منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - ملف شامل يتضمن عدد من المواضيع والمسائل المتعلقة بــ ( الصلاة )
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 02-12-2012 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



البَابُ الثَّالِثُ: في الوُضُوءِ


قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{المائدة: ٦



فَصْلٌ فِي أَصْلِ الوُضُوءِ

الوُضوءُ في اللُّغةِ: مأخوذٌ منَ الوضَاءةِ أي الحُسْنِ والنَّظافةِ، يُقالُ: (وُضوءٌ) بضمِّ الواوِ للفِعْلِ، وأمَّا (وَضُوءٌ) بفتحِ الواوِ فيطلَقُ على الماءِ الذي يُتوضَّأُ بِهِ، وأمَّا في الشَّرعِفالوُضوءُ: هو استعمالُ ماءٍ طَهُورٍ في أعضاءٍ مخصوصةٍ على صفةٍ مخصوصةٍ بنيةِ العبَادةِ.
وأصْلُ مشروعيتِهِ ما تلوتَهُ أعلاهُ منْ قولِه تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ...{المائدة: ٦، ومنَ السُّنَّةِ قولُهُ عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ: "لا إيمانَ لمَنْ لا صلاةَ لهُ، ولا صلاةَ لمَنْ لا وُضوءَ له"[1]، وغيرُها كثيرٌ متواترٌ[2].


فَصْلٌ فِي حُكْمِ الوُضُوءِ

ويختلفُ حُكمُ الوضوءِ حسبَ أحوالِهِ وأسبابِهِ، فقد يكونُ واجبًا كالوضوءِ للصلاةِ؛ للآيةِ السابقةِ، وللطَّوافِ بالبيتِ[3]؛ لأنَّ الطَّوافَ بالبيتِ صلاةٌ إلا أنَّ الله قدْ أحلَّ فيهِ الكلامَ، وَلِمَسِّ المصحَفِ والقِراءةِ منْهُ[4]؛ لِقَولِهِ eفي الجنبِ والحائِضِ والذِيْنَ لم يكونُوا على طَهَارةٍ: "لا يقرؤونَ القرآنَ، ولا يطؤونَ مصحفًا بأيدِيهم حتَّى يكونُوا مُتوضِّئِينَ"[5].
ويُندَبُ الوضوءُ في أحوالٍ كثيرةٍ كَالوُضوءِ للنَّومِ؛ لقولهِ e: "إذاَ أتيتَ مَضْجَعَكَ فتوضَأْ وضوءَك للصَّلاةِ"[6]، وعقبَ الاستيقاظِ منَ النَّومِ؛ لقولهِ e:" فإِذَا اسْتيقَظَ وَذَكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقْدةٌ، فإِذَا توضَّأَ انحلَّتْ عُقْدَة"[7].
وكذلكَ يُندَبُ عندَ غُسلِ الجنابةِ؛ لقولِ السَّيدةِ عائشةَ <:"كانَ رسُولُ اللهe إذا أرادَ الغُسلَ من الجَنابةِ بدأَ فغَسلَ يَديْهِ ثمَّ يتوضأُ كَما يتوضأُ للصَّلاةِ.."[8]، وللجُنُبِ عندَ إرادَةِ الأكلِ والشُّربِ والنَّومِ، قالتِ السَّيدةُ عائشةُ <: "كانَ النَّبِيُّ e إذا كَانَ جنبًا، فأرادَ أنْ يأكلَ أو ينامَ توضأَ"[9].
ولقراءةِ القُرآنِ، ودراسةِ الحديثِ وروايتِهِ، ومطالعةِ كُتبِ العِلْمِ الشَّرعيِّ مِنْ تفسيرٍ وحديثٍ وعقيدةٍ وفقهٍ ونحوِها، لكنْ إذا كانَ القرآنُ أكثرَ من التفسيرِ، فيُشَدَّدُ في المسِّ لا سيَّما لصاحبِ الحدثِ الأكبرِ[10]، وكذا يُندَبُ الوضوءُ بعدَ ثورةِ الغضبِ؛ لأنَّ الوضوءَ يطفئُهُ، لما رُويَ أنَّهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قالَ: "فإذا غضِبَ أحدُكم فليتوضَّأْ"[11].
وللخُروجِ من خلافِ العلماءِ، كَمَن لَمسَ فرجَه بظهرِ كفِّهِ[12]، أو أَكلَ لحمَ الجزورِ[13]؛ لقولِ بعضِهم بالوضوءِ منه[14]، ولتكونَ عبادتُه صحيحةً بالاتفاقِ عليها استبراءً لدينِه، ويكونُ الوضوءُ مباحًا إذا قصدَ به مباحًا كالتنظُّفِ والتبرُّدِ.
}تَذْكِيرٌ{تقدَّمَ لدَيكَ سلفًا أنَّهُ يُشرَطُ لصِحَّةِ الوُضوءِ إزالةُ النَّجَاسَاتِ منَ البدَنِ، كما تقدَّمَ أيضًا[15] أنَّ الماءَ المطْلَقَهوَ الماءُ الذيْ يَرفُعُ الحدَثَ، فهوَ الماءُ الذيْ يَصلُحُ للوضوءِ وللاغتسَالِ دُونَ غيرِهِ مِنْ أقسَامِ المياهِ الأُخْرَى.
فَهَذِهِ هيَ شُرُوطُ الوُضُوءِ، فَشَمِّرِ الهِمَّةِ لمعْرِفَةِ الفَرَائِضِ..


فَصْلٌ فِي فَرَائِضِ الوُضُوءِ

نَصَّ القُرآنُ الكَريمُ على أركانٍ أو فرائضَ أربعةٍ للوضوءِ، وهيَ: غُسلُ الوجهِ، واليَديْنِ، والرِّجْلَينِ، ومسحُ الرَّأسِ، إضافةً إلى النِّيةِ المُشَار إليها، وذلكَ كلُّهُ في قولِهِ تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ{المائدة: ٦.
أولاً: النِّيةُ:
وهيَ مِنْ أركانِ الوضوءِ وفرائضِه على الصَّحِيحِ المُعْتمَد؛ لقولِه تعالى: }وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ{البينة: ٥، ولقولِه e :"إنما الأعمالُ بالنِّياتِ"[16]، أي صحَّةُ الأعمالِ وقَبولُها مرهونةٌ بنيَّاتها؛ وذلكَ لأنَّ الوضوءَ عبادةٌ غيرُ معقولةِ المعْنى.
وينوِي المكلَّفُ بوضوئهِ رفعَ الحدَثِ، والتطهُّرَ للعبادةِ، ولا بُدَّ أنْ تكونَ هذِهِ النيَّةُ سابقةً لجميعِ أعمالِ الوضوءِ، فإنْ قدَّمَ بعضَ أعضاءِ الوُضوءِ الواجبةِ على النِّيةِ لزِمَتهُ الإعادةُ.
والمقصودُ منَ النِّيةِ تمييزُ العِبَادةِ عنِ العادَةِ، أو تمييزُ بعضِ العبَاداتِ عن بعضِ، وتمييزُ رتبةِ هذهِ العبادةِ، أي كالصَّلاةِ تكونُ فرضًا تارةً، ونفلاً تارةً أخرَى[17].


فَائِدَةٌ جَلِيْلَةٌ

مَن توضأَ وارتفعَ حدثُهُ أجزَاهُ ذلكَ الوضوءُ لكُلِّ عبادةٍ يُشترَطُ لها الوضوءُ ولوْ لمْ يستحضِرْها في وضوئِهِ ذلكَ، كالصَّلواتِ ولو تعددتْ فرضًا ونفلاً، وكالطوافِ بالبيتِ وقراءةِ القرآنِ الكريمِ، يقولُ ابنُ النَّضرِ[18]:
وَإِنْ تَوَضَّأْتَ بِلا نِيَّةْ[19]*** أَجْزَاكَ لِلْفَرْضِ وَلِلنَّفْلِ

لأنَّ المقصودَ مِنَ الوُضوءِ رفعُ الحدَثِ، فلمَّا ارتفَعَ الحدثُ جازتْ سائرُ العباداتِ على القَولِ المُعْتمَدالصَّحيحِ[20].


فَتْوَى

السُّؤالُ/ مَا قولُكم سماحةَ الشيخِ فيمن توضأَ لصلاةِ الميتِ،فحضرتْهُ فريضةٌ من الفرائضِ، هل تصحُّ صلاتُه بذلكَ الوضوءِ؟
الجَوَابُ/ الوضوءُ يُرادُ بِه رفعُ الحدثِ، والحدثُ هو معنىً قائمٌ بالنَّفسِ مانعٌ من الصلاةِ، فإذا ارتفعَ الحدثُ جازتِ الصلاةُ، ولا داعيَ إلى تجديدِ الوضوءِ، والله أعلمُ[21].


مَسْأَلَةٌ

ويُستحَبُّ استصحابُ ذِكْرِ النِّيةِ إلى آخرِ الطَّهارةِ؛ لتكونَ أفعالُهُ كلُّها مقترنةً بالنِّيةِ، ولكنْ لا يضرُّ عُزُوبُ النيةِ، أيْ ذهابُها عنْ خاطرِهِ وذهولُهُ عنها، بعدَ أنْ أتَى بها في أولِ الوضوءِ؛ لأنَّ مَا اشتُرِطَت لهُ النِّيةُ لا يَبطلُ بعزوبِها والذُّهولِ عنها كالصَّلاةِ والصِّيامِ، وذلكَ بخلافِ الرَّفضِ: أي الإبطالِ، وذلكَ بأنْ ينوِيَ إبطالَ ما فعلَهُ، كأنْ ينويَ في قَلْبِهِ: إِبْطَالَ وُضُوئِهِ جازِمًا بذلكَ، فإنَّه يبْطلُ.

ثانيًا: غُسْلُ الوَجْهِ:
لقولِه تعالى: }فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ{ أي غُسلُ ظاهر جميعِ الوجِه، بحيثُ يُسيلُ الماءَ عليه ولا يكتفي بمجردِ المسحِ[22]، والفرضُ هو الغسلُ مرةً واحِدةً، أمَّا تكرارُ الغسلِ ثلاثَ مراتٍ فهو سنةٌ وليس فرضًا.
والدليلُ على جوازِ الاجتزاءِ بالإفرادِ دونَ التثليثِ في المغسُولاتِ ما ثبتَ أنَّ النَّبِيَّ e توضأَ مرَّةً مرَّةً فقالَ: "هذا وضوءٌ لا تُقبَلُ الصَّلاةُ إلا بِهِ"، ثمَّ توضأَ اثنتين اثنتين فقالَ: "مَنْ ضاعفَ ضاعفَ الله لَه"، ثمَّ توضأَ ثلاثًا ثلاثًا فقالَ: "هذا وضوئِي ووضوءُ الأنبياءِ من قَبلِي"[23].
والوَجْهُ: ما يواجِهُ بهِ الإنسانُ غيرَهُ مِنَ النَّاسِ، وحدُّهُ طولاً: ما بينَ منابتِ شعرِ الرأسِ المعتادِ، إلى منتهى الذقنِ، وحدُّهُ عرضًا: ما بينَ شَحْمتيْ الأُذنَينِ؛ هذَا لِمَنْ لمْ يكُنْ بهِ شَعرٌ، أمَّا مَن كانَ بهِ شعرٌ فكذلكَ علَى القَولِ المشْهُورِ، وهوَ المُعْتمَدُ الصَّحِيْحُ عندَ شيخِنا القنوبيِّ -حفظهُ اللهُ-؛ ولِذَا يجبُ -على الصَّحِيْحِ عندَهُ- تخلِيْلُ اللِّحْيَةِ إذَا كَانتْ خفيفةً دونَ الكَثيفَةِ[24]، وغُسْلُ العِذَارِ[25]، وكذا البَياضُ الذِيْ بينَ شَعْرِ اللِّحيةِ والأُذُنِ[26].

ثالثا: غُسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَينِ:
لقولِهِ تعَالى: }وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ{المائدة : 6، وَللإِجماعِ.
ويجبُ عندَ جمهورِ العلماءِ -وهو المُعْتمَدُعندَ العلامةِ القَنُّوبيِّ[27]- إدخالُ المرفقَينِ[28] في غُسلِ اليدَينِ، لأنَّ حرفَ }إلى{ لانتهاءِ الغايةِ، وهيَ هنَا بمعنى "مَعَ" كمَا في قولِه تعَالى: }َيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ{هود: ٥٢، و}وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ{النساء:2، وقدْ أوضحَتِ السُّنَّةُ النبويةُ المطلوبَ وبيِّنت المجملَ، رُويَ عنْ أبي هريرةَ في صفةِ وضوءِ رسولِ اللهe:"أنَّه توضأَ فغَسلَ وجهَهَ، فأسبغَ الوضوءَ، ثم غَسلَ يدَه اليمنى حتى شرعَ في العَضُدِ، ثمَّ اليسرَى حتى شَرعَ في العَضُدِ .." [29].
ويجبُ أنْ لا يفوتَ المكلَّفَ النَّبِيْهَ تخليلُ الأصابعِ عندَ غُسلِ اليدَينِ؛ يقولُ النَّبِيُّ e: "خلِّلُوا بينَ أصابِِعكم في الوُضوءِ قبلَ أن تُخلَّلَ بمساميرَ منْ نارٍ"[30].
}تَنْبِيهٌ{: نَرَى بعضَ النَّاسِ مِنَ الرِّجَال والنِّسَاءِ -هدَانا اللهُ وإيَّاهمْ- عندَ غُسلِ اليَدَينِ لا يقومُونَ برَفْعِ كُمِّ القَميصِ السَّاترِ للسَّاعِدِ إلى أعلَى المرفقِ، وهذَا خَطَأٌ جليٌّ لما عَلِمْتَ مِنْ دُخولِ المرفَقَينِ في المغسُولِ مِنَ اليَدَينِ، وبِاللهِ التَّوفيقُ.

رابعًا: مَسْحُ الرَّأسِ:
لقولِه تَعَالى: }وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ{
والمسْحُ: هو إمرارُ اليدِ المبتلةِ على العُضوِ، والرَّأسُ: هنا هوَ منْ مَنبتُ الشَّعرِ المعتادُ منَ المقدَّمِ فوقَ الجبهةِ إلى قَفا الرَّأسِ.
واختلفَ الفقهاءُ في القَدْرِ المجْزِئِ مِن مَسحِ الرَّأسِ: فقيلَ لا بدَّ مِنْ مسحِ جميعِ الرَّأسِ حملاً للبَاءِ في قولِهِ تَعَالى:}وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ{على التَّوكيدِ، على حدِّ قولِهِ :}وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ{الحج: ٢٩،وإلى هذا الرَّأيِ ذهبَ العلامةُ الأصُوليُّ ابنُ بركةَ[31]، وقيلَ بلْ يجزي مسحُ بعضِ الرَّأسِ وأنَّ الباءَ في الآيةِ للتَّبعيضِ -أي ببعضِ رؤوسِكُمْ-، واستدلُّوا له بما ثَبَتَ عنِ ابنِ عباسٍ {أنَّ النَّبِيَّ e: "مسحَ ببعضِ رأسِهِ في الوضِوءِ"[32]، والرَّأيُ الأوَّلُ أحوطُ وفيه خروجٌ من خلافِ العلماءِ، ولكنْ مَنْ مَسَحَ بعضَ الرَّأسِ فينبغي لَهُ أنْ لا يَقتَصِرَ عَلَى نَزْرٍ يسيرٍ مِن مُقدِّمَتهِ.


مَسْأَلَةٌ

ومِنَ السُّنَّةِ مسحُ الأُذُنَين معَ الرَّأسِ؛ لقولِهِ e :"الأُذُنانِ منَ الرَّأسِ"، قال أبُو الشَّعثاءِ -راوي الحديثِ-: وبَلَغَني عنهُ عليهِ السَّلامُ أنَّه غرفَ غُرفةً واحدةً فمَسَحَ بها رأسَهُ وَأُذُنَيهِ[33].
ويكفِي في المسْحِ مرةٌ واحدةٌ شاملةٌ للظَّاهرِ والبَاطنِ، ولا يُستحبُّ تِكْرارُ المسْحِ للرَّأسِ والأذنَينِ علَى المُعْتمَدالصَّحيحِ[34]، وهوَ رأيُ جمهورِ العُلماءِ خلاَ الشَّافعيةَِ وبعضَِ أصحابِنا[35]؛ لأنَّ حديثَ الوُضوءِ ثلاثًا ثلاثًا عامٌّ خَصَّصَتِ السُّنَّةُ الممسُوحَ منهُ بالمرَّةِ الواحِدَةِ؛ لحديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -كرَّمَ اللهوجهَهُ- في وصْفِ وضوءِ رسولِ اللهe قالَ : "ومَسَحَ برأسِهِ مرةً واحدةً"[36]؛ ولأنَّه لَو كرَّرَ المسحَ لاتَّحَدَ معَ الغُسلِ، هكَذا قيلَ، واللهأعلمُ[37].
ويُكتفَى في مسْحِ الأذنَينِ بماءِ الرَّأسِ على الصَّحِيْحِ عندَ شيخِنا إمامِ السُّنَّةِ والأصُولِ -حفظَهُ اللهُ-، وقيلَ: لابدَّ أنْ يَأخُذَ ماءً جديدًا لهما.

خامسًا: غُسْلُ الرِّجلَينِ إلى الكَعبَينِ:
لقولِهِ تَعَالى: }وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ{والكَعْبَانِ: هما العَظْمانِ النَّاتِئَانِ منَ الجانِبَينِ عندَ مِفْصَلِ القَدَمِ، فالواجبُ في الرِّجْلَينِ الغُسلُ ولا يجزِي فيهمَا المسحُ، ومَن مَسَحَ جاهلاً بالحكمِ أعادَ صلاتَه.
ويجبُ غسلُ الكعبَينِ مع الرجلَينِ كغُسلِ المرفقَينِ في اليَدَيْنِ، لدُخُولِ الغايةِ في المُغَيَّا، أيْ لدخولِ ما بعدَ }إِلَى{فيمَا قبلَها، وكذلكَ يجبُ غُسْلُ الأعقَابِ والبطُونِ منَ القدمَينِ؛ لوُرُودِ الوعيدِ الشَّديدِ على تركِ غُسْلِها، قالَ e :"وَيْلٌ للعَراقيبِ من النَّارِ ووَيْلٌ لبُطونِ الأقدامِ من النَّارِ"[38].
قالَ الرَّبيعُ: أرادَ بذلكَ النَّبِيُّe أنْ تُعْرَكَ بالماءِ ويُبَالَغَ في غُسْلِها.


خَاتمَةٌ

يقُولُ الإمامُ نُورُ الدِّينِ السَّالِمِيُّ -رَحمَهُ اللهُ- ملخِّصًا فرائضَ الوضوءِ وأركانَه[39]:


فرائضُ الوُضوءِ أربعٌ لها***هَذا المَقامُ كاشِفٌ مُجْمَلَهَا
الغُسلُ للوجهِ وحَدُّهُ بَدا***مِنْ مَنبَتِ الشَّعرِ الَّذِي قَدْعُوِّدا
لِلذِّقنِ طُولاً وإلى الأُذْنَينِ***فِي العَرْضِ ثُمَّ الغُسلُ لليَدَيْنِ
لِلمِرفقَينِ ثُمَّ لِلرِّجلينِ***تَعُمُّها أيضًا معَ الكَعْبَينِ
والمسْحُ للرَّأسِ تَمامُ الفَرضِ***ومَسحُهُ فِي الكُلِّ أو فِي البَعْضِ
وسُنَّ فيهِ المَسحُ للأُذْنينِ***بِمَا جَدِيدٍ مِنْ كِلا الوَجْهيْنِ
وقيلَ يُجزِي فيهِ مَاءُ الرَّأسِ***والأولُ الرَّاجِحُ فِي القِيَاسِ




فَصْلٌ فِي سُنَنِ الوُضُوءِ

تعرَّفْ -أخِي طالبَ العلمِ، وفَّقكَ الله لما يحبُّ ويرضَى- أنَّ أعمالَ الوضوءِ لا تقتصرُ على فرائِضِهِ ولا تنحصرُ في أركانِهِ المذكورةِ في آيةِ المائدَةِ[40] بلْ هناكَ سُننٌ للوُضوءِ، منْها الواجبةُ، ومنها المندوبةُ والمستحبَّةُ، وإليكَ بيانًا مختصرًا لمجمَلِها:

1- السِّواكُ قبلَ الوضُوءِ: وحكمُهُ الندبُ، قال e: "لولا أنْ أَشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهم بالسِّواك عندَ كلِّ صَلاةٍ وكلِّ وضُوءٍ"[41].
2- التسْمِيَةُ: وهيَ قولُ المتَوضِئِ "بسم الله"[42]، وهيَ -على الصَّحيحِ المُعْتمَد عند العلاَّمَةِ القنوبيِّ عافاهُ اللهُ- واجبةٌ في حالةِ الذِّكْرِ والنِّسْيانِ[43]؛ لقولِ النَّبِيِّ e :"لا وضوءَ لِمَنْ لم يذكرِ اسمُ الله عليه"[44].

تَنْبِيْهٌ

ومنَ الجديرِ بالذِّكرِ أنَّهُ لم يَثبُتْ شَيءٌ منَ الأذكارِ والأَدْعِيَةِ أثناءَ الوضوءِ إلا التسميةُ في أوَّلِهِ، وفي آخرِه قولُ:"أشْهَدُأنْ لا إِلهَ إِلا الله، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ"[45]؛ فقد ثبتَ في فضلِها قولُ النَّبِيِّ e:" ما مِن مسلمٍ يتوضَّأُ فيُحسنُ الوضوءَ ثم يقولُ: أشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا "، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ إلا فُتِحَتْ له ثمانيةُ أبوابِ الجنَّةِ، يدخلُ منْ أيِّها شَاءَ"[46].
وثبتَ أيضًا عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ t موقوفًا[47] أنَّهُ قالَ :"مَنْ توضَّأَ فقالَ: "سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبحمْدِكَ أشْهدُ أنْ لا إِلهَ إلا أنْتَ أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ" كُتبَ في رَقٍّ ثمَّ طُبعَ بطابعٍ فلم يُكسرْ إلى يومِ القِيَامَةِ"[48]، والحديثُ وإنْ كانَ موقوفًا لفظًا إلا أنَّ لهُ حُكمَ الرفعِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يُقَالَ بمجرَّدِ الرأيِ ولا مجالَ للاجتهادِ فيهِ[49].
3- غُسْلُ اليدَيْنِ إلى الرّسغَينِ: ويتأكدُ ذلكَ بعدَ النَّومِ؛ قال e: " إذا استيقظَ أحدُكمْ مِنْ نومِهِ فلا يَغْمِسْ يدَهُ في الإناءِ حتى يِغسلَها ثلاثا؛ لأنَّهُ لا يدْرِي أينَ باتتْ يدُهُ"[50].
4- المضْمَضَةُ والاسْتِنشَاقُ:والمضمضةُ: هيَ إِدْخالُ الماءِ في الفَمِ وتطهيرُ باطنِهِ بالخَضْخَضَةِ[51]. والاستنشاقُ: هوَ إدخالُ الماءِ في الأنفِ وجذبُه بنَفَسِهِ إلى داخلِ أنفهِ ثمَّ طَرْحُهُ، حتى يَطْهُرَ باطنُهُ.
وحُكْمُالمضْمضَةِ والاستنشاقِ: الوجوبُ على المُعْتمَد الصَّحيحِ[52]، ويُستحبُ المبالغةُ فيهما ما لم يكنِ الإنسانُ صائمًا؛ قالَ eلِلَقِيطِ بنِ صُبرةَ:" إذا اسْتَنْشَقْتَ فأبلِغْ إلا أنْ تكونَ صَائِمًا"[53]، والأَوْلى أن تكون المضمضةُ والاستنشاق من غَرْفَةٍ واحدةٍ[54]؛ لحديث جابرِ بنِ زيدٍ قالَ: بلغني عنْ رسولِ اللهِ e "أنه تمضْمَضَ واستنشقَ مِن غَرفةٍ واحِدَةٍ"[55].
}تَنْبِيْهٌ{:يقومُ بعْضُ المتوضِّئِينَ -هدَانا اللهُ وَإِيِّاهمْ- عندَ غُسْلِ الأنفِ بغُسْلِها مِنَ الخَارجِ فقط مِنْ غَيرِ اسْتنشَاقٍ وإدخالٍ للمَاءِ في الأنفِ (المِنْخَرَيْنِ)، وهذَا خَطَأٌ ولا يُجْزِيْ في الوُضُوءِ، فليُنتَبَهْ وليُنبَّهْ عَلَى ذلكَ.


فَائِدَةٌ

السُؤَالٌ/ما هيَ الحِكْمَةُ مِنْ تقديمِ المضْمضَةِ والاستنشاقِ على الأعضاءِ الواجبِ غُسلُها مثلِ الوجهِ واليدَينِ؟
الجَوَابُ/ الحكمةُ -في رأيِ بعضِ العُلمَاءِ- أنَّ الماءَ إِمَّا أنْ يتغيرَ طعمُهُ أو لونُهُ أو ريحُهُ، وتغيُّرُ اللَّونِ هوَ أكثرُ تأثيرًا على الماءِ منْ تغيُّرِ الطَّعْمِ أوِ الرِّيحِ؛ لأنَّ تغيرَ اللَّونِ دليلٌ على ما خالطَ الماءَ مِنْ غيرِهِ، فالإِنسانُ إذا وضعَ الماءَ في يدَيْهِ وقرَّبَهُ مِنْ عينيهِ يَشعرُ بتغيرِ لونِهِ، فإذَا وضعَهُ في فِيْهِ فإِنَّهُ يشعرُبطعمِ الماءِ، فإذا وضعهُ في أنفهِ يشعرُ بريحِه، والحديثُ عنِ الرسولِ e يُبينُ أنَّ الماءَ باقٍ على أصلِ خِلْقَتِهِ وهوَ الطهوريةُ والتَّطهيرُ ما لم يتغيرْ لونُهُ أو طعمُهُ أو ريحُهُ، فقد جاءَ في الحديثِ الذي رواهُ الإمامُ الربيعُ -رَحمَهُ اللهُ- عنْ أبي عبيدةَ عنْجابِرِ بنِ زيدٍ عنِ ابنِ عباسٍ {عنْ رسولِ اللهeأنَّه قالَ: " الماءُ طَهورٌ لا ينجِّسُهُ إلا ما غلبَ عليه فغيرَ لونَهَ أو طعمَه أو ريحَه"، هذهِ هيَ الحِكْمَةُ التي استظهرَها بعضُ العلماءِ، وقد تكونُ هنالكِ حكمةٌ قد خَفِيَتْ علينا، والوضوءُ نفسُهُ إنما هوَ أمرٌ تعبديٌّ، واللهأعلمُ[56].
5- التَّثْلِيْثُ: أيِ الوُضوءٌ ثلاثًا ثلاثًا لكلِّ عضوٍ منَ الأعضاءِ المغسولَةِ دونَ الممْسُوحةِ[57]؛ لقولِهِ e حينَ توضأَ ثلاثًا ثلاثًا :"هذا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأنبياءِ مِنْ قَبْلِي"[58].
6- التَّرْتِيْبُ: أيْ ترتيبُ أعْضَاءِ الوُضوءِ كمَا وردَتْ في الكتابِ والسُّنَّةِ، معَ البدْءِ بالميامِنِ قَبْلَ المياسِرِ، فقدْ كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام يُحِبُّ التيامُنَ في طُهورِه إذا تطهَّرَ، وفي انتعالِه إذا انتعَلَ[59]، وحكمُ الترتيبِ الوجوبُ[60] على المُعْتمَد الصَّحِيحِ عندَ شيخِنا القَنُّوبيِّ -حفظه الله-، ومالَ إليهِ شيخُنا الخليليُّ -حفظَهُ الله- في فتاواهُ[61]؛ لأنَّهُ الثابتُ من فعلِ المبلِّغ e، ولمْ يُؤثرْ عنه ولا مَرَّةً واحدةً أنهُ لم يرتبْ أعمالَ الوُضوءِ، ولا صرَّحَ بذلك قطُّ لا بقولٍ ولا بفعلٍ، والقولُ بالترتيبِ هوَ قولُ الإِمامِ الربيعِ خلافًا لشيخِهِ أبي عبيدةَ -رحمهم الله جميعا-[62].
7- الموَالاةُ: هيَ التَّتَابُعُ فيِ أعمالِ الوضوءِ عُضْواً بعدَ عضوٍ. وضَابِطُ الموالاةِ: أنْ لا يَجِفَّ العضوُ السَّابقُ قبلَ البدْءِ بالعضوِ اللاحقِ وذلكَ في الأحوالِ العاديةِ، والصَّحيحُ أنَّ حُكَمَ الموالاةِ كالترتيبِ في الوجوبِ لملازمةِ النَّبِيِّ e لها طوالَ حياتِهِ[63].
8- عدَمُ الإِسْرافِ في اسْتخْدَامِ الماءِ: فقدْ كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يتوضأُ بِقَدَرِ المُدِّ ويَغتسلُ بِقَدَرِ الصَّاعِ[64].

وَالمَاءُ مُدٌّ فِي الوُضُوءِ وَلَدَى*** ذَا الغُسْلِ صَاعٌ لا أَقَلَّ مَقْصِدا [65]






}تَنْبِيْهٌ{


دَرَجَ كثيرٌ منَ النَّاسِ على مَسْحِ الرَّقَبةِ في الوُضُوءِ بعدَ مَسْحِ الأذنَينِ معَ أنَّ العُنُقَ ليستْ مِنْ أعضاءِ الوُضوءِ على الصَّحيحِ المُعْتمَد، والحقيقةُ أنَّ ذلكَ لم يَثبتْ عنِ النَّبِيِّ e لا في حديثٍ صحيحٍ ولا حَسَنٍ[66]، وَإنما استحسنَهُ بعضُ العُلماءِ اعتمادًا منهمْ علَى روايةٍ ضعيفةِ، ولذلكَ قالَ الإمامُ السَّالِمِيُّ -رَحمَهُ اللهُ-: (قلتُ: ومَسْحُ الرقبةَ استحبَّهُ بعضُ العُلماءِ ولم يكنْ موجُودًا في الأحَادِيثِ الْمَروِيَّة عنْ رسولِ اللهe)[67]، وإذا لم يكنْ مرويًّا عنْ رسولِ اللهe فالأَوْلى تركُهُ لأنَّهُ ليسَ مما آتانا بهِ الرَّسُولُ قال تعالى:}وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا{الحشر: ٧،إِذْ
لَوْ كَانَ خَيْرًا لَمْ يَفُتْ مُحَمَّدا*** وَصَحْبَهُ...[68]


فَصْلٌ في صِفَةِ الوُضُوءِ

إذا أرادَ الإنسانُ الوضوءَ تأكَّدَ أوَّلاً مِن زوالِ كلِّ نجاسَةٍ عالِقةٍ ببدنِهِ، ثمَّ أَحْضَرَ مَاءً طَهُورًا ونَوَى الوُضوءَ مُستحضِرًا رَفْعَ الحَدَثِ واستباحةَ الصَّلاةِ -مثلاً-، فبَسْمَلَ وغَسَلَ يدَيْهِ إلى الرُّسغَينِ، ثمَّ تمضْمَضَ واستنشَقَ ثَلاثًا، ثمَّ غَسَلَ وجهَهُ ثلاثًا، ثم يَدَيهِ اليُمنى فاليُسرى إلى المرفقَينِ ثلاثًا ثلاثًا، ثمَّ مَسَحَ رأسَهُ وأذنَيهِ ظاهرَهما وباطنَهما مرَّةً مرَّةً، ثم غَسلَ رِجلَيْهِ اليُمنى فاليُسْرى إلى الكعبينِ ثلاثًا ثلاثًا.


خَاتمةٌ

يقُولُ الإِمَامُ السَّالِمِيُّ -رَحمَهُ اللهُ-في مَدَارِجِ الكَمَالِ[69]
مَضْمَضَةٌ سِوَاكٌ استنشَاقُ*** وبَالِغَنَّ حَسْبَما يُطَاقُ

إلا إذا مَا كُنْتَ صَائِمًا فَلا*** تُبالِغَنَّ والسِّواكَ فَاهْمِلا

تَسْمِيةٌ غُسْلُ اليَدَيْنِ قَبْلَ أنْ*** تُدخِلَ في الإناءِ مِنْ تِلكَ السُّنَنْ

ومنَها أيضًا أنْ يُرتِّبَ العَمَلْ*** ومنْها تَخليلٌ لِلِحْيَةِ الرَّجُلْ

كذَا التَّوالي وهوَ أنْ يُسْرِعَ فِي*** تَرتيبِهِ إلا لِعُذْرٍ فَاعْرِفِ
وهكذَا التَّثليثُ فِي كُلِّ عُضُوْ*** والرَّفعُ للأنْجَاسِ شَرْطٌ لِلوُضُوْ

وبعضُهُم أَثبَتَ للمَمْسُوحِ *** واحدةً وجَاءَ بِالتَّصْحيحِ

لِلفَرقِ بَينَ الغُسْلِ والمَسْحِ ولَوْ*** كرَّرَهُ لاتَّحَدا كذَّا رَأوْا

وبعضُ مَا مرَّ مِنَ الوُجوبِ *** وبعضُهُ مِنْ جُملةِ المَندُوبِ

تَمَضْمَضِ اسْتنشِقْ ووالِ رتِّبَا*** وخَلِّلِ اللِّحيةَ بعْضٌ أوْجبَا

وتاركٌ لواجِبٍ يُعيدُ مَا *** صَلاهُ أو يَأتِي بِما قَدْ لزِمَا




فَصْلٌ في مكروهاتِ الوُضُوءِ


تعرَّفْ -أيُّها المتَّبِعُ لأحْسَنِ القَولِ- أنَّ هناكَ عدةَ أمورٍ تُكرَهُ أوْ لا تُستحْسَنُ حالَ الوُضوءِ، منْها[70]:
1-الوُضُوءُ قائمًا[71].
2-التَّحَدُّثُ بغيرِ ذِكْرِ الله.
3-الإِسْرَافُ في صَبِّ الماءِ.
4-الزِّيادَةُ في المغْسُولِ على الثَّلاثِ وفي الممْسُوحِ على الواحِدَةِ.
5-التَّوَضُّؤُ في مَوضعٍ نَجِسٍ؛ لئَلا يَتنجسَ منهُ[72].
6-التَّعَرِّيْ عندَ الوُضوءِ إذا كانَ في خلْوةٍ، ويحرُمُ في مكانٍ يمكنُ أنْ يَراهُ النَّاسُ[73].
7-تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُننِ الوضوءِ المسْتحبَّةِ.
ولا يُكرَهُ على الصَّحِيحِ عندَ شيخِنا الخليليِّ -رعاهُ اللهُ-[74] تنشِيفُ الأعضاءِ بعدَ الوضوءِ بمنديلٍ أو ما شابههُ، لا سيَّما عندَ الحاجةِ كوجودِ بردٍ مثلاً؛ لما ثبتَ عندَ الرَّبيعِ وغيرِهِ أنَّ النَّبِيَّ eكانَ مُتخِذًا منديلاً يمسحُ بهِ بعدَ الوُضوءِ[75].
وكذلكَ لمْ يثبتِ النَّهيُ عنِ الوضوءِ بالماءِ المشَمَّسِ والحارِّ لكنْ ينبغِي تركُهُ إذا ثبتَ ضَررُ سُخونَتِهِ[76].


فَصْلٌ في نَواقِضِ الوُضُوءِ


واعلمْ -أخي العابدَ- أنَّ الإِنسانَ مأمورٌ أنْ لا يُبطِلَ عملَهُ بعدَ تمامِهِ} وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{مُحَمَّد: ٣٣، وَهَا أنَا أذكرُ بعضًا مِنْ مُبطلاتِ الوضوءِ:
vالرِّدَّةُ: وهيَ الخُروجُ منَ الإِسلامِ كلِّيًا، أو ارتكابُ ما يوجِبُ ذلكَ كإنكارِ ما هوَ معلومٌ منَ الدِّينَ بالضرورةِ مِنْ غير شُبهةٍ أو تأويلٍ.
vلمَسُ المتوضئِ لعَوْرتِهِ(المُغلَّظَةِ) أو عورةِ غيرِهِ[77]: ولا فَرْقَ على المُعْتمَد الصحيحِ -عندَ العلامةِ القنوبيِّ- أنْ يكونَ ذلكَ اللَّمسُ ببَاطنِ3 الكَفِّ أو بظاهرِهِ[78]؛ فعنِ ابنِ عباسٍ { مرفوعًا :"إذا مَسَّ أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فليَتوضَأْ"[79]، وعنْ جابرِ بنِ زيدٍ مرفوعًا أيضًا:" إذا مسَّتِ المرأةُ فرجَها فلْتَتَوَضَّأْ"[80].
vلمَسُ مَا كانَ نجِسًا: إِذَا كَانَ اللاَّمِسُ أوِ الملمُوسُ أو كِلاهما رطبًا، وقدْ تقدَّمَ ذكرُ النَّجاساتِ وأنواعِها سلفًا، والحمدُ للهِ حقَّ حمدِهِ.
vالغِيْبَةُ: لقَولِهِ e:"الغيبةُ تُفطِّرُ الصَّائمَ وتنقضُ الوُضوءَ"[81]، وقدْ قاسَ عليها كثيرٌ مِنَ العلماءِ سائرَ الكبائرِ منَ المعاصِي، فقالوا: إنَّ جميعَ كبائرِ الذُّنوبِ ناقضةٌ لِلْوضوءِ كَالنَّظَرِ المُحرَّمِ مُباشرةً أو بواسطةٍ، ومثلُهُ الاسْتِمَاعُ المُحرَّمُ كالاستماعِ إلى الغيبةِ والنَّمِيمَةِ ومزاميرِ الشَّيطانِ[82]، ولمَسُ المتوضِئِلِلمرْأَةِ الأجْنَبِيَّةِ أوْ مصافحتُها[83].
vكُلُّ مَا خَرَجَ منَ السَّبيلَينِ[84](القُبُلِ والدُّبُرِ): معتادًا كالبولِ والغائطِ والريحِ[85]، أو غيرَ مُعتادٍ كدُودٍ أو حَجَرٍ.
vخُرُوجُ الدَّمِ:وذلكَ إذا جاوزَ محلَّهُ، وهوَ الدَّمُ المسفوحُ؛ لقولِهِ تعَالى: }أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً{ الأنعام: ١٤٥.
vخُرُوجُ القَيءِ والقَلسِ:لقَولِهِ r:" مَنْ قَاءَ أو قَلَسَ فليتوضأ"[86].
vزَوَالُ العَقْلِ أو التَّمْييزِ: وذلكَ بالنَّومِ أوِ السُّكْر أوِ الإغماءِ أوِ الجُنونِ ونحوِها؛ لأنَّ الإِنْسانَ في تلكَ الحالةِ لا يشعرُ بما يخرُجُ منه قال عليه الصَّلاة والسَّلام:" العَيْنَانِ وِكَاءُ الدُّبُرِ"[87].


فَائِدَةٌ

رجَّحَ الشَّيخُ سعيدُ بنُ مبروكٍ القنوبيُّ -حفظَهُ اللهُ- أنَّ الضَحِكَ لا ينقضُ الوضوءَ سواءً كانَ هذا الضحكُ أثناءَ الصلاةِ أو خارجَها[88]. والله أعلم.



لَطِيفَةٌ

في إِحْدى اللَّيالي -بينَ صلاتيْ المغْربِ والعِشَاءِ بالمسجدِ الجامعِ- جَمَعَنا مجلسُ العِلْمِ ببقيَّةِ السَّلفِ شيخِنا العلامةِ سيفِ بنِ راشدٍ المعوليِّ -رَحمَهُ اللهُ-، فذُكِرَتْ عندَهُ مسألةُ قصِّ الأظافرِ والشَّعْرِ وأثرِها علَى صِحَّةِ الوضوءِ!
فأردفَ الشيخُ -رَحمَهُ اللهُ- مِنْ دُرَرِهِ الثمينةِ قصَّةً وقعتْ بينَ الإمامِ السَّالميِّ وشيخِهِ العلامةِ راشدِ بنِ سيفٍ اللَّمكيِّ -رحمهمُ اللهُ تعالى جميعًا- قالَ الشيخُ: وقعَ في هذه المسألةِ اختلافٌ بينَ التِّلميذِ السَّالميِّ والشَّيخِ اللمكيِّ، فقالَ الشيخُ بنقضِ الوضوءِ، وقالَ التلميذُ بعدمِ النقضِ، فأرسلوا كتابًا إلى جَنَابِ قُطبِ الأئِمَّةِ -رَحمَهُ اللهُ-[89]بالمغربِ العربيِّ يَسألونَهُ عنِ الراجحِ في هذِهِ المسْألةِ، فجاءَ الجوابُ المغربيُّ موافِقًا لرأيِ التِّلميذِ النِّجيبِ[90].
حينَها قالَ الشَّيخُ سيفٌ المعوليُّ -رَحمَهُ اللهُ-- في ثناءِ الإمامِ السالميِّ ومدحِ حافظتِهِ القويَّةِ منذُ صغرِهِ- كلمةً لا زِلْتُ أحفظُها وتتردَّدُ في ذهنِي إلى الآنِ، قالَ: "ذاكَ وْعَاهْ مَا مِنْخرُقْ"[91].


مَسْأَلَةٌ

للنَّومِ عدةُ حالاتٍوهيئَاتٍ، فمِنْهُ ما يكونُ طويلاً ثقيلاً في حالةِ الاضِطِجَاعِ فهذَا نَاقِضٌ للوُضوءِ ولا إِشْكالَ[92]، وقدِ اختلفَ العلماءُ في غيرِ هذِهِ الهيْئةِ منَ النَّومِ النَّاقضِِ للوضوءِ على أقوالٍ كثيرةٍ، فقيل بنقضِ النَّومِ مطلقًا على أي هيئةٍ وعلى أي صفةٍ كان، وقيل بالنَّقْضِ للمُتكئِ والمضطَجِعِ، أمَّا الجالسُ فلا نَقْضَ عَلَيهِ.
والرَّاجحُ عندَ شيخِنا القَنُّوبيِّ -حفظهُ الله- أنَّ النومَ الناقضَ هو النَّومُ الذِي لا يَشعرُ صاحبُهُ بخروجِ شَيءٍ حتى ولوْ كانَ جالسًا[93]، وإلى هذَا الرأيِ ذهبَ غيرُ واحدٍ مِن علمائِنا -رحمهمُ اللهُ-[94]؛ وذلكَ لأنَّ النَّومَ ليسَ حدثًا ناقضًا بنفسِهِ وإنما بما يُؤدِّي إليهِ، ولأنَّ الإنسانَ قد ينامُ نومًا عميقًا في جلوسِهِ فلا يُحسُّ لما يَعرضُ لهُ؛ قال e: "العَيْنَانِ وِكَاءُ الدُّبُرِ"[95].


لَطِيفَةٌ أُخْرَى

وفي هذَا السَّياقِ حدَّثَنا بعضُ أفاضلِ عَصرِنَا أنَّ بعضَ العلماءِ -مِمَّنْ كانَ يقولُ بعدمِ نقضِ الوضوءِ لمَنْ نامَ جالسًا- جلسَ يومَ الجمعةِ بجوارِ رَجُلٍ، فأخذتِ الرجلَ غَفْوةٌ فناَمَ على جلستِهِ تلكَ حتى أحدثَ، فقالَ لهُ العالمُ: اذهبْ وتوضأْ فقدْ خرجتْ مِنكَ ريحٌ، فأنكرَ الرجلُ ذلكَ، وكرَّرَ عليهِ العالمُ الطلبَ، فقالَ الرجلُ: بلْ خرجَتْ منكَ أنتَ.!! والله المستعانُ.


خُلاصَةٌ

يَقُولُ الإِمَامُ السَّالِمِيُّ -رَحمَهُ اللهُ- في مدَارِجِ الكَمَالِ[96]
وَنَقْضُهُ بِخَارِجٍ مَعْلُومِ*** مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوِ الحُلْقُومِ

كَالْقَيْءِ وَالْقَلْسِ وَدَمٍّ وَاغْتُفِرْ*** مِنْ قُبُلِ المَرْأَةِ رِيْحٌ تَنتَشِرْ

وَبِالرُّعَافِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ*** يَخرُجُ مِنْ جَسَدِهِ المَجْرُوحِ

كَذاكَ إِنْ بَاشَرَ مَا كَانَ نَجِسْ *** أَوْ لِفُرُوجِ بَالِغٍ كَانَ لَمَسْ

بِبَاطِنِ الكَفِّ عَلَى الثُّقْبَيْنِ*** بِلا حِجَابٍ أوْ عَلى الرُّفْغَيْنِ

إِنْ كَانَ فَرْجُهُ الَّذِيْ قَدْ لَمَسَا*** أَوْ مَسَّ أَجْنَبيَّةً مِنَ النِّسَاء

كَذَاكَ أَيْضًا أَنْ تَرَى عَوْرَةَ مَنْ*** لَيْسَ يَحِلُّ أنْ تَرَاهُ فَاعْلَمَنْ

وَذِي النِّسَاءُ عَوْرَةٌ كَبِيْرَةْ *** إِلا الَّذِي أُخْرِجَ لِلضَّرُورَةْ

وَجْهٌ وَكَفَّانِ وَسَائِرُ القَدَمْ ***إِلا لِمَنْ يَكُونُ مِنْهَا ذَا حُرُمْ
وَزَوْجَةُ المَرْءِ كَمِثْلِ نَفْسِهِ*** لا يَنقضُ الوُضُوءَ غَيْرُ مَسِّهِ

وَالشِّرْكُ نَاقِضٌ لَهُ إِذَا طَرَا*** وَالخُلْفُ فِي المَعَاصِي عَنْهُمْ صَدَرَا

فَيَشْمَلُ الغِيْبَةَ وَالنَّمِيْمَةْ *** وَالكِذْبَ وَالصَّغِيرَةَ الذَّمِيمَةْ

وَيَنْقُضُ الإِغْمَاءُ وَالجُنُونُ *** وَالنَّوْمُ إِذْ مُضْطَجِعًا تَكُونُ


فَصْلٌ في المسْحِ علَى الجَبِيرَةِ

الجبائرُ هيَ ما يوضعُ مِنَ اللَّفائِفِ أو الضَّمَائِدِ علَى مَواضِعِ الجروحِ حتى تصحَّ وتشفَى، وقدْ رخَّصَ الشَّرعُ الشَّريفُ في المسْحِ علَيها بدلاً مِنْ غُسلِها رفعًا للحَرَجِ ودفعًا للمشقَّةِ، قال تعالى: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج{الحج: ٧٨.
والأصلُ الشَّرعيُّ للمَسحِ علَى الجبائرِ ما ثبتَ عنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -كرَّمَ اللهُ وجهَهُ-:" أنهُ انكسَرَ إِحدَى زندَيْهِ فسَأَلَ النَّبِيَّ r أنْ يمسَحَ على الجبائرِ، قالَ لهُ: (( نَعَمْ ))"[97].


مَسْأَلَةٌ

غُسْلُ الرِّجلَينِ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ وركنٌ مِنْ أركَانِهِ لنَصِّ آيةِ الوُضُوءِ علَى ذلكَقال تعالى: }وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ{المائدة: ٦، وعليهِ فلا يُجزِي مسحُهُما أو المسحُ على الخُفين بعد أنْ نزلتَ آيةُ المائدةِ التي هيَ آخرُ القرآنِ نُزولاً، سواءً كان ذلكَ في سفرٍ أو في حضرٍ، وما رُويَ في المسحِ على الخُفينِ فهوَ محمولٌ على ما قبلَ المائدةِ، فحُكمُهُ النَّسْخُ؛ ولذلكَ قالَ ابنُ عباسٍ{:" ما رأيتُ رسولَ اللهِ e مَسَحَ على خُفِّهِ قطُّ"[98].
على أنَّ ما رُويَ في المسْحِ علَى تقديرِ ثبوتِهِ فهوَ آحادٌ لا يُعارِضُ القطعيَّ المتواترَ مِنَ القرآنِ الكريمِ[99]، وإلى هذَا الرأيِّ ذهبَ طائفةٌ كبيرةٌ منْ صحابةِ رسولِ الله e؛ ولذلكَ شدَّدتِ السَّيدةُ عائشةُ<فقالتْ:"لأنْ أحملَ السِّكينَ على قدَمِي أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أمْسَحَ على الخُفَّينِ"[100].

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس

رد مع اقتباس