منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - ملخص دروس التفسير لسماحة الشيخ الخليلي
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 09-02-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



تفسير الآية الأولى من سورة النساء

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)
ألقاه سماحة الشيخ أحد بن حمد الخليلي-بارك الله في عمره - بتأريخ:
22 من ذي الحجة 1425هـ - 1/2/2005م
--------------------
مقدمة الدرس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..
فأحييكم أيها الأخوة بتحية الإيمان والأمان، بتحية الإسلام والسلام، فالسلام علكم ورحمة الله وبركاته، وأهنئ من وفقه الله تعالى لحج بيته الحرام، بأدائه المناسك، وبلوغه تلك الأماكن المقدسة، وأهنئ الآخرين بمناسبة عيد الأضحى المبارك، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يمن على الجميع بأن يعيد هذه المناسبات على الكل باليمن والبركات والخير وما فيه عز الدنيا وسعادة الآخرة، إنه تعالى على كل شيء قدير.
هذا؛ وقد وقفنا في آخر درس عند نبذة عن سورة النساء الكريمة التي نستهل في هذا الدرس بمشيئة الله سبحانه وتعالى تفسيرها.
الخطاب لمن في قوله تعالى ( يا أيها الناس ):
فالله سبحانه وتعالى يقول: ( بسم الله الرحمن الرحيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) في هذه الفاتحة الشريفة يوجه الله تبارك وتعالى نداءه إلى الناس جميعاً، ومعنى ذلك أن هذا خطاب لأمة الدعوة، فهو خطاب لكل من أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطابٌ للجنس البشري بأن يستجيب لداعِ الله سبحانه وتعالى، فهو يتعدى جميع الحدود الإقليمية والنوعية والجنسية؛ لأنه خطاب الله تبارك لعباده من الجنس البشري، يدعوهم سبحانه وتعالى إلى تقواه.
هذا؛ وقد وقع لبعض أهل العلم رأي آخر يقول بأن هذا الخطاب خطاب لأهل مكة، وهو عجيب؛ لأن هذه السورة إنما هي سورة مدنية، وقد روي هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما- ولا يبعد أن يكون الأمر كما قال العلامة صاحب المنار بأن منشأ ذلك ما شاع عند كثير من الناس أن كل خطاب جاء فيه لفظ ( يا أيها الناس ) فهو خطاب مكي، وكل خطاب جاء فيه ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو خطاب مدني، ولا ننازع في هذا الأخير، ولكن بالنسبة إلى الأول فإن ذلك أمر أَغْلَبِيّ ، وليس هو مطرداً في كل شيء، فقد يكون الخطاب بـ ( يا أيها الناس ) في آية مدنية أو سورة مدنية، ذلك لأننا نجد في سورة البقرة وهي سورة نزلت بالمدينة المنورة بالإجماع، نجد فيها الخطاب بـ ( يا أيها الناس ) ، كما أننا نجد في هذه السورة هذا الخطاب بـ ( يا أيها الناس ) مع أن هذه السورة هي سورة مدنية، وكذلك سورة الحج على الصحيح هي سورة مدنية؛ لأنها اشتملت على أحكام كثيرة لم تكن نزلت بمكة المكرمة، وإنما نزلت بعد الهجرة من بينها أحكام الحج، وأحكام الجهاد، فَهذه أحكام لم تشرع بمكة المكرمة، ولذلك يتبين أن هذه السورة-أي سورة الحج- إنما نزلت بالمدينة المنورة، وقد استهلت بـ ( يا أيها الناس ).
ومن غريب الاختلاف أن يذكر عن بعضهم أنه يرى أن مثل هذا الخطاب لا يكون شاملاً للأَرِقَّاءِ من الناس، وإنما هو للأحرار وحدهم، وهذا كلام عجيب؛ لأن الأَرِقَّاءَ مُتَعَبَّدُونَ كما أن الأحرار مُتَعبَّدون لا فرق بينهم في العبادات، فهناك عبادات عامة وواجبات عامة مشتركة لا فرق فيها بين حر ورقيق، وهناك عبادات خاصة للأحرار كوجوب الحج والعمرة والجهاد، ووجوب الزكاة من المال بناء على أن الأرقاء لا يملكون، ووجوب الجمعة والجماعات، هذه أحكام إنما هي واجبة على الأحرار، وهناك أحكام أيضاً واجبة على الأرقاء -تَعَبُّدَات، كأن يُتَعَبَّدُوا بطاعة ساداتهم؛ لأن ذلك مما يجب بجانب طاعة الله سبحانه وتعالى.
واستدل الذين قالوا بعدم دخول الأرقاء بأن المملوك إنما منفعته لسيده، فعندما كانت منفعته لسيده فإنه لا يصلح لمثل هذا الخطاب، وهذا مردود؛ لأن كون منفعته لسيده ليس ذلك على إطلاقه، فلو أنه ضاق وقت الصلاة ولم يبق منه إلا مقدار ما يمارسها فيه الرقيق، ففي هذه الحالة لو أمره سيده بأمرٍ فإنّه لا يطيعه، بل يطيع ربه سبحانه وتعالى، فعليه أن يستجيب لداعي الله.
وكذلك استدل القائلون بأن هذا الخطاب لا يدخل فيه الأرقاء، استدل هؤلاء بأن الأرقاء غير متعبدين بمجموعة من الأحكام منها: الجُمُعَات، والجماعات والحج والعمرة والجهاد، والتكاليف التي تحتاج إلى إنفاق الأموال، هذه التكاليف هم غير متعبدين به، وهذا ليس بمشكل، فإن ذلك إنما هو كما يخرج بعض الأحرار عن بعض عمومات الأحكام لأسباب خاصة، فقد يخرج المريض عن بعض التكاليف فلا يكلف بها، وذلك المسافر قد لا يكلف ببعض التكاليف، وكذلك العاجز بسبب من الأسباب، وهذا لا يمنع أن يكون داخلاً في عموم الخطاب الموجه إلى الناس.
هذا؛ ونحن نرى الأمر الذي جاء عقب هذا الخطاب إنما هو الأمر بالتقوى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) والأمر بالتقوى شامل للجنسين جميعاً، شامل للأَرِقّاء كما أنه شامل للأحرار، فلماذا يقال بأن الأرقاء لا يدخلون في هذا الخطاب؟!
هذا؛ ولا ريب في دخول النساء في هذا الخطاب فإنهن من جنس الناس، والناس هنا جمع معرّف بالألف واللام وأصلاً يُحْمَلُ على العموم، فيدخل في ذلك الرجال وتدخل في ذلك النساء، ومما يؤكد ذلك ما ولي ذلك من الأمر بالتقوى، وكون هذه التقوى مضافة إلى الرب سبحانه الذي خلق الجميع، خلق جميع الناس من نفسٍ واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وهذا مما يدخل فيه الامتنان على النساء كما هو امتنان على الرجال.
فإذاً الخطاب شامل للجميع، ولكن هل هذا الدخول بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز؟ أما بالنسبة إلى الناس فلا ريب أنه خطاب للنساء بطريق الحقيقة؛ لأنهن داخلات في جنس الناس، وأما بالنسبة إلى ما بعده من قوله ( اتقوا ربكم ) فطائفة من الناس يقولون بأن هذا الخطاب جاء بصيغة التذكير، فدخول الإناث فيه إنما هو بطريق التغليب الذي هو مبني على المجاز؛ لأن الخطاب إنما هو خطاب جَمْعِيّ موجه إلى جمع الذكور، والجمع إنما هو بنية تكرار المفرد، فالمفرد الذي يكرر حتى يصاغ منه الجمع، إن كان الجمع بصيغة التذكير فهو مفرد مذكر، وإن كان بصيغة التأنيث فهو مفرد مؤنث.
وآخرون يقولون: لا، بل دخول النساء أيضاً في هذا الخطاب في قوله ( اتقوا ربكم ) إنما هو بطريق الحقيقة؛ لأنه إذا اجتمع الجنسان فجنس الذكور مُغَلَّبٌ على جنس الإناث، وذلك واضح فيما إذا قال أحد: أوصى فلان لفلانٍ بكذا، ولفلان بكذا، ولفلان بكذا، وأوصى لفلانة بكذا، وأوصى لفلانة بكذا، وأوصى لفلانة بكذا، ثم عَمَّمَ الجميع في وصية معاً فقال: وأوصى لهم بكذا، فلا ريب في دخول الإناث في هذا، فهذا الدخول إنما يُعْلَمُ من غير قرينة، فلما كان معلوماً من غير قرينة فدلالته إنما هي دلالة حقيقية وليست دلال مجازية، هذا ما ذهبت إليه طائفة.
وقيل: بل لا تدل الناس في مثل هذا الخطاب، وهذا كلام بعيد لأنهن مكلفات، كما أن الرجال مكلفون، فَهُنَّ مأمورات بتقوى الله تبارك وتعالى، وما قيل بأنهن مخصوصات ببعض الأحكام فذلك إنما هو لمخصصات دَلَّتْ على ذلك، وهنا لا يوجد المخصص، إذ الأمر إنما هو أمر بالتقوى، وكل أحدٍ إنما يتقي الله تبارك وتعالى بحسب ما آتاه الله تبارك وتعالى من طاقات، وبحسب ما كلفه من تكاليف، فحتى الجنس الذكري قد يتفاوت الناس في التكاليف، وهم من أفراد هذا الجنس بحسب تفاوتهم في قدراتهم أو بحسب تفاوتهم في مؤهلاتهم، فإذاً الجنس البشري بأسره هو داخل في هذا الخطاب.
والذين قالوا بأن هذا الخطاب ليس هو خطاباً عاماً لجميع أفراد هذا الجنس، وإنما هو خاص بأهل مكة كما روي ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- كما سبق، إنما استدلوا لهذا بما جاء من بعد من قول الله تعالى ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) فقالوا بأن المناشدة بالرحمة إنما هي من شأن العرب، فقد كانوا يسألون بالأرحام، ينشد بعضهم بعضاً مراعاةَ حقَّ الرحم، وبهذا يتبين أن الخطاب لأهل مكة.
وقد اُعْتِرضَ على ذلك بأنه إن وُجِدَ خطاب عام، وَوَلِيَه ما هو موجه إلى الخصوص فيما بعد، فإن ذلك الجزء الموجه إلى الخصوص إنما يكون خطاباً خاصاً، وما سبقه وهو المعطوف عليه يظل خطاباً عَامَّاً، كما يدل عليه لفظه ولا يعدل عن هذا الظاهر، على أن مناشدة الرحم لم تكن من شأن أهل مكة وحدهم، بل هي من شأن العرب، وما يدريك لعل الشعوب الأخرى أيضاً تراعي هذا الجانب، وينشد بعضها بعضاً حق الرحم، ولما كان الأمر كذلك لا أرى داعياً للقول بأن مثل هذا الخطاب إنما يقال هو خاص بشعب دون شعب.
أمر الناس بالتقوى:
( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) جِيءَ هنا بهذا الوصف، وصف الربوبية، المُشْعِر بالنعمة السابغة من الرب سبحانه وتعالى على عباده، فإن الرب هو الذي يَرُبُّ مربوبيه بنعمته، وتربيته إياهم وإصلاحه لهم، ولما كان ذلك فإن الرب الخالق سبحانه وتعالى الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ومَنَّ عليه بما مَنَّ عليه من الآلاء هو حقيق بأن يُتَّقَى، فإن ذلك من حقه، في هذا استجاشة لعزيمة التقوى في نفوس الناس؛ ليراعوا حق الله تبارك وتعالى الذي خلقهم .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة ) هنا دعوة إلى التقوى مع مراعاة أسبابها، فالأمر إذا عُلِّقَ بوصف فإن ذلك الوصف إما أن يكون عِلَّةً له، أو سبباً أو مناسبة، فإذاً خَلْقُ الله تبارك وتعالى الناس من نفس واحدة عِلّة للأمر بالتقوى، علة للأمر بتقواه، ذلك لأن الأمر بالتقوى اقترن بذكر خلقه سبحانه وتعالى إياهم، وكونِهِ خلقهم من نفس واحدة، فأما بالنظر إلى كونه تبارك وتعالى خلقهم فذلك لا ريب موجب لن يتقوه؛ لأن من كان خالقاً لهذا الإنسان فقد منَّ عليه بإخراجه من العدم إلى الوجود، أوجده بعد أن كان معدوماً، وأحياه بعد أن كان ميتاً، وبَصَّره بعد أن كان أعمى، وأسمعه بعد أن كان أصم، وعَلَّمَه بعدما كان جاهلاً، فهو جدير بأن يَتَّقى، إذ معنى التقوى -كما سبق-: الطاعة المطلقة، الطاعة في أمره ونهيه، بأن تطاع أوامره وتجتنب نواهيه، فمن كان خالقاً لأحد هو جدير بالطاعة المطلقة من ذلك المخلوق، إذ المخلوق ما كان ليوجد لولا أن الخالق أخرجه من العدم إلى الوجود، وما كان ليتمتع بنعمة من النعم لولا أنه سبحانه وتعالى أسبغ عليه هذه النعم، وقد جعل الله تعالى النعم بأسرها مترتبة على نعمة الخلق، فإن العدم لا يمكن أن يُنعم عليه، إنما ينعم على الموجود، ومع ذلك فإن هذا الخلق لم يكن في مقابل شيء من العبد، إذ العبد المخلوق يستحيل أن يكون قدم إلى خالقه شيئاً وهو في العدم قبل أن يخلقه.
ثم بجانب ذلك هو أيضاً بعد خلقه إياه فإنه لا يستطيع أن يقوم بواجب أداء نعمة هذا الخلق، أداء شكر هذه النعمة العظيمة نعمة الإخراج من العدم إلى الوجود، فلما كان عاجزاً عن نذلك، فإن التقوى من حق الخالق على المخلوق.
هذا؛ مع أن هذه التقوى في الحقيقة ليست من قبل العبْد، فلما كانت ليست مِن قِبَلِ العبْد، وإنما هي من قبل الخالق سبحانه وتعالى، إذ هو الذي يخلق القدرة في العبد على التقوى، ويخلق في نفسه داعيةَ التقوى؛ فلأجل ذلك كان القيام بالتقوى نفسه بتوفيق الله فهي نعمة ثانية من نعم الله تبارك وتعالى تَلِي نعمة الخلق.
وهذا يعني أن القيام بتقوى الله تبارك وتعالى، وأداءِ جميع الواجبات التي تقتضيها لا يعني ذلك أن العبْد يقدم إلى الله تبارك وتعالى ما يستحق بسببه ثواباً، فكيف والله سبحانه وتعالى يثيب العباد، فالمخلوق إنما هو ملك لخالقه، والمالك هو يتصرف في مملوكه كيف شاء، وعلى المملوك أن يطيعه في كل دقيقة وجليلة، فليس للمخلوق أن يخرج بأي حال من الأحوال عن المنهج الذي رسمه له خالقه، فهو عبد لا يملك من أمره شيئاً، هذا بالنظر إلى كونه تبارك وتعالى خالقاً للعباد.
( خلقكم من نفس واحدة ):
أما كونه خلقهم من نفسٍ واحدة فذلك يقتضي تأكيد هذا المعنى؛ لأن جميع هؤلاء البشر وأعدادهم لا تحصى، فمن الذي يحصي البشر منذ هبط آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنما أعدادهم أعداد هائلة، مرت قرون كثيرة، في كل قرن أعداد لا تحصى من البشر، وهم جميعاً يرجعون إلى أصلٍ واحد، ولكنهم مع رجوعهم إلى أصل واحد، فإن كل واحد منهم يتميز بميزته، لكل واحدٍ منهم خصائصه بجانب الخصائص العامة المشتركة، ولا يوجد ما يميز بين أفراد جنس من أجناس المخلوقات كهذه الميزة التي توجد بين أفراد الجنس البشري، سواءً من حيث الصور أو من حيث المواهب، فالناس متفاوتون في مواهبهم الحسية والمعنوية، هذا قد يكون أكثر من ذلك مالاً، وذلك قد يكون أكثر من هذا جاهً، وهذا يكون أقوى من ذلك بدناً، وذلك يكون أقوى من هذا عقلاً وتفكيراً، وهكذا التفاوت في المواهب الحسية والمعنوية، تفاوتٍ لا يقف عند حد.
فلو كانت القضية قضية تواجد طبيعي من غير أن تتدخل إرادة خالق، وقدرة قادر في ذلك، فإن البشر يلزم على هذا أن يكونوا جميعاً طبقة واحدة، متساوين في كل شيء، متساوين في صورهم، متساوين في ألوانهم، متساوين في قدراتهم الجسدية، متساوين في قدراتهم العقلية، متساوين في ميولهم ورغباتهم النفسية، متساوين في مصالحهم التي يطمحون إليها، ولكن التفاوت ما بين الجنس البشري -كما قلنا- هو تفاوت لا يقف عند حد، سواء كان ذلك من حيث طول الأعمال وقصرها، أو كان ذلك من حيث كثرة الأموال وقلتها، أو كان ذلك من حيث الطاقات البدنية وعدمها، أو كان ذلك من حيث الطاقات الفكرية وضعفها، كل ذلك البشر متفاوتون فيه.
وهذا دليل على أن هناك قدرة عظيمة، خُلِقُوا من نفس واحدة، ولكنهم جُعِلُوا متفاوتين؛ بحيث أن كل واحد منهم كان أمة وَحْده، من حيث النظر إلى طموحات نفسه، وما يجول بخاطره من أفكار، وما يتطلع إليه من آمال، ومن حيث أوصافه المختلفة؛ التي تتفاوت مع أوصاف الآخرين، هذا أدل على القدرة، أدل على أن الله تبارك وتعالى أراد بهذا التفاوت، في هذه الصفات الحسية والمعنوية أن يكون بين أفراد هذا الجنس التكامل؛ لأن الله تعالى أراد هذا الجنس أن يكون جنساً اجتماعياً، فهذا التكامل إنما هو مظهر من مظاهر الاجتماع والمدنية في حياة البشر.
وبجانب هذا أيضاً كونه سبحانه وتعالى خلقهم من نفسٍ واحدة، والامتنان بذلك على عباده، يرجع إلى النظر فيما جاء في هذه السورة الكريمة من أولها، وهو مراعاة الحقوق الواجبة، فَابْتُدِأَتْ بالتذكير بحق الأرحام، ثم بجانب ذلك ذُكِرَتْ الحقوق المختلفة: حقوق الضعفاء، حقوق النساء، حقوق الأيتام، الحقوق التي تكون بين الزوجين، إلى غير ذلك مما يدل على أنه يجب أن تراعى هذه الحقوق؛ لأن هؤلاء البشر الذين فرض الله تبارك وتعالى على كل واحدٍ منهم مراعاة حقوق الآخرين إنما هم ينحدرون من أصل واحد، هم مخلوقون من نفس واحدة، فليس بعضهم مخلوقاً من عنصر، والآخر مخلوقاً من عنصر آخر، إنما بينهم قرابة، قرابة جنس، فالجنس واحد، وقرابة نسب، إذ الأصل واحد؛ لأنهم ينحدرون من أب واحد ومن أمٍّ واحدة .
ثم بجانب هذا أيضاً هناك تذكير بأن من كان قادراً على خلق هؤلاء البشر مع هذا التفاوت العجيب، ومع هذا الكم الهائل؛ الذي لا يمكن أن يحصيه أي أحدٍ من خلق الله سبحانه وتعالى، ومع هذا الاختلاف والتباين في هذه المواهب، مَن خَلَقَ هؤلاء البشر من أصل واحد من أب واحد ومن أم واحدة هو جدير بأن يُتقى؛ لأنه قادر على البعث، فهم ينحدرون من أصل واحد، إذ هم كما قيل: صنوان متفرعة عن أصل واحد، ولكن مع ذلك أعدادهم لا تحصى، فمن خلق البشر بهذا الخلق هو قادر على أن ينشأهم النشأة الأخرى، وهذا مما يدل على التذكير بالمعاد.
وكذلك هناك وجه آخر حُكِيَ عن الأصم، وهو أن كون البشر مخلوقين لله سبحانه وتعالى مما تدل عليه دلائل العقل، فإن كل أحد يهتدي بما آتاه الله تبارك وتعالى من عقل، إن استخدم هذا العقل، ووفق لذلك إلى أن أصله إنما كان بخلق الله، ما كان وجوده بنفسه فهو ليست له إرادة في إيجاد نفسه، كان عدما، والعدم ليست له إرادة، وَوُجِدَ بكيفية أرادها غيره، إذ لم يكن للإنسان وهو في حالة العدم أن يصوره نفسه بصورة كما يريدها بنفسه، وإنما تلك هي إرادة غيره، وهو الله سبحانه وتعالى الذي تتجلى آياته في هذا الخلق، فهذا مما تدل عليه دلائل العقل، لكن كون البشر جميعاً مخلوقين من نفس واحدة لا يدل على ذلك العقل، وإنما يدل على ذلك الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً، لا يقرأ كتاباً ولا يخطه بيمينه، فما كان ليعرف ذلك من تلقاء نفسه لولا أن الله أوحى إليه، وقال بناءً على هذا فإن قوله سبحانه ( الذي خلقكم ) إنما يدل على الربوبية، وقوله ( من نفسٍ واحدة ) إنما يدل على النبوة.
هذا؛ وقد أشار الإمام محمد عبده إلى الوجه الأول من الوجوه التي ذكرناها، ولكنه مال إلى الوجه الثاني، وقال بأن كون هذه السورة اُسْتُهِلَّتْ بما اسْتُهِلَّتْ به من أحكام اجتماعية تتعلق بالأوضاع الاجتماعية بين البشر مما يستدعي تذكيرهم بأنهم مخلوقون من نفس واحدة؛ ليؤدوا هذه الحقوق الاجتماعية الواجبة فيما بينهم، وهذا لا ينافي ما سبقه من وجهٍ ومَا وَلِيه؛ لأن القرآن هو حمَّال أوجه كما قيل، وهذه الأوجه إن لم يكن بينها تعارض فإنها يُؤْخذ بها جميعاً في الاعتبار، وليس هنا تعارض بين وجه ووجه، ولما لم يكن هنالك تعارض فإنه مما ينبغي أن يُؤْخَذَ بها جميعاً في الاعتبار.
المراد بالنفس الواحدة:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) نعم، الله تبارك وتعالى خلق البشر جميعاً من نفسٍ واحدة؛ لأنهم ينحدرون من أصلٍ واحدٍ، ولا خلاف في أن ذلك الأصل الذي عُبِّرَ عنه بالنفس إنما هو آدم عليه السلام فيما تقدَّم، ولا خلاف في أن المراد بـ ( زوجها ) حواء عليها السلام، هذا مما لا خلاف فيه فيما تقدم عن المفسرين، وإنما للإمام محمد عبده رأي سنتعرض له إن شاء الله في الدرس الآتي، وهو رأي انفرد به دون غيره من المفسرين ويحتاج إلى توسع، فآدم عليه السلام هو النفس الواحدة، وسيأتي الكلام إن شاء الله فيما يأتي على النفس في الدرس الآتي.
والنفس لفظة مؤنثة فلذلك جاء الوصف هنا بصيغة التأنيث "واحدة" مراعاة لهذا اللفظ، ويجوز مراعاة المعنى، فاللفظ والمعنى كل منهما يجوز أن يراعى في مثل هذه الأحوال، وقرأ ابن أبي عبلة -طبعاً من غير القراء السبعة- بل ومن غير القراء العشرة، فقراءته ليست من القراءات التي يعوّل عليها في القراءة في الصلوات وغيرها ، قرأ ابن أبي عبلة ( من نفس واحد ) مراعاةً للمعنى؛ لأن المراد بالنفس آدم عليه السلام.
وخلق منها زوجها:
( وخلق منها زوجها ) خلق منها مَا تَمَّ به التزاوج بينهما، الأصل في الزوج أن يكون وصفاً لاثنين متكاملين، فكلاهما زوج كالليل والنهار، فهما زوج، الزوج يقابل الفرد: الليل والنهار، والصيف والشتاء، والحر والبرد، والضيق والسعة، والشدة والرخاء، كل من ذلك، كل اثنين متقابلين إنما يقال لهما زوج، ولكن اُصطُلِحَ على أن يُطْلَقَ لفظ الزوج بالنسبة إلى الجنس البشري إطلاقاً مستقلاً للرجل وللمرأة، إن كانا مترابطَيْن برباط الزوجية الذي يحل كل واحد منهما للآخر، فهذا من باب التوسع؛ بحيث يقال للرجل زوج بطريق الاستقلال، ويقال للمرأة أيضاً زوج بطريق الاستقلال، فهو زوج لها، وهي زوج له.
ولأجل كونهما متكاملَيْن ومتقابلَيْن كان هذا الوصف بالزوجية لا تفريق فيه بين مذكر ومؤنث، فيقال للرجل زوج من غير تاء، ويقال للأنثى زوج من غير تاء، وهذه هي لغة القرآن وهي الفصيح في كلام العرب، كما في قول الله تبارك وتعالى ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) ولم يقل وزوجتك، وكما في قول الله تبارك وتعالى ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله )، ومن أجل هذا كان الجمع على أزواج كما هو شائع في القرآن، كما في قول الله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك )، وقوله سبحانه ( وأزواجه أمهاتهم )، وقوله تعالى في هذه السورة الكريمة )ولكم نصف ما ترك أزواجكم (، فالجمع الفصيح حتى بالنسبة إلى النساء إنما هو أزواج وليس بزوجات، وإنما هناك لغة ضعيفة جاءت بتأنيث المرأة، هذه اللغة بطبيعة الحال لم يستخدمها القرآن، وليست شائعة عند العرب، فمن ذلك: قول ذي الرُّمَّة:
أذو زوجةٍ بالمصر أم ذو خصومة ** أراك لها بالبِصْرَة العام ثاويا
وكذلك يقول أبو فراس وهو الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ** كساعٍ إلى أسد الشرى يستميلها
وجاء أيضاً جمع الزوج على زوجات مراعاة لهذه التاء في قول الشاعر:
صاح بَلِّغْ ذوي الزوجات كلهم ** أن ليس وصلاً إذا انحلت عرى الذنبِ
هذا من الكلام الشاذ عند العرب الذي لا يعول عليه بحيث يُجْعل هو الأصل، وإنما يُجْعل شاذاً، على أن الأصمعي كان شديد الإنكار على من يقول زوجه ، وينكر هذه اللغة رأساً، فقيل له عن بيت ذي الرُّمَّة، فقال: إن ذا الرُّمة قد تردَّدَ إلى حوانيت البصرة فأكل منها المالح والبقل حتى بَشِم، يعني بذلك أنه لا يُعَوَّلُ على كلامه؛ لأنه يُعْتبر من المُولدين، ولا يعتبر من العرب الذين يُؤخذ بكلامهم.
وأكثر اللغويين قالوا بأن هذه اللغة لغة شاذة، ولكن بما أن الناس جهلوا العربية، وجهلوا لغة القرآن، وقع عندهم من الأشكال في هذا الشيء الكثير، حتى أنني سمعت أحداً من العلماء يقول: بأن أحد الجهلة كان يستدل بهذه الآية الكريمة على أن حواء خُلِقَتْ قبل آدم، ويقول: بدليل أن الله قال: ( خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها )، وهذا إنما يرجع إلى الجهل بلغة العرب؛ بل وإلى الجهل بأسلوب القرآن نفسه، فإن أسلوب القرآن واضح من خلال الآيات الكثيرة التي قيل فيها للمرأة زوج بدون تاء، وكذلك من حيث الجمع بحيث جُمِع الزوج على أزواج مع قصد النساء، هذا كما قلنا إنما يرجع إلى عدم إدراك أسلوب القرآن، وعدم فهم اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
الله سبحانه وتعالى اِمتن هاهنا بأنه خلق الجنس البشري من نفس واحدة، أي من أصل واحد، وأنه خلق من هذه النفس زوجها، بناءً على هذا ذهب جمهور المفسرين إلى أن حواء خلقت من آدم عليه السلام، فهي مخلوقة من جسده، وهذا الذي دَلَّ عليه الحديث: أنها خُلِقَتْ من ضلعه الأيسر أو الأقصر كما جاء في بعض الروايات، وفي بعض الروايات أنها خُلِقَتْ من ضلعٍ أيمن، فهي مخلوقة من الضلع، ويؤيد ذلك أيضاً ما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن المرأة خُلِقَتْ من ضِلْعٍ أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه )، فالحديث يدل على هذا، هذا الذي ذهب إليه جمهور أهل التفسير.
وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن المراد بكونها خُلِقَتْ منه أي من جنسه، وليست من جنس آخر، وإنما هي من جنس هذه النفس، من جنس آدم عليه السلام، وهذا حكاه أبو حيان عن ابن بحر، واستدلوا لذلك بما جاء في آياتٍ كثيرة، من نحو قول الله سبحانه وتعالى ( لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ) أي: من جنسهم، كذلك ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )، وليس معنى ذلك أنه بعثه من أجسادهم، وإنما المراد من جنسهم، ومن ذلك قوله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً )، مع أن كل واحد من الناس زوجه ليست مخلوقة من جسده وإنما هي من جنسه، إلى غير ذلك، وهذا ركن إليه أبو حيان في تفسيره، وقال في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ) بأنه من باب التمثيل؛ لأن المرأة شديدة المراس، فقد تشتد على الرجل فلا يجد إلا أن يسايرها بالرفق، وإلا أدى الأمر إلى حسم الصلة التي بينه وبينها، هذا الذي قال أبو حيان بأنه يحتمله الحديث، ولكن تُعُقِّبَ ذلك بأنه لو كانت حواء لم تُخْلَق من آدم عليه السلام لما كان البشر مخلوقين من نفس واحدة؛ لأنهم تكونوا بعد ذلك من النطفة الأمشاج التي تكونت من مائه ومائها.
وبهذا يتبين أن الأصح ما ذهب إليه الجمهور، وإن كان أجاز أبوحيان وسبقه إلى ذلك الفخر الرازي أن يكون هذا من باب اعتبار "مِن" لابتداء الغائب وهذا يَبْعُد كثيراً، وقد قالوا: بأنها خُلِقَتْ من فضل طينته، فقالوا بأن الله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب كما خلق آدم عليه السلام من تراب، فما كان هناك داعٍ إلى أن تُخْلَقَ منه وحده.
وأجيب عن هذا بأن الله تبارك وتعالى قادر أيضاً على أن يخلق جميع البشر من ترابٍ، من غير أن يتوالدوا، ومن غير أن يكون هناك لقاء بين ذكر وأنثى، ولكن اقتضت حكمته ذلك، فمثل هذا لا يُعْتَرضُ به على هذه الدلائل الواضحة.
نعم، الزوج هنا هي حواء عليها السلام، فآدم عليه السلام هو النفس الواحدة التي خلق الله تعالى منها البشر، وحواء عليها السلام هي مخلوقة من هذه النفس، ثم بعد ذلك بث منهما رجالاً كثيراً ونساءً؛ ليتسلسل هذا الجنس البشري، ولتعمر هذه الأرض بإرادة الله سبحانه وتعالى وكما أراد.
ملخص الدرس وخاتمته
وفي هذا الشطر من هذه الآية الكريمة التذكير بأكثر من أمر، فقبل كل شيء في هذا الشطر الكريم تذكير العباد بأنهم لم يوجدوا أنفسهم في هذه الحياة، وإنما هم أُوجِدُوا من قبل الخالق سبحانه وتعالى؛ الذي هو على كل شيء قدير، وما كان لإنسان أن يخرج من عالم الغيب إلى عالم الوجود بإرادته، فإن إرادته ليس لها أثر، على أن البشر متفاوتون في هذا الوجود كما قلنا، وهذا التفاوت لا يرجع بحالٍ من الأحوال إلى إرادتهم، وإلا فالقبيح ما كان ليخلق نفسه قبيحاً، والضعيف ما كان ليخلق نفسه ضعيفاً، والمريض ما كان ليخلق نفسه مريضاً وهكذا، وإنما هذه هي إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكون البشر متفاوتين، ففي هذا تذكير بحق الله سبحانه.
على أن هذا الخلق إنما هو من نفس واحدة، وفي هذا قضاء على العنصريات التي تؤدي إلى استعلاء بعض الناس على بعض، وفخر بعضهم على بعض؛ بسبب العنصر، أو بسبب اللون أو بسبب الإقليم، أو بأي سبب من الأسباب، فإن البشر جميعاً متساوون؛ لأنهم ينحدرون من أصل واحد، وإنما يفرق بينهم ما يتفاوتون فيه من توفيق الله تبارك وتعالى لهم بأن يَتَّقُوه ويطيعوه، فالتنافس إنما هو في مضمار التقوى، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
فالناس جميعاً مدعوون إلى أن يتقوا الله تبارك وتعالى حق تقاته، ومن ضمن التقوى عدم استعلاء أحد على آخر بنسب أو بلون أو بأي شيء كان، فالكل إنما هم عباد الله سبحانه وتعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )، هكذا جاء البيان الإلهي بهذا الميزان الذي يُسَوِّي بين الناس أجمعين، فلا تفاوت بين أحد وآخر إلا بما يثقل الميزان من تقوى الله سبحانه وتعالى وحسن العمل ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )، لا عبرة بأي شيء: لا بالغنى، ولا بالنسب ولا بالجاه، ولا بالسلطة ولا بأي فارق بين إنسان وآخر، وإنما العبرة بما يتفاوت به الناس من تقوى الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الخطاب الإلهي بيان أيضاً أن المرأة لها من الحقوق الاجتماعية ما يتمتع به الرجل، وذلك في حدود طبيعتها، فما كان إبان الجاهلية -أي جاهلية كانت - من هضم المرأة حقوقها أو اعتبارها رجساً من عمل الشيطان، كما كان ذلك في الديانات المنحرفة، أو أنها مسلوبة الآدمية ليست من هذا الجنس البشري، فإن ذلك إنما هو شطط في البعد عن المنهج الحق.
كذلك ما تنادي به الجاهلية الحديثة من أنها مساوية للرجل من كل ناحية من النواحي، فإن الله تعالى إنما أخبر بأنهما زوجان، ومعنى كونهما زوجين أنهما ليسا مِثْلَيْنِ ولكنهما متكاملان، فكل واحد منهما مكمل للآخر، هذا بطبعه وذلك بطبعه، فهي بطبعها مكملة للرجل، وهو بطبعه مكمل لها، هي بطبعها مفتقرة إلى الرجل وهو بطبعه أيضاً مفتقر إليها، لا يستغني أي واحد منهما عن الآخر، هكذا اقتضت سنة الله تعالى في خلقه، فلا بد من مراعاة هذه الجوانب.
ثم ما يتبع ذلك من الأحكام التي تشير إليها الآية الكريمة فيما يأتي إن شاء الله، وما يأتي من الأحكام التي تضمنتها هذه السورة الكريمة، وهي أحكام متنوعة تعود -كما قلنا- إلى العلاقات الاجتماعية بين الناس، فيجب على الناس جميعاً أن يراعوا ذلك وأن يحافظوا على هذه الأحكام.
وسنبدأ -إن شاء الله- في الدرس الآتي بطرح قضية النفس الواحدة، والزوج التي خلقت من هذه النفس، وبيان معنى النفس، نبدأ بذلك إن شاء الله، وإلى لقاءنا ذلك نستودعكم الله تبارك وتعالى، ونسأله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشد، وأن يعلمنا ما لم نعلم، وأن يفهمنا ما لم نفهم، وأن يهدينا إلى الطريق الأقوم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، واقطع اللهم دابر أعداء الدين، واستأصل شأفتهم أجمعين، اللهم شتت شملهم، ومزق جمعهم، وفُلَّ حَدَّهُم، وأقلل عَدَّهم، واردد كيدهم في نحورهم، وأعذنا وجميع المسلمين من شرورهم، وامحُ آثارهم، وأورثنا أرضهم وديارهم، واطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، إنك ربنا على كل شيء قدير، وإنك بالإجابة جدير، نعم المولى ونعم النصير.
وصلِّ الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله،،،

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس