منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - ملخص دروس التفسير لسماحة الشيخ الخليلي
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 09-02-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 4 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



تكملة لتفسير الآية الأولى من سورة النساء\

يواصل سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة تفسيره للآية الأولى من سورة النساء وهي قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)

فإلى نص ما قاله سماحته في تفسيره للحلقة الثالثة من هذه الآية الكريمة يقول سماحته:
يقول الله تبارك وتعالى (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده هنا بهذه المنة العظيمة وهي بث الرجال الكثير والنساء من هذين الأبوين اللذين ينحدر منهما العنصر البشري وهما المعبر عنهما بالنفس الواحدة وزوجها فإن الله تبارك وتعالى جعل انتشار هذا الجنس في هذه المعمورة وهذه الكثرة الكاثرة منه انما هي بسبب ما كان من لقاء هذين الزوجين اللقاء الفطري وما ترتب عنه من هذه الذرية.
معنى البث ( وبث منهما ):
والبث في الأصل هو بمعنى النشر يقال بث الحديث اذا نشره بين الناس وبث هذا الشيء بمعنى نشره كما يقول الله تبارك وتعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) أي كالفراش المنشور ويقول (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي منشورة فبث الرجال الكثير والنساء من هذين الأبوين اللذين ينحدر منهما العنصر البشري انما هو نشر هذه الأعداد الهائلة من البشر لتغطي هذه المعمورة وقد سبق اعتراض من اعترض على كون آدم عليه السلام هو الأصل الوحيد لجميع البشر وان زوجه خلقت منه ذلك لأن الله تعالى لم يقل هنا (وبث منهم الرجال والنساء) وإنما قال (رجلا كثيرا ونساء).
وسبق الجواب عن هذا الاعتراض بأن ذلك انما هو لأجل أن آدم وحواء عليهما السلام كانت منهما ذرية كثيرة فيها الرجال وفيها النساء خرجت من صلب آدم ومن صلب حواء ولكن هذه الذرية هي التي كانت منها هذه الأعداد الهائلة من هذين النوعين من أنواع الجنس البشري فمن ذريتهما خرجت جميع اعداد الرجال والنساء.
وقد وصف الرجال هنا بالكثير ولربما وقع اشكال لبعض الناس من هذا الوصف الذي يتراءى انه وصف مفرد مع ان الرجال جمع فلماذا لم يقل وبث منهما رجالا كثيرين وانما قال سبحانه (وبث منهما رجالا كثيرا) والجواب عن هذا الاشكال بأن الكثير على وزن فعيل وفعيل يستوي فيه الجمع والمفرد كما يقول الله تبارك وتعالى (وقرونا بين ذلك كثيرا) ونحو هذا له شواهد كثيرة فإذن لا اشكال في هذا .
كذلك ربما يتساءل أيضا متسائل لماذا ما ذكر الا هذان النوعان مع الناس من يكون أمره مشكلة بحيث انه لا يتبين هل هو من جنس الذكور أو جنس الاناث وهو الخنثى المشكل .
وقد اجاب من اجاب عن هذا بأن الآية الكريمة انما تدل على ان الفرد البشري لا بد إما ان يكون رجلا وإما ان يكون امرأة وانما يشكل أمره لعدم ظهور ملامح الرجولة او ملامح الأنوثة عليه فالاشكال بعدم ظهور هذه الملامح لأصل خلقته فإنما هو في الخلقة لا بد اما ان يكون ذكرا وإما ان يكون انثى فلا يخرج عن كونه ذكرا او انثى.


هكذا اجاب من اجاب من المفسرين ومن بينهم ابن عطية وأخذ عنه كثير من المفسرين الذين جاءوا من بعده ولكن لا ارى في هذا اشكالا ذلك لأن الخنثى المشكل ليس هو كالرجل او كالمرأة من حيث الامتنان بهما والسياق انما هو سياق امتنان من الله تبارك وتعالى على عباده فالخنثى المشكل امره مشكل ولذلك لا يلد والله تبارك وتعالى انما ذكر هذا التسلسل في الخلق الذي يرجع على اصل واحد وهو الأب الذي انحدر منه الجنس البشري وأن الله سبحانه وتعالى خلق من اهل الاصل زوجه وهذا الامتنان انما يتم بخلق الذكر والانثى من الذرية اذ بهما يكون تسلسل الوجود البشري فيما بعدهما فليس خلق الخنثى كخلق الذكر والأنثى لأن تسلسل الوجود البشري انما يتوقف على هذين النوعين .
اقتصار الوصف ( كثيرا ) على الرجال:
وقد اقتصر في الوصف على الرجال اذ لم يقل سبحانه وتعالى (ونساء كثيرا) وانما قال (رجالا كثيرا ونساء) ذلك لأن الوصف بالكثرة في الرجال مؤذن بالكثرة في النساء فإن النساء عطفن على الرجال والمعطوف والمعطوف عليه كثيرا ما يشتركان في الأوصاف عندما يكون الوصف لأحدهما بحيث يكون هذا الوصف منسحبا ايضا على الآخر.


فذكر الكثرة في الرجال قرينة على الكثرة في النساء ايضا هكذا يتبادر وقد قيل بأن وصف الرجال بالكثرة دون النساء انما هو لأجل ان الرجال هم الذين يبرزون ويظهرون فلذلك وصفوا بالكثرة لأن كثرتهم تظهر بخلاف النساء فهن يحتجزن ويختفين.
ومنهم من قال: بأن وصف الرجال بالكثرة مؤذن بطريق الأولوية ان يكون عدد النساء أكثر من عدد الرجال ذلك لأن الرجل انما يتزوج اكثر من امرأة فقد ينكح مثنى وثلاث ورباع والمرأة لا تنكح الا رجلا واحدا وهذا يدل على كثرة العنصر النسائي.

الأمر بالتقوى مرة أخرى:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) امر الله تبارك وتعالى عباده بأن يتقوه وعطف ذلك على الأمر بالتقوى في قوله(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا). مع الاختلاف في الاسم الكريم فهناك سمى سبحانه وتعالى باسم الربوبية وهنا سمى نفسه باسم الجلالة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فيما سبق وهنا (واتقوا الله) وهذا العطف قيل انما هو من أجل افادة التأكيد على ما تقدم لأن الكلام عندما يكرر يفيد التأكيد فعندما يقول احد لآخر اقبل يفيد طلب الاقبال منه لكن عندما يكرر ذلك بحيث يقول له اقبل اقبل فإن ذلك يفيد تأكيد طلب الاقبال فهكذا لأهمية التقوى امر بالتقوى اولا مع الأمر بالتقوى ثانيا.
وقيل بأن الأمر بالتقوى فيما تقدم انما هو لأجل الوفاء بحق الربوبية ولذلك وصف سبحانه وتعالى هناك بصفة الربوبية.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) فالأمر بالتقوى هناك انما هو من اجل حقه سبحانه وتعالى بسبب ربوبيته تعالى فإن الله تبارك وتعالى ربى عباده بنعمه الكثيرة التي لا تحصى وهذه النعم جميعا انما هي مترتبة على النعمة الكبرى التي هي اصل النعم وهو الايجاد من العدم فإخراجهم من العدم الى الوجود هو الذي ترتب عليه ما اسبغه عليهم من نعمه سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم ان ذلك يتلاءم مع وصفه تبارك وتعالى بالربوبية اما هنا فإنه سبحانه وتعالى امر عباده بتقواه مع تسميته لجلاله باسم الجلالة الذي يؤذن بالمهابة العظيمة وأنتم تعلمون ان كثيرا من المفسرين وعلماء العربية قالوا بأن هذا الاسم الكريم هو مشتق من وصف الألوهية واصل الله اله كما سبق بيان ذلك فيما تقدم ومعنى هذا أن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده هنا الى ان يتقوه مراعين حق الألوهية بعد ان امرهم بأن يتقوه مراعين حق الربوبية .
وقيل بأن الآمر بالتقوى فيما تقدم هنالك انما هو مراع فيه ما سبق من وصفه تعالى لنفسه بأنه خلقهم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وهنا انما امروا بالتقوى بسبب أن هناك واجبات اجتماعية تناط بهم هذه الواجبات تتعلق برعاية حقوق الارحام وحسب همم هؤلاء بأن يوفوا هذه الحقوق ولا يقصروها، فالله سبحانه وتعالى كرر الأمر بالتقوى من اجل قرن الأمر بالتقوى هنا للتذكير بحقوق الأرحام التي كانت مضاعة في الجاهلية وان كانوا يتناشدون بعلاقة الرحم التي تشد بعضهم الى بعض الا انهم كانوا من شأنهم قطيعة الرحم وقد قطعوا رحمه صلوات الله وسلامه عليه اذ آذوه ذلك الايذاء الشديد مع هذه الصلة التي بينه وبينهم وقد قال الله تبارك وتعالى له ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).


وذهب العلامة ابن عاشور الى ان الأمر هنا بالتقوى مرة ثانية لأن هذا الخطاب خطاب خاص بعد الخطاب العام الذي يشمل جميع الناس فيما تبقى وفيما تقدم كان الخطاب لجميع الناس على اختلاف فئاتهم مؤمنهم وكافرهم عربيهم وأعجميهم وهناك كان الخطاب للمسلمين خاصة وهذا الخطاب بالتقوى لهم من اجل ان يحاسبوا انفسهمم فيما كانوا واقعين فيه من الاهمال فإنهم كانوا غير مراعين تمام الرعاية كما يجب حقوق الايتام وحقوق الأرحام فالامر بالتقوى انما هو لفئة من الناس وهي الفئة المؤمنة والمراد بالتقوى هنا اخص من المراد هناك فإن الآية الكريمة وليها ما وليها من التذكير لحقوق الأيتام ووجوب ايتائهم هذه الحقوق كاملة غير منقوصة كما اشتملت الآية الكريمة على التذكير بحق الأرحام وهذا ما يؤذن بأن التقوى المذكورة هنا انما هي تقوى خاصة بخلاف المعنية فيما سبق وان المخاطبين انما هو جزء من المخاطبين فيما تقدم .
وهذه الوجوه كلها محتملة فهي وجوه وإن خرجت مخرج الأقوال كلها محتملة.
ولا ريب ان الأمر بالتقوى هنا مع ذكر الاسم الكريم مع ذكر اسم الجلالة انما هو لأجل تربية المهابة في النفوس فان هذا الاسم يشعر النفوس بهيبة جلال الله تبارك وتعالى.

قراءة ( تسَّالون ) بالتشديد والتخفيف:
(الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ) هذه هي قراءة حمزة والكسائي وعاصم من القراء السبعة وقرأ بها خلف من بقية العشرة والباقون قرأوا (تسّاءلون) فقراءة تساءلون انما هي مبنية على حذف احدى التاءين (تاء المضارعة وتاء الفعل) مع الخلاف بين النحاه هل المحذوف تاء الفعل والباقية تاء المضارعة لأن تاء المضارعة هي دليل على ان الفعل تحول من المضي إلى ان يكون فعلا مضارعا فأولى إلى ان تبقى تاء المضارعة او ان المحذوف انما هو تاء المضارعة وتاء الفعل هي الباقية نظرا إلى ان تاء الفعل هي من جوهر الفعل بخلاف تاء المضارعة فإنها عارضة على الفعل هذا خلاف بين النحاه وهو مشروح في مواضعه من كتب الاعراب.
اما قراءة تسّاءلون فهي على الادغام ادغام التاء الثانية في السين، وسوّغ هذا الادغام التقارب ما بين السين والتاء ذلك لانهما جميعا يخرجان من طرف اللسان وعليّ الثنايا.
هذا مع اشتراكهما جميعا في الهمس فهما حرفان مهموسان فلذلك تدغم التاء في السين تسّاءلون، وقرئ تسألون لكن هذه القراءة خارجة عن القراءات السبع فقد رويت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه انه قال: (تسألون به والأرحام).
عطف الأرحام على تقوى الله:
(تساءلون او تسّاءلون) به والأرحام، نعم اصل الأرحام هنا انما هو معطوف على اسم الجلالة فالأرحام مأمور بتقواها أي تقوى قطيعتها كما ان الحق سبحانه وتعالى مأمور بتقواها أي تقوى معصيته فالتقوى كما سبق بمعنى الاجتناب ومما يستحيل أن يكون الحق تعالى يأمر عباده بأن يجتنبوه هو ولكن عليهم ان يجتنبوا سخطه بفعل ما أمر وبترك ما نهى.
فالله سبحانه وتعالى يأمر عباده بأن يتقوه بأن يفعلوا أوامره وان يجتنبوا نواهيه، ثم يأمرهم بأن يتقوه اتقاء خاصا باتقاء الأرحام أي بتجنب قطع الأرحام التي امر الله تعالى ان يوصل، فإن في تجنب قطع الأرحام اتقاء لله سبحانه وتعالى.
هذا بناء على قراءة من قرأ (واتقوا الله الذي تَسَاءلون به والأرحامَ) وهي قراءة الجمهور جمهور القراء، فمعظم السبعة والعشرة انما قراؤا كذلك وانما انفرد حمزة وحده بقراءة والأرحام بجر الأرحام.
وقيل بأن الأرحام هنا انما هو معطوف على موضع الجار والمجرور فإن موضعهما النصب ولذلك يأتي النصب في مثل هذا كما في قول الشاعر:
فلسنا بالجبالِ ولا الحديدا
مراعاة لمحل الجار والمجرور وقيل بأن نص الأرحام انما هو من اجل الإغراء وراعُوا الأرحام عليكم الأرحام هذا من باب الإغراء انما يغرون بأن يحافظوا على حقوق الأرحام رعاية لها.
قراءة حمزة ( الأرحامِ ) بالجر وتنازع العلماء فيها:
وقراءة حمزة (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) بجر الأرحام انما هي مبنية على عطف الارحام على الضمير العائد على اسم الجلالة ومعنى ذلك انهم كانوا يتساءلون بالله وبالرحم فإنه من الشائع ان العرب كانوا يقولون انشدك الله والرحم أو اسألك بالله وبالرحم، فلذلك ذكروا بهذا بأن الله الذي تتساءلون به والأرحام التي تتساءلون بها عليكم بتقواهما فعليكم ان تتقوا الله وعليكم ايضا ان تراعوا حق الرحم، في هذا تذكير بحق الرحم بجانب الأمر بتقوى الله (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) هذا، وهذه القراءة لم تعجب معظم النحاة.
اما البصريون فقالوا بتخطئتها وأما الكوفيون فقالوا بقبحها، قالوا: بأنه لا يجوز ان يعطف الاسم الظاهر على الضمير المتصل المجرور وانما يجب ان يعاد الحرف الجار فلا يقول قائل: مررت بك وزيد، وانما يقول مررت بك وبزيد، هذا هو الشائع وقد تابعهم على هذا كثير من المفسرين كابن جرير الطبري وابن عطية وكثير ممن جاؤوا من بعدهم، تجرأوا على تخطئة هذه القراءة حتى بلغ الأمر بالمبرد فيما يحكى عنه انه قال: لو سمعت اماما يقرأ في صلاته (ما انتم بمصرخيِّ) أي بكسر الياء أو (واتقوا الله الذي تسَاءلون به والأرحامِ) لأخذت نعلي وذهبت، يعني لخرج من الصلاة لأنه يعتبر الصلاة باطلة بسبب ذلك.
وقد قال العلامة ابن عاشور: بأن هذا من ضيق العطن ومن الغرور بأنه أحاط بأم الاعراب وانه لم يفته منه شيء، فنحن نجد هؤلاء الذين قالوا بخطأ هذا العطف او قبحه وبنوا على ذلك تخطئة هذه القراءة أو تقبيحها نجد ان هؤلاء لهم آراء في السبب الذي دفعهم إلى القول بالتخطئة أو التقبيح، فسيبويه يقول بأن الضمير المتصل المجرور لا يعدو ان يكون بمثابة التنوين، فكما ان التنوين لا يعطف عليه كذلك الضمير المتصل المجرور ايضا لا يعطف عليه، وحكى الزجاج عن المازني بأن المتعاطفَيْن يلزم ان يصح تعاقبهما، وكما لا يجوز لأحد ان يقول: مررت بزيد وكأ، أي بأن يعطف الضمير المتصل على الاسم الظاهر وهو زيد مثلا فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد.
وطائفة من النحاة ومن بينهم الزمخشري قالوا: بأن الضمير المتصل المجرور لتلاصقه مع الحرف الجار وعدم انفراده عنه كان بمثابة جزء من كلمة أي كانا جميعا بمثابة كلمة واحدة والضمير انما هو بمثابة جزء من الكلمة وكما لا يعطف على حرف من الكلمة فكذلك لا يعطف على هذا الضمير وحده إلا بإعادة الجر.
هذا، وذهبت طائفة من المحققين إلى انه لا مانع من ذلك فابن مالك يقول:
وليس عندي لازما إذ قد أتى ** في النظم والنثر كثير مثبتا
يعني اعادة الحرف الجار أو الخافض سواء كان حرفا او كان اضافة ليس بلازم لأنه جاءت شواهد تدل على الجواز منها منثورة ومنها منظومة.
وابو نصر القشيري شدد النكير على الذين انكروا قراءة حمزة وقال بأنها قراءة سبعية متواترة إذ قراءات القراء السبعة كلها متواترة ومعنى ذلك انها تُلقيت عن الرسول عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وهذا مما يعرفه اهل الصنعة فتخطئة شيء من ذلك يعني تخطئة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
والفخر الرازي تعجب ان يستشهد بقاعدة نحوية ببيت أو بيتين ولا يستشهد بقراءة تبعية ثبتت عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والقرطبي جرى ايضا مجرى ابي نصر القشيري في هذا وايده وكذلك ابو حيان وكذلك الامام محمد عبده والعلامة ابن عاشور هؤلاء كلهم قالوا بأن هذه القراءة لا غبار عليها وهذا هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه، وقد اختلف العلماء في القراءات السبع هل طرقها تواترية أو آحادية، فالشوكاني يقول بأن طرقها ليست متواترة ليست كل قراءة سبعية متواترة ولكن الشواهد التي تدل على صحة هذه القراءة شواهد كثيرة ويعول على تلك الشواهد.
ولا ريب ان هذه القراءة كما قرأ بها حمزة رويت عن كثير من السلف فقد رويت عن ابن مسعود وعن ابن عباس رضي الله عنهما ورويت ايضا عن جماعة من التابعين كالنخعي ومجاهد وغيرهما، في هذا ما يكفي على انها قرأ بها كثير، على ان القراءات السبع الذين يقولون بتواتر طرقها لا يقولون بلزوم ان يكون القارئ من هؤلاء القراء السبعة له طرق بنفسه متصلة جاءت من طرق متواترة حتى وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانما يكفي ان يكون قرأ بها جمهور من الناس تلقوها كابرا عن كابر وكان من بينهم القارئ من القراء السبعة، إذ القارئ الذي يقرأ بالقراءة من القراء السبعة ليس منفردا بهذه القراءة دون غيره إذ جمهور من الناس تلقوا هذه القراءات وشاعت وانما برز هؤلاء القراء السبعة لعلمهم بالقراءات.
هذا، وقد ايّد ابن القيم في اول كتابه زاد المعاد رأي من يقول بأن هذه القراءة صحيحة وليست خطأ وان العطف جائز واستشهد بذلك بقوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال بأن الاسم الموصول وهو (مَن) في قوله: (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) انما هو معطوف على ضمير الخطاب الذي يعود إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، (يا أيها النبي) و(من اتبعك) أي وحسب من اتبعك من المؤمنين، وقال بأنه لا يسوغ ان يقال بأن العطف هنا على اسم الجلالة ولو استدل من استدل بذلك بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فإن المؤمنين انما هم ينصرون الرسول ويقفون بجنبه ويؤيدونه ولكن لا يمكن أن يدخلوا في الحسبية فإن الحسبية بمعنى الكفاية والكفاية انما هي من الله وحده فقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ) لا يجوز ان يكون المؤمنون معطوفين على الله حسبك الله ومن اتبعك عطفا على اسم الجلالة لأن الحسبية انما هي لله تبارك وتعالى وحده.
هذا وقد خرجت على هذه القراءة الآية الكريمة وهي قوله سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) فهذا مما يدل على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور بدون إعادة الحرف الجار.
الشواهد العربية على جواز هذه القراءة:
أما الشواهد الشعرية فهي كثيرة جدا وقد نص سيبويه نفسه على بيتين من هذه الشواهد الشعرية وقال بجواز ذلك في الشعر لا في النثر وهو الذي عول عليه ابن جرير الطبري في تفسيره قال بان هذا سائغ في الشعر وليس سائغا في النثر.
ومن الشواهد قول الشاعر:
فاليوم قرّبت -(في رواية) وفي رواية- قد بتّ ** تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجبِ
فعطف الاسم الظاهر على الضمير المتصل المجرور وهو الكاف من بك كذلك قول الآخر وهذا ايضا من شواهد سيبويه (البيت الذي سبق والذي يأتي من شواهد سيبويه ذكر هذين الشاهدين بجواز ذلك في النظم) وهو قول الشاعر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا ** وما بينها والكعب غوط نفانف
وفي رواية (مهوى نفانف) وما بينها والكعب أي ما بينها وبين الكعب.
ومن الشواهد قول الآخر:
آبك أيه بي أو مصدّر ** من حمر الجلة جأب حشور
فقوله (بي) أو (مصدر) عطف مصدر على الضمير المتصل المجرور في (بي) وهو جاء من غير اعادة الحرف الجار.
كذلك من شواهد ذلك قول الشاعر الآخر:
اطوف على الكتيبة لست ادري ** احتفي كان فيها أو سواها
أي أحتفي كان فيها أو في سواها.
وقول الآخر:
فحسبك والضحّاك سيف مهند
(فحسبك وحسب الضحاك سيف مهند)

والشواهد الشعرية كثيرة في هذا مع وجود الشواهد النثرية المحكية عن العرب التي تدل على هذا، ما احتج به سيبويه وما احتج به المازني في ما رواه الزجاج عنه من ان سيبويه حجته ان الضمير المتصل مجرور بمثابة التنوين فكما لا يجوز العطف على التنوين لا يجوز العطف على الضمير المتصل المجرور والمازني الذي يقول باشتراط جواز تعاقب المتعاطفين.
وقد انقدح في ذهني قبل اكثر من ثلاثين عاما جواب يدفع هاتين الحجتين جميعا ثم رأيته الآن عند أبي حيان وهو ان الاجماع منعقد على جواز العطف على الضمير المتصل المنصوب من غير اعادة العامل الناصب، ولا فرق في الضمير المتصل بين حالتي نصبه وجره فلو كان بمثابة التنوين لما اختلف ذلك بين حالتي نصبه وجره ولو اشترط جواز التعاطف بأن يقدم المعطوف على المعطوف عليه لما كان هنالك فرق ايضا ما بين حالتي النصب والجر، وبالاجماع يجوز رأيتك وزيدا ولا يجوز رأيت زيدا وكأن، نحن نرى الشواهد في القرآن الكريم عشرات الشواهد التي تدل على هذا الجواز (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) حيث عطف الاسم المنصوب وهو الذين على ضمير الخطاب في خلقكم.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) حيث عطف ذريتها على الضمير الذي هو هاء في أعيذها، وقوله (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) و (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) عشرات الشواهد في القرآن الكريم تدل على هذا، فلماذا يجوز العطف في حالة النصب ولا يجوز في حالة الجر؟ على ان الضمير المتصل المجرور لو كان بمثابة التنوين لما كان هنالك فارق في حكمه بين الاتيان به في النثر أو في النظم فلماذا يسوغ العطف في النظم من غير إعادة الحرف الجار كما نص سيبويه؟ مع ان التنوين لا يجوز العطف عليه حتى في النظم، ثم ان التنوين لا يدل على معنى وهذا يدل على معنى والتنوين لا محل له من الاعراب وهذا له محل من الاعراب والتنوين لا يبدل منه وهذا يبدل منه فإذاً في جميع الأحكام هو مباين للتنوين، فكيف يسوغ ان يلحق بالتنوين؟

واما القول بأن المتعاطفين يلزم ان يجوز تعاقبهما فهو ايضا مدفوع بشواهد كثيرة بجانب ما ذكرناه لأنه لا فرق بين حالتي نصبه وجره، من بين هذه الشواهد ان القائل يقول:

رب رجل وأخيه لقيتهما، ولا يجوز: رب أخيه ورجل لقيتهما ، لا يجوز ذلك لأمرين: أولهما ان الضمير لا يكون له معاد والثاني ان رب لا تدخل إلا على نكرة، وكذلك يقال: الجمل وصاحبه طريحان، ولا يقال: صاحبه والجمل طريحان، إذ لا يستقيم المعنى هكذا مع الأدلة الكثيرة التي تؤكد هذا المعنى.
اما ما قاله الزمخشري وغيره من ان هذا العطف انما هو بمثابة العطف على جزء من الكلمة غير سائغ، لا يسوّغ الاستدلال بذلك هذا مردود بأن الضمير المتصل مجرور (كما قلنا) له محل من الاعراب والجزء من الكلمة حرف من الكلمة ليس له محل من الإعراب والضمير المتصل المجرور يبدل منه وحرف من الكلمة لا يجوز ان يبدل منه، والضمير المتصل المجرور يستقل بالدلالة على معنى والحرف لا يستقل بالدلالة على معنى فمن جميع الوجوه نجد ان هذا القول انما هو خطأ وجرأة على رد القراءات الثابتة التي لا مجال في ثبوتها.


هذا، وقد ذكر ابن عطية ان هذه القراءة ايضا هي خطأ من وجهين، الوجه الأول ان قوله سبحانه وتعالى (الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ) لو كان يعني انهم يتساءلون بالله والرحم لما كان في تكرار الأمر بالتقوى أي فائدة ما عدا ذكر انهم يتساءلون بالرحم، وهذا العطف تكون فيه ركّة إذ لا يدل على فائدة جديدة.
والثاني ان في ذلك تقريرا لما كان يفعله اهل الجاهلية من قول (سألتك بالله والرحم) أو (سألتك بالرحم) مع ان الحديث الشريف نهى عن القسم بغير الله وشدد في ذلك (من كان حالفا فليحلف بالله أو فليصمت) ففي حمل الآية على ذلك تسويغ للحلف بغير الله تعالى والوجه الأول ذكره الزجاج ايضا، وردّ الألوسي على الوجهين جميعا، فرد على الأول بأن الفائدة ظاهرة هنا وهي ان الآية سيقت من اجل التوطئة لما في السورة الكريمة من الأمر بصلة الأرحام وعدم قطعها، فذكروا اولا بحق الأرحام من حيث انهم ذكروا بما يكون بينهم من سؤال بعضهم لبعض بالله تعالى وبالرحم، وأما عن الثاني فإن القسم بغير الله تعالى انما يمنع عندما يكون المقسم يعتقد للغير حرمة ويعتقد بذلك القسمة حرمة واما سيق هكذا في الكلام كما هو مألوف كما جاء في الحديث (افلح وابيه إن صدق) فلا يمنع.
وذكر العلامة صاحب المنار هذين الجوابين وذكر بأن الجواب على الاعتراض الثاني متبوع من حيث ان قول القائل (سألتك بالرحم) لم يعن به القسم وانما يعني به التذكير بحق الرحم فحسب وليس ذلك من القسم في شيء، ونقل كلاما طويلا لابن تيمية فيه التفرقة بين القسم وبين التذكير بالحق، وقال بأن سؤال انسان للغير بالقرابة التي بينه وبينه لا يعني ذلك انه اقسم عليه بتلك القرابة وانما كل ما يعنيه ذلك انه ذكره بحق تلك القرابة وهكذا كل ما كان خارجا مخرج هذا.


على ان من العلماء من قال في قول الله تبارك وتعالى (تساءلون به والأرحامَ) في قراءة النصب كما هي قراءة الجمهور من العلماء من قال بان ذلك انما يخرج مخرجا هذه القراءة نفسها ولكن النص لما ذكرناه هناك من العطف على محل الجار والمجرور معا فمعنى هذا انه لا اشكال لهذه القراءة.
ومن المفسرين من قال بأن قول الله تبارك وتعالى (والأرحام) انما يخرج مخرج نية اعادة الجار فكأنما قيل (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)، فقد وجد عند العرب حذف حرف الجر مع الاتيان بالاسم الذي بعده مجرورا كما يروى عن بعضهم انه عندما يقال: كيف اصبحت؟. يقول: اصبحت بخير.
وحملها بعضهم (هذه القراءة) على ان الواو في قوله (والأرحام) ليس واو عطف وانما هي واو القسم ولله تعالى ان يقسم بما يشاء من خلقه فكأنما قال تعالى (فاتقوا الله الذي تساءلون به بحق الأرحام) هكذا ذكر هذا ابو نصر القشيري وقال بأنه تكلّف، وتعقبه القرطبي بأنه ليس فيه تكلّف لأن لله تعالى أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته كما اقسم بالليل والنهار والشمس والقمر والضحى وما اقسم به في آيات كتابه العزيز فلا يمنع ان يقسم بالأرحام تذكيرا لعباده، وذكر هذا المعنى ابن عطية ولكن خرّج ذلك على ان المقسم عليه انما هو ما بعد وهو قوله (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) واشار إلى ضعف هذا.
هذا، وقد قُرئ (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامُ) بالرفع وخُرّجت هذه القراءة على ان الواو للاستئناف وان المراد (وَالأَرْحَامُ) حقيقة بأن توصل أو اهل لأن توصل، وجوّز القرطبي ان يكون ذلك خارجا مخرج الاغراء بأن يراد الحض على الأرحام بناء على الرفع بالإغراء، كما جاء في قول احد الشعراء:
إذا قيل السلاحُ السلاحُ..
لم يقل: السلاحَ السلاحَ، هذا شاهد على جواز الربط في حالة الإغراء بالشيء..ولكن هذا شاذ لا ينبغي ان يخرج شيء من القرآن عليه.

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس