، فمسمى الهمزة ، أه بالحركة بعدها هاء السكت ، والاسم ءاء بهمزتين بينهما ألف ، ولم ينطق غيرى بهذا .

--------------------------------------------------------------------------------

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

{ ذَلِكَ الْكِتَبُ } القرآن ، الشبيه في علو شأنه بالعالى حسا كالعرش ، وأصل الإشارة أن تكون إلى محسوس ، فإذا أشير إلى غير محسوس لاستحملة إحساسه ، مثل ، ذلكم الله ربكم ، أو لعدم حضوره نحو ، تلك الجنة ، فلتحققه كالمشاهد ، وعبارة البد للتعظيم ، ولأن كل ما انقضى ، أو ليس في يدى فهو بعيد { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ليس أهلا لأن يشك فيه عاقل ، لظهور براهينه . ومن شك فيه ، أو من الله ، فلقصور نظره ، أو عدم استعمال عقله . قيل ولا ريب فيه عند الله والمؤمنين والنبى ، ويضعف أن يكون المعنى ، لا تشكوا فيه ، لما علمت من ضعف مجىء الجملة الاسمية للإنشاء ، { هُدًى } من الشرك والمعاصى { لِلْمُتَّقِينَ } الذين قضى الله أن يرجعوا إلى التوحيد والعبادة ، وترك المعاصى ، والحذر منها ، ومن العقاب عليها ، أو ذلك ثابت لهم أو زيادة ، أو أراد للمتقين وغيرهم ، فحذف ، وهذا ضعيف ، أو خصهم ، لأنهم الفائزون ، كقوله تعالى : « إِنما أنت مُنذر مَن يَخْشَيهَا » وهذا على الحذف ، والتقوى تقوى الشرك ، وهى تقوى العوام ، ولا تنفع فى الآخرة بلا أداء فرض ، واجتناب فسق ، وتقوى الخواص ، وهى تقوى الشرك والمعاصى مع أداء الوجب والسنن المؤكدة ، وتقوى خواص الخواص ، وهى تقوى ما يشغل عن الله ، عز وجل ، ويسميه بعض العلماء ورع الصديقين ، وهدى خبرثان لذلك ، أو لا ريب محذوف الخبر ، وفيه خبر لهدى .

--------------------------------------------------------------------------------

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } في قلوبهم وألسنتهم لا فيها فقط { بِالْغَيْبِ } بذى الغيب أو الغائب ، وهو الله ، جل جلاله ، وما أخبر عنه مما سيكون في الدنيا أو الآخرة ، أو كان ولم يشاهدوه أو آمنوا بذلك ، وهم في غيب عنه { وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ } يأتون بها في وقتها المختار ، لا الضرورى إلا لعذر بطهارة ، وخشوع وإخلاص ، وترك ما يكره حتى كأنها كجسم مستقيم لا عوج فيه ، أو كسوق أقيمت ورغب فيها ، وذلك مستتبع لإقامة صلاة النفل إلا أنه لاعقاب عليها ، وقال الجمهور : المراد صلاة الفرض ، وعليه ابن عباس ، ومثل هذا اللفظ حقيقة شرعية عن معنى لغوى مجاز لغوى؛ كما هو المشهور ، وقال الباقلاني مجاز ، وقال المنزلة حقيقة شرعية مخترعة ، وليست منقولة عن معان لغوية { وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ } طعاما أو دارهم أو ثيابا ، أو دواب ، أو عقارا ، أو غير ذلك من الحلال ، إذ لا مدح بإنفاق الحرام ، لأن التصرف فيه وإمساكه كفر { يُنْفِقُونَ } في طاعة الله ، كإنفاق من تجب نفقته من أهل ورحم وتنجية مضطر ، وضيف وإنفاق الزكاة ، وكإنفاق تطوع ، وكإنفاق نفسه بنية أن يتقوى على العبادة وأن ينفر عن مال الناس ، قيل ، إن أريد بالتقوى في قوله ، المتقين ، اتقاء المشرك فالذين . . . الخ صفة مخصصة . أو ترك ما لا بأس به مخافة أن يقع في اليأس فمادحة ، كما فى حديث الترمذى عنه صلى الله عليه وسلم : « لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا ما فيه بأس » .

--------------------------------------------------------------------------------

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

{ وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } القرآن وسائر الوحى { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } على الأنبياء ، من كتب وغيرها { وَبِالآخِرَةِ } البعث ، والموقف ، والجنة ، والنار ، قدم الاهتمام ، والفاصلة على قوله { هُمْ يُوقِنُونَ } وذكْر الذين يؤمنون بما أنزل إليك تخصيص بعد تعميم ، وهو شامل لمن لم يكفر من أهل الكتاب بسيدنا موسى ، أو سيدنا عيسى ، عليهما السلام ، ولما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكفر به ، ولكنه طلب الدليل ، فآمن به صلى الله عليه وسلم ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، وقيل : هم المراد ، وفي الآية ترغيب لأهل الكتاب بسيدنا موسى ، أو سيدنا عيسى ، عليهما السلام ، ولما بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكفر به ، ولكنه طلب الدليل ، فآمن به صلى الله عليه وسلم ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، وقيل : هم المراد ، وفى الآية ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان ، وعطف الذين عطف صفة في وجه العموم ، وإن أريد مؤمنو أهل الكتاب فمجرد عطف أو مبتدأ خبره أولئك . . . إلخ .

--------------------------------------------------------------------------------

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

{ أُولَئِكَ } الموصوفون بتلك الصفات ، العالون شأنا ومرتبة ، وقس على ذلك سائر إشارات البعد فى سائر القرآن . وما كان في السوء فإشارة البعد فيه للبعد عن مقام الخير { عَلَى هُدًى } متمكنون من الهدى تمكن الراكب من مركوبه ، القوى المطاوع الملجم بلجام فى يده المستولى { مِنْ رَّبِّهِمْ } آت من ربهم ، أو ثابت منه دلالة وتوفيقاً { وَأُولَئِكَ } كرر الإِشارة إذ لم يقل وهم المفلحون ، تنبيهاً على مزيد الاعتداء بشأنهم ، وعلى أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى أن يحصل لهم الكون على الهدى من ربهم ، وكونهم مفلحين ، كما قال { هُمُ المُفْلِحُونَ } الفائزون بالحظ الأكمل ، النجاة من النار ودخول الجنة ، وهذا حصر ، فمن ترك الصلاة أو الزكاة فليس مفلحاً ، فهو فى النار مخلد ، لأن مقابل الإفلاح الخسار والهلاك .

--------------------------------------------------------------------------------

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } من سبقت لهم الشقاوة كأبى جهل وأبى لهب ، ممن نزل فيه الوحى ، أو لم ينزل { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ } أعلمتهم بما أنزل إليك مع تخويف فى وقت إمكان أن يتحرزوا بالإيمان عن الوعيد { أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } لسبق القضاء بأنهم لا يؤمنون ، أخبره الله بذلك ، لئلا يتأسف على من أعلمه الله بشقاوته ، وليقلّ أسفه على من أبى من الإيمان ، ولم يعلم ، أهو شقى ، إذ يقول ، لعله شقى ، فكيف أكثر التأسف عليه ، وعلى كل حال لا يترك الإنذار والتبليغ إليه .

--------------------------------------------------------------------------------

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

{ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } لم يوفقهم ، سمى القلب قلباً لتقلبه ، روى البيهقى عن أبى عبيدة بن الجراح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قلب ابن آدم مثل العصفور ، يتقلب فى اليوم سبع مرات ، وليس المعنى فى الآية الإجبار ، جل الله شبه الخذلان بالربط أو الإعلاق على شىء حتى لا يدخله غيره ، فقلوبهم من حيث عدم نفوذ الحق إليها واستقراره فيها كالخابية والخريطة المختوم عليهما ، وهذا تصوير للمعقول بصورة المحسوس للإيضاح ، وكذا الختم فى قوله { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أي آلات سمعهم ، فلذلك لا ينتفعون بما سمعوا من الحق ، قال صلى الله عليه وسلم : إذا أذنب العبد ضم من قلبه هكذا ، فضم خنصره ، وإذا أذنب ضم من قلبه هكذا ، وضم التى تليها ، وهكذا إلى الإبهام .

والمراد بالقلوب هنا الجسم اللطيف القائم بالقلب ، الكثيف الصنوبرى الشكل قيام العرض بالجسم ، وقيام الحرارة فى الوقود ، والبرودة بالماء ، وبهذا اللطيف يحصل الإدراك وترتسم المعرفة ، وكذا الأسماع يقوم بصماخها جسم لطيف يدرك الأصوات ، { وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَاوَةٌ } غطاء عظيم ، كأنه لا يرون بها ، فيستدلون بما يرون على قدرة الله ، لما لم ينتفعوا فى الدين بالنظر بها كانوا كمن جعل على بصره غشاوة ، وفى ختم استعارة تصريحية تبعية .

وفى غشاوة تصريحية أصلية ، أو الاستعارة تمثيلية ، شبه قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأحوالهم المانعة من الانتفاع بأشياء معدة للانتفاع ، منع مانع من الانتفاع بها { وَلَهُمْ } على كفرهم { عَذَابٌ عَظِيمٌ } عظم شدة وأنواع ودوام ، ولم يعطف إن الذين كفروا لأن المراد ، والله أعلم ، استئناف بيان أن عدم اهتداء الأشقياء لسبق شقوتهم وبيان مقابلتهم بإصرارهم لمن اتصف بالكمال ومضاتدتهم ، لا لقصور فى القرآن عن البيان ، فإنه غاية فى البيان ، وإنما ضلوا باختيارهم للسوء ، كما قال قائل :
وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأَبْصَارُ رَؤْيَتَهُ ... وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لاَ لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ

--------------------------------------------------------------------------------

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

{ وَمِنَ النَّاسِ } أصله النوس بفتح الواو ، وقلبت ألفا لتحركها بعد فتح ، من ناس ينوس ، بمعنى تحرّك ، ولا يخلو بنو آدم من تحرك ، ووجه التسميه لا يوجبها ، فلا يلزم أن يسمى ناسا كل ما يتحرك ، أو أصله أناس حذفت الهمزة ، وعوضت أل ، وهو من الأنس ضد الوحشية ، فالألف زائدة ، والناس يستأنس بهم ، قال بعض :

وَمَا سُمِّىَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ ... وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتقلَّبُ

والأصل نيس بكسر الياء ، قلبت ألفا لتحركها بعد فتح ، ووزنه على هذا فلع من النسيان ، إذ لا يخلو من نسيان ، قال الله تعالى فى آدم : { فنسى ولم نجد له عزما } ويطلق على الجن مجازا ، وقيل حقيقة : { مَن يَقُولُ ءَامَنَّا } فى قلوبنا وألسنتنا إيمانا مستمدا { باللَّهِ } وجودا وألوهة ، ومخالفة لصفات الخلق { وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } الوقت الآخر ، وهو وقت البعث إلى مالا نهاية له ، والوقت الأول وقت الدنيا ، ولا يقال اليوم الآخر وقت دخول الجنة والنار ، وقبله وقت وهو البعث وما بعده إلى الدخول ، لأن الإيمان بالبعث والموقف والحساب أيضاً واجب { وَمَا هُمْ بِمُؤمِنِينَ } ذلك الإيمان الذى ادعوه ، بل الإيمان فى ألسنتهم والكفر فى قلوبهم ، والخروج عن مقتضاه فى جوارحهم .

--------------------------------------------------------------------------------

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

{ يُخَدِعُونَ } أي يخدعون ، بفتح الياء وإسكان الخاء ، فالمفاعلة ليست على بابها ، بمعنى الفعل ، وهو إظهار ما يوهم السلامة وإبطان ما يقتضى الإضرار بالغير ، أو التخلص منه ، أو هو أن توهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ، وتصيبه به ، ودخل فى المكروه جلب نفع منه لا يسمح به لك أو لغيرك { آللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا } يظهرون خلاف ما أبطنوا ، ويظنون أن الله لا يعلم ذلك منهم . فأخبرنا الله عز وجل ، أنهم عاملوا الله والمؤمنين بالمكر ، والله لا يخفى عليه شىء ، أو يخادعون الله مخادعة مجاز ، على أنهم معتقدون لكون الله عالماً بما فى قلوبهم ، وذلك أن تلفظهم بالإيمان ، وإظهار مقتضياته مع مخالفته فى الأعمال والقلوب شبيه بالخداع ، ويقدر محذوف ، أى ، ويخادعون المؤمنين خداعا حقيقيا ، إذ يدفعون بإظهار الإيمان وشأنه القتل والسبى وما يصنع بالمشركين ، ويجلبون الإكرام والمعاملة بمعاملة المؤمنين ، وإنما قدرت محذوفا لئلا يكون لفظ يخادع فى مجازه وحقيقته معا ، أو أراد يخادعون الذين آمنوا ، وذكر الله معهم إكراما وتعظيماً لهم ، بأنه من خانهم فقد خان الله ، أو يخادعون نبى الله ، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } .

والحاصل أن لفظ المفاعلة مبالغة ، ويجوز إبقاؤها على معناها مجازاً ، وذلك ، أنهم أظهروا الإيمان ، وهم كافرون ، والله عز وجل أجرى عليهم أحكام المؤمنين ، وهم عنده غير مؤمنين ، ولهم عنده الدرك الأسفل من النار ، وإجراء المؤمنين تلك الأحكام تشبه صورة المكر بهم ، إذ ليس لهم ما لمن تحقق إيمانه فى الآخرة ، وذلك استعارة تمثيلية فى الكلام ، أو مفردة تبعية فى يخادعون ، والله عز وجل لا يكون خادعاً إذ لا يخاف أحداً ، ولا ينقض فعله أحد إذا أجهره ، ولا مخدوعا ، لأنه لا يخفى عليه شىء ، ولا يناله مكروه ، ولاينتفع بشىء ، وإذا قدرنا يخادعون نبى الله الله تقدير معنى ففيه إيقاع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما ، وهى الخلافة ، فذلك مجاز عقلى فى النسبة الإيقاعية لا الوقوعية.

{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } ما يعاملون بمضرة الخداع إلا أنفسهم؛ وهى الافتضاح بإخبار الله ، سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما أحفوه ، والعقاب فى الآخرة { وَمَا يَشْعُرُونَ } لا يعلمون أن وبال العقاب راجع إليهم ، إنما فسرت يخادع بيخدع لأن الله والمؤمنين لا يخدعونهم .

--------------------------------------------------------------------------------

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

{ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضُ } كفر بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ، وعداوته وعداوة المؤمنين ، وسره الاعتقاد والجهل ، وذلك شبيه بمرض الجسم فى الإيصال إلى مطلق الضر ، فإن المضر موجع وقاتل ومانع من التصرف فى المصالح ، وما فى قلوبهم مؤد إلى النار مانع من التصرف بأعمال الإسلام ، أو يشبه تألم قلوبهم بقوة الإسلام وانتظام أمره بتألمهم بمرض البدن ، فسمى التألم مرضاً ، وحقيقة المرض حالة خارجة من الطبع ضارة بالفعل لا بالقوة خاصة ، والقرينة المشروطة فى المجاز تمنع الحقيقة ، ولا يلزم أن تمنع احتمال مجاز آخر . فلك حمل الآية علىهذا التألم ، وعلى ما ذكرت قبل { فَزَادَهُمُ } بسبب ذلك المرض { اللهُ مَرَضاً } بما أنزل من القرآن بعد ما كفروا بما أنزل منه قبل ، والله يجازى المذنب بالإيقاع فى ذنب آخر ، كما يجازى المطبع بالتوفيق إلى طاعة أخرى ، وكلما نزلت آية أو وحى كفروا به ، لأنه طبع على قلوبهم ، وذلك زيادة مرض .

{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } موجع بفتح الجيم والموجع بفتحها حقيقة هم لا العذاب ، لكن أكد شدة العذاب حتى كأنه معذب بفتح الذال ، وهذا بليغ ، ولا بلاغة فى قولك عذاب موجع ، بكسر الجيم ، فأليم فعميل بمعنى مفعل بضم الميم وفتح العين ، ولك إبقاؤه على ظاهره ، أى متوجع بكسر الجيم ، ففيه البلاغة { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أى بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وما مصدرية ، وجرت عادتهم بالاكتفاء بالمصدر من خبر كان الذى بعدها ، والأصل أن يقال بكونهم يكذبون ، ولا حاجة إلى قولك بالتكذيب الذى كانوا يكذبونه النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يتكذيب يكذبونه صلى الله عليه وسلم على أن ما اسم موصول ، أو نكرة موصوفة ، والهاء مفعول مطلق .
--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } المعنى ، من الناس من يقول ، آمنا بالله وباليوم الآخر وهو كاذب ، ويقول ، إنما نحن مصلحون إذا قيل لهم لا تفسدوا ، ويقول ، أنؤمن كما آمن السفهاء إذا قيل لهم آمنوا ، ويقول للمؤمنين آمنا ، ويقول لأصحابه ، إنا كافرون { لاَ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ } بالكفر وأعماله وأعماله والمعاصى ، ويمنع الناس من التوحيد وأعماله ، فإن الإسلام صلاح الأرض ، والكفر فساد وليس من صفات الله ولا من أفعاله ، فإذا أزال الله الثمار أو نور البصر أو نحو ذلك ، فلا تقل أفسدها ، والأرض أرض المدينة ، أو جنس الأرض ، وليست للاستغراق .

{ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } للأرض من مكارم الأخلاق كالصدقة وقِرى الضيف ، وهذا جواب بالإعراض عما نهوا عنه من الكفر والمعاصى ، والأولى أن يكون الجواب له ، فيكون المعنى مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله ، والمنع الجواب له : فيكون المعنى مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله ، والمنع من التوحيد والإفساد هو ما عليه المؤمنون من التوحيد والدعاء إليه ، والعمل بمقتضاه ، وعطف الجملة على قلوبهم مرض ، أو على كانوا يكذبون فينسحب عليها معنى الباء ، والأصل فى التعليل أو السبية ، فى غير مقام مجرد الإخبار ، أن يكون بوصف معلوم عند المخاطب ولو بالالتزام ، وهذه الشرطية غير معلومة الانتساب لكن لا مانع من التعليل أو التسبب بما ليس عنده إخبار بالواقع ، وأنه أحق ، ولو لم يعرف ، وأنه كيف لا يعرف .
--------------------------------------------------------------------------------

أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

{ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } انتبهوا أيها الناس قد تأكد أن هؤلاء مفسدون دون المؤمنين ، فالحصر إضافى ، وإن فسرنا الفساد بالنفاق كان حقيقيا ، لأنه لا نفاق إلا فيهم بخلاف مطلق الفساد ، فى غيرهم من المشركين أيضا . والوجهان فى أنهم هم السفهاء . { وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ } بأنهم المفسدون ، أو بوبال كفرهم ، أو لا شعور لهم ألبتة ، هكذا ، ولو استعملوا عقولهم لشعروا . ذكر هنا الشعور لأن الفساد يعرف بلا تأمل . والسفة يعرف بالتأمل ، فذكر معه العلم كما قيل :

يُقْضَى عَلَى الْمَرْءِ فِى أَيْامِ مِحْنَتِهِ ... حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ
وَلم يذكر لكن فى المخادعة لأنه لم يتقدم عليها ما يتوهم منه الشعور .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

{ وَإِذَا قِيلَ } أى قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بعض أصحابه { لَهُمْ آمِنُوا } بما يقول النبي صلى الله عليه وسلم { كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ } المعهودون الكاملون ، أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، ومن آمن به ، ولم يحضره بعد إيمانه ، وهو من التابعين لا من الصحابة ولو كان فى عصره { قَالُواْ } فيما بينهم ، أو بحضرة من أمرهم بالإيمان ، بحيث يجدون السبيل إلى إنكار القول ، أو عند المؤمنين بحيث لا يسمعون ، قيل ، أو عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو مصلحة ، وهو قول ضعيف ، والأصل أن المؤمن لا يستر عليهم وعلى كل كشفهم الله عز وجل ، ولو جهروا مطلقا لم يسمعوا منافقين { أَنُؤمِنُ } توبيخ لمن أمرهم بالإِيمان ولو غاب ، أو إنكارا لأن يكون الإيمان حقا يؤمر به .

{ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ } الصحابة ، ومن آمن ولو لم يكن صحابيا ، نسبوا من آمن إلى السفه ، وهو الجهل ووضع الشىء فى غير وجهه ، ويطلق على نقصان العقل والرأى ، أو أرادوا من يحتقر من المسلمين لفقره ، أو ضعفه ، أو عبوديته كصهيب وبلال ، وأكثر المسلمين فقراء ، أو أرادوا بالسفه مطلق الخمسة بالجهل أو الفقر أو غيره ، والحاصل ، أنهم قالوا ، لا نفعل فعل السفهاء وهو الإيمان ، وذكر الله عز وجل نهى الناهى لهم عن الفساد ، ثم أمر الآمر لهم بالإيمان ، لأن التخلى قبل التحلى .

{ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } الجهلاء المحتقرون لكفرهم ، رد عليهم بأن السفه بالكفر ومساوىء الأخلاق لا بالفقر ، فلا يلزم أن يكون هذا معينا للتفسير الأول فى السفهاء { وَلَكِنِ لاَّ يَعْلَمُونَ } من السفيه وما السفه ، ذكر هنا العلم ، وهنالك الشعور ، لأن الإفساد يدرك بأدنى تأمل بخلاف السفه والأمر بالإيمان ، وأيضا السفه خفة العقل والجهل بالأمور ، فناسب نفى العلم أتم مناسبة .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا } أى ذكروا ما يفيد أنهم آمنوا ، وسائر الأقوال والأفعال ، وذلك أن الإيمان قد علم منهم فى الظاهر قبل ذلك ، وذلك دفع للمؤمنين عن أنفسهم واستهزاء ، ولا يتكرر مع ما مر؛ لأنه إبداء لخبثهم وخوفهم ، وادعاء أنهم أخلصوا الإيمان ، ولأنه بيان لكونهم يقولون ذلك خداعا واستهزاء ، وأنهم يقولون ذلك عند الحاجة إليه فقط ، وذلك عند لقاء المؤمنين .

{ وَإِذَا خَلَوْاْ } عن المؤمنين راجعين { إِلَى شَيَطِينِهِمْ } أو خلوا مع شياطينهم ، يقال ، خلوت إليه ، أى معه ، وشياطينهم رؤساؤهم ، كعب بن الأشرف من اليهود فى المدينة ، وأبو بردة فى أسلم ، وعبد الدار فى جهينة ، وعوف بن عامر فى أسد ، وعبدالله بن الأسود فى الشام ، وغيرهم ممن يخافونه ، من كبار المشركين والمنافقين ، سماهم شياطين تشبيها لمزيد فسادهن وإغوائهم ، وذكر بعض أن هؤلاء المذكورين كهنة ، وقيل : الشيطان حقيقة فى كل متمرد من الجن أو من الإنس وليس المراد الكهنة خلافا للضحاك ، ولو كان مع كل كاهن شيطان ، لأنهم أهون من أن يتملقوا إليهم ، بقولهم ، إنا معكم ، كما قال الله عنهم { قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } فى الدين اليهودى ، إن أريد بشياطينهم اليهود ، وإن أريد به مشركو العرب فالمراد فى الإشراك { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } بالمؤمنين فى قولنا ، آمنا ، لا مؤمنون حقيقة ، بل قلنا ذلك لنكف عن أنفسنا القتل والشر والسبى وبحلب الخير ، كالأخذ من الصدقة والغنيمة ، مع الاحتقار والتهكم بهم ، ولا تظنوا أننا تبعناهم ، والاستهزاء بمعنى الهزء ، كاستعجاب بمعنى العجب ، وهو الاستخفاف والسخرية ، وأصله الخفة ، يقال هزأت به الناقة أسرعت به .

روى أن أُبىّ بن عبدالله وأصحابه جاءهم نفر من الصحابة لينصحوهم ، فقال لقومه ، انظروا ، كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبى بكر الصديق ، فقال ، مرحبا بالصديق وشيخ الإسلام ، ثم أخذ بيد عمر ، وقال مرحبا بالفاروق القوى فى دينه ، ثم أخذ بيد علىّ ، وقال : مرحبا بابن عم رسول الله ، وسيد بنى هاشم ، فقال له : يا عبدالله ، اتق الله ولا تنافق ، فقال له : مهلا . يا أبا الحسن؛ إنى لا أقول هذا والله ، إلا أن إيماننا كإيمانكم ، ثم انترقوا ، وقال لأصحابه ، كيف رأيتمونى فعل فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت ، فأثنو عليه ، وقالوا : لا نزال بخير ما دمت فينا .

وأخبر المسلمون النبى صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت الآية ، وليس ذلك عين سبب النزول ، بل مناسبة؛ لأن أبيّا قال لأصحابه ، انظرواكيف أفعل ، والجملة مستأنفة فى كلامهم بلا تقدير سؤال هكذا ، ما لكم توافقون المؤمنين ، لقول عبدالقاهر موضوع إنما أن تجىء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته ، إلا أنه قد يصور السؤال فى صورة لا تحتاج إليه فيجوز التقدير المذكور ، وقد لا نسلم قول عبدالقاهر إذا ادعى أنه ذلك أصل إنما ، وأن مدخلوها معلوم ، وحىء بها لإفادة الحصر ، وليس كذلك أيضاً ، فإنك تقول : إنما قام زيد لمن لا شعور له بقيامه وحده ، ولا مع غيره ، ولا بقيام غيره دونه .

--------------------------------------------------------------------------------

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

{ اللهُ يَسْتَهْزِىُ بِهِمْ } يجازيهم على استهزائهم مرة بعد أخرى ، فإن نكاية الله فيهم متعددة فى الدنيا ، ولا تنقطع فى الأخرة فذلك استعارة تبعية ، أو مجاز مرسل ، لأن بين الفعل وجزأيه مشابهة فى القدر ، ونوع تسبب مع وجود المشاكلة أو يراد إنزال الحقارة من إطلاق السبب على المسبب ، ومن الاستهزاء بهم فى الآخرة ، أنه يفتح باب إلى الجنة فيجىء فى قربه ، حتى إذا وصله أغلق ، أو يكرر ذلك حتى يفتح له ، ولا يجئه كما ورد فى الحديث ( وَيَمُدُّهُمْ ) بطيل أعمارهم ، أو يزيدهم طغيانا ( فِى طُغْيَنِهِمْ ) مجاوزتهم الحد بالكفر ( يَعْمَهُونَ ) يترددون ، هل يبقون عليه أو يتركونه ، أو هل يعكفون فيه ويلازمونه .

--------------------------------------------------------------------------------

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى } تركوا الهدى الذى فى وسعهم وطاقتهم ، جعل الهدى الذى لم يوجد لهم كالموجود لأنه فى طاقتهم ويولدون عليه ، ولظهور حججه حتى كأنهم قبلوه ، وجعل الإعراض عنه والتلبس بضده الذى لا يجتمع معه كالشراء ، فسماه شراء ، الإشارة إلى المنافقين المذكورين فى تلك الآيات بتلك الأوصاف ، لا إلى أهل الكتاب كما قيل ، ولا إلى الكفار مطلقاً كما قيل؛ لأن التنزيل فى غيرهم لا فيهم ولو وجد المعنى فيهم ، فضلاعن أن تفسر بهم { فَمَا رَبِحَتْ تِجَرَتُهُمْ } انتفى عنهم الريح فى تجارتهم المعهودة ، التى هى شراء الضلالة بالهدى ، بل خسروا أبدانهم وأوقاتهم وأموالهم ، إذ لم ينالوا بها الجنة ، وأضاعوا منازلهم وأزواجهم فى الجنة ، وصاروا للنار بتلك الضلالة ، والهدى هنا اسم مصدر بمعنى الاهتداء أو اسم للمعنى الحاصل من الهداية ، كأنه قيل ، اشتروا الضلالة بالاستقامة .

وإسناد الربح إلى التجارة إسناد إلى السبب؛ أو الملزوم ، أو المحل { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } إلى طريق التجر والربح ، إذ أضاعوا رأس المال والربح ، والآية كناية عن انتقاء مقصد المتجر وهو الربح مع حصول ضده ، وهو الخسارة ، وذلك شأن الدين ، إما لربح أو الخسارة ، بخلاف تجارة المال مقد لا تربح ولا تخسر ، أو كناية عن إضاعة رأس المال ، فإن من لم يهتد بطريق التجر تكثر الآفات على ماله ، أو المراد أنهم لم يتجروا فلا ربح ، كقوله : على لاحب لا يهتدى بمناره ، أى لا منار فيه .
--------------------------------------------------------------------------------

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)

{ مَثَلُهُمْ } صفتهم الشبيهة فى القرابة عقلا وشرساً بما يضرب مثلا لغرابته { كَمَثَلِ } كصفة { الَّذِى } الرجل الذى ، لا بأس بتشبيه الجماعة بالمفرد ، والمواد الجنس ، فضمير المفرد بعده للفظه ، وضمير الجمع للجنس ، ويجوز أنه يقدر : الفريق لذى ، والكلام فى الضمائر كذلك { اسْتَوْقَدَ } ليلا { نَاراً } بالغ فى إيقادها وعالجه فى ظلمة وهذا لبقائه على الأصل أولى من تفسيرها بأوقد . ويجوز أن تكون تمثيلا بنار لا يرضى الله إبقاؤها { فَلَمَّا أَضَاءَتْ } أنارت إنارة عظيمة { مَا حَوْلَهُ } ما فى جهاته من الأرض ، وتمكن مما أوقدها لأجله ، من الإبصار والاستدفاء ، والأمن مما يخاف ، والطبخ للأكل ، أو نحو ذلك من المنافع { ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ } أذهب نورهم بإطفائه ، فلا نور فضلا عن لإضاءة والنور منشأ الضياء ، ووردا جميعاً فى شأن سيدنا محمد ، وسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم عليهما ، وقيل الضياء ما للشىء جميعاً فى شأن سيدنا محمد ، وسيدنا موسى صلى الله وسلم عليهما ، وقيل الضياء ما للشىء من ذاته ، والنور من غيره { وَتَرَيهُمْ } صيَّرهم { فِى ظُلُمَتٍ } ظلمة واحدة كأنها ظلمات ، لشدتها ، أو ظلمات متراكبة من الليل أو ظلمة الليل وظلمة العمام ، وظلمة انطفاء النار ، وذلك من حال المستوقدين يشبه من حال هؤلاء المنافقين مضرة الكفر ومضرة النفاق ، وظلمة يوم القيامة ، يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبأيمانهم ، ومضرة العقاب { لاَ يُبْصِرُونَ } ما حولهم من الطريق فضلا عن أن استدفئوا أو يطبخوا أو يحصل لهم الأمن من مضار الحقير والسبع والحية ونحو ذلك . وهذا منهم يشبه حال المنافقين ، إذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب بعد أمنهم فى الدنيا على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بكلمة الشهادة فى ألسنتهم.

--------------------------------------------------------------------------------

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

{ صُمٌّ } أى أولئك مشترو الضلالة صم أو هم صم { بُكْمٌ عُمىٌ } شبهوا فى عدم قبول الحق بمن لا يسمع ولا يتكلم ولا يبصر ، فهم لا يعرفون الحق ، كأنهم لم يسمعوه ولا يتكلمون به . ولا يبصرون طريق الهدى { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } إلى الحق كما أن الأصم لا يسمع ، والأخرس لا يتكلم ، والأعمى لا يبصر ، كمثل الذى استوقد ناراً . . . الخ .

--------------------------------------------------------------------------------

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

{ أَوْ كَصَيِّبٍ } أو كمثل أهل صيب ، أو بل كمثل أهل صيب ، أو يتنوع من ينظر إليهم فى شأنهم بعقله إلى من يشبههم بالمستوقد المذكور ، وإلى من يشبههم بأهل الصيب ، أو يشك الناظر فى شأنهم أو هم كالمستوقد أو كالصيب أو يباح للعاقبل أن يشبههم بمن شاء منهما ، أو يخير أن يقصر التشبيه على أحدهما ، والصيب المطر المنحدر من السماء ، والصواب الانحدار ، والأصل صيوب على الخلاف فى باب سيد ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها الياء ، وهو وزن فى معل العين . وشذ فى الصحيح كصيقل ، وقيل : هو بوزن طويل ، فقلب وشهر أن لفظ صيب اسم ، وقيل : وصف بمعنى نازل ، وزعم بعض أنه بمعنى منزل ، وبعض أنه اسم بمعنى السحاب { مِّنَ السَّمَاءِ } السحاب ، أو من جهة السماء وجهتها السحاب . وذكر ذلك مع أنه لا يكون الصيب إلا من السحاب وجهة السماء تلويحا إلى أنه من جميع آفاقها .

{ فِيهِ } فى الصيب كما يتبادر ، أو فى السماء أى السحاب . وهو أولى لأن الرعد ملكا كان أو صوته أو صوت ماء هو فى السحاب ، لا فى المطر؛ ولو كان البرق يصل الأرض لأنه أولا يجىء من السحاب { ظُلُمَتٌ } متراكمات ، ظلمة السحاب ، ففيه ظلمة ولو فى أجزائه ، وظلمة المطر وظلمة الليل المدلول عليه بقوله : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } ويجوز كون فيه نعتا لصيب أو حالاً ، وظلمات فاعلة { وَرَعْدٌ } الرعد ملك سمى صوته باسمه ، أو يقدر مضاف ، أى وصوت رعد ، أو اسم موضوع لصوت ملك السحاب . أو هو صوت تضارب الماء ، وذلك الصوت مطلقا صاعقة ، كما ذكر تقريباً ، والمراد أصوات . بدليل جمعد الصواعق { وَبَرْقٌ } ملك على هيئة النور ، أو نور صوته الذى يزجر به السحاب ، لا كما قيل إنه سوط من نار يزجر به السحاب ، وأفردا لأنهما مصدران الآن ، أو فى الأصل وزعم بعض أنهما أفردا لأن الرعد يسوق السحاب فلو كثر لتفرق السحاب ولم يكن مطبقاً ، فتزول شدة الظلمة ولو كثُر البقر ولم تطبق الظلمة ، وبعض أنه لم يجمع النور فى القرآن فلم يجمع البرق .

{ يَجْعَلُونَ } يحمل الناس الذين حضرهم الصيب ، دل عليهم أن المقام لذكر ظلمة الصيب ، والجمل لكونه أول على الإحاطة أبلغ من الإدخال { أَصَبِعَهُمْ } أطراف أصابعهم على المجاز بالحذف ، أو سماهم باسم الأصابع لأنها بعضها ، والمجاز لغوى ، ونكتته التهويل بصورة جعل الأصابع إلى أصولها ، أو لا مجاز ، لأن وضع طرف إصبعه على شىء بصدق جعل أنه وضع إصبعه عليه بلا قرينة ولا علاقة ، كما أن قولك سسته بيدى حقيقة ولو كان المس ببعضها ولما فى قوله { فِى ءَاذَنِهِمْ } فإنه حقيقة مع أن الجعل ليس فى كل الأذن ، وأطبق الأصابع مع أن المعبود السبابة لدهشتهم ، حتى إنهم يدخلون أى إصبع اتفقت ، ويجوز أن يكون المجاز عقليا بإسناد الجمع للأصابع مع أنه للأنامل { مِّنَ الصَّوَّعِقِ } المعهودة بالمعنى فى قوله ورعد ، لا باللفظ ، كقوله تعالى{ وليس الذكر كالأنثى } فإن قولها ، ما فى بطنى ، أرادت به الذكر ، والمراد بها شدة الصوت ، والأكثر فى الصاعقة صوت مع نار ، أو نار بلا صوت ، لا تمر على شىء إلا أحرقته ، وذلك من الجو ، وقد يكون معها حجر أو حديد ، ويجوز حمل الآية على الصوت مع النار ، على أنهم توهموا أن عدم سماع ذلك الصوت منج لهم من أن تصيبهم نار ، فيكون الكلام تمثيلا بقوم شأنهم التوهم ، فجعلوا أصابعهم فى آذانهم لئلا يسمعوا . ولا يصح ما قيل ، إن المشهور أن الصاعقة لرعد الشديد معه قطعة نار ، بل هى قطعة النار سواء مع صوت أو دونه وهو فى الأصل صفة من الصعق ، بمعنى الصراخ وتاؤه للتأنيث صفة لمؤنث ، أو للمبالغة ، كراوية لكثير رواية الشعر ، وليس قولهم للنقل من الوصفية إلى الاسمية خارجا عن ذلك لأن حاصله أنه كان وصفاً مؤنثاً بالتاء ، ثم صار اسماً وقيل مصدر كالعافية والعاقبة.

{ حَذرَ الْمَوْتِ } لأجل حذر الموت بالسمع ، وهو تعليل للعلة الأولى التى هى قوله من الصواعق مع معلله ، وإنما الممنوع ترادف علل على معلول مجرد بلا تبعية ، أو يقدر حاذر بن الموت . أو ذى حذر الموت ، أو يجدونها حذر الموت وحاصل الشبه بالصيب المذكور أن القرآن شبيه بالمطر ، إذ هو سبب لحياة الدنيا ، والقرآن سبب لحياة القلوب ، وأن الكفر شبيه بالظلمات فى مطلق الإهلاك وعدم الاهتداء ، وفى مطلق الحيرة ، والوعيد عليه شبيه بالرعد فى الإرهاب ، والحجج شبيهة بالبرق فى الظهور والحسن . وسد آذانهم عن سماع القرآن شبيه بسدها عن الصواعق ، وترك دينهم شبيه بالموت عندهم ، وذلك تشبيه مفردات بمفردات ، وإن شئت فتشبيه مجموع بمجموع تمثيلى { وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَفِرِينَ } بأجسامهم واعتقادهم وأقوالهم وأفعالهم ، ولا يخفى عنه ما يعاقبهم عليه ، أو قل ، وعقاب الله محيط بالكافرين ، شبه قدرته بإحاطة المحيط بالشىء ، تشبيه الكامل بالناقص على الاستعارة الأصلية ، واشتق منه محيط على التبعية ، أو الاستعارة تمثيلية ، أو الإحاطة الإهلاك ون معناه ، أحاطت به خطيئته ، أو عالم علم مجازاة ، ومن معناه ، وأحاط بما لديهم .

--------------------------------------------------------------------------------

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

{ يَكَادُ الْبَرْقُ } المعهود فى الآية قبل { يَخْطَفُ أَبْصَرَهُمْ } أبصار أهل الصيب ، يقرب أن يأخذها بسرعة ، وإسناد الخطف إلى البرق مجاز للسببية ونفى كاد نفى ، وإثباتها إثبات كسائر الأفعال ، وغير هذا تخليط ، وإذا قلت ، كاد يقوم فمعناه قرب ، وإذا قلت ، لم يكد يقوم فمعناه لم يقرب ، وإذا قيل ، لم يكد يقوم مع أنه قام فمعناه أنه لم يقرب للقيام ، ثم قرب وقام { كُلَّمَا أَضَاءَ } ظهر البرق أو أظهر البرق الطريق { لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } يمشون فى ضوئه كل إضاءة أى كل وقت إضاءة ، أو فى الطريق المدلول عليه بالشىء ، كما قدر بعض ، كلما أضاء لهم ممشى مشوا فيه ، وذلك أن المشى فى مطرح البرق لا فى البرق ، والهاء للبرق ، وكل ظرف لإضافته إلى المصدر المنسبك بما المصدرية المستعمل ظرفاً ، كجئت طلوع الشمس ، ويجوز أن يكون لازماً بمعنى وقع ، كما فسرته أولا ، كلما لمع مشوا فى مطرح ضوئه { وَإِذَا أَظْلَمَ } الطريق المسدود عليه ، أو أظلم البرق ، أى زال ، أو الجو { عَلَيهِمْ قَامُوا } أمسكوا عن الشىء .

{ وَلَوْ شَاءَ اللهُ } أى لو شاء إذهاب أسماعهم وأبصارهم { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } أى بسمع المنافقين ، الإضاءة للحقيقة أو الاستغراق ، وكأنه قيل ، بأسماعهم ، كما قال { وَأَبْصَرِهِمْ } عيون المنافقين الظاهرة كما ذهب ببصائر قلوبهم الباطنة فلا تقبل الحق ، ويجوز عود الهاءين لأصحاب الصيب ، لأن بصائرهم ولو كانت لا تعمى بالظلمات لكن المراد التنوية للصيب وشأنه المشبه بهما حال المنافقين ، فإن تقويتهما تقوية لحالهم فى الهول ، فيكون شبههم بالمستوقد ، ثم بالصيب الموصوف بما ذكر ، وبأنه لولا أن الله حفظ سمع أهله وأبصارهم لذهبت بالبرق والرعد ، ومشيهم فى البرق تشبيه لميلهم إلى بلاغة القرآن ، وصدقه ، ووعده بالخير ، وإمساكهم عن المشى عند ذهاب البرق ، وتشبيه لوقوفهم عما يكرهون من تسفيه دينهم ، ورفض آلهتهم ، والمشيئة والإرادة بمعنى ، ولا يصح ما قيل إن أصل لمشيئة لإيجاد واستعمل بمعنى الإرادة ، والباء للتعدية ، أى أذهب أسماعهم ، وقيل ، ذهبت بكذا ذهبت معه ، وإذا لم يذهب فللتعدية ، أو مجاز فى المعية .

{ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } أى على كل شىء ممكن وأما المستحيل فى حقه ، كاتخاذ الصاحبة والولد فلا تقل هو قادر عليه ، لأن الاتصاف بالقدرة عليه اتصاف بجوازه ، ولا غير قادر عليه ، لأن هذه صبغه عجز ، تعالى عنها ، ولأنها فرع عن تقرره هكذا فى الجملة ، وهو غير متقرر ، تعالى عنه ، أو المعنى على كل شىء شاءه هؤلاء لا يرده عما أراد وقوعه ، ومع ذلك هو قادر على إيقاع لم يسبق قضاؤه بوقوعه من الممكنات إجماعا ، وما لم يكن ولا يكون لا يسمى شيئاً ، ونسبه بعض أصحابنا ، وقيل شىء ، وهو الصحيح عندى ، وأما المستحيل فلا يسمى شيئاً ، والآية ونحوها من الآى والحديث تدل على جوازه فى كل معلوم ممكن ، ويطلق على المحال بمعنى ملاحظته ، ولا يقال قادر عليه ولا غير قادر ، ومعنى : وقد خلقك من قبل ولم تك شيئاً : لم تكن شيئاً موجوداً ، بل شيئاً معدوماً .
__________________
يقول الشيخ علي رحمه الله:
إن المذهبية في الأمة الإسلامية لا تتحطم بالقوة ولا تتحطم بالحجة . ولا تتحطم بالقانون فإن هذه الوسائل لا تزيدها إلا شدة في التعصب وقوة رد الفعل ، وإنما تتحطم المذهبية بالمعرفة والتعارف والاعتراف

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

{ يَأَيُّهَا النَّاسُ } لم يقع النداء فى القرآن بغير يا ، وهى الأصل ، فما حذف منه حرف النداء ، مثل : ربنا لا تؤاخذنا ، وآية المؤمنون قدر فيه ياء ، لذكرها فى غيره ولأصالتها ، ويأيها الناس مكىّ ، وقلَّ مدنيا ، كما فى هذه السورة والنساء والحجرات ، فإنهن مدنيات ، والنداء هنا ، وفى قوله : يأيها الإنسان ، ونحوهما للتنبيه على ما يصلح ، ويأتى للمدح ، نحو ، يأيها الرسول ، و ، يأيها النبى ، و ، يأيها الذين آمنوا ، وللذم نحو ، قل يأيها الكافرون ، وليس منه ، يأيها الذين هادوا ، لأن المعنى الذين ادعوا أنهم تابوا إلى الله . إلا أن يدعى خروجه عن معناه الأصلى إلى معنى الذين بقوا على اليهوديه مع بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويكون للعقاب ، كقوله تعالى : يأيها المدثر ، و : يأيها المزمّل ، أو الآيتان للإنشاط والإراحة من صبق المفاكه لغيره ، ويكون لغير ذلك ، والخطاب فى مثل الآية للموجودين المكلفين والآيتين بعد إلى قيام الساعة ، ولو مجانين أو صبيانا يقيد الإفاقة والبلوغ ، وذلك تغليب وقيل للمكلفين الموجودين فى مهبط الوحى ، وأما غيرهم فبالنص أو القياس أو لإجماع ، لا بصيغة الشراء ونحوها .

وعلى الأول خوطبوا إذا بلغوا أو أفاقوا من زمان الوحى ، قال بعضهم : الأصح أن نحو يأيها الناس يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم ولو قرن بقل ، أو اكتب إليهم ، أو بلغهم ، أو نحو ذلك ، وقيل : لا يشمله ، لأنه ورد على لسانه للتبليغ لغيره ، لأنه إن كان آمراً أو مبلغاً فلا يكون مأموراً أو مبلغاً إليه لأن الواحد بالخطاب الواحد لا يكون آمراً ومأموراً ، ومبلغاً ومبلغاً إليه للضرورة ولأن الآمر أو المبلغ طالب ، والمأمور أو المبلغ إليه مطلوب .

وإن قيل : قد يكون آمراً ومأموراً ، مبلغاً مبلغاً إليه من جهتين ، قلت : الآمر أعلى رتبة من المأمور ، ولا بد من المغايرة ، إلا أنه لا يشترط أن يكون المبلغ أعلى رتبة من المبلغ إليه ، لكن الخطاب يصل المبلغ قبل ، وقيل : إن قرن بنحو قل لم يشمله صلى الله عليه وسلم لظهوره فى التبليغ . وإلا شمله . والأصح أن نحو ، يأيها الناس يشمل العبد المكلف شرعاً كما يشمله لغة ، وعليه الأكثر ، وقيل : لا يشمله لصرف ما معه إلى سيده فى غير أوقات ضيق العبادات وشمل الكافر أيضاً ، لأنه مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح ، وشمل الموجودين وقت النزول ، وقيل : يتناول من سيوجد أيضا ، وفيه أنه لا يظهر أن يقال للمعدوم يا فلان أو نحو ذلك .

{ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } وحِّدُوه لا تجعلوه له شريكا ، أو اعملوا الصالحات واجتنبوا المحرمات له ، ومن ذلك ترك الأصنام والهوى { الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم } وتعليق الحكم بالمشتق أو بما معناه يؤذن بكونه علة ، أى اعبدوا الذى هو سيدكم ، أو مريبكم ، وخلقكم وخلق الذين من قبلكم ، أى اعبدوه لسيادته وملكه وخلقه لكم ، فما ليس سيداً لكم ولا مالكاً ولا خالقاً لا يستحق أن يعبد .

{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال سيبويه : عسى فى كلامه تعالى للتحقيق ، ولا يشكل عليه قوله تعالى « عسى ربه إن طلقكن » لأن تحقيق تبديل أزواج خير معلق بالتطليق ، والطليق غير واقع ، وأمل سئل عسى ، فمعنى الآية تحقق حصول الوقاية عن عقابه بالعبادة ، أو اعبدوه راجين حصول الوقاية ، فقد لا تكون العبادة وقاية لخلاها ، أو إبطالها برياء أو وردة أو نحوهما ، أو اعبدوه لتحصلوا الوقاية ، أو شبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابها ودواعيها بالترجى فى أن متعلق كل منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل ، مع رجحان ما بجانب الفعل ، فينتقل ذلك إلى كلمة لعل فتكون استعارة تبعية ، أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه ، وهو الرجاء ، فتكون الاستعارة بالكناية .

--------------------------------------------------------------------------------

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

{ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ } فى جملة من سواكم { الأَرْضَ فِرَشاً } بساطا خارجاً عن الماء مع ثقلها ، ينتفع به لا صلباً ضاراً ، ولا رخوا مفرقا ، وسماها بساطا ولو قيل : إنها كريّة الشكل؛ لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة سطحا ، وكانت قبل خلق السماء كرية ، وبعد خلق السماء دحيت ، أى بسطت { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } من فوقكم كالسقف ، كما جاء فى آية أخرى ، أنها كسقف للأرض أو كقبة مضروبة على الأرض ، لتقدم خلقها ، ولأنهم فيها ، ولأن انتفاعهم بها أكثر ، ولأنها ما يحتاج إليه بعد الوجود ، إذ لا بد من مكان يستقر فيه ، أو لأنها أفضل من السماء ، لأن الأنبياء منها وفيها ، وهذا قول { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } أى من جهتها ، أو من السحاب سماه سماء { مَآءً } والله قادر أن ينزل من السماء إحدى السبع ماء فى سرعة.

{ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَتِ } أخرج به { رِزْقاً } من الثمرات { لَّكُمْ } تأكلونه ، وتعلفون دوابكم وتلبسونه كالقطن والكتان ، وما لدواب الناس هو لهم ، من الثمرات حال من رزقا ، ومن للتبيعيض أو للبيان ، ورزقا مفعول به ، أو من اسم بمعنى بعض ، مفعول به ورزقا حال مِنَ مَن ، والثمرات جميع ما تخرج الأرض حتى الحشيش ، أو الثمار ، ونواها داخل فيها علف ، وذلك أسباب ألا تجعلوا له أنداداً ، كما قال { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَاداً } شركاء فى العبادة ، مقاومين لله تعالى عن ذلك ، فإن كل ما سواه عاجز ذليل ، خلقه الله وملكه ، وذلك أن ما يصنعون بأصنامهم ، وما يعبدونه فى صورة المقاومة ، قالوا بها أو لم يقولوا ، والند المقاوم مثلا ، أو خلافا ، أو ضدا ، وهم لا يقولون بالمناداة ، أو الند الكف ، أو المثل ، وإذا جمع مع غير كالكف ، والضدو المثل والشبيه كان كل بمعناه على حدة ، الند مثل الشىء الذى يضاده ويخالفه فى أموره ، وينافره ، من ندّ البعير إذا نقر ، وقيل : الند المشارك فى الجوهرية ، والشِّكل المشارك فى القدر والمساحة والشبه المشارك فى الكيفية والمساوى فى الكمية ، والمثل عام .

وفى تسمية الأصنام أنداداً استعارة تهكمية . لأنهم علموا أنها عاجزة لا فعل لها ، ولا تشارك الله تعالى فى شىء ، كما يستعار أسد للجبان ، والتبشير للوعيد ، وحكمه ذلك الإشارة إلى أن عليهم ذنب من اعتقدها مشاركة له فى صفاته وأفعاله { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه ليس فى كتاب من كتب الله ثبوته الند له تعالى ، وتعلمون أنه الخالق ، وغيره ليس خالقا ، فكيف يصح لكم جعل من لا يخلق شيئا إلها مع ما تشاهدون من حديث غيره وعجز غيره ، هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء ، أو تعلمون من أهل التوراة والإنجيل أنه ليس فيها جواز اتخاذ الأنداد ، بل النهى .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)

{ وَإِنْ } جريان مع تحقق ارتيابهم إشارة إلى أنه بعيد جداً حتى إنه يشك فى وقوعه ، وذلك توبيخ ، أو لأن فيهم من لم يتحقق ارتيابه ، فغلب على غيره ممن تحقق ارتيابه ، ولما اختلفوا جعلوا كأنه لا قطع بارتيابهم { كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ } شك { مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، أهو من الله ، أو من عنده ، أو غيره من الناس ، ومقتضى الظاهر الغيبة فى ، وإن كنتم فى ريب مما نزل على عبده ، ولكن عدله إلى التكلم تفخيماً للقرآن ورسوله صلى الله عليه وسلم ، قالوا ما يقول محمد لا يشبه الوحى ، وإنا لفى شك منه ، فنزلت الآية { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّنْ مِّثْلِهِ } أى سورة هى مثل ما أنزلنا فى البلاغة ، وحسن التأليف ، والإخبار بالغيب مع الصدق ، أو ، فأتوا بسورة صدرت ، أو كانت من مثل عبدنا من فصحاء العرب وبلغائها ، ولو كان يقرأ الكتب والأخبار ويسمعها ، وكيف تأتون بها من أمى مثله ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يسمع الأخبار ، ويدل للأول قوله { وَادْعُوا } . . . إلخ ، وقوله تعالى فى سورة أخرى { بسورة مثله } وقوله تعالى { بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثلِه } فإنه لا يصح فيها عود الضمير إليه صلى الله عليه وسلم ، وأقل السور ما فيه ثلاث أيات كسورة الكوثر ، وسورة والعصر ، وسورة قريش ، إلا أن يعد { لإِيلافِ قُرَيْشٍ } أية ، وكسورة الفتح إن عد { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْح } أية وهو المكتوب ، والواضح أنها آيتان ، آخر الأولى أفواجا ، وآخر الثانية توابا ، فأقل السور آيتان ، إلا أن جاء حديث فى أن آخر الأولى والفتح.

{ وَادْعُوْا } نادراً واطلبوا { شُهَدَاءَكُمْ } جمع شهيد أو شاهد ، لتعينكم آلهتكم التى تشهد لكم على زعمكم ، أنكم عبدتموها وتقربكم إلى الله زلفى ، أو تنصركم ، أو تحضركم للنفع ، أو تكون إماماً لكم ، فإن الشهادة تكون من تلك المعانى { مِّن دُونِ اللهِ } غير الله ، أصل دون التفاوت والانحطاط فى الحس كقرب مكان ، وكقولك عمرو دون زيد فى للمقامة ، وتستعمل فى غير الحس ، نحو عمرو دون زيد شرفا ، ثم شاع استعماله فى كل تفاوت ، وكأنه أداة استثناء { إِنْ كُنْتُمْ صَدِقِينَ } فى أن القرآن من غير الله .

--------------------------------------------------------------------------------

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

{ فَإِنْ لَّمْ } مجزوم إن لم ومجزومها أو لم والجملة بعدها ، فهى من الجمل التى لها محل ، كما قيل بأن محل جملة الشرط إذا سبقت بمبتدأ رفع خبر له ، نحو ، من يعمل سوءاً وهو قول بعض { تَفْعَلُوا } إتيانا بالمثل لعجزكم { وَلَنْ تَفْعَلُواْ } إتيانا بالمثل لظهوره إعجازه ، وعجزكم ، أى ، والحال أنكم مقدرون ألا تفعلوا أبدا ، ولا يضر تصدير جملة الحال بأداة الاستقبال ، إذا كانت الحال مقدرة ، ولا يصح العطف لأن أداة الشرط لا تليها لن { فَاتَّقُواْ النَّارَ } بالإيمان بأن القرآن من الله عز وجل ، فإن إنكاره موجب لها ، أو ، فاتقوها مع بقائكم على الكفر إن وجدتم وقاية ولكن لا تجدونها ، وعرف بالنار عهدا من تنكيرها فى أية التحريم النازلة فى مكة وأول التحريم إليها مدنى.

{ الَّتِى وَقُودُهَا } أى الجسم الذى توقد به { النَّاسُ } الكفرة ، قدم الناس لأنهم المعذبون ، ولأن لحومهم وشحومهم أليق بالنار تزداد بها وقودا ، والمراد ما يشمل الجن أو لم يرادوا فى الآية . لأن السياق لكفار قريش ، وذكروا فى غير هذه الآية { وَالْحِجَارَةُ } المعبودة ، إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم وما شاء الهل من الحجارة لتعذيب الكفرة مطلقاً ، ولمزيد التحسر إذا رأوا أنهم عذبوا بما عبدوا ، ولم يدفع عذابهم ، فضلا عن أن ينفعهم ، وهى نار تتقد بالحجارة لشدة حرارتها ، لا كنار الدنيا تتقد بالحيل أو بالحطب ، ويوقى عنها الناس ، وقيل حجارة الكبريت لشدة حرها ، وكثر الالتهاب ، وسرعة الإيقاد ، ومزيد الالتصاق بالأبدان ، ونتن الريح وكثرة الدخان ، وقيل الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا ، ولا يتبادر ، ولا مانع من أن يراد ذلك كله.

{ أُعِدَّتْ } هيأها الله وأوجدها ، ووكل عليها ملائكة قبل يوم القيامة ، ولا تفنى ، وإن فنيت أعادها ، وحكمة إيجادها قبله الإخبار بأحوالها الواقعة للزجر ، وهو أقوى من الإخبار أنها لم تكن ، وأنها ستكون بوصف كذا ، وإن لم تكن الآن فكأنها كانت لتحقق الوقوع ، فعبر بأعدت ، والمراد ستعدّ { لِلْكَفِرِينَ } يعذبونها بها ، أو الكافرون ، كفار قريش ونحوهم ، عدل عن الإضمار مع تقدم ذكرهم إلى ذكرهم باسم الكفر الموجب للنار المذكور ، أو جنس الكفار ، فيدخل هؤلاء أولا وبالذات .

--------------------------------------------------------------------------------

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } بالله ، وبأن القرآن منه ، عز وجل ، أخبرهم إخبارا يظهر الفرح بها على أبشارهم ، أى جلودهم ، والتبشير أخص من الإخبار ، لأنه أولا بالخير ، والإخبار أولا وغير أول ، وبالخير وغيره { وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ } من الفرائض ولا بد ، أو مع النقل إن كان ، ومن العمل الصالح ترك المعاصى ، لأن تركها جبذ النفس عنها ، وهو عمل إن قارن جبذها عمل الجارحة ، وذلك الترك تقرى ، ومن التقوى أداء الفرض ، وأل فى الصالحات للجنس فتصدق بعملين ، وبعمل واحد فى شأن من لم يدرك من حين كلف إلا ذلك ، كمن بلغ ومات عن قريب ، أو أسلم كذلك ، أو مات قبل نزول سائر الفرائض ، ومن عمل قليلاً فجنّ ، ولا يخفى أنه من مات قبل أن يعمل شيئاً ما من الأعمال لسرعة موته أو نحوه يدخل الجنة .

{ أَنَّ لَهُمْ } أى بأن لهم ، أو ضمن بشر معنى الإِعلام { جَنَّتٍ } حدائق ، فيها كل صنف من الثمار حت ما لا يؤكل ، كالحنظل يحلوفيها ، وفيها مساكن وقصور { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا } تحت أشجارها ومساكنها ، والجنة الأرض كما رأيت ، بتقدير مضاف ، وإن شئت فلا تقدر ، بل اردد الضمير إلى الأرض ، والمراد به الأشجار استخداما ، وإن أريد الأرض والشجر فالضمير عائد إليها باعتبار جزئها ، أو تحتها جانبها { الأَنْهَرُ } تنبع من تحتها ، ولم تجىء من محل آخر ، أو جاءت من بحر غائرة فى الأرض حتى إذا وصلت الجنات نبعث ظاهرة ، وجرت على وجه الأرض فى غير أخدود ، وحصباؤها درّ وياقوت ، أو بعض تجرى من بعيد تحتها ، وبعض تنبع تحتها ، والنهر والبحر أرض ، وذلك لأن الماء ينهره ، أى يوسعه ، والجرى للماء ، وأسند لمحله ، والنهر مجمع الماء الذى يجرى الماء منه إلى غيره ، وإن قلنا النهر الماء الجارى فى متسع فلا مجاز ، وأل للحقيقة ، أو للعهد فى قوله ، فيها أنهار ، أو نابت عن الضمير .

{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا } من الجنات { مِنْ ثَمَرَةٍ } حال من قوله { رِّزْقاً } أى شيئاً مرزوقاً ، ورزقاً مفعول ثان ، ومن للبيان ، أى رزقا هو ثمرة لا بدل بعض ، لأدائه ، إلى حذف الرابط ولإفرادها ، ولا يرزف من الثمرة ، ولأدائه إلى استعمال النكرة فى الإثبات للعموم الشمولى مع وجود التخلص من ذلك ، ولا بدل اشتمال ، لأن الثمرة بعض الجنة ، لا شىء غيرها ملابس لها ، ولأدائه إلى استعمال النكرة فى الإثبات للشمول ، ولو قيل به فى علمت نفس ، والثمرة الإفراد أو الأنواع ، وما مصدرية ، وكل ظرف لإضافته للمصدر النائب عن الزمان ، أى كل رزق منها ، بفتح الراء على المعنى المصدرى ، متعلق بقوله { قَالُوا } أى يقولون كل وقت رزق منها { هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } فى الدنيا أوفى الآخرة ، ولا يزالون يقوولون هذا الذى ..إلخ ، أى مثل الذى رزقناه من قبله ، فى ظنهم بحسب اللون والصورة ، وإذا أكلوه وجدوا طعمه غير طعم الأول وأحلى ، وكل طعام أفضل مما قبله أبدا ، فإذا رزقوا الرزق الأول فى الجنة قالوا ، هذا الذى رزقنا به فى الدنيا ، وإذا رزقوا ثانيا قالوا ، هذا الذى رزقناه فى الجنة قبل ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، وقيل ، ذلك كله فى الآخرة لم يدخل فيه ما فى الدنيا ، ولا دليل على أن المراد بالذى رزقنا من قبل هو الأعمال الصالحة فى الدنيا ، تسمية للسبب باسم المسبب .

{ وَأُتُوْا بِهِ } أى أتاهم الملائكة به ، أو الولدان كقوله تعالى { يَطُوفُ عَلَيهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون . . . } إلخ أو تارة الملائكة ، وتارة الولدان { مُتَشَبِهاً } يشبه بعضه بعضا لونا ، ويختلف طعما ، أخبرنا الله يتشابه اللون تلذيذا لنا بغرابة تشابه اللون واختلاف الطعم ، وذلك مدح للجنة ، أو متشابها لونا وطعما ، إلا أن الطعم متفاوت ، فضلا ، قال الحسن : إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ، هذا الذى رزقنا من قبل ، فتقول الملائكة ، اللون واحد والطعم مختلف ، وعنه صلى الله عليه وسلم ، « والذى نفس محمد بيده ، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمر ليأكلها ، فما هى واصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها » ، فيجوز أن يحمل التشابه ، وهذا الذى رزقنا من قبل على هذا .

{ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ } حور عين وآدميات أفضل منهن ، وللجن جنيات وحور ، والجمع للقلة ، والمراد الكثرة ، وقيل لغة تميم ، وكثير من قيس ، قال الفرزدق :
وَإِنَّ الَّذِى يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِى ... كَسَاعٍ إِلَى أُسْدٍ الشَّرَى يَسْتَمِيلُهَا

{ مُّطَهَّرَةٌ } منزهلة عن أن يكون فيهن الحيض أو شعر الإبط ، أو شعر العانة أو نتن أو بلل مستقذر ، أو بول ، أو غائط ، أو سوء خلق ، كما هم طهروا كذلك والمطهر لهن الله تعالى ، وليس ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز ، إذ كان التطهير فى الآدميات والجنيات إذهاب نحو الحيض منهن بعد إذ كان ، أو تأهلهن له ولم يكن ، وفى الحور من أول الأمر ، لأن المراد تحصيلهن طواهر هكذا ، وليس فى ذكر الزوجات ما يدل على الولادة فى الجنة ، فقيل : لا ولادة فيها ، وهو المشهور ، وقيل بها.

{ وَهُمْ فيها خَلِدُونَ } لا يخرجون ولا يموتون ، ولا نزول بعض حواسهم وأجسادهم ، ولا بعض قواهم ، ولا تصيبهم آفة ، ولا تفنى الجنة والنار وأهلهما ، كما زعمت الجهمية ، قبحهم الله عز وجل ، لأنه ليس فى دوامهما اشتراك مع الله فيه ، لأن دوامه غير دوامهم ، فإنه بالذات ، ودوامهم بإدامته ، وأنفاس أهلهما مع دوامهما معلومة له ، بل قيل ، يقال ، إن معلوماته محصورة عنده مع أنها لا تنقضى ، وذلك من كمال قدرته ومخالفته للخلق ، فلا يلزم الجهل له تعالى بدوام أنفاس أهلها ، والنصوص دلت على ذلك ، ولو كان لأهل الجنة فناء لاغتمّوا ولم تتخلص لذاتهم ، ولفرح أهل النار ، وليس لهم فرح .

روى عن ابن عباس وابن مسعود ، أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذى ذكر الله فيه رعد وبرق وصواعق ، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق جعلا أصابعهما فى أذانهما من الفرَق أن تدخل الصواعق فى مسامعهما ، فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا إلى ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا ولزما مكانهما ، فجعلا يقولان ، ليتنا قد أصبحنا فنأتى محمداً فنضع أيدينا فى يده ، فأتياه مكانهما ، فجعلا يقولان ، ليتنا قد أصبحنا فنأتى محمداً فنضع أيدينا فى يده ، فأتياه فأسلما ، ووضعا أيديهما فى يده ، وحسن إسلامهما .

فضرب الله شأن الرجلين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبى صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم فى أذانهم فرَقا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم ، أن ينزل فيهم شىء ، أو يذكروا بشىء فيقتلوا ، كما يجعل الرجلان أيديهما فى أذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه ، إذا كثرت أموالهم ، وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه ، وقالوا ، إن دين محمد صدق ، واستقاموا ، كما يمشى الرجلان فى البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا لدين محمد وكفروا ، كما يمسك الرجلان من المشى إذا زال البرق ، قيل : لما مثل الله حال المنافقين بالذى استوقد نارا ، وبالصيب من السماء المنافقون ، الله أجل وأعلى من أن يضر ههذ الأمثال ، فأ ، زل الله عز وجل :

{ إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاَ مَّا بَعُوضَةً } ما نعت لمثلا ولو كان جامداً ، لأن معناه حقير أو كائن ما كان ، وهو مشهور ، بذلك مستعمل فيه كثيراً بخلاف بعوضة فلا يكون نعتاً لأنه جامد ، ولو قصد به الوصف ، لأنه لم يشهر ، أو لم يرد ، لا يقال ، جاء رجل بعوضة ، بل بعوضة مفعول أول ليضرب ، ومثلاً مفعول ثان له ، لأنه بمعنى صيّر ، وإن عدّى لواحد ، فمثلا مفعول وبعوضة بدل أو مفعول ، ومثلا حال { فَمَا فَوْقَهَا } إلى قوله هم الخاسرون للدنيا وأهلها ، فإن البعوضة تحيا ما جاعت ، وإذا امتلأت ماتت ، ومن امتلأ من الدنيا هلك أو لأعمال العباد يجازى على القليل منها .

والصحيح ما ذكر عن ابن عباس ، رضى الله عنهما ، أنه ذكر الله سبحانه أصنام المشركين ، فقال { وَإِن يَسلبهم الذباب شيئاً } وذكر كيدها ، وجعله كبيت العنكبوت ، فقالوا ، كيف ينزل الله ذكر الذباب والعنكبوت فنزلت الآية { إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِى } وعن الحسن ، لما نزلت { يَأَيها الناس ، ضرب مثل } قال المشركون : ما هذا من الأمثال ، فنزل ، إن الله لا يستحيى وفيه أن ذكر المشركون لا يلائم كون الآية مدنية ، ويجاب ، بأنهم منافقون فى المدينة ، يقولون ذلك فيما بينهم ، وهم مشركون فى قلوبهم ، وعن ابن عباس ، لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت قيل ، ومستوقد النار ، قال اليهود : ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة فنزل ، إن الله لا يستحيى . . إلخ ، أى لا يترك ، لقول اليهود والمشركين تصير البعوضة فما فوقها فى الصغر كجناحها مثلا ، أو فى الكبر كائناً من كان ، ويصير المثل شيئاً ما بعوضة فما فوقها ، وإذا ضرب ما زاد على البعوضة فى الصغر فأولى أن يضربه بما فوقها فى الكبر كالذباب والعنكبوت ، والحياء إنكسار وانقباض عن عيب ، والله منزه عن ذلك ، فيحمل فى حقه على لازم ذلك ، وهو الترك فالاستحياء من الله التركن تعبير باللازم ، لأن حقيقته ينزه الله عنها ، وهى انكسار يعترى لإنسان لخوفه من أن يعاب بما فعل ، أو أراد فعله ، وهو مشتق من معنى الحياة ، لأنه يؤثر فى القوة ، ولا يحسن أن يبقى على ظاهره ، ويوكل أمره إلى الله عز وجل ، وقد ألهمنا تأويلا صحيحاً بلا تكلف ، ولا أن يقال ، هو بظاهره بلا كيف ، لأنه كفر ، والخجل حيرة النفس لشدة الحياء وقيل قبل الفعل ، والخجل بعده .

{ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } أى المثل هذا أولى ، لأنه أقرب . أو الضرب لأنه مصدر لفعل مقرون بأن ، وليس من باب اعدلوا هو أقرب ، ويبعد عوده لترك الاستحياء ، وأبعد منه عوده للقرآن { الْحَقُّ } الثابت أو خلاف الباطل حال كونه { مِنْ رَّبِّهِمْ } أو الحق الصادر من ربهم .

{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } يهود وغيرهم { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً } من حيث التمثيل إنكاراً أو تعجباً من صحته مثلاً وهذا برهان على أنهم لا يعلمون ، إذ لا يقوله من يعلم فهو أبلغ من قولك وأما الذين كفروا فلا يعلمونه حقّاً ، وأجابهم الله عز وجل ، ونصب مثلا على التمييز كما رأيت من اسم الإشارة ، لجواز تمييزه وتمييز الضمير إذا كانا مبهمين ، أو حال منه { يُضِلُّ بِهِ } بالمثل { كَثِيراً } من الناس ، يصيرهم ضالين لكفرهم به { وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً } لتصديقهم ، فإن التصديق هداية من الله عز وجل .

{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَسِقِينَ } من سبق القضاء عليه بأنه يموت على فسقه ، الذى هو شرك ، ومن لم يؤمن به وسيؤمن فإن إنكاره فسق يتوب منه ، والسعيد فى حال فسقه فاسق عند الله عز وجل بما فعل لكنه فى ولاية الله عز وجل بما علم أنه يتوب ، فهو فاسق فى الحال يفعله ، ومسلم فى الأزل وما بعده لسعادته ، وليس المراد أنه مسلم كافر عند الله باعتبار واحد ، ولا أنه اجتمع فيه إيمان وكفر فى حال واحد ، ولا تقدر أن تقول هو فى حال فعله للكبيرة أن فعله هذا مباح ، ولا أنه طاعة ، ولا غير ذنب ولا غير فسق ، ولا غير كفر ، وكل خروج عن الشىء فهو فسق إلا أنه لا يطلق حيث يوهم ، والهداية والإضلال يتجددان ويزدادان ، فإن شئت فقل : يزيد به هدى وإضلالا ، وقدمه ، لأن الكلام فى الرد على الضالين ، وقولهم ، ماذا أراد الله ناشىء عن الضلال ، وما فى القرآن سبب له ، ولذلك أكده بقوله ، وما يضل به إلا الفاسقين ، فيكون بدأ به وختم به .

--------------------------------------------------------------------------------

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ } يبطلون إبطالا شبها بفك طاقات الحبل ، العهد الشبيه بالحبل فى التوصل به إلى المراد ، من نجاة من مكروه ، وفوز بما يحب ، وهو ما أنزل الله عز وجل فى كتبه ، القرآن وما قبله ، من الإيمان به صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كالمعلوم ولو لم يعلم لقوة حججه كأنه معلوم ، ولو لمن لم يعلمه ، وزاد أهل الكتاب بما فى كبتهم من أخذ الميثاق عليهم وعلى أنبيائهم ، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الله العهد بالإيمان على بنى آدم يوم قال : ألست بربكم ، وأخذ الله العهد على الأنبياء ، أن يقيموا الدين ويؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأخذ العهد على أنفسهم ، أن يؤمنوا به ، وأخذا العهد على العلماء ، وعلى من علم أن يبينوا الحق ، والآية فى الكفار عموماً ، شبه العهد ، وهو ما عهد الله عز وجل إلى الخلق من الدين بالحبل بجامع التوصل إلى المقصود والارتباط ، ولم يذكره ، ودلّ له بذكر مناسبه ، وهو النقض ، فالحبل استعارة بالكناية ، وقرينتها تصريحية تبعية ، وهى ينقض ، فهنا استعارة مكية ، قرينتها استعارة تحقيقية لا تخييلية ، شبه إبطال العهد بقطع الحبل أو فك طاقاته ، فسمى الإبطال نقضا ، واشتق منه ينقض.

{ مِنْ بَعْدِ مِيثَقِهِ } تأكيد الله وإبرامه للعهد بالأدلة الفعلية والنقلية ، كالكتب من الله ، فالهاء للمضاف إليه ، وهو الله ، ولا إشكال فيه ، إذا كانت الإضافة لفظية ، كالإضافة إلى الفاعل كما رأيت ، أو المفعول كما ستراه ، إن شاء الله ، فإنها فى منزلة عدم الإضافة أو من بعد ميثاق العهد ، أى إبرامه كذلك أو تأكده وتقويه من الله ، أو منهم بالقبول والالتزام ، فالهاء للعهد ، والميثاق التوثق أو التوثيق ، أو آلة . أى ما وثق الله تعالى به عبده من الآيات .

{ وَيقطون مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } أى بأن يوصل ، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء ، وعدم التفرقة بين رسول الله وآخر ، وكتاب آخر ، والرحم ، والمؤمنين ، والجهاد وسائر الدين ، وما ذكر من العموم أولى فى تفسير ما أمر الله به ، بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإطلاق ما عليه ، ومن تفسيره بالقرآن أو الرحم ، ومن تفسيره بوصل القول بالعمل ، ومن تفسيره بالأنبياء وأن يوصل بدل اشتمال من الهاء كما رأيت ، والأمر طلب الفعل جزما ولو ندبا ، أو بشرط العلو ولو ادعاء ، أو بشرط تحقق العلو .

{ وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ } بالمعاصى مطلقا ، أو بالمنع عن الإسلام ، وقطع الطريق عن من يهاجر ، وهو أولى { أُولَئِكَ } البعداء عن مقام الخير بصفاتهم الخبيثة { هُمُ الْخَسِرُونَ } المبطلون لمصالح أنفسهم ، إذا صاروا للنار ، إذ لم ينتفعوا للآخرة بعقولهم ، وأموالهم ، وأبدانهم ، وأولادهم ، وجاههم ، وأبطلوا نساءهم فى الجنة ومنازلهم فيها ، فلا رأس مال ولا ربح .

--------------------------------------------------------------------------------

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ } وبخهم الله على ما مضى من الكفر واستمراره ، أو أنكر علهيم لياقته بحال صحة ومرض ، وسير وعسر ، وعز وذل وغير ذلك من الأحوال ، أو ذلك تعجيب ، وذلك لقيام البرهان ، ولخطاب لأهل مكة ، ونزلت الآيتان فيها ، وجعلتا هنا على ترتيب اللوح ، أو حطاب لهم من المدينة بعد غيبرة ، وتأكيداً عليهم ، كما يغتاب ثم يخاطب مخافة ألا يصل الكلام ، حاشا لله عز وجل ، أو خطب لكل من كفر ، كيف يكفر كافر ، والحل أنه كان غير موجود ثم ، وجد ، كما قال { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } المراد بالموت فى الحياة ، بقطع النظر عن أن تكون قد تقدمت ، لا نفيها بعد أن كانت ، لأن الإنسان لم يكن حيّاً ثم مات أو أراد أنهم كانوا نطفا ، والنطفة كانت حية فى الإنسان وماتت بالانفصال ، وحييت فى الرحم ، أو كنتم كأموات ، وعلى كل حال لا يشكل أنهم فى الجماد لا يوصفون بموت ولا حياة { فَأَحْيَاكُمْ } فى الأرحام { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } لآجالكم { ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ } فى قبوركم ويخرجكم { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } للجزاء .

--------------------------------------------------------------------------------

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ } أى أجلكم ، أو ملك لكم { مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً } حتى العقارب والحيات والسباع ، فإنكم تنتفعون بها اعتباراً ، أو انزجاراً عن عقاب الله ، كما تنتفعون بالثمار ، والمعادن ، والماء ، والحيوان ، وما فى السم نفع لقتل المؤذيات ولا ينتفع بسم الميتة ولا يباع ولا يشترى ، بل سم غيرها ، وسم المعدن ، أو أراد بالأرض ما في جهته السفل ، فيشمل الأرض نفعها ، وما فيها ، استدل المعتزلة والفخر بالآية على أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحل إن كانت نافعة ، وعليه كثير من الشافعية والحنفية ، ولا تحتمل الآية أن اللام للضرر ، مثل { وإن أسأتم فلها } ولا دليل على أن المراد بالآية الإباحة ، على شرط نزول الوحى بها ، وقيل ، إنها قبل الشرع على الحظر ، وقيل بالوقف ، والأول أولى .

{ ثُمَّ اسْتَوَى } بعض خلق الأرض ، المدلول عليه بخلق ما فى الأرض ، واستواؤه هنا توجه إرادته ، واختار الجهل عن العلم من وكل أمره إلى الله ، وقد وجد له تأويلا ، وهلك من قال ، إنه على ظاهره ، لكن بلا كيف ، ويتم هنا تفسير استوى بملك ، لقوله إلى وقوله ثم إلا بتكلف أن إلى بمعنى على ، وقد ملكها قبل ، ولا باستولى لتكلف توجيه الغلبة على الجماد ، وثم لتراخى الوقت ، وإن قلنا للرتبة فلا نقض بها ، والصحيح أن السماء أفضل من الأرض ، من حيث إنها محل الطاعة التى لا معصية معها ، والأرض أفضل من حيث إنها للأنبياء ، والرسل والمؤمن أفضل من الملائكة ، والأرض أسبق خلقا على الصحيح .

{ إلَى السَّمَاءِ } أى إلى إيجادها كما أوجد الأرض ، وخلق ما فى الأرض متأخر عن خلق السماء تشخيصاً ، لكنه متقدم ضمنا ، فخلق ما يخلق منه الحيوانات مثلا خلق لها ، فإن الله عز وجل خلق الأرض بلا بسط فى يومين ، وخلق السموات وبسطها فى يومين ، وبسط الأرض وخلق ما فيا فى يومين.

{ فَسَوَّاهُنَّ } أى صير السماء ، وأتى بضمير الجماعة لإرادة الجنس ، ولتعدد ما بعده فى قوله { سَبْعَ سَمَوَتٍ } كقوله تعالى { وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً } فمقتضى الظاهر ، وإن كانت ، أى الأولاد ، ولكن قال : كن ، لقوله : نساء ، وقدم هنا وفى السجدة ما أخر فى النازعات ، لأن المقام فيهما للامتنان على المخاطبين ، وفى النازعات للقدرة ، ومعنى تسويتهن سبعاً خلقهن من أول مستويات ، كقولك ، وسع الدار ، أى بانها واسعة ، وسبع بدل من الهاء ، عائدة إلى السماء ، أو إلى ، بهم مفسر به ، أو مفعول ثان يتضمن معنى صبر ، وهو ضعيف ، أو حال مقدرة.

{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إجمالاً وتفصيلا ، وذواتا وأحوالا ، فمن قدرته وعلمه ذلك كيف يجحد ، أو كيف ينسب إليه العجز عن إعادة الخلق ، مع أنه خلق السموات والأرض ، وخلق الدخان من الماء قبل الأرض ، ولما خلق الأرض استوى إلى السماء وهى دخان ، وسواها سبعاً ، ثم بسط الأرض وفتقها سبعا ، وكان بسطها وفتقها فى الأحد ولاثنتين ، وهن بعض فوق بعض كالسموات ، وقيل : بعض يجنب بعض ، يفصل بينهن البحار وتظل السماء عليهن .
__________________
الآيات ( 30 - 48 )

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

{ وَإِذْ قَالَ } واذكر إذ قال ، وقيل : ظرف لقالوا { رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ } كلهم ، وقيل لطائفة خزان الجنان ، يسمون الجان ، أرسلهم إلى الأرض ليطردوا الجن منها إلى البحار ، والجزائر ، والجبال ، ولا يصح هذا ، ولا يصح أن إبليس ملك منهم ، وأقرب من هذا أنه ولد من الجن قبله ، وليسوا ملائكة ، قاتلهم الملائكة وأسروه فتعبد مع الملائكة ، والمشهور أنه أول الجن ، وقيل ملائكة الأرض ، لأن الكلام فى خلافة الأرض ، والمجرد ملئك بهمزة مفتوحة بعد الللام ، وهو مقلوب مالك بهمزة ساكنة فهل اللام ، من الألوكة ، وهى الرسالة ، وهم رسل الله إلى الأنبياء ، وإلى ما شاء الله ، وأخطأ من قال ، إن ملائكة الأرض يعصون كبنى آدم ، والملائكة أجسام نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، وعلى الظهور.

{ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً } ينفذ الأحكام عنى ، وهو آدم ، إذ لا يقدر أهل الأرض على تلقى الأحكام عن الله ولا عن الملائكة { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } بالذنوب الكبار والصغار والمكروهات كالعجب ، والكبر والبغى ، والحسد .

{ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءُ } يريقها ، كناية عن القتل ، ولو بلا إراقة دم ، علموا ذلك من فعل الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم ، فى القول به ، وقاسوا عليه آدم وأولاده ، أو علموا ذلك من اللوح ، أو بإخبار الله لهم ، كما روى ، أنهم قالوا يا ربنا ، ما تفعل ذرية هذا الخليفة ، فقال : يفسدون فيها ، ويسفكون الدماء أو بإلهام ، أو لفهمهم أن من خالف الخلقة الملكية لا يخلو عن ذلك ، وقولهم ذلك تعجب وطلب للعلم بمكة اقتضت جعل الخيلقة مع أنه يحصل الفساد والسفك ، ولعلهم بالغوا فى التعجب والطلب ، فعاقبهم بقطع الوحى عنهم ، إلى أن أوحى إليهم ، أنى أعلم ما لا تعلمون .

وقيل : استفهام حقيقى ، أى أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء أم من يصلح { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } نسبحك مصاحبين بحمدك ، تقول سبحان الله والحمد لله ، أو سبحان الله وبحمده ، أى وبحمده نسبح . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أى الكلام أفضل؟ قال : « ما اصطفى الله تعالى لملائكته ، سبحان الله وبحمده » ، ويقال ، تسبيح الملائكة سبحان ذى الملك والملكوت ، سبحان ذى العظمة والجبروت ، سبحان الحى الذى لا يموت ، أو نسبحك مثنين عليك وشاكرين لك على توفيقك لنا للحمد ، أو كقولك ، كان كذا بحمد الله ، أى بفضله وإذنه .

{ وَنُقَدِّسُ لَكَ } نطهرك عن صفات النقص ، أى نعتقد خلوك عنها ، وجاز هذا لأن التسبيح المذكور مراد به لفظ سبحان ، وإذا كان ذلك حالنا فنحن أحق بالاستخلاف ، لأنا أحفظ لعهدك ، ولا ندرى ، ما الحكمة فى العدول عنا إلى من ذلك صفته ، وذلك عجيب عندنا ، متعجبون نحن منه ، فأخبرنا بها ، يقال قدس الله ، وقدس لله ، وشكر الله ، وشكر لله ، وسبح لله ، وسبح لله ، ونصح الله ، ونصح الله ، أو نذكر ألفاظ التقديس لأجلك ، أو التسبيح التنزيه عما لا يليق به ، فالتقديس تنزيه ذاته عما لا يراه لاثقابه ، أو نقدس لك نطهر أنفسنا عما لا يجوز من الأدناس والمعاصى ، فلا نماثلهم .

{ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا } تبدون وما تكتمون وأعلم ما { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من غيوب السموات والأرض ، ومن إرادتى إظهار حكمى وقدرتى ، وأن المطيع الواحد منهم أفضل من الملائكة ، وأنهم أشد عبادة وأشق ، لأنى أخلق لهم موانع كالنفوس والهوى والشياطين منهم ومن الجن ، والشهوات ، ولهم جهاد وقراءة ليسألكم ، وصلاتهم تشمل عبادتكم ، وعبادات لهم ليست لكم كالصوم والصدقة ، وأظهر العدل فيهم ولا أبالى ، وأدخل العاص منهم النار عدلا ولا أبالى ، ويحيون من الدين ما لا تحيون بالتعلم والتعليم والأمر والنهى ، علم الله ذلك ولم يعلمه الملائكة ، وقالوا ، سرا فيما بينهم ، لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم ، لتقدمنا ورؤيتنا بعض ما فى اللوح ، وأن آدم يطيع ، وإبليس يعصى ، وأن منهم أنبياء ورسلا ، وأعلم مضارع لا اسم تفضيل ، لأنه لا يضاف للمفعول .

--------------------------------------------------------------------------------

وَعَلَّمَ آَدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

{ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ } ألقاها فى قلبه مرة ، لا بتعليم ملك كما قيل { كُلَّهَا } من جميع اللغات ، وهى الحروف ، والأفعال ، والأسماء ، وواضع اللغة الله؛ فالمراد بالأسماء الألفاظ الدوال ، على المعانى ، فشملت الحرف والفعل إقراءً وتركيباً ، حقيقة ومجازا ، ودخلت أسماء الله كلها ، بل قيل ، أراد أيضاً ما يدل بلا لفظ كالنصب ، والعقد ، والإشارة بالجارحة ، وحال الشىء ، والمراد الأنواع كالإنسان ، والفرس والجبل ، والنخلة ، لا الأفراد كزيد ، وشذقم ، وهيلة ، وكل أهل لغة من أولاده وأولاد أولاده حفظ لغة ، ونسى غيرها ، وكلها موجودة فى أهل سفينة نوح ، أو أوقد عليها فى ألواح ، ودفنت وأخرجت بعد الطوفان ، أو أوحتى ما اندرس منها إلى نوح أو هود ، وآدم بوزن أحمر من الأدمة ، بمعنى السمرة ، ولا بأس بها فى الجنة ، لأنه لم يدخلها جزاء ، أو سمر بعد الخروج ، وفسر بعضهم الأدمة بالبياض ، ومن الأدمة بفتح الهمزة والذال ، وهو الغدوة ، أو من أديم الأرض ، أى جلدها أى ظاهرها ، أو من الأدم ، أو الأدمة بمعنى الألفة ، وألفه عن همزة ، وقيل عجمى ، بوزن شالح وآزر ، فألفه أصل ، وذلك فى الجنة ، وخلق فى الدنيا ، ورفعته الملائكة إلى الجنة ، وعاش بعد خروجه منها ألف عام أو تسعمائة.

{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أى الأسماء بمعنى المسميات ، وذكر الأسماء مرادا بها الدوال ، ورد الضمير إليها مرادا به المدلول على الاستخدام ، وضمير الذكور العقلاء تغليب على الإناث وغير العقلاء { عَلَى الْمَلَئِكَةِ } القائلين أتجعل فيها { فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ } بألفاظ { هَؤُلاَءِ } الأنواع المعروضة ، أحضر كل نوع ، فقال ما اسم هذا ، جسما أو عرضا ، مثل أن يلهمهم فى قلوبهم الفرح ما اسمه ، والنفل ما اسمه ، كما يقول لهم ، ما اسم هذا مشيراً للحجر ، وقد عرفوا بعض الأسماء والأفعال والحروف بلغة من اللغات ، كما هو نص الآية ، وإنما خص آدم بجمعه ما لم يعلموا إلى ما علموا ، أو ذلك تعجيز لهم ، لاتكليف بما لا يطاق { إِنْ كُنْتُمْ صَدِقِينَ } فى دعوى أنكم أحق بالخلافة ، والاقتصار عليكم عما يفسد ويفسك ، وأنكم أعلم ، وقد قالوا لن يخلق الله تعالى خلقا أعلم منا ولا أكرم ، وكأنه قيل ، فما قالوا ، فقال :

{ قَالُوا سُبْحَنَكَ } عن أن نكون فى قولنا أتجعل الآية معترضين { لاَ عِلْمَ لَنَا } بتلك المسميات وغيرها { إِلاَّ مَا } أى إلا علم ما { عَلَّمْتَنَا } إياه ، أولا معلوم لنا إلا ما علمتناه ، هذا اعتراف بالعجز ، وشكر على إظهار الحكمة فى الخليفة لهم { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ } بكل شىء { الْحَكِيمُ } فى جميع ما فعل وما قال ، وما يقول ، وما يفعل ، لا يكون منه سفه ، أو لا يخرج الأمر عما أراد ، يقال أراد فلان إحكام شىء ، أى إتقانه فأتقنه ، أى لم يخرج عما أراد ، وقدم العلم على الحكمة لأن المقام له ولقوله وعلم ، وقوله لا علم ، ولأن الحكمة تنشأ عن علم وأثر له ، ولا حكمة بلا علم ، لأن العلم لا يكون إلا صفة ذات ، والحكمة تكون صفة ذات ، بمعنى أنه أهل لأن لا يكون منه إلا الصواب وإلا الإتقان ، وتكون فلا بمعنى إتقان الأمر والإتيان به صوابا .

--------------------------------------------------------------------------------

قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

{ قَالَ يَاآدَمُ } شرفه بالنداء ، كما قال يأيها الرسول ، يا موسى ، وبأنه حقيق أن يعلم غيره ، وبمنة التعليم والإفادة على الملائكة ، وفى دعائه نفى استيلاء الهيبة عليه { أَنْبِئْهُمْ } أى الملائكة .

{ بِأَسْمَائِهِمْ } بأسماء المسلمين ، وقد علمت أن المراد العقلاء وغيرهم ، وغلب العقلاء ، أى اذكر لهم الألفاظ الدالة عليهم ، وفى ضمن ذلك ذكر حكمة المسمى ، وللملائكة بعض لغة يفهمون بها ما يخاطبهم آدم به ، أو يفهمون بإشارته أو بإلهام الله سبحانه لهم إلى الفهم عند خطابه ، مثل أن يقول لعل للترجى ، والإنسان أنا وولدى والجبل لذلك الجسم الصلب والأرض لهذه السطحية والقصعة ودعا لوضع الطعام ، وقام بعنى تمدد جسده من هذه البسيطة ، وآدم اسم عجمى لا دلالة له على معنى سوى ذاته ، كما هو الأصح ، أو أصله من الأدمة ، وهو لون إلى سواد ، أى سيكون كذلك إذا خرج إلى الدنيا ، أو هو كذلك حتى إذا أدخلها جزاء كان أبيض ، أو أفعل من أديم الأرض ، وهو عربى على الوجهين ، ومن ذلك { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } العطف على محذوف ، أى فأنبأهم .

فلما أنبأهم { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنَّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } أى قولوا ، قد قلت لكم إننى أعلم ، لما عجزوا بادر لهم بالأمر بالإقرار بالعجز ، أو وبخهم على عجلتهم إل الاستفهام ، وكان الأولى لهم أن يترقبوا ظهور الحكمة بلا سؤال ، ولا سيما أن سؤالهم على صورة الاعتراض لفعل الله ، والقدح فى بنى آدم ، بل فى آدم أيضاً وذريته بصورة العموم ، ولو لم يقصدوا الاعتراض والقدم إجمالاً ، والآية موجبة لمجانية لفظ ما يوهم ما لايجوز ، ولم لم يقصد ما لا يجوز ، وغيب السموات والأرض ما غاب فيهما ، ولم يضمر للأسماء تعظيماً لها ، والأصل غيب السموات والأرض وشهادتهما ، لأنه يلزم من العلم بغيبهما العلم بشهادتهما ، وذلك على العموم ، وقيل المراد بغيب السموات أكل آدم وحواء من الشجرة ، وبغيب الأرض قتل قابيل وهابيل .

وقيل غيب السموات ما قضاه ، وغيب الأرض ما يفعلونه ، وقيل الأول أسرار الملكوت ، والثانى ما غابه عن أصفيائه ، وما تبدون ما تظهرون من قولكم ، أتجعل فيهما . . إلخ ، وما تكتمون من قولكم ، لن يخلق الله أكرم منا ولا أعلم ، والإبداء والكتم باعتبار ما بين الخلق ، ولا يخفى عن الله شىء ، وأدخل كان للإعلام ، بأنه عالم بما استمروا على كتمانه فى الماضى ، ولا تقل إنها زائدة ، ولا إنها للاستمرار لأن الأصل عدم الزيادة ولأن تكتمون أدل على الاستمرار وحده منها .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

{ وَإِذْ قُلْنَا } اذكر وقت قولنا ، لنفس القول لا لنفس الوقت ، وهكذا فى القرآن كله ، اللفظ ذكر الوقت ، والمراد ذكر ما فيه أو اذكر الحادث ، إذ قلنا كذا ، أو اذكر وقت قلنا ، أو أطاعوا إذ قلنا { لِلْمَلَئِكَةِ } كلهم ، كما قال فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، وتخصيص الآية بالمأمورين بالنزول إلى قتال الجن فى الأرض خروج عن الظاهر بلا دليل ، وكذا فى الأعراف ، والحجر ، والإسراء والكهف ، وطه ، وص ، وذلك سبع سور ذكر فيها ، وإذ قلنا للملائكة ، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء عن إبذاء قومه له ، كما أن أولهم آدم فى محنة عظيمة للخلق ، أى لا نطمع يا محمد أن يتفق الناس على الإيمان بك ، إذ لم يتفق من آمن وعبدالله آلاف السنين ، وشاهد ما لم يشالهد الناس ، إذ خرج عنهم إبليس وكفر فكيف قومك وسائر الناس .

{ اسْجُدُوا } أى { لآِدَمَ } قبل رفعه من الأرض للسماء ، أى إلى جهة آدم ، إعظاماً له ، كالكعبة ، وسبباً لوجود السجود ، وذلك سجود على السماء والأرض ، وما شاء الله ، كسجود الصلاة ، وهو لله عز وجل ، أو المراد بالسجود مطلق الخضوع ، أو مع انحناء ، دون سجود الصلاة ، وهو لآدم ونسخ وإبليس يحسده على الانقياد له ، وعلى جعله قبلة ، وعلى كل خير حتى الجعل له سببا ، ونافق من جعل السجود كسجود الصلاة ، وأنه لآدم تحقيقاً ، ولو كان عبادة لله ، لأن السجود كذلك عبادة يختص به الله فى كل زمان ، وفى جعله قبلة تعظيم حق المعلم على من يتعلم.

{ فَسَجَدُوا } كلهم أجمعون ، أهل السماء وأهل الأرض منهم ، كل سجد حيث هو شرع فى السجود أولا جبريل ، فميكائيل ، فإسرافيل فعزرائيل ، فالملائكة المقربون ، وقيل أولهم إسرافيل ، وذلك يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر ، ويقال بقوا فى السجود مائة سنة ، ويقال خمسمائة ، وهذه الأقوال فى قول تفسير السجود كسجود الصلاة فى قول تفسيره بالانحناء .

{ إِلاَّ إِبْلِيسَ } بمنع الصرف للعلمية والعجمة ، وعلى أنه عربى من معنى الإياس من الخير أو الإبعاد عنه ، فللعلمية ، وكونه لا نظير له فى الأسماء ، وبرده وجود وزن العلم واسم الجنس كاف فى انتقاء المنع لوزنه ، أبا الجن على الصحيح أو مولود منهم الاستثناء منقطع ، وفيه مناسبة للاتصال ، إذ عبد لله مع الملائكة ، وكان فيهم ، كواحد منهم ، حتى إنه قيل كان خازن الجنة أربعين ألف سنة ، بعبدالله ، ومع الملائكة ثمانين ألف سنة ، ووعظ الملائكة عشرين ألف سنة ، وساد الكروبيين ثلاثين ألف سنة ، والروحانيين ألف سنة وطاف حول العرش أربعة عشر ألف سنة ، وجاهد فى الأرض أربعين ألف سنة ، ولم يترك موضعاً فى الجنة إلا سجد فيه ، وأحبط الله عمله كله بترك السجود لآدم ، وكفره شرك ، لأنه أمر معينا فخالف مواجهة ، فلا يختص كفره بمذهب الخوارج ، وعصيانه دليل على أنه ليس ملكا ، وكذا كونه من نار ، وقوله كان من الجن ، ودعوى أن من الملائكة من ليس معصوماً تكلف لا دليل له ، وكون نوع من الملائكة غير معصوم لا يوجب أنه من ذلك الجن ، فلعله من جن الشياطين المشهورين بهذا ، وقد جعل الله كونه من الجن سببا لفسقه ، وكونه ملكا سلخ عن الملكية فعصى دعوى ، وهو مغمور فى الملائكة بإبهام أنه منهم لا بالاحتقار فلا ينافى رياسته.

{ أَبَى } امتنع من السجود { وَاسْتَكْبَرَ } الاستفعال هنا للمبالغة ، أى تقرر فيه كبر عظيم ، وهو أصل الإباء أو مع الأنفة إلا أنه قدم الإباء ، لأنه مما يظهر ، والاستكبار قلبى إنما يظهر بأثره ، وذكرا جميعا لبيان أن إباءه لا يزول ، لأنه لكبر راسخ فيه { وَكَانَ مِنَ الْكَفِرِينَ } فى علم الله تعالى وقضائه الأزلى ، أو من الكافرين الذين فى الأرض قبل خلق آدم من الجن ، وفى اللوح المحفوظ ، أو كان كافراً لترك السجود طبق شقوته الأزلية ، والآية دليل على أن الأمر للوجوب ، إذ قطع عذره بمخالفة قوله اسجدوا دون أن يقول أوجبت عليكم أو نحو ذلك ، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر وقت قوله ، لآدم اسكن .. إلخ ، إذ قال :

{ وَقُلْنَا يَئَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } لم يقل اسكنا لأنه المقصود بالذات ، وهى تبع له فى جميع الأحكام ، والأمور والأمر لهما أمر وجوب كما هو الظاهر ، وكما هو الأصل ، لا أمر إباحة ، وهى جنة بين قارس وكرمان ، أو فى عدن ، أو فلسطين ، والصحيح أنها دار السعداء ، وقيل جنة فى السماء أن يذكرالله عز وجل الرفع إليها ، وأن ذكره أولى ، وأيضاً قال اهبطوا ، والأصل فى الهبوط النزول من عال . ولو يطلق على الخروج من موضع ودخوله ، حملته الملائكة من الدنيا ، أو من باب الجنة على القول بأنه خلق عند بابها من تراب من الأرض ، وأدخلوه الجنة ، وقال له الله جل وعلا ، اسكنها أنت وزوجك حواء ولا يمنع مانع من دخول إبليس مسارقة ، أو فى فم الحية ، كما كان يدخل السموات وليس تكليف آدم بالترك للمأكل من الشجرة ، ولغو إبليس وكذبهما عصيانا فيها كعصيانه أولا وكأكل آدم من الشجرة فلا ينافى ذلك قوله تعالى { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } وأيضاً هذه الآية لأهلها الداخلين فيها للجزاء الذى لا يشوبه شىء .

وقد قيل : وسوس إليهما من باب الجنة ، وبعد أن استقر فيها خلق الله زوجه حواء من ضلعه القصرى اليسرى ، وهو نائم ، ولم يحس ألما ، فيقال ، لو أحس الألم كان الرجل لا يعطف على المرأة ، وخلق الله فى موضع الضلع لحما ، وذلك النوم ألقاه الله عليه إذ لا تعب فيها ، أو من تعب فكر أو بدن فى أمر قضاه الله عز وجل لأنه دخلها غير جزاء له ، ومن دخلها غير جزاء له جاز له عليه فيها ما يجوز عليه فى غيرها ، مما شاء الله من نوم وتعب وحزن وخروج ، وإذا دخلها بعد ذلك جزاء لم يجز عليه ذلك ، وبسطت عدد الأضلاع واختلاف القول فيها فى وفاء الضمانة بأداء الأمانة ، ومنها ما قيل أضلاع اليسرى سبعة عشر واليمنى ثمانية عشر .

{ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } أكل رغد أو أكلا رغَدا ، ونفس الرغد مبالغة وهو الوسع { حَيْثُ شِئْتُمَا } من حيث شئتما من أشجارها ، وفى موضع من مواضعها مع سعتها فلا داعى لكما إلى تناول شجرة واحدة غير متعددة أنها كم عنها { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } الوحدة ، شجرة الحنطة ، أو العنب ، أو النخلة ، أو الحمص ، الأترجة ، أو التين ، أو الحنظل حلوة فيها ، أو الكافور ، وتطلق الشجرة ولو على ما ليس له ساق كقوله تعالى
{ شَجَرَةً مِّنْ يَقْطِينٍ } أو غير ذلك ، والأصل ولا تأكلا من هذه الشجرة ، إلا أنه نهى عن القرب مبالغة ، وأيضاً الأكل منها مسبب ، أو أراد حقيقة القرب لأن القرب إليهما يؤملهما فيها لاطلاعهما على شأنها مع وسوسة الشيطان.

{ فَتَكُونَا } يقول : لا تقربا فلا تكونا ، فهو مجزوم على العطف ، أو لا يكن منكما قرب هذه الشجرة ، فكونكما ، فهو منصوب فى جواب النفى { مِنَ الظَّلِمِينَ } المضرين لأنفسهم ، أو الواضعين الشىء فى غير موضعه ، أو الناقصين لحظهم وحظ الحق .

--------------------------------------------------------------------------------

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

{ فَأَزَلَّهُمَا } أخرجهما إخراجا شبيها بالإزلال ، أى بالإزلاق ، فذلك استعارة أصلية اشتق منها تبعية فى أزل ، أو حملهما على الزلة وهى الذنب ، وهو راجع إلى ذلك لأنه شبه الذنب بالزلق { الشَّيْطَنُ } إبليس ، بقوله ، هل أدلك على شجرة الخلد . . إلخ وقوله { مَا نَهَاكُمُ رَبُّكم . . إلخ } ومقاسمته لهما بعد إخراجه من الجنة لإبائه وتكبره ، اتصلت إليهما وسوسته من حيث هو من الدنيا ، أو من سماء ، لخلق الله عز وجل له قوة ذلك ، أو ذهبا فى فى الجنة تمتعا حتى وصلا بابها ، فأسمعهما من خارج الباب ، أو دخل الجنة متصورا فى صورة دابة من دواب الجنة ولم تعرفه الملائكة أو دخل فى فم الحية فمنه سمها ، وكانت بقوائم على طولها من أحسن الدواب ، فعوقبت بسلب القوائم ، وقيل تسورت على الحائط ، وقيل وقف طاووس على الجدار . فذهب إليه آدم وحواء فوسوس منهما إليه ، وقد جاز إلى قرب الحائط ، وقيل وسوس إليهما من وراء الجدار .

{ عَنْهَا } أى عن الجنة ، أو أزلهما عن الجنة عنها ، أى بالشجرة ، إذ أمرهما بالأكل منها .

{ فَأَخْرَجَهُمَا } أى الشيطان بسبب الأكل الذى وسوس به ، أسند الإخراج إلى السبب { مِمَّا كَانَا فِيهِ } من النعم واللباس والجنة ، وهذا فى ضمن لإخراج المذكور بقوله أزلهما ، كرره تفصيلا وزيادة زجر لغيرهما ، وطاعة آدم وحواء نسيانا لنهى الله عز وجل ، أو توهما من أول الأمر ، أن النهى للتنزيه من أمر سهل ، يتحملانه من الأكل ولا يضرهما أو توهما التنزيه أو النسخ من قوله ما نهاكما وقوله ، هل أدلك ، ودعوه النصح مع القسم احتراماً لحق الله أن يكذب عنه ، ويخالف وعد ذلك دنيا فى حقهما لعلو مرتبتهما وعظم النعمة عليهما ، فلا يردد أن الأنبياء لا يعصون قبل النبوة ولو صغيرة ، ولا يستحضر فى قصة آدم ما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين ، إذ لم يفعل آدم شيئاً مما عوتب عليه يدعيه حسنة بل يستحضر أنه يعد فى حق على الرتبة ذنبا ما ليس ذنبا فى حق غيره .

{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا } أنت وحواء ، عبر عنهما بصيغة الجمع ، كما قال اهبطوا منها جميعاً إلى الأرض ، أنتما ومن فيكما من الذرية ، وفيه خطاب المعدوم ، أو أنتما وإبليس والحية ، قيل والطاووس فنزل آدم بسر نديب من الهند على جبل يسمى نود ، أوحواء بجدة بضم الجيم فى مدة أربعين عاما فيما قيل ، والله قادر على أقل كما ينزل جبريل وغيره فى لحظة ، وإبليس بأصبهان ، والطاووس بالشام ، أنتما لأكلكما من الشجرة . وإبليس لإبائه ، والحية لحملها إبليس ، والطاووس لإبلاغ أمر إبليس إليهما ، وليس قولا بمرة ، بل أهبط إبليس ، ثم الحية ، فالطاووس ، ثم آدم وحواء ، وللحية والطاووس فى الجنة عقل ، فعوقبا بالإخراج أو ليس عقابا .

{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } يطلق على الواحد فصاعدا ، لأنه بوزن المصدر ، كالقبول كما أنه يطلق فعيل الوصف كذلك لشبهه بالمصدر كالدبيب ، والصرير ، وذلك مجموع لاجميع فإن العداوة بين آدم وحواء فريقا ، وبين إبليس والحية فريقا لا بين آدم وحواء ، ولا بين إبليس والحية ، ولا بينهم وبين الطاووس ، وقيل الخطاب للذرية فى ضمن أبويهما ، آدم وحواء ، وذلك ظلم بعض لبعض .

{ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ } متعلق بلكم لنيابته عن ثبت أو ثابت { مُّسْتَقَرٌّ } استقرار أو موضعه ، والأول أولى ، وليس المراد الموضع الذى نزلوا فيه { وَمَتَعٌ } تمتع أو ما يتمتع به { إِلَى حِينٍ } آخر أعماركم ، وقيل قيام الساعة ، لأن المراد هم وذرياتهم تنازعه مستقر ومتاع .

--------------------------------------------------------------------------------

( فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 37)

{ فَتَلَقَّى ءَادَمُ } وحواء لقوله تعالى : قالا ربنا . . . الخ { مِنْ رَّبِّهِ كَلِمَتٍ } دعوا بهن ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، على الأصح ، وقيل ، سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسى فاغفر لى ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، وأخرج الحاكم فى المسند ، عنه صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس أنه قال ، يا رب ألم تخلقنى بيدك ، قال بلى ، قال : يا رب ألم تنفخ فىّ الروح من روحك ، قال : بل ، قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك ، قال : بلى ، قال يا رب ألم تسكنى جنتك ، قال : بلى ، قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعى أنت إلى الجنة ، قال : نعم ، وتلقى الكلمات : التوجه إليهن بقبولهن ، والدعاء بهن ، إذ ألهمهم الرحمن الرحيم إياهن .

وقيل : هن توسله بمحمد صلى الله عليه وسلم حين رأه مكتوباً على ساق العرش ، وقد علمه الله الكتابة { فَتَابَ عَلَيْهِ } رجع إليه بعد الإعراض عنه ، وولايته وعداوته لا تنقلبان لكنه شبه كراهته أكلهما بالإعراض ورضاه بندمهما بالرجوع ، والله ينزه عن الجهات والأمكنة التنقل ، أو قبل توبته أو وفقه للتوبة ، وهكذا تربة الله حيث ذكرت وبعد ما تاب الله عليه بقى ثلثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عز وجل.

{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } كثير الرجوع وعظيمه على عباده بالإنعام وقبول التوبة { الرَّحِيمُ } للمعاصى والمطيع ، إلا من أصر من العصاة فله فى الدنيا فقط ، ولا يقال الله تائب لعدم وروده فى القرآن ، والإجماع ، وأسماء الله توقيفية ، وقيل تقاس فيما ورد فيه لفظ الفعل أو غيره مسنداً ، فنقول الله تائب على عباده ، لورود تاب عليه وتاب عليهم ، وبانى السماء وداحى الأرض ، واعلم أن لفظ الشرك حرام باتفاق الأمة ولو لم ينو به الشرك إلا حكاية أو اضطرار لأنه موهم ، وذلك من الإلحاد فى أسمائه كما قال بعض العلماء : إن الله حكم بشرك من قال عزير بن الله ، أو قال المسيح بن الله ، ولو لم ينو حقيقة البنوة ، وذلك بناء منهم على أن لفظ الإشراك شرك . ولم لم ينو ، كما أن نيته شرك بلا لفظ أو مع لفظ ، حتى إن من العلماء من لا يجيز للمضطر أن يلفظ بشرك ولو اطمأن قلبه بالإيمان ، إلا بتأويل لفظه ، أو بمعرضه ، أو إسرار شىء يخالفه وينقضه ، أو عناية ما مما ينقض اللفظ زيادة على اطمئنان قلبه ، وإنما منعوا ما يوهم الشرك ولم لم يقصد ، حسما لمادة الشرك ، كما نص عليه بعض محشى البيضاوى .

وقد اختلفوا فى أسماء الله ، أتوقيفية أم قياسية فيما ورد فيه معنى المادة بشرط الإفاضة على الكيفية الواردة ، مثل أن يقال: فارش الأرض ، وداحى الأرض ، لقوله تعالى{ وَالأَرْضَ فَرَشْنَهَا ، والأرض بعد ذلك دَحَيهَا } ، واتفقوا أنه لا يجوز تسميته بما يوهم شركا أو نقصاً ولو مجازاً بقرينة واضحة وعلاقة ، مثل أن يقال : لله باب ، فإنه لا يجوز إجماعاً من الأمة مع أن قائله لم يقصد حقيقة النبوة .

وإنما اختلفوا ، هل يشرك من لم يقصد حقيقة النبوة والأبوة ، فقيل يشرك ، وقيل لا ، وأما أن يقول قائل بجواز أن يقال لله باب فلا ، بل اتفقوا أنه لا يجوز أن يقال ذلك ، ولو بلا قصد لحقيقة البنوة والأبوة ، واتفقوا أنه لا يجوز أن يترك إنسان بقوله وقد قال بعض فى برابرة المغرب :
إذا كنت فى الفِرْدَوْسِ جَار الْبَرْبَرِ ... فَيَلْزمُكَ الرَّحيل مِنهَا إِلَى سَقَرْ
يَقُولُونَ لِلرَّحْمَنِ بَابٌ بِجَهْلِهِمْ ... وَمَنْ قَالَ لِلرَّحْمَنِ بَابٌ فَقَدْ كَفَرْ

وقد أصاب فى قوله كفر إن أراد أنه تلفظ الشرك ، وإن أراد أنه أشرك ولو لم يقصد الشرك فهو قول للعلماء كما رأيت ، وهو ضعيف ، وأخطأ فى قوله إذا كنت فى الفردوس البيت .
وأجابه بعض المغاربة بقوله :
كَفَى بِكَ جَهْلا أَنْ نحن إِلَى سَقَرْ ... بَدِيلاً مِنَ الْفِرْدَوْسِ فِى خَيْر مُسْتَقَرّ
فَإِنَّ أبَا ألإنسانِ يَدْعُونَ أنه .. كَفِيلٌ وَقِيمٌ رَحِيمٌ بِهِ وَبَرّ
وَمَنْ قَال للرَّحْمَنِ بَابٌ وقدْ عنى ... بِهِ ذَلِكَ المعْنَى مَجَازاً فما كَفَرْ

وهذا المجيب أصاب وجرى على الواضح ، إلا أنه إن أرد أنه يجوز إبقاء البربرى أو غيره على ذلك القول لعنايته الرحمة فقد أخطأ ، فينبغى أن يفصح بأنه لم يشرك ، وأنه لا يجوز له قول ذلك ، ولا يجوز إبقاؤه بلا نهى عن ذلك .
--------------------------------------------------------------------------------

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً } أى من الجنة ، وهذا يقوى ، رجوع الضمير فى منها إلى الجنة ، وكرر قول اهبطوا لأن الأول مذكور برسم العقاب بالهبوط وفوت نعيم الجنة التى لا أجل لها ، ومضار الهبوط من العداوة إلى دار مؤجلة ، وبرسم التوبة ، والثانى مذكور على رسم التكليف كما قال { فَإِمَّا } إلخ إن ماء ، وما تأكيد لعموم الإتيان وهذا يقوى أن الخطاب للذرية فى الأول أيضاً ، لأن الحية والطاووس لا تكليف عليهما ، وقد يقال الأول لهما ولآدم وحواء وإبليس ، والثانى للذرية ، أو ذكره أولا بليّة ، وثانيا نعمة ، إذا رتب عليه التكليف المؤدى إلى الرجوع إلى الجنة مع ما لا يحصى من ولده ، كما روى أنه رق قلب جبريل على آدم وحواء فأوحى الله إليه ، دعهما ، فإنهما سيعودان إليها مع ما لا يحصى من ذريتهما ، ويخلدون أبدا ، وقد يقال كلا الخطابين كل لا كلية، وقد يقال هبوطان ، الأول إلى السماء الدنيا مقدرين الاستقرار والتمتع فى الأرض ، والثانى إلى الأرض.

فإما { يَأْتِيَنَّكُمْ } فى الأرض { مِنيّ هُدًى } وحى أو رسول ، مقتضى الظاهر ، فإذا أتاكم منى هدى لتحقق الإتيان ، لكان لما كان بعث الأنبياء والوحى إليهم من الجائز لا الواجب ، ولا واجب على الله عز وجل ، ذكر بصيغة الشك المعتبرة المخاطبة ، لأن العقل لا يوجبه ، ولو كانت الحكمة أن لا يهمل العاقل ، وفى صفة الشك أيضاً تدريج ، وفيه تخفيف ، أو لتنزيل العالم منزلة الجاهل الشاك إذا لم يجز على مقتضى علمه.

{ فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ } مقتضى الظاهر ، فمن تبعه ، لكن أظهر وأضاف للياء تعظيما ، وقيل لأنه لعموم ما يعقل بالاستدلال ، واتباع الهدى والإيمان والعمل والتقوى ، ومن آمن ومات ، أو تاب ومات قبل وجوب الواجبات فهو من هذا القسم ، ومن أصر نفى النار ، ولم يذكر فى هذه الآية إلا بمفهوم الشرط إذ شرط باتباع الهدى .

{ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } والجملة جواب ، وقيل محذوف ، أى فاتبعوه فى آخر موتهم ، ولا فى القبر ولا عند البعث ، ويصيبهم الخوف فى الدنيا من مضارها ومن سوء الخاتمة ومن العقاب وفى بعض مواطن الموقف { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فى الآخرة من ترك الإيمان والتقوى ، إذ لم يتركوها فاستحقوا الجنة ، والخوف غم لتوقع مكروه ، والحزن غم لفوت مهم ، ويجب التحفظ عن المعاصى قال بعض :
يا ناظِراً يَرْنُو بِعَيْنِى رَاقِدٍ ... وَمُشَاهِدٍ للأَمْرِ غير مُشاهِدِ
مَنَّيتَ نفسكَ ضَلّةً وَأَبَحْتَها ... طُرْق الرجاءِ وَهُنَّ غيْرُ قواصد
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنوب وترتجى ... دَرَجَ الْجِنَانِ بها وفَوزَ الْعَابِدِ
ونَسيتَ أن اللهَ أخْرَجَ آدماً ... مِنْها إلى الدُّنْيا بذنْبٍ واحدٍ

--------------------------------------------------------------------------------

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } فى قلوبهم أى بها بآياتنا { وَكَذَّبُوا بِآيَتِنَا } فى ألسنتهم ، وهى القرآن وسائر كتب الله العظيم ، وهى آيات أى علامات على وجود الله ، وكمال قدرته وصدق الأنبياء ، ويدخل فى الأول من أنكر الله ، أو سميت الآية لأنها علامة على معناها ، أو لأنها جماعة حروف وكلمات ، خرج القوم بآياتهم أى بجماعتهم ، أو لأنها علامة على الانقطاع عما قبلها وعما بعدها ، باعتبار والتمام لا باعتبار المعنى ، لأن المعنى كثيراً ما يتم بآيتين أو آيات ، أو لأنه يتعجب من إعجازها يقال فلان آية من الآيات { أُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ } ملابسوها { هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } لا تفنى ولا يفنون ، ولا يخرجون ، خاطب الله مشركى العرب ومنافقتهم ، وقد يكون الخطاب على عموم الناس ، ثم خاطب اليهود خصوصاً فقال :

{ يَبَنِى إِسْرَاءِيلَ } عبد الله يعقوب ، واللفظان عبريان ، أو أسر القوة أى قوة الله ، أو أسرى ليلا مهاجراً إلى الله ، أو أسر جنيّاً لوجه الله كان يطفىء سراج بيت المقدس ، وعلى الثلاثة إبل لفظ عبرى ، معناه الله ، وما قبله عربى كما قيل فى تلمسان تلم بمعنى تجمع ، عربى ، وسان اثنان بلغة البربر ، أى جمعت حسن البر والبحر أو اتفقت اللغتان العربية والعبرية ، وقيل إسر صفوة ، أو إنسان ، أو مهاجر والمراد بنو إسرائيل الموجودون حال نزول الآية .

{ اذْكُرُوا نِعْمَتِى } اذكروها فى قلوبكم لتشكروها بتعظيم القلب ومدح اللسان وعمل الجوارح ، ولا تكتفوا بمجرد حضورها فى القلب واللسان { الَّتِى أَنْعَمْتُ } أنعمتها . أى أنعمت بها ، أو ضمن معنى أثبت ، وقد أجيز حذف الرابط بلا شرط إذا علم ، وهى النتيجة من فرعون ، وفرق البحر والإحياء بعد موت ، وتظليل الغمام ، والمن والسلوى ، والعفو ، وغفران الخطايا ، والتوراة والماء من الحجر ، والصحف مجموعهن نعمة ، تتضمن نعماً ، أو الإضافة للحقيقة أو النعمة اسم مصدر أى اذكروا إنعامى بذلك ، وذلك لآبائهم ، وما كان فخراً لآبائهم فهو فخر لهم ، كما أنه نسب إليهم ما فعل آباؤهم من السوء لرضاهم عنهم مع السوء من قولهم سمعنا وعصينا ، وأرنا الله جهرة ، ولن نصبر على طعام واحد ، واتخاذ العجل وتبديل الذين ظلموا وتحريف الكلم ، والتولى بعد ذلك ، وقسوة القلب والكفر بالآيات ، وقتل الأنبياء .

{ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى } ما عهدت إليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أخذه من موسى ، وأخذه موسى عليكم ، قال الله جل وعلا : ولقد أخذ الله ميثق بنى إسرائيل ، إلخ . والعهد إنزال نبوءته ورسالته صلى الله عليه وسلم فى التوراة { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بما عهدته لكم من الجنة على الوفاء بعهدى.

{ وَإِيَّىَ } ارهبوا ، يقدر العامل هكذا ، مؤخرا للحصر ، أى خافونى وحدى على ترك الإيفاء بعهدى ، والشاغل الياء المحذوفة فى قوله { فَارْهَبُونِ } فى جميع أحوالكم ، وفى نقض العهد ، وفى أن تنزل نعمة عليكم كآبائكم ، وكأنها مذكورة ، إذ وجدت نون الوقاية المكسورة لها والفاء الفاصلة للتأكيد ، أو يقدر إياى ارهبوا ، تنبهوا فارهبون ، وعليه فحذف ارهبوا الله دلالة عليه لا على رسم الاشتغال ، والرهبة الخوف أو مع التحرز .

--------------------------------------------------------------------------------

وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

{ وَءَامِنُوا } يا بنى إسرائيل ، وقيل العلماء والرؤساء منهم ككعب بن الأشرف { بِمَا أَنْزَلْتُ } على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن وسائر الوحى { مُصَدِّقاً } أنا فهو حال من التاء ، والأولى أنه حال من الهاء المحذوفة؛ أى أنزلته أو من ما { لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة والإنجيل ، أى صدقته بما أنزلته أو مصدقا له ما أنزلت ، لأن القرآن جاء مطابقاً للتوراة والإنجيل فيما ذكر الله فيهما من نبوءة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ورسالته ، وسيرته ، ومن وصف القرآن ، والقصص ، والمواعظ ، والتوحيد والدعاء إليه ، والعبادة والنهى عن المنكر حتى إن اتباعهما موجب للإيمان به ، وبما جاء به .

{ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ } أى مثل أول { كَافِرٍ بِهِ } أول فريق كافر أو لا يكون واحد منكم أول إنسان كافر به من أهل الكتاب ، فيتبعكم من بعدكم ومن معكم ، فيكون عليكم إثم كفركم ومثل إثم من تبعكم ، وقد سبقكم فى الكفر قريش وسائر العرب ولا تكونوا مثلهم ، وإنكم أحق وأول من يؤمن لما تتلون فى التوراة والإنجيل من الإخبار به ، أو الهاء لما معكم ، فكفركم بالقرآن كفر بما معكم من التوراة والإنجيل ، والعرب لم تسبقكم بالكفر بهما ، بل بالكفر بالقرآن ، والواو الثانية من أول منقلبة عن همزة ، من وأل إذا لجأ ، وفيه معنى السبق والتبادر ، وقيل من آل بمعنى وجع ، وقيل أصل شاذ لا فعل له ، إذ لا توجد كلمة فاؤها وعينها واو ، وما قيل من أن فعله ول بيان لا سماع ، وقيل وزنه فوعل ، ويرده منع صرفه .

{ وَلاَ تَشْتَرُوا } ضد البيع ، استعارة عن تستبدلوا { بِئَايَتِى } الآيات التى فى التوراة والإنجيل الدالات على ما أنزلت على محمد؛ بأن تخفوها أو تمحوها أو تبدلوها أو تفسروها بغير تأويلها { ثَمَناً } مثمنا { قَلِيلاً } هو ما تعطيكم سفلتكم مبنيا على ذلك التغيير ، وعلى رياستكم به ، وفى الموسم وأزمان الثمار ، فترك الآيات بتلك الأوجه ثمن اشتروابه مثمناً ، هو ما يعطون ، أو ثمنا بمعنى عوضاً ، وكل من الثمن والمثمن ثمن ومثمن ، من حيث أن كلا عوض ، أو تشتروا تستبدلوا من حيث إن الاستبدال أعم من الشراء ، فذلك مجاز مرسل للإطلاق والتقييد ، وما يأخذونه كثير ، لكنه بالنسبة إلى ما تركوا من الدنيا قليل ، وبخ الله اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتم ، وبيع الدين ، والتحريف وقولهم هذا من عند الله ، ونحن أبناء الله ، ويد الله مغلولة ، وقتل أنفسهم ، وإخراج فريق من ديارهم ، والحرص على الحياة ، وعداوة جبريل واتباع السحر { وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ } مثل إياى فارهبون .

--------------------------------------------------------------------------------

وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

{ وَلاَ تُلْبِسُوا الْحَقَّ } لا تخلطوه وهو ما فى التوراة والإنجيل { بِالْبَطِلِ } هو خلاف الحق من أنفسهم خلطوه بالحق تفسيراً وكتابة فهو بعد كلام حق وقيل كلام آخر حق ، سواء زادوه بينهما فقط ، أو أسقطوا كلاما بينهما وجعلوا مكانه باطلاً { وَتَكْتُمُوا } أى ولا تكتموا ، أو مع أن تكتموا جزما بالعطف ، أو نصبا فى جواب النهى { الْحَقَّ } كصفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقتل المحصن ، إذا سئلوا أنكروا وجود ذلك فى التوراة ، وكرر الحق للتأكيد ، إذ لم يضمر له ، أو لأن المراد بالأول غير صفته صلى الله عليه وسلم ، ورجم المحصن .

{ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه حق ، أو تعلمون أنه موجود فى التوراة ، أو البعث والجزاء ، أو أنكم لا بسون كاتمون ، وتقولون لا يوجد ، وذلك قبيح ولو لم تعلموا ، فكيف وقد علمتم ، أو وأنتم من ذوى العلم ، هكذا فلا يقدر له عمل فى محذوف .

--------------------------------------------------------------------------------

وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ } المنزلتين فى القرآن ، لوجوب الإيمان به واتباعه عليكم { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } محمد وأصحابه ، جماعة أو الجنس فالكفار مخاطبون بفروع الشريعة كما خوطبوا بالتوحيد ، وتأويل الآية ونحوها بآمنوا بوجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ليكون من الأصول دعوى بلا دليل وتكلف ، والحق جواز الأمر بالشىء قبل بيانه ، لا ليفعلوه قبل بيانه ، فليس ذلك من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما تقول لعبدك ، خِط هذا الثوب ، فيقول : لا أعرف ، فتقول سأعلمك ، وأنت حين مرته عارف بأنه لا يعرف ، وقدم الصلاة تدريجاً لأنها أسهل على النفس من المال ، ولأنها أفضل العبادات بعد التوحيد ، وقرنها بالزكاة لأنها تطهر النفس من البخل ، وتورثها فضيلة الكرم ، كما أنها تنمى المال وتطهره من البخل ، فإن الزكاة لغة النمو والطهارة ، وفيه تلويح بزجرهم عما هم عليه قبل ، من الصلاة فرادى بلا ركوع ، أو المراد بالركوع الانقياد لأمر الشرع وترك التكبير ، كانت اليهود تأمر سرّاً من أحبوه من قرباهم ومن حلفائهم من الأوس والخزرج ، وأصهارهم ، ومراضيعهم ، ومن سألهم من قريش وغيرهم من العرب باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقولون لهم : إنه رسول الله ، وهم لا يؤمنون .

-------------------------------------------------------------------------------

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أنواع الخير والطاعات ، وترك المحرمات والمكاره ، والمراد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه جامع لذلك ، وللتوسع فى الخير مع الله والأقارب والأجانب كما هو ، أصل البرد المأخوذ من البر بالفتح للقضاء الواسع { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } تتركونها عمد من البر ، فلا تأمرونها به ، والاستفهام توبيخ لهم ، أو إنكار لأن يصح ذلك عقلا أو شرعا ومحطه قوله وتنسون أنفسكم ، { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَبَ } التوراة وفيما النهى عن مخالفة القول العمل ، فإنها صورة الجاهل بالشرع والخالى عن العقل ، إذ كان يعظ ولا يتعظ ، وليس عدم العمل مسقطا لفرض الأمر والنهى ، فإن لم يعمل ولم يأمر ، ولم ينه فقد ترك فروضا ، وإن عمل وَلم يأمر ولم ينه أو أمر وَنهى وترك العمل فقد ترك بعضها ، والنسيان مشترك بين الزوال عن الحافظة والترك عمدا ، وقيل مجاز فى الترك ، لأنه لازم ومسبب عن الزوال عنها ، ونكتة التعبير به التلويح إلى أنه لا يليق أن يصدر ذلك إلا لزوّال عن الحافظة ، يطلع ناس من أهل الجنة على ناس فى النار فيقولون : كنتم تأمروننا بأعمال دخلنا بها الجنة ، فيقولون كنا نخالف إلى غيرها { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى فألا تعقلون قبح ذلك ، قدمت الهمزة عن العاطف لتمام صدارتها ، أو دخلت على معطوف عليه محذوف ، وهكذا فى القرآن ، أى أتغفلون فلا تعقلون .
--------------------------------------------------------------------------------

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)

{ وَاسْتَعِينُوا } خطاب للمؤمنين لا لليهود ، لأنه يليق بمن أذعن فيستكمل به لا للشارد ، ولا ينتفع الباقى على كفره بالصبر والصلاة إلا أنه لا مانع من الخطاب لهم مراعاة لقوله أوفوا وآمنوا واتقون ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، واركعوا ولا سميا أن ما قبل وما بعد فيهم ، والمراد ، اطلبوا المعونة على عبادتكم ومباحكم { بِالصَّبْرِ } حبس النفس على الاجتهاد فى العبادة وعما نشتهى من توسيع اللذات وعن المعاصى والمكاره ، وعلى المصيبة ، ويقال من صبر على الطاعة فله ثلثمائة درجة ، أو عن المعاصى فستمائة درجة ، أو على المصيبة فتسعمائة ، بين الدرجتين ما بين الأرض والسماء ، ويقال الصبر على الطاعة أعظم ثواباً من الصبر على المصيبة ، وعن المعصية أعظم منها ، ولفظ ابن أبى الدنيا وأبى الشيخ ، عن على ، الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبرة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلثمائة درجة ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ، ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرض العليا إلى منتهى الأرضين ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ، ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرضين إلى منتهى العرش مرتين .

{ وَالصَّلَوةِ } قدم الصبر عليها لأنها لا تكون إلا بالصبر عن الكسل والملاذ الصارفة عنها ، وعلى وظائفها من الطهارة من الأنجاس ، ورفع الأحداث ، والخشوع وإحضار القلب ، وسائر شروطها ، وشطورها ، وأفردها بالذكر لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، إذا أتى بها كما أمر به ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا اشتد عليه أمر بادر إليها ، والآية أنسب باليهود ، فهم داخلون بالمعنى ، ولو عل القول بأن الخطاب لغيرهم ، لأنهم منعهم عن الإيمان حب الرياسة والشهوات ، فأمروا بالصبر ، ومنه الصوم ، أو المراد به الصوم ، وهو ضعيف ، وبالصلاة لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتورث الخشوع .

{ وَإِنَّهَا } أى الصلاة لأنها أقرب مذكور ، والاستعانة بالصبر والصلاة ، كقوله { اعدلوا هو أقرب للتقوى } وقوله تعالى { وإِن تشكروا يرضه لكم } أى يرضى الشكر ، أو أن الأمور من قوله اذكروا إلى قوله واستعينوا . والراجح الأول { لَكَبِيرَةٌ } شاقة ، كقوله تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أى شق عليهم { إِلاَّ عَلَى الْخَشِعِينَ } الساكنى الجوارح الحاضرى القلوب ، سبيلا إلى الطاعة ، فلا تثقل فيهم ، وإن ثقلت فأقل من ثقلها على غيرهم لا عتيادهم أمثال ذلك ، ورجائهم من الثواب ما يستحقر له مشاقهم حتى إنه صلى الله عليه وسلم قال : « جعلت قرة عينى فى الصلاة ، ويقول : أرحنا يا بلال بالصلاة » ، وصح التفريغ لأن كبيرة بمعنى لا تسهل ، كما جاء بعد أبى لأنه بمعنى لم يرد ، أو هو منقطع ، أى لكن الخاشعون لاتكبر عليهم .

--------------------------------------------------------------------------------

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } يعلمون ، كما استعمل العلم بمعنى الظن فى قوله تعالى : « فإن علمتموهن مؤمنت » { أَنَّهُمْ مُلَقُوا رَبِّهِمْ } ملاقوا حسابه بعد البعث أو ثوابه ، وذلك حذف ، أو ملاقوه بالحساب أو الثواب ، فشبه المعاملة بالحساب أو الثواب بالحضور ، تعالى الله عن الحلول والجهات { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَجِعُونَ } للجزاء ، أو هذا مطلق رجوع لمطلق الحساب ، وملاقاتهم هى على ثواب الصبر والصلاة فلا تكرير ، فالظن على ظاهره إذ لا يحزمون بالسعادة .

--------------------------------------------------------------------------------

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)

{ يَبَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } كرره للتأكيد ، والإيذان بكمال غفلتهم ، وليتنى عليه قوله { وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ } أى نعمتى ، وتفضيلكم ، هذا عطف خاص على عام { عَلَى الْعَلَمِينَ } عالمى زمانكم من الناس ، إذ جعلت فيكم النبوة والرسالة ، والمعجزات ، والكرامات ، إذ جعل فكيم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين « كالمن والسلوى وفلق البرح ، أما غير الناس من الجمادات والحيوان فلا اعتداد به ، وأما الجن فتبع للناس أو يرادون فى العالمين ، وأما الملائكة فليسوا فى الآية . لأنها فيمن تمكن فيه النبوءة وما يتبعها ، ولو قلنا إن الإنسان المؤمن أفضل من الملائكة ، وخرج تعالى زمانهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، فإنهم أفضل الخلق على الإطلاق ، والدليل قوله تعالى { كنتم خير أمة } الآية . وحديث أنا سيد ولد آدم بل لا ينافى أنهم فضلوا علينا أى زادوا علينا بكثرة الأنبياء ، وما ذكر لأنا أفضل منهم فرداً فرداً بالذات ، من حيث إن ثوابنا أكبر من ثوابهم ، وسومح لنا ما لم يسمح لهم .

--------------------------------------------------------------------------------

وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

{ وَاتَّقُوا يَوْماً } يوم القيامة ، احذروا هوله وعذابه بالإيمان ، وأداء الفرائض ، واجتناب الحرام ، ويوما مفعول به كما رأيت على حذف مضاف ، ويجوز أنه ظرف مفعول محذوف أى العذاب فى يوم { لاّ تَجْزِى } فيه { نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً } لا نغنى عنها فى شىء إغناء ما ، أو لا تدفع عنها شيئاً بقوتها ، أو بأعوان لها لو كانوا { وَلاَ تُقْبَلُ } فيه { مِنْهَا شَفَعَةٌ } أى لا شفاعة للنفس الأولى فى الثانية ، فضلا عن أن تقبل منها ، والسالبة تصدق بنفى الموضوع ، قال جل وعلا { فَمَا لَنَا مِنْ شَفِعِينَ } { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا } من النفس الثانية { عَدْلٌ } نداء ، أو لا يقبل من الثانية شفاعة ولا يؤخذ منهم عدل ، ولا تشفع مؤمنة فى كافرة ولا يقبل منها عدل فيها ولا فى غيرها ، وكذا كافرة فى كافرة لقرابة أو محبة.

{ وَلاَ هُمْ } أى النفس لتنكيرها بعد السلب { يُنْصَرُونَ } يدفع عنهم العذاب بالمقاومة والغلبة ، والآية دليل لنا وللمعتزلة على أن لا شفاعة لأهل الكبائر ، لأن الآية ولو كانت فى المشركين ، لكنها فى صفة يوم من شأنه أنه لا شفاعة فيه يدفع العذاب عن مستحقه ، ولا مقام أو زمان من مقامات الموقف وأزمنته نص فيهما على ثبوتها للفساق ولا الشخص مصر .
__________________

jtsdv s,vm hgfrvm>>>ggado hgughlm lpl] fk d,st h'tda hgfrvmggado hgughlm h'tda jtsdv fk d,st





توقيع :

رد مع اقتباس