منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - تفسير سورة البقرة...للشيخ العلامة محمد بن يوسف اطفيش
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 02-24-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
رقم العضوية : 176
تاريخ التسجيل : Oct 2010
مكان الإقامة : ابراء
عدد المشاركات : 493
عدد النقاط : 20

cdabra غير متواجد حالياً



الآيات ( 75 - 91 )

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{ أَفَتَطْمَعُونَ } إنكار للياقة الطمع ، العطف على قست ، والهمزة من جملة المعطوف ، أو على مقدر بعد الهمزة ، والخطاب للمؤمنين ، قيل ، والنبى أيضاً ، أى تحسبون أن قلوبهم صالحة للإيمان فتطمعون ، وقيل للأنصار ، وفى ذلك تشديد العقاب ، ويقال ، الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، لأنهم يطمعون فلا حاجة ولا دليل على أن الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع تعظيماً ، كما هو قول ابن عباس .

{ أَنْ يُؤمِنُوا } أى فى أن يؤمن اليهود ، أى ينقادون { لَكُمْ } ، أو يؤمنوا لأجلكم ، والواو لليهود فى المدينة وما قرب منها ، كيف تطمعون فى إيمانهم مع ما فيهم من موانع الإيمان ، تحريف الحق مع العلم به فى طائفة من الأحبار ، ونفاقهم إليكم بظاهر الإيمان وإخلاص الكفر ، إذا خلا بعض ببعض فى طائفة ، وتحذير بعض بعضا عن التحدث برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المذكورة فى التوراة فى طائفة واعتقاد الباطل توراة فى طائفة ، وكتابة كلام يقولون إنه من التوراة ، وليس منها ، فى طائفة .

وأشار إلى ذلك كله بقوله { وَقَدْ كَانَ } إلى قوله إلا يظنون ، أى طمعكم فى إيمانهم وبعيد ، والحال أنه قد كان { فَرِيقٌ } طائفة ، أحبار تفرقوا طوائف { مِّنْهُمْ } ممن حضروا وأسلافهم { يَسْمَعُونَ كَلَمَ اللهِ } فى التوراة ممن قرأ من كتاب الله ، أو رأه بعينه ، وفهمه ، والمراد القرآن { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } يردونه فى ظرف غير ما هو فيه بمحوه أو إسقاط بعضه أو زيادة ما يفسد به ، أو تفسيره بخلاف ما هو عليه { مِنْ بَعْدش مَا عَقَلُوهُ } فهموه حقّا وأنه من الله .

{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنه حق ، وأنهم مبطلون ، وأنه من الله ، وأنهم كاذبون فى التحريف ومبطلون فيه ، فقد يحرف المرء شيئاً ولا يعلم أنه مبطل فى تحريفه ، وما مجملة ولا حاجة إلى جعلها تأكيداً فى المعنى لقوله عقلوه ، ومن ذلك تبديل ما فى التوراة من الرحم بالتسخيم وتسويد الوجه وما فيها من أنه صلى الله عليه وسلم أبيض ربعة بأنه أسمر طويل ، وأنهم طلبوا أن يسمعوا كلام الله تعالى كموسى ، فأمرهم أن يتطهروا ويلبسوا ثياباً نظيفة فأسمعهم فزادوا ، أنه قال لهم ، إن شئتم فلا تفعلوا ، وهم السبعون الذين اختارهم .
--------------------------------------------------
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
{ وَإِذَا لَقُوا } أى اليهود ، إذ القائل منهم ، لا كل فرد ، أو إذا لقى منافقوهم ، والمراد أشرار علمائهم ، ومن معهم من العرب كعبد الله بن أبى { الَّذِينَ آمَنُوا قَالُواْ ءَامَنَّا } بمحمد رسولا مبشراً به فى التوراة ، وأنكم على الحق فى اتباعه ، وهذا إلى قوله ، أفلا تعقلون داخل فى توبيخ المؤمنين على الطمع فى إيمانهم ، أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا . . . إلخ ، وإما وبخهم على ذلك الطمع ، لأن الطمع تعلق النفس بإدراك المطلوب تعلقا قويا ، وهو أشد من الرجاء ، فشدد عليهم فيه ، لأنه ربما يؤدى إلى ملاينة لا تجوز.

{ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } أى رؤساؤهم الذين يصرحون بالكفر ولم ينافقوا ، أى قالوا لمن نافق منهم . قام النبى صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال ، يا إخوان القردة ، يا إخوان الخنازير وعبدة الطاغوت ، فقالوا : ما أخبر بهذا محمداً إلا أحد منكم أتحدثونهم . . . إلخ ، كما قال { أَتُحَدِّثُونَهُمْ } أتحدثون المؤمنين ، وهذا توبيخ على ماض مستمر ، فهو موجود فى الحال إذ اعتقدوا أن منافقيهم لم يقطعوا نياتهم عن التحديث والتوبيخ ، رفع على ماض وحاضر ، أو صورا حالهم الماضية من التحديث بصورة الحاضر .

{ بِمَا فَتَحَ } به { اللهُ عَلَيْكُمْ } أنعم به عليكم من العلم برسالة محمد فى التوراة وصفاته ، والإيجاب على الأنبياء أن يؤمنوا به ، أو قضى عليكم به ، أو أنزله عليكم بوساطة موسى ، أو بينه لكم كما يقال : فتح على الإمام ، إذا ذكر ما توقف عنه ، وذلك الأمر قبل بيانه كالشىء المغلق عليه ، وبعد بيانه كالشىء المفتوح عليه ، فذلك إقرار منهم بأن الله قضى عليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليهم رسالته ، وتفسيره بالإنزال معنوى.

{ لِيُحَاجُّوكُم } ليحاجوكم حجّاً عظيما ، والمفاعلة مبالغة ، لا على بابها { بِهِ } بما فتح الله عليكم فيغلبوكم ، والللام لام العاقبة مجاز على التعليل ، أى فيكون المآل أن يخاصموكم به { عِنْدَ رَبِّكُمْ } فى الآخرة ، بأن يشهدوا عليكم بإقراركم بأن الله حكم علينا ، أى قضى بأن نؤمن بمحمد وكتابه فستقام عليكم الحجة بترك اتباعه مع إقراركم بصدقه ، وهو متعلق ليحاجوا.

{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } عطف على أتحدثونهم ، أو يقدر ، ألا تتأملون فلا تعقلون أنهم يحاجونكم يوم القيامة بأن محمداً رسول الله فى التوراة ، وذلك من جهلهم ، فإنهم يوم القيامة محجوبون بما فى التوراة ، حدثوا المؤمنين به أم لم يحدثوا ، وإن رجعنا هاء به للتحديث ، أى ليحاجوكم بتحدثكم بأن يقول المؤمنون ، ألم تقولوا لنا إن محمداً رسول الله فى التوراة كان المعنى أنه اشتد عليهم أن يحاجوهم بالتحديث ، ولو كانوا لا ينجون مع من قطع العذر ، ولو لم يحدثوهم إلا أنه يضعف رد الهاء للتحديث بقوله :

{ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } عطف على ما قبل ، أو يقدر ، أيلومونهم ولا يعلمون { أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } مطلقا ، ومنه إسرارهم الكفر ، وصافت الله ، وصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا يُعْلِنُونَ } مطلقا ، ومنه إظهارهم الإيمان فإنه أنسب بردها إلى ما فتح الله ، وأيضاً قد يمكنهم إنكار التحديث ، لا ما فتح عليهم والمشركون قد يحققون ما علموا أن الله عالم به لفرط دهشتهم ، وذلك فى الآخرة ، كقوله تعالى { والله ربنا ما كنا مشركين } وقوله « أخرجنا منها » وقد علموا فهم لا يخرجون ، فينكرون التحديث ، ولو علموا أن الله عالم به ، ويجوز أن يكون ، أفلا تعقلون كلام الله للمؤمنين ، لا من كلام اليهود ، كما أن ، أولا يعلمون . الآية من كلام الله ، أى أفلا تعقلون أنه لا مطمع فى إيمانهم .
-------------------------------------------------
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{ وَمِنْهُمْ } من اليهود { أُمِّيُّونَ } لا يكتبون ولا يقرأون الكتابة ، كأنهم فى جهنم ولدتهم أمهاتهم ، أو أنهم باقون على أصل خلقهم ، أو من العرب الذين لا يكتبون ولا يقرأون المكتوب ، أو من أم القرى مكة وأهلها ، لا يقرأون الكتابة ولا يكتبون { لاَ يَعْلَمُونَ } لا يعرفون { الْكِتَبَ } التوراة أو الكتابة فهم عوام ، رسخ التقليد فى قلوبهم فكيف تطمعون أن يؤمنوا { إِلاَّ أَمَانِىَّ } أى لكن يعتقدون أمانى ، أى أكاذيب ، فالاستثناء منقطع ، أو لا يعلمون المكتوب إلا مكتوبا مكذوبا فيه ، أو إلا كتابا يقرأونه بلا معرفة معنى ، لأن الأمانى بالشد والتخفيف بمعنى ما يقدر فى النفس ولو كذبا ، وبمعنى ما يتمنى ، وبمعنى ما يقرأ ، فالاستثناء متصل ، وذلك أنهم تلقوا من رؤسائهم المحرفين أكاذيب ، أو كتبا كتبوها لهم مكذوبا بها ، مثل ، أن النبى صلى الله عليه وسلم الموعود به أسود أحول ، قطط الشعر ، قصير أو طويل بدل ربعة ، وغير ذلك مما هو ضد صفته صلى الله عليه وسلم ، وأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة ، ونحن أبناء الله ، وأحباؤه.

{ وَإِنْ هُمْ } ما هم { إِلاَّ يَظُنُّونَ } فى جحود محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه ، والمراد بالظن خلاف العلم ، فتناول لاعتقاد الجازم غير المطابق ، لا الظن المشهور الذى هو الاعتقاد الراجح مع تجويزظ المقيض ، طابق الواقع أو لم يطابق ، لأن بعضهم جازمون بالاعتقاد الفاسد ، وجاهلون جهلا مركبا وبعضهم جاهل أمى ، مقلد للجاهل جهلا مركبا ، فالضمير لليهود مطلقا ، والقسم الثالث العارف بالحق داخل فى ذلك ، لأن لفظ الجازم بالإنكار ، وهو ظان ، أى غير قابل بالعلم ، ويجوز عوده للأميين .
---------------------------------------------------
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{ فَوَيْلٌ } هلاك ، أو واد فى جهنم ، لو وقع فيه جبل لذاب وسال ، أو واد فى جهنم يهودى فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ، كما ذكرته فى وفاء الضمانة { لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ } ذكر الأيدى مع أن الكتابة لا تقع إلا باليد تأكيدا لقبح فعلهم ، كما أكد فى قوله تعالى { يطير بجناحيه } { يقولون بأفهواههم } وأيضاً قد يقال ، كتب فلان وهو لم يكتب بيده ، بل كتب له غيره ، ووجه آخر معناه ، نفى أن يكتبه كاتب قبلهم ، فهو مختلف من عند أنفسهم.

{ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا } أى هذا الكتاب { مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ } يستبدلوا { ثَمَناً } ما به الشراء ، أو الشراء على ظاهره ، والثمن المثمن ، أى مثمناً { قَلِيلاً } بالنسبة إلى ما باعوا من دينهم ومن الجنة ، خاف رؤساء اليهود على ز وال ملكهم حين قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة ، فبدلوا صفة النبى صلى الله عليه وسلم بضدها إثباتا لرياستهم ، ولما يعطيهم سفلتهم وعامتهم { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ } أى كسبته { أَيْدِيهِمْ } أو من كتابة أيديهم { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } من سائر شركهم وبدعهم وكبائرهم وصغائرهم ، ومن كبائرهم أخذ الرشا ، وهم أربع فرق : محرفون : ومنافقون ، ومانعون من إظهار الحق ، وجاهلون مقلدون .
--------------------------------------------------
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ } كناية عن دخولها { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } أى قليله ، وكان الحساب فى العرب عزيزاً ، فصاروا يعبرون عن القليل بالعدد ، لا يألفهون عد الكثير وقوانين الحساب ، والقائلون لن تسمنا النار إلا أياماً معدودة يهود المدينة ، وهم نشأوا على العربية ، وكلامهم فيها حجة ، فقالوا معدودة مكان قليلة ، وهى مقدار عبادة أبائهم العجل أربعين ، زعموا أن الأربعين مدة جعلها الله عذاباً لآبائهم ولهم ، وقال من قال : نعذبه سبعة أيام عدد الأسبوع ، وأنه سبعة آلاف سنة ، رجع إلى سبعة أيام ، يوم مكان ألف سنة.

{ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ } بهمزة مفتوحة ثابتة وصلا ، حتى إنه نقل فتحها اللام فيه ووقفا للاستفهام الإنكارى أو التقريرى على معنى التخطئة ، فهو فى معنى التوبيخ ، أو نزلة منزلة الاستفهام الحقيقى { عِنْدَ اللهِ عَهْداً } علماً يوثق به أنكم تعذبون أياماً معدودة { فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ } عطف على مدخول الهمزة ، كقوله تعالى { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } وقوله تعالى : { أفمن وعدناه وعداً حسناً ، فهو لاقيه } وذلك بمرتبة المضارع المنصوب فى جواب الاستفهام ، إلا أن النصب هنا بلن ، كأنه قيل ، اتخذتم عند الله عهداً فيوفى لكم به ، وينصب يوفى ، ولا حاجة إلى تقدير الشرط هكذا : إن اتخذتم عند الله فلن يخلف الله عهده ، بمعنى أىّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم على الله ما لا تعلمون ، خرج ذلك مخرج للتردد فى تعيينه على سبيل التقرير .

والنبى صلى الله عليه وسلم عالم بوقوع أحدهما ، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين { أَمْ } متصلة عطفت جملة ، لأنه تعطف المفرد والجملة ، أو حرف ابتداء منقطعة بمعنى بل ، وهمزرة الإنكار . وهكذا ما أشبهه ، والمنقطعة حرف ابتداء وإضراب ، وتقدر ببل والهمزة ، أو بل أو بالهمزة ، وإذا كان الاستفهام بعدها فبمعنى بل فقط ، وإذا لم تصلح بل وحدها حمل الكلام على آلهتكم إن قدرت ، كقوله تعالى { أم كنتم شهداء } أى بلى كنتم شهداء ، فإنهم لم يكونوا شهداء ، أو يقدر ، بل تقولون عل مقتضى دعواكم ، أنكم كنتم شهداء . { تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } بل أنتم فيه جاهلون من دعوى الخروج من النار ، وتقليل المدة .
---------------------------------------------------
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{ بَلَى } تمسكم النار مع الخلود فيها ، واحتج عليهم بما قضى فى الأزل وكتب فى اللوح المحفوظ من قوله { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } ذنباً كبيراً أو صغيراً أصر عليه ، فالسيئة تشمل الشرك وما دونه ، ولا دليل على تخصيص الشرك ، ويدل على ما قلت قوله فى أهل الجنة ، وعملوا الصالحات ، وقومنا مجتمعون معنا على أن الإصر محبط للأعمال الصالحات ، ودعوى أنه يحبط ثواب الأعمال ويبقى ثواب التوحيد ، أو دخول الجنة لا دليل عليها ، والله يقول { وعملوا الصالحات } ومن أين لهم أن يقولوا بلا عمل للصالحات ، وحديث دخول الجنة بمجرد التوحيد محمول على ما قبل أن تفرض الفرائض ، وقد قال بهذا بعض سلفهم كما بينته فى وفاء الضمانة بأَداء الأمانة ، ومن شأن السيئة غير المتوب منها أن تجر سيئات ، وهو قوله { وَأَحَطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } سيئاته ، أو أشار إلى أنه لما لم يتب عن السيئة لم تغفر له صغائره لإصراره أحدقت به من كل جانب إذا لم يتب منها كلها ، ولو تاب من بعضها ، وقيل : لا يعاقب على ما تاب منه ، وهو قول لا بأس به ، فيحيط به ما لم يتب منه ولو واحدة .

{ فَأُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } لا يخرجون منها ، المشركون والفاسقون ، والأصل فى الخلود الدوام ، وحمله على المكث الطويل إنما يصح لدليل ، ولا خلاف فى دوام المشرك فىلنار ، ومعنى إحاطة الخطيئة به أنها أهلكته إذ لم يتخلص منها بالتوبة ، وليس المراد أنها به معنى أنها فى قلبه وجوارحه ، فلا دليل فى الآية على أن الخلود إنما هو لمن عمت قلبه بالشرك لأنا إذا صرنا إلى معنى تعميم البدن بالمعصية ورد علينا أن من جسد الكافر ما لم تصدر منه معصية ، مثل عنقه وأ'لى صدره إذا لم تصدر منهما .
--------------------------------------------------
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ } شامل للتقوى ، إذ ترك المعاصى من الأعمال الصالحات ، وهكذا حيث لم يذكر التقوى مع العمل الصالح وذلك أولى من حمل المطلق على المقيد بالتقوى فى الآى الآخر ، أو يقدر ، وعملوا الصالحات واتقوا ، وكذا فى سائر القرآن ، فلا دليل فى الآية على أن العمل الصالح قد ينجو صاحبه مع عدم التوبة من الذنوب { أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } دائمون ، وخلود أهل النار فيها ، وأهل الجنة فيها دوام .
---------------------------------------------------
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَ بَنِىّ إِسْرَاءِيلَ لاَ تَعْبُدُون إِلاَّ اللهَ } إما مفعول لأخذنا لتضمنه معنى قلنا ، واللفظ نفى ، والمعنى نهى ، وحكمته الحث على المسارعة للامتثال ، حكى أنه قد امتثل فأخبر عنه ، وصونا للكلام عن الكذب إن كان بصيغة الإخبار فلم يمتثل فلا حاجة إلى تقدير قلنا ، ووجه ذلك ، أن أمر الله عز وجل بشىء أو نهيه عنه أخذ للميثاق ، ولو لم يقل المأمور والمنهى نعم ، وإما جواب للقسم الذى هو الميثاق ، ومقتضى الظاهر على هذا لا يعبدون بالتحتية ، وإما تفسير لأخذ الميثاق ، وهكذا فيما يأتى من القرآن تتصور فيه هذه الأوجه.

{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَناً } أى أحسنوا ، أو تحسنون بالوالدين إحساناً أى أحسنوا ، أو استواصوا بالوالدين ، أى بالوالد والوالدة ، فغلب المذكر ، ويبعد تفسير الميثاق هنا بميثاق ألست بربكم ، والآية مفصحة بعظم الإحسان إلى الوالدين ، إذ قرن بطاعة الله تعالى.

{ وَذِى الْقُرْبَى } القرابة كالرجعى بمعنى الرجوع { وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ } أحسنوا إلا هؤلاء بالمال والخدمة والنفع بالجاه والبدن والرفق وتعليم العلم ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وهم على ذلك الترتيب ، فالله أحق ، لأنه الخالق المنعم ، وحقه أعظم من كل حق ، ثم الوالدان لأنهما سبب وجود الولد ، ومتلقيان المشاق فى الولد ، ثم ذو القربى ، لأنه بواسطتهما ، والرضاع لُحمه كالحمة النسب ، ثم اليتيم لأنه أصعف لصغره من المسكين ، مأخوذ من اليتيم بمعنى الانفراد ، كدرة يتيمة ، وهو من بنى آدم من مات أبوه قبل بلوغه ، ولا يتم بعد بلوغ ، ومن الدواب من ماتت أمه ، وفى الطير من ماتا عنه ، وقد يطلق على من ماتت أمه من الآدميين ، وأفرد الغريب لأن القربى مصدر يصلح للأكثر ، فتبعه المضاف ، وهو ذى ، والإشارة إلى أنهم كواحد ولو كثروا فلا تقصروا فى حقهم .

{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } بضم فإسكان ، أى حسنا بفتحهما ، أو ذا حسن ، وهو الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وتعليم الجاهل ، والصدق فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، والدعاء إلى التوحيد ، والرفق بهم بما يحبونه مما لا معصية فيه ليذعنوا ، وليس مما ينسخ.

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ } المفروضة عليكم فى التوراة { وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ } على ما فرض عليكم فيها ، وهو ربع المال ، تنزل النار فتحرقه ، أو تأخذه ، أو شىء كالنار ، وذلك علامة قبوله ، ولا تحرق الحيوان ، وهذا خطاب لأوائلهم المأخوذ عليهم الميثاق ومن بعدهم ، والكلام فى ذلك لا فى المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن معاصريه تجب عليهم الصلاة والزكاة على ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم ، أمرناكم بما ذكر من إفراد الله بالعبادة ، وما بعده إلى إيتاء الزكاة ، وقبلتم { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } عن الوفاء.

{ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } وهو من اتبع التوراة والإنجيل قبل البعثة كعبد الله بن سلام { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } عن الوفاء . والآية كقوله { ولى مدبراً } وقيل ، التولى الانصراف لحاجة مع ثبوت العقد ، والإعراض الانصراف بالقلب ، وقيل التولى الرجوع إلى ما كان أولا ، والإعراض أخذ طريق آخر .

والخطاب لمن قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجيز أن يكون الخطاب بقوله « وأنتم معرضون » لمعاصريه ، أو المعنى معرضون عن الفكر فلا تأكيد ، أى وأنتم معرضون عن الوفاء بعهد التوراة ، والإنجيل قبل البعثة وقد وجب عليكم اتباعهما ، وعن الوفاء بالقرآن بعد البعثة ، وقد وجب عليكم اتباعه بعدها ويضعف أن يقال ، معرضون عن الغضب على المتولين ، أو عن القليل الذين لم يتولوا ، بأن لم توالوهم وتحبوهم ، والأولى أن الخطاب للآباء ، لأن ما قبله وما بعده لهم ، باعتبار آبائهم ، وهو قوله :

{ وَإِذْْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ } أى اذكروا وقت أخذ العهد على آبائكم { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أى لا يقتل بعضكم بعضاً ، أو لا تقتلوا أمثالكم . وجاءت العبارة بذلك ، لأنهم كنفس واحدة ، نسبا ودينا ، فمن قتل غيره كأنه قتل نفسه ، وأيضاً هو كمثل قتل نفسه بالقصاص لأنه تعرض لأن يقتص منه ، وكذا فيما أشبه هذا { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } لا يخرج بعضكم أنفس بعض ، أو من أخرج أخاه كمن أخرج نفسه ، لأنهم إخوة دينا ونسبا ، أو لا تفعلون ما يوجب سفك دمائكم ، وإخوانكم من دياركم ، أو لا تهلكون أنفسكم بالمعاصى ، كمن قتل نفسه ، بحيث لا يلتذ ، كميت ، إذ كان لا ينال لذات الجنة ، ولا تصرفونها عن دياركم فى الجنة .

{ ثُمَّ أََقْرَرْتُمْ } اعتزمتم بأن ذلك الميثاق حق ، فقبلتموه ، ومن لازم ما يقربه أنه حق أن يقبل ، وثم لترتيب الأخبار باتصال ، أو فى الرتبة بالتراخى لأن رتبة الإقرار أقوى { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } على أنفسكم ، تأكيد لأقررتم فى المعنى ، أو أقررتم قبلتم وأنتم تشهدون على القبول ، أو أنتم معشر المعاصرين له صلى الله عليه وسمل تشهدون على إقرار أسلافكم لتوسط الأنبياء والرواة إليكم بينكم وبينهم ، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد الإجلاء والقتل منهم مع أن أخذ العهد والميثاق كان من أسلافهم .
--------------------------------------------------
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ ثُمًَّ أَنْتُمْ } يا معاصرى محمد صلى الله عليه وسلم { لَهَؤُلاَءِ } أخص هؤلاء ، أو يا هؤلاء ، أو أنتم المشار إليهم المعهودون ، كأنه قيل بماذا فأجيب ، بما بعد ، وأجاز الكوفيون ، أن هؤلاء بمعنى الذين ، فتكون صلته هى قوله { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فََرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَرِهِمْ } وذلك الإخراج بالاستعانة عليهم ، كما قال { تَظَهَرُونَ } تتعاونون { عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ } فعل ما يستحق به الذم ، أو نفس هذا الذى يستحق به الندم ، أو ما ينفر عنه { وَالْعُدْوَانِ } الظلم الشديد.

{ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ } ذلك الفريق الذين تخرجونهم من ديارهم وقت الحرب { أُسَرَى تُفَدُوهُمْ } بالمال أو بغيره ، كالرجال العرب فى المدينة وأعمالها : الأوس والخزرج واليهود قريظة والنضير ، وبنو قينقاع ، وكان بين الأوس والخزرج حروب ، فكانت اقريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج ، ولم يكن بين اليهود محالفة ولا قتال ، وإنما يقاتلون لحفائهم ، فإذا أسرت الأوس والخزرج يهوديا فداه النضير وقريظة جميعا .

وفى الحرب يقتل القريظى النضيرى والنضيرى القريظى ، ويخرب بعضهم دار بعض ، ويخرجه منها معاونه لحفائهم ، يقال لهم ، ما هذا؟ فيقولون ، القتل والإخراج لأجل حلفائنا ، لانستذلهم ، وهو مخالف لما عهد فى التوراة ، ولذلك نفاديهم ، لأنا أمرنا بالفداء ، فأحلوا بعضا وحرموا بعضا ، فكأنهم حرموا جميعا ، وأما بنو قينقاع فلم يقتلوا ولم يخرجوا أحداً من داره ، ولم يظاهروا ، وضرب الجزية عليهم لأنهم لم يؤمنوا وبقوا فى ديارهم.

{ وَهُوَ } أى الشأن { مُحَرَّمٌ } خير مقدم { عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } مبتدأ ، أى الشأن أن إخراجهم من ديارهم محرم عليكم ، كما عاتبهم بقوله ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، حرم الله عليهم إخراج إخوانهم وقتلهم فى التوراة ، وفيها بعد ذلك ، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه بكل ما وجدتم واعتقوه .

{ أَفَتُؤمِنُونَ } أتتعدون الحدود فتؤمنون { بِبَعْضِ الْكِتَبِ } التوراة ، وبعضها هو نداء من وجدوه منهم أسيراً عند الأوس والخزرج { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ببعض الكتاب ، وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة ، وهم لم يتركوا القتل ، إذ يقتلون بعضهم بعضاً فى الحرب ، معاونة لحفائهم ، ولم يتركوا الإخراج ولا المظاهرة ، وفى الآية تنزيل ترك العمل بالكتابة منزلة الكفر ، أى الشرك فإنهم آمنوا بالتوراة كلها ، لكن نافقوا ، ومن لازِم لإيمان بالشىء العمل بمقتضاه بذلك ويحتمل أن ذلك فى دينهم شرك ، وفيه أن الشرك لا تختلف الشرائع فيه ، قيل : أو سمى ذلك شركا مبالغة ، أو المراد بالكفر كفر الجارحة وهى الفسق ، وقيل عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عادة قريظة القتل ، وعادة النضير الإخراج ، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير وقتل قريظة ، وأسر نساءهم وأطفالهم ، جازى كلا بما كان يفعل.

{ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ } ذل { فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا } بقتل سبعمائة من قريظة فى السنة الثالثة عقب الأحزاب ، وأسر نسائهم وأطفالهم وضرب الجزية على باقيهم ، وضرب الجزية على بنى النضير ، ثم إجلائهم إلى الشام ، ولا جزية عليهم بعد الإجلاء ، لأن الشام فتح بعده صلى الله عليه وسلم ، ولو كان قد تصرف فى بعضه بالتمليك.

{ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } هو أشد مما لقوا فى الدنيا ، وفى القبر ، فلا يرد أن المنكر لله ، وعبدة الأصنام أشد منهم عذاباً ، إلا من كان منافقاً ، بإضمار نوع من الشرك أو بإسرار إلى بعض ، فإن عذابه فى الدرك الأسفل .

والمراد التصيير إلى عذاب أشد ، لا إلى عذاب كانوا فيه ، ولا شك أن عذاب النار أشد من عذاب القبر وعذاب الدنيا ، وزاد أيضاً بالدوام ولا يتصور أن عذاب النار لله دون عذاب اليهود والنصارى والفاسق ، بل أعظم { وَمَا اللهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فهو لعلمه بما عملوا يجازيهم على كل صغيرة وكبيرة ، وصغائر المشرك كلها كبائر .
---------------------------------------------------
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الحَيَوةَ الدُّنْيَا } لذتها ومتاعها { بِالآخِرَةِ } فباعوا ما لهم فيها من الخير بالدنيا ، بأن ضيعوا دينهم لأجل تحصيل الدنيا { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فى الآخرة أو فيها وفى الدنيا { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } يمنعون منه ألبنة ، أو لا ينصرون بترك الجزية .
---------------------------------------------------
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتابَ } المعهود التوراة ، أو الجنس ، فيشمل الصحف المنزلة عليها قبلها { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } التشديد للمبالغة ، والباء للتعدية ، والمفعول محذوف ، أى فقرناه ، بتخفيف الفاء ، بالرسل ، أى تبعناه بالرسل أى اتبعناه الرسل ، وهذا أولى من جعل التشديد للتعدية إلى آخر ، والباء صلة ، أى قفيناه الرسل ، لأن كثرة مجيئه فى القرآن تبعد هذا ، والرسل يوشع وشمويل وشمعون ، وداود وسليمان ، وشعيا ، وأرميا ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، واليسع ، يرنس وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم ، ويقال : عدد الأنبياء بين موسى وعيسى عليهم السلام سبعون ألفا ، وقيل أربعة آلاف ، وكلهم على شريعة موسى عليه السلام ، وبينهما ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وعشرون سنة ، ولا حجة لهذه الأعداد ، والعلم عند الله ، ومعنى اتباع الرسل من بعده الإتيان بعده برسول وبآخر بعده ، وباثنين فى زمان وبثلاثة فى آخر ، وما أشبه ذلك من انفراد رسول بزمان ، ومن تعدده فى زمان ، كما مر أنهم قتلوا سبعين نبيّاً فى يوم واحد ، وروى أنه لم يطق موسى أن يحمل التوراة فأعانه الله على حملها بملائكة عدد حروفها ، فلم يقدروا ، فخففها الله بالنقص فحملها ، ويبعد ما قيل : إن المراد بإيتاء التواره إفهامه معانيها له.

{ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } لفظ عيسى سريانى أو عبرانى ، قولان ، كما هو مراد القاموس بأو على عادته ، وليس ترديداً ، أو هو معرب من إيسوع بهمزة بين بين ، أو مكسورة ، ومعناه ، المبارك أو السيد ، وقيل أليشون بالشين المعجمة ، أبدلت سينا ، ومريم بالسريانة الخادم ، سميت لأنها أريد بجنين هوهى أن يكون خادماً لبيت المقدس لو كان ذكراً ، أو معنى مريم العابدة ، والعبادة خدمة لله عز وجل ، وفى لغة العرب : مريم المرأة تحب التكلم مع الرجال وخالطتهم ، وعليه فمعنى مريم المرأة أو عليه فمعنى مريم المرأة التى تحب ذلك ، كقولهم للأسود : كافوراً ، وقيل تتحدث معهم ولا تفجر ، وقيل : من شأن من تخدمها الرجال والنساء أن تتحدث معهم ، فسميت بذلك.

{ الْبَيِّنَتِ } المعجزات ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالغيوب ، وليس المراد الإنجيل كما قيل ، لأن اليهود كفروا به ، قائما يقمعون بتلك المعجزات ، والآية فى قمعهم وذكر عيوبهم ، إذ لم يستقيموا مع المعجزات ، لا بالإنجيل لأنه ليس معجزا ، وخص عيسى مع أنه من الرسل بعد موسى لأنه جاء بالإنجيل ناسخاً لبعض التوراة ، فلم يكن كن قبله من أتباع موسى.

{ وَأَيَّدْنَهُ } قويناه { بِرُوحِ الْقُدُسِ } جبريل ، يسير معه حيث سار ، مقارنا له من حين ولد إلى أن رفعه الله إلى السماء ، ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وسمى جبريل روحا تشبيها بروح الإنسان مثلا فى أن كلا جسم لطيف نورانى ، وأن كلا مادة للحياة ، فما يجيء به جبريل من الوحى لحياة القلوب ، كالروح لحياة الأبدان ، وأضيف للطهر لطهارة عن مخالفة الله عز وجل ، قيل خص ، أى عيسى ، بذلك اللفظ لأنه من ولادته كحاله بعد الرسالة وقيل من بطن أمه ، ولا تقل ، ذلك من إضافة المنعوت إلى النعت ، وأن الأصل الروح المقدسة ، أو ذات القدس ، من إضافة الشىء إلى حال من أحواله ليخص به ، أو ليعرف ، أو يمدح ، أو لنحو ذلك ، أو روح القدس روح من ملك الله ، أو روح عيسى أضيفت للقدس لعظم شأنه ، أو لأنه منزه عن مس الشيطان ، فتنزيهه لروحه ، أو أضيفت إليه لكرامته على الله ، أو لأنه لم يكن فى رحم حيض ، وقيل حاضت حيضتين ، وحملته ذات عشر سنين ، أو ثلاثة عشرة أو روح القدس الإنجيل ، كما قال الله فى شأن القرآن « أوحينا إليك روحا من أمرنا » أو اسم الله الأعظم ، كما أن القدوس اسمه ، وقيل : القدس اسمه والاسم الأعظم غيره ، وقيل : إنه اسمه الأعظم الذى كان يحيى به الموتى ، وقيل لأنه قصده سبعون ألف يهودى لقتله ، فطيره الله عنهم.

{ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ } أفعلتم ما فعلتم ، أو أكفرتم ، فكلما جاءكم رسول { بِمَا لاَ تَهُوَى } تحب { أَنْفُسُكُمْ } من الحق { اسْتَكْبَرْتُمْ } أى تكبرتم كل وقت مجىء رسول بما لا يوافق هواكم عن اتباعه { فَفَرِيقاً } منهم { كَذَّبْتُمْ } كعيسى ، وقدم التكذيب لأنه عام منهم لمن لم يقتلوه ولمن قتلوه ، ولأنه سبب للقتل { وَفَرِيقاً } منهم { تَقْتُلُونَ } تحقيقاً كيحيى وزكريا ، وفى قتل زكريا خلاف ، أو حكما كما قصدوا قتل عيسى فخابوا ، والمراد قتلتم ، ولكن المضارع تنزيل لما مضى من القتل منزلة الحاضر المشاهد ، أو الموجودين الآن منزلة من مضى وحضر ، لأن مشاهدة الشىء أقوى ، وخوطبوا بالقتل والتكذيب لرضاهم عن آبائهم الفاعلين لذلك ، ولأنهم يحاولون قتل النبى صلى الله عليه وسلم بإلقاء الصخرة ، وبسمّ الشاة ، قال صلى الله عليه وسلم : « ما زالت أكلة خيبر تعادينى أو تعاودنى ، فالآن قطعت أبهرى » ، فمات بقتلهم ، والجملتان عطفتا على استكبرتم لا على أيدنا كما أجازه بعض ، وقدم فريقا فى الموضعين على طريق الاهتمام ، والتشويق إلى ما بعد ، وكذا تقو . بالتشويق فى سائر القرآن ، إذا صح المقام له ، وقلت على طريق ، لأن الله عز وجل منزه عن الاهتمام ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه ، ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول .
---------------------------------------------------
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{ وَقَالُوا } للنبي صلى الله عليه وسلم استهزاء به صلى الله عليه وسلم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع أغلف ، كحمر جمع أحمر ، طبعت على أن لا يصل إليها ما يذكر لها من الوعظ والأمر والنهى ، كشىء متعظ أغلف بغطاء حسى ، فالآية تشبيه أو استعارة ، كما فى زيد أسد ، ولا يوجد فى اللغة الغلفة بمعنى الرين حقيقة ، بل مجاز ، كما أريد فى الآية ، والرين وقع فى قلوبهم تحقيقا ، وكذبوا فى قولهم خلقت لا يصل إليها ذلك ، لأنهم متمكنون من الفهم ، وأعرضوا كل مولود يولد على الفطرة ، فذلك الإعراض كان به الرين ، وبعضهم فهم الحق وجحد ، وذلك الجحود ، وذلك الفعل رين مانع عن النظر والقبول ، وترك الجحود ، أو جمع غلاف . فأصله ضم اللام سكن تحقيقا ككتاب وكتب ، أى أوعية للعلم ، فلو كان قولك حقا لوعته ، أو استغنينا بما فيها من العلم بالتوراة ، أو بسلامة الفطرة عن غيره ، كما يمنع الغلاف الزيادة { بَلْ } أى ليس كما قالوا من الخلقة على عدم الفهم ، أو امتلائها علما ، ومن عدم حقية ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم .

{ لَّعَنَهُمُ اللهُ } أبعدهم بالخدلالن عن القبول { بِكُفْرِهِمْ } أى بكفرهم السابق الذى جر إليهم قولهم ، قلوبنا غلف ، ولم تأبه قلوبهم لعدم كونه حقا ، فإنه حق ، ولكن خذلهم الله عز وجل ، أو أبعدهم عن رحمته بكفرهم هذا الذى هو قولهم قلوبنا غلف { فَقَلِيلاً مَّا } صلة لتأكيد القلة { يُؤمِنُونَ } أى يؤمنون إيماناً قليلا جدا ، لقلة ما آمنوا به ، أو لقلة من آمن ، أو زمانا قليلا ، فإن قله ما آمنوا به قلة لزمان يوقع فيه الإيمان ، ولو كثر ما أومن به لكثر زمان الإيمان ، إذ تنزل الآية فيؤمنون بها ، وتنزل الأخرى فى زمان فيؤمنون ، وهكذا ، وقلة من أمن من قلة الزمان إيقاع الإيمان ، إذ لو كثر من آمن لوقع إيمان هذا فى زمان ، وهذا فى زمان آخر ، وهكذا ، فتكثر أزمنة إيقاع لإيمان ، وأما قولهم آمنوا بالذى أنزل على الدين آمنوا وجه النهار . . . أو أراد بالذلة النفى ، كما جاء أنه صلى الله عليه وسلم يقل اللغو ، ولا مانع من ذلك ، وقيل : المراد إيمانهم حال الاحتصار تخقيقاً ، لكن لا يقبل .
---------------------------------------------------
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ } أى اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم { كِتَبٌ } هو القرآن { مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } هو التوراة وغيرها من كتب الله ، والأخبار المكتوبة ، ومعنى تصديقه إياها أنه نزل بحسب ما نعت فيها هو ، أعنى القرآن ، وما نعت فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، وما يختص ببعثته صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما لم ينسخه القرآن وليس المراد أنه موافق للكل ، والقرآن لإعجازه لا يحتاج إلى ما يصدقه.

{ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ } قبل بعثته صلى الله عليه وسلم { يَسْتَفْتِحُونَ } الله آى يستنصرونه { عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } مشركى العرب من الأوس والخزرج المجاورين لهم إذا نالوا منهم سوءا وغضبوا لدينهم قالوا ، اللهم انصرنا عليهم بالنبى المبعوث آخر الزمان ، الذى نجد صفته فى التوراة ، ويضعون أيديهم على اسمه فينصرون ، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم معاذ وبشر بن البراء ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، فقال سلام بن مشكم ، ما جاء بشىء نعرفه ، وما هو بالذى نذكره . فنزلت الآية ، أو يستفتحون يملون ويخبرون العرب أن نبيا يبعث الآن ، نقاتلكم معه قتل عاد وإرم ، كما يقال : فتح المأموم على الإمام إذا أخبره بما توقف فيه ، وكانوا يقاتلون عطفان فتغلبهم غطفان فى كل وقعة ، فكانوا يقولون ، اللهم إنا نسألك بالنبى الأمى صلى الله عليه وسلم الذى وعدتنا أن تبعثه آخر الزمان ، انصرنا عليهم فينصرون . فلما بُعث كفروا به ، فنزلت ، وكانوا من قبل يستفتحون ، الآية ، أو يستخبرون ، هل ولد.

{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ } فى التوراة وغيرها عن النبى صلى الله عليه وسلم وصفاته وعلاماته وكتابه { كَفَرُوا بِهِ } حسدا وخوفاً على زوال رياستهم وما يُعْطون ، وجواب لما الأولى يقدر كجواب الثانية تأكيداً ، أى كفروا به ، أو تأسيساً مدلولا عليه بجواب الثانية ، أى استهانوا ، أو ردوه ، أو امتنعوا ، أو نحو ذلك ، أو جوابها كفروا ، فتكون الثانية أعيدت لبعض الأولى ، كقوله « أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنك مخرجون » فأعاد أنكم ، وعلى هذا الوجه أقحمت ألفا للإشعار بأن ذلك عقب استفتاحهم قبل ، أو لما وما بعدها جواب للأولى ، كقوله تعالى { فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى . . . } إلخ ، ويرده ، أن جواب لما لا يقرن بالفاء إلا نادرا جدا ، ولا سيما أنه فعل ماض مجرد ، لأن ما ظرف للكفر ، وكفروا ومتعلقه جواب للأولى ، وكذا لا يقبل قول بعض ، أن الجواب هو قوله { فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَفِرِينَ } إذ قرن بالفاء ، وإذ هو جملة اسميه ، الذين سبقت لهم الشقاوة أن يموتوا كافرين ، وهكذا لا يدخل فى لعن الكافرين فى القرآن إلا من قضى الله أن يموت كافرا ، والمراد فى الآية الجنس أو الاستغراق ، فتدخل اليهود ببرهان أن الكافر ملعون ، وأولا وبالذات بمعنى أن الكلام سبق لهم ، وكذا كلما قلت أولا وبالذات ، أو المراد اليهود ، وعليه فذكر باسم الكفر لا بالضمير ، ذما وتصريحا بموجب اللعن .
-------------------------------------------------
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{ بِئْسَمَا اشْتَرَواْ } استبدلوا { بِهِ أَنْفُسَهُمْ } أو باعوها باختيار الكفر ، أو اشتروا أنفسهم فى زعمهم من العذاب بتصلبهم فى دينهم ، جازمين ، ولو عرفوا ما جاء صلى الله عليه وسلم به ، كما قال الله عز وجل « فلما جاءهم ما عرفوا » { أَنْ يَكْفُرُواْ } مخصوص بالذم ، أى كفرهم { بِمَا أَنْزَلَ اللهُ } من القرآن ، والكفر ماض غير مستقبل لكن قال ، أن يكفروا لاستحضار الأمر الماضى بمنزلة المستقبل المترقب ليشاهد ويعاين ، وإنا قلت ذلك ، لأن المضارع المنصوب للاستقبال ، وهذا أولى من أن يقال المضارع هنا للحال ، ليكون الأمر كالمشاهد وأنه لم تخلصه أن للاستقبال.

{ بَغْياً } طلباً لما ليس لهم ، أى حسداً أو ظلماً ، تعليل ليكفروا ، أى أيكفروا لأجل البغى ، أو تعليل لاشتروا ، ولو فصل ، لقلة الفاصل ، أو ذوى بغى ، أو باغين ، ووجه تعليقه باشتروا أن المعنى على ذم الكفر الذى أوثر على الإيمان بغياً ، لا على ذم الكفر المعلل بالبغى ، وأيضاً إبدال أنفسهم بالكفر هو لمجرد العناد الذى هو نتيجة البغى والحسد ، كأنه قيل ، بئس استبدال أنفسهم بالكفر لأجل محض الحسد { أَن يُنَزِّلَ اللهُ } على أن ينزل الله الوحى أو لأن ينزل على أنه تعليل لبغيا { مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } حسدوا محمداً على رسالته صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من العرب ، ومن ولد إسماعيل ، ولا منهم ، ولا من ولد يعقوب أو نبى من أنبيائهم .

{ فَبَاءُو بِغَضَبٍ } هو هذا الكفر { عَلَىغَضَبٍ } استلحقوه من قبل ، لتضييع التوراة ، والكفر بعيسى والإنجيل ، وقولهم عزير بن الله ، ويد الله مغلوله ، ونحو ذلك ، والكفر بالإنجيل أو بعيسى ، والثانى الكفر بالقرآن ، أو به صلى الله عليه وسلم { وَلِلْكَفِرِينَ } مثل الكافرين فى الآية قبل { عَذَابٌ مُّهِينٌ } بذل ، جوزا بما حاولوا من أن يذلوا المسلمين ، بدعوى فضلهم عليهم ، والمُذِلّ الله ، وأسند لإدلال إلى المسبب .
--------------------------------------------------
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَآ أَنْزَلَ اللهُ } القرآن ، أو القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الله ووحيه ، وهذا إشارة إلى أنهم كفروا بكتب الله ووحيه كلها ، إذ كفروا ببعض التوراة ، فإنه من كفر بكتاب أو ببعضه أو بنبى فقد كفر بجيمع الكتب والأنبياء { قَالُوا نُؤْمِنُ } نستمر على الإيمان { بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } أى كلفنا به فى كتبنا ، مع أنهم لم يؤمنوا بها ، إذ كفروا ببعضها.

{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أى سوى ما أنزل إلينا ، وهو التوراة ، كقوله ، ليس وراء الله منتهى ، أو بمعنى بعده ، والمراد على الوجهين القرآن لقوله تعالى { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } فإن هذا فى القرآن مستعمل للقرآن ، ولا مانع من أن يراد بما وراءه كتب الله ، فإنها كلها حق مصدق للتوراة ، لأنها كلها أمر بالتوحيد وطاعة الله ، واتباع كتبه ورسله ، أو يقال : ما وراءه هو القرآن والإنجيل ، كما أن التوراة مصدقة أيضاً لغيرها من كتب الله ، ثم إنه إما أن يخصص ما أنزل الله بالتوراة والقرآن أو يعمم وهو الحق لجميع ما سوى التوراة ، وعلى كل حال تناقض كلامهم ، لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به ، وجه الحص التقييد بالحال . وهو مصدقاً ، فإن غير القرآن والإنجيل ولو صدق ما عندهم ، لكن لم يذكر فيه تصديق ما عنده باسمه ، ولكن فيه ، أن التصديق بالموافقة يكفى ، لعل الحصر هنا غير مراد ، أو يراد حصر غير ما شهر ، وهى معنى هو الحق لا غير الحق .

{ قُلْ } لهم يا محمد ، أو من يصلح للمناظرة { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } يقتل آباؤكم ، ورضيتم بقتلهم وصوبتم ، تتعاطون مثل فعلهم لو وجدتم { أَنْبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بالتوراة ، ولقد نهيم فيما عن قتل الأنبياء ، غيرهم ، وعن سائر الظلم ، أو أن نافية ، أى ما كنتم مؤمنين بها ، إذ خالفتموهما ، ويجوز أن يكون قولهم « نؤمن بما أنزل علينا » بمعنى نؤمن به نحن وأسلافنا ، أى نؤمن به كما آمن أسلافنا ، فلما ادعوا إيمانهم وإيمان أسلافهم توجه لاعتراض عليهم بأنكم وآباءكم إن آمنتم بالتوراة فلم قتلوا الأنبياء ، فيكون فلت تقتلون تغليبا .

الآيات ( 92 - 105 )

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَتِ } كفلق البحر ، والمن والسلوى ، وتظليل الغمام ، وإحياء القتيل ، ورفع الطور فوقهم ، وانفجار الماء من الحجر ، والآيات التسع ، وهذا أولى من تفسير بعض العلماء البينات بدلائل التوحيد ، والعموم أولى وليس هذا وما بعده تكريراً لما تقدم ، لأنه أمر أن يقوله لهم ، فهو من جملة المحكى بقل فى قوله ، قل ، فلم تقتلون ، مشيرا إلى أن طريقتهم مع محمد طريقتهم مع موسى عليهما السلام ، وأيضا سبقت لإبطال دعواهم فى الإيمان بالتوراة ، وللتلويح بأن كفرهم بمحمد ليس بأعجب من كفرهم بموسى.

{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } عجل السامرى إلها تعبدونه ، أو اتخذتم العجل بمعنى صورتموه ، ونص التوراة لا تعملوا صورا ، فتصوير الرأس أو مع الجسد محرما ولو لم يعبد ، والتوراة نزلت بعد اتخاذه بمدة قريبة ، وثم للاستبعاد ، أو لأنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر فى الآيات ، وذلك فعل آبائهم ، خوطبوا به ، فجرى الخطاب على مقتضى أنهم فعلوه وبهذا الاعتبار يصح أن يراد بالبينات التوراة ، فلا يعترض بأن اتخاذ العجل قبل التوراة { مِنْ بَعْدِهِ } بعد ذهابه إلى الميقات ، أو بعد مجيئه بالبينات ، كما قال ، ولقد جاءكم موسى بالبينات ، وقيل الاتخاذ بعد رجوعه من الميقات ، وهو ضعيف { وَأَنْتُمْ ظَلِمُونَ } أنفسكم باتخاذ العجل ، وظالمون لمن يقتدى بكم ، ولدين الله ، والزمان والمكان ، ولنعم الله ، إذ وضعتموها فى غير محلها . وهكذا تستحضر بعد ، أو أنتم عادتكم الظلم قبل الاتخاذ فينتج منه الاتخذ وغيره .
---------------------------------------------------
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ } على التوراة درسا وتفهما وعملا ، والحال أنا رفعنا الطور كما قال { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } يسقط عليكم إن امتنعتم من قبولها ، مقولا لكم ، أو قائلا لكم { خُذُوا مَآءَاتَيْنَكُمْ } جعلنا آتيا إياكم { بِقُوَّةٍ } باجتهاد ، وترك الكسل ، والفتور ، كما هو عادة المنافقين { وَاسْمَعُواْ } سماع إجابة { قَالُواْ سَمِعْنَا } قولك بآذاننا { وَعَصَيْنَا } بقولنا وجوارحنا ، لا نعتقد أمرك ، ولا تعمل به جوارحنا ، كل ذلك باللسان ، أو سمعنا بلسان النزل ، وعصينا بلسان الحال ، أو سمعنا قبل أحكاما ، وعصينا { وَأُشْربُواْ } كل ذلك باللسان ، أو سمعنا بلسان المقال ، وعصينا الحال ، أو سمعنا قبل أحكاما ، وعصينا.

{ وَأُشْرِبُواْ } أشربهم الشيطان بالوسوسة ، أو أشربهم الله بالخذلان ، أو موسى ، إذ برد بالمبرد العجل وسقاهم برادته ، كما يأتى إن شاء الله ، جعل مخالطا كما يخالط الشراب أعماق البدن ، أو كما يدخل الصبغ الثوب ، وهذا على أنه من الإشراب بمعنى دخول لون على لون.

{ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } حب العجل ، ورسخ كمارسخ الماء فى محله من العطشان ، أو الصبغ فى الثوب ، قيل : ولك أن تقدر حب بأن رسخت صورته وشغفوا بها ، وفيه بعد ، إذ لا بد من حكم يعرض على ذات ، فيقدر شغف أو حب ، ووجهه المبالغة ، بأنه كأنه نفسه مشروب ، وبأنه مثل قولك ، فلان يأكل فى جيمع بطنه إذا بالغ فى الأكل ، وذكر القلوب مع أن الحب لا يكون إلا فيها ليجمع بين مزيد التقدير والتأكيد ، وبيان أن المشرب الحب ، إذ لم يذكر ، ولفائدة البيان بعد الإجمال أو بعد الإبهام ، فإن محل الشرب فى المعتاد البطن ، واختار الإشراب لأن الماء أبلغ مساغا فى البدن ، ومطية الأغذية والأدوية .

وقيل : برده موسى بالمبرد ، وألقاه فى الماء ، وأمرهم بشربه . فمن أحبه خرجت برادته إلى شفتيه ، وهو قول بارد ، وبرده ذكر القلوب أو يضعفه ، وقيل : ربط إلى قلوبهم كما يشرب البعير بمعنى شد فى عنقه حبل يمسك به { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم السابق على اتخاذ العجل كفر شرك ، وهم مجسمة ، يجيزون ألوهية الأجسام ، أو حلولية ، يجيزون حلول الله ، والألوهية منه فى الأجسام زادهم الله عذابا فى الدنيا والآخرة.

{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَنُكُمْ } بالتوراة . والمخصوص بالذم عبادة العجل ، تهكم عليهم بأن إيمانهم بالتوراة أمرهم بعبادة العجل ، فذاك نفى للإيمان بها ، لأن الإيمان يورث العلم والحكمة والفهم ، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لا عبادة غير الله ، ولا سيما أبلد الحيوان ، وهو البقر ، ولا سيما صغيره ، أو المخصوص قتل الأنبياء ونحوه ، أو قولكم عصينا ، أو كل ذلك ، وما ذكرته أولا أولى { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بها ، متصل بما قبله ، أو إلا كنتم مؤمنين بها فاعملوا بما فيها ، أو فلا تقتلوا الأنبياء ، ولا تكذبوا الرسل ، ولا تكتموا لحق ، أو ما كنت مؤمنين إذ خالفتموهم إنكاراً أو فسقا ، وإن نافية .
---------------------------------------------------
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّراُ الآخِرَةُ } الجنة نفسها ونعيمها ، وليست الدار الآخرة انقضاء الدنيا ، بل انقضاؤها اليوم الآخر ، والنار أيضا دار آخرة ، والعهد والسياق ينفيان إرادتها { عِنْدَ اللهِ } فى حكمه أو عندية شرف { خَالِصَةً } لم يشبها النقض بثبوت بعضا لغيركم ، بمعنى صافية حقيقة ، أو خاصة بكم مجازاً { مِّنْ دُونَ النَّاسِ } كما قلتم ، لن يدخل الجن إلا من كان هوداً ، أو نحن أبناء الله ، ولن تمسنا النار . . . إلخ ، ولم يخلق الله الجنة إلا لإسرائيل وبنيه ، ثم إما أن يريدوا بالناس سائرهم بعد الخاصة ، فيستثنون إبراهيم وإسحق ويعقوب ونحوهم . ومن دعواهم الباطلة أن هؤلاء يهوديون ، ويستثون أيضا آدم ونوحاص ونحوهما ومن مات قبل اليهودية ، وإما أن يعموا ولا يستثنوا هؤلاء ولا غيرهم ، لأن من شأنهم إنكار ما عرفوا من الحق واعتقدوه ، كما أنكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعيسى والقرآن والإنجيل؛ وكثيرا من التوراة مع معرفتهم بهم ، وكما قالوا « ما أنزل الله على بشر من شىء » ولما أن يريدوا النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أمته .

{ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَدِقِينَ } فى دعوى اختصاص الجنة بكم؛ فإن لم أيقن بذلك يحب الإفضاء إليها من دار البؤس والأكدار ، والمسلمون ولو لم يتمنوا الموت لكنهم لا يخصصون أنفسهم بها ، بل يقولون ، هى لكل مؤمن من الأمم ، والأمر بالتمنى سبب من دعواهم ، وذلك نقيض التالى ، هكذا لو اختصصم بها لتمنيتم الموت لكنكم لا تمنونه ، فليست مختصة بكم ، وتمنى ما يختص بك أعظم من تمنى ما شوركت فيه ، وقد تمناه من صدق فى دعواه ، كقول عمار : غداً نلقى الاحبة محمداً وأصحابه ، وحذيفة إذ قال ، مرحباً يجيب جاء على فاقة ، وقوله صلى الله عليه وسلم فى قتلى بئر معونة : يا ليتنى غودرت معهم فى لحف الجبل ، وعبدالله بن رواحة ، يا حبذا الجنة ، واقترابها طيبة ، وبارد شرابها ، والروم روم قد دنا عذابها .
-----------------------------------------------
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من تحريف التوراة وسائر معاصيهم ، والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن لعلمهم أنه على الحق ، فتخونوا من عقاب الآخرة على إنكاره ، ومن لم يعتقد منهم نبوءته فما قدمت يده عنده هو غير إنكاره صلى الله عليه وسلم { وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ } الجاحدين ، والآية إخبار بالغيب إذ لم يقدروا أن يتمنوا ، ودلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ، وأنه لم يوقنوا لتمنوا ، ولا سيما إذ قلنا التمنى هنا التلفظ ، فلم يقدروا أن يتلفظوا بالتمنى ، ولو مع خلو قلوبهم منه ، ولو قوع لنقل ، ولو تمنوا لماتوا فى موضعهم بالريق ، كما روى عن ابن عباس موقوفا ، وروى عنه مرفوعا ، وفى رواية عنه مرفوعا « لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا » وعنه موقوفا ما بقى على وجه ا لأرض يهودى إلا مات .
--------------------------------------------------
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لمن يصلح ، وكذا فى جميع القرآن بحسب الإمكان ، والأول أولى ، والهاء لليهود المخاطبين ، ويلتحق بهم اليهود الباقون وقيل للجنس { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ } نوع من الحياة ، وهو المتطاولة لقوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } والآية تدل أن لغيرهم أيضاً حرصاً على الحياة الطويلة إلا أنهم أحرص ، لأن أحرص اسم تفضيل ، فإن الحرص على الحياة فى طباع المؤمن وغيره ، وفى الحديث القدسى : « إن المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته » وأيضاً ، قد يحرص المؤمن على الحياة ليكثر العبادة ، إلا أنه ليس ذلك منه مذموما ، وقد يحمل الحديث عليه.

{ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } المجوس وعبدة الأصنام من العرب وكانت المجوس يقولون للعاطس ، أحرص الناس من الناس ، أى من سائرهم ، أو يقدر أحرص من الذين اشركوا ، أو يقدر ، ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم ، وعلى الوجهين الأولين يكون يود . . . إلخ مستأنفا ، أو حالا من الذين ، أو واو أشركوا ، أو من الهاء ، وذكرهم مع دخولهم فى الناس زيادة فى التوبيخ لهم ، بأنهم مع إقرارهم بالبعث والحساب أشد حرصاً ممن يعبد الصنم وينكر البعث ، وبين حرص اليهود بقوله { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أى أحد اليهود ، ليس واحدا خاصا ، ولكن تمثيل بالواحد ، كأنه معين مخصوص مشاهد.

{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } أى يود تعميره ألف سنة ، والنصب على الظرفية ، أو لو حرف تمنّ ، محكياً مع ما بعده بيود ، لتضمين معنى القول ، أو لو شرطية ، جوابها لسرَّه ذلك ، والألف هى تمثيل للكثرة ، لا خصوص هذا العدد ، أو بيّن حرصهم بقوله : « ومن الذين أشركوا » إلخ ، على أن يراد بالذين أشركوا اليهود تصريحاً بشركهم ، وجاء الظاره فى موضع الضمير لذلك على معنى ، ومن المشركين ناس يود . . إلخ ، فيود . . . إلخ نعت لمبتدأ محذوف على هذا { وَمَا هُوَ } أى أحدهم { بِمُزَحْزِحِهِ } مبعده ، خبر ما والياء صلة أصله زحح ، أبدلت الحاء المدغم فيها من جنس الفاء بوزن فعل بشد العين ، وقيل : كررت الفاء ، فوزنه فعقل { مِنَ } أى من { الْعَذَابِ } بالنار وغيرها من حين يموت إلى ما ينتهى { أَنْ يُعَمَّرَ } تعميره ألف سنة ، فاعل مزحزح ، كقولك ما زيد قائماً أبوه { وَاللهُ بَصِيرٌ } عليم { بِمَا يَعْمَلُونَ } كله ، يعذبهم على كل صغير وكبير .

قال عبدالله بن صوريا ، حبر من اليهود ، للنبى صلى الله عليه وسلم : أىّ ملك يأتيك من السماء؟ قال : جبريل ، قال : هو عدونا ، ينزل بالعذاب ، والشدة والخسف ، عادانا مراراً ، لو كان ميكائيل لآمنا بك .
وقيل : سأل عبدالله بن صوريا عمر : من يأتى محمداً من السماء؟ فقال : جبريل ، فقال : هو عدونا . . . إلخ ، وقيل : كان لعمر أرض بأَعلى المدينة ، ويمر على اليهود فى مدارسهم ، ويجلس إليهم ويسأَلهم ويسمع كلامهم ، فقالوا : ما فى أصحاب محمد أحب إلينا منك ، وإنا نطمع فيك ، فقال : والله ما آتيكم لحبى لكم ، ولا لأنى شاك فى دينى ، بل لأزداد بصيرة فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأرى أثره فى كتابكم ، فقالوا : من يأتيه من السماء؟ قال : جبريل ، قالوا : هو عدونا ، يطلع محمداً على سرنا ، وهو صاحب عذاب وخسف وشدة ، وأن ميكائيل يأتى بالخصب والسلامة ، ولو كان يأتيه هو لآمنا ، وأن محمداً رسول الله ، وأن بين جبريل وميكائيل عداوة .

وقال عمر : أشهد أنهم سلم ، ومع الله سلم ، ومن عادى جبريل فهو حرب لله ولميكائيل ، ولأنتم أكفر من الحمير ، أى أجهل .

وقيل : سأَلهم عمر عن جبريل ، فقالوا : يأتى بالشر ، ولو كان يأتى محمداً ميكائيل لآمنا به ، وعن عبدالله بن صوريا عادانا مراراً ، أشدها أن نبينا بعث من يقتل بخثت نصر ، وهو طفل ، لأنه يخرب من بيت المقدس ، فرده ، فقال : إن قضى الله خرابه لم تقتلوه ، وإلا فلم تقتلونه ، فرجع ، فكبر بخت نصر ، فخربه وعلى كل حال نزل فى ذلك قوله تعالى :

{ قُلْ } لهم { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الخ ، وجبريل علم عجمى ، وزعم بعضهم أنه علم عربى مركب من جبروت الله ، وفيه : أنه لو كان كذلك لورد فيه وجهان آخران : البناء وإضافة الجزء الأول للثانى ، كنظائره ، قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضى الله عنه ، وقد سبقه الوحى : لقد وافقتك ربك يا عمر ، قال عمر : لقد كنت بعد ذلك أصلب من الحديد ، والمعنى : مَن كان عدوّاً لجبريل لمجيئه بالعذاب والقرآن الفاضح لهم فهو عدو لله ، لأنه هو الذى أرسله ، أو فليمت غيظاً ، أو فلا وجه لعداوته وجه ، أنه نزله على قلبك ، كقولك : إن عاداك فقد آذيته أمس ، وناب عن الجواب علته ، وهو قوله { فَإِنَّهُ } أى ، لأن جبريل أو الشأن أو الله ، لأنه { نَزَّلَهُ } أى القرآن المستتر فى نزل لجبريل ، أو الله عز وجل { عَلَى قَلْبِكَ } مقتضى الظاهر على قلبى ، لقوله قل ، لكن قال : على قلبك ، لأن المعنى قل ذلك ، لأنه نزل على قلبك ، وقيل : التقدير ، قال الله : من كان . . . إلخ ، ولم يقل علىَّ أو عليك ، تصريحاً بالقلب الذى هو محل النزول ، وبيت لوحى الله ، والفهم والحفظ ، ولا يجوز أن يكون فإنه . . . إلخ تعليل لما قبله ، ويقدر الجوبا ، فليمت غيظاً ، أو فالله عدوه ، لأن فاء التعليل عاطفة على جملة ، ولا يصح العطف على كان عدوّاً لجبريل ، ولو صح معنى قولك لأنه نزله . . . إلخ.

{ بِإِذْنِ اللهِ } بأمره ، فى صورة القول وتيسيره فى صورة الفعل ، وأصل الإذن الإباحة والعلاقة اللزوم { مُصَدِّقاً } حال من هاء نزله العائدة إلى جبريل أو إلى القرآن ، أو من ضمير نزل { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من كتب الله ، والتوراة وغيرها ، والموجود هو ما بين اليدين ، وأما ما سيوجد فهو مفقود ، لا يصح أنه موجود بين اليدين ، ويصح بمعنى أنه مستقبل { وَهُدًى } من الوقوف لعدم العلم ، ومن العمل بغير علم ، وكذا فى غير هذا المحل { وَبُشْرَى } بالجنة ، ذا هدى وتبشير ، أو هادياً ومبشراً ، أو مبالغة { لِلْمُؤمِنِينَ } .
---------------------------------------------------
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
{ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ } بأن قال إنى عدو له أو بمخالفته { وَمَلَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَلَ } خصهما بالذكر ، لأن الكلام فى عدواتهم جبريل ، ومصادقتهم لميكائيل ، فصرح لهم بأن ميكائيل قد عادوه أيضاً لمخالفتهم جبريل وما نزل به من الوحى ، ولأن جبريل يجىء بالوحى الذى هو حياة القلوب ، وميكائيل يجىء بالأرزاق التى هى حياة الأبدان ، ولأنهم قالوا بين جبريل وميكائيل عداوة ، ورواية أن عمر رضى الله عنه نطق بهذه الآية قبل نزولها ضعيفة ، وجبريل أفضل الملائكة ، لأنه رسول الله إلى الأنبياء بالكتب والدين ، ولأنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، ويحبهم ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : جبريل أفضل الملائكة.

{ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَفِرِينَ } أى لليهود لكفرهم ، ولهذا لم يقل عدو لهم ، وهكذا أمثاله فى سائر القرآن ، ولو لم أنبه عليه ، من وضع الظاهر موضع المضمر ، لأن تعليق الحكم الشتق يؤذن بكونه علة للحكم .

والآية دلت أن من عادى ملكا كجبريل فقد عادى الآخرين أيضاً ، كميكائيل ، وقد جمع الملائكة جميعاً والرسل ليفيد أن من عادى واحداً من جميع الملائكة فقد عادى الآخر ، ومن عادى واحداً من الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم فقد عادى الأنبياء كلهم عليهم السلام . وأما ما روى ، أن عبدالله بن سلام قال : أسألك عن ثلاثة لا يعلمن إلا نبى : أول أشراط الساعة ، وأول طعام يأكله أهل الجنة ، وما ينزع الولد لأبيه أو أمه؟ فقال : أتانى بهن جبريل آنفا ، فقال : هو عدو اليهود ، فقد نزلت قبله ولكن قرأها عليه .
--------------------------------------------------
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ءَايَتٍ بَيِّنَتٍ } يا محمد القرآن المعجز ، والمعجزات الآخرى ، وذلك رد على قول ابن صوريا ، ما جئتنا بشىء يصدقك فى دعوى النبوة فإن معنى بينات واضحات المعنى والدلالة على نبوته التى يدعيها { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَسِقُونَ } إلا اليهود لفسقهم ، أو جنس الفاسقين ، فدخلت اليهود ببرهان الفسق . وقال مالك بن الصيفى ، والله ما عهد إلينا فى محمد عهد فى التوراة ، فنزل :

{ أَوَ كُلَّمَا } أكفروا وكلما { عَهَدُواْ } لله { عَهْداً } على أن يؤمنوا بالنبى صلى الله عليه وسلم إن بعث ، أو عاهدوا النبى صلى الله عليه وسلم ألا يعينوا عليه المشركين .

وقد قيل : نزلت فى قوله لليهود : لئن خرج لنؤمنن به ولنقاتلن معه العرب المشركين ، ولما بعث كفروا به ، وقيل فى قريظة والنضير نقضوا عهدا له { نَّبَذَهُ } طرحه { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } بنقضه ، وهذا الفريق هو الأكثر والفريق الآخر لم ينقضوا ، ولكن لم يؤمنوا { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أى لكهم لا يؤمنون ، من نقض ومن لم ينقض ، فاستعمل الأكثر بمعنى الكل ، لقلة من آمن ، كاستعمال القلة بمعنى النفى ، أو أراد بالأكثر ظاهره ، وأن الفريق الآخر قليل لم ينقضوا ، وهو آمنوا ، وهم عند الله بن سلام وأهله ، والذى قال ، ما ننتظر ، والله لقد علتم أن محمدا ، هو رسول الله فأعينوه ، فقال ، لا تنقض السبت ، فخرج وقال : لا سبت لكم ، فقال يوم السبت ، أو أراد أن الأكثر نقضوا جهرا والأقل خفاء .
---------------------------------------------------
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ } عيسى عليه السلام { مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة والإنجيل { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ } التوراة { كِتَبَ اللهِ } الإنجيل ، وهذا لأسلافهم ، عوتبوا به لأنهم على ملتهم ، إذ جاءهم محمد بالقرآن مصدقا للتوراة فنبذه فريق منهم ، وهم الأكثر ، أو الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الله القرآن ، أو كتاب الله الذى نبذوه هو التوراة نبذوها بإنكار القرآن أو الإنجيل ، نبذهما الذين على عهده صلى الله عليه وسلم ، وليس المراد الذين على عهد سليمان ، كما قال بعض محتجا بقوله تعالى بعد ذلك ، واتبعوا ما تتلوا . . . غلخ لأن النبذ عند مجىء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتصور منهم .

وقال السدى : لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة . فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها ، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن ، فهذا قوله تعالى : ولما جاءهم رسول . إلخ { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } لم يعتنوا به ، إذ لم يعملوا بما فيه من الفرائض والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينتهوا عما نهوا فيه ، كالشىء الحقير الملفى وراء الظهر ، بجامع عدم المبالاة فلم ينفعهم ، أن أدرجوه فى الحرير ، وحلوه بالفضة والذهب الإبريز ، وقد سماه الله كتاب الله تعظيما له ، وتهويلا لما اجترأوا عليه من نبذه وراء الظهر.

{ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن التوراة كتاب الله ، وأن فيها نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم خمس فرق ، فرقة آمنوا بها وقاموا بحقها ، وعملوا بما لم ينسخه الإنجيل منها ، كعبدالله بن سلام ، وهم الأقلون المفهمون مفهوم مخالفة من قوله أكثرهم ، كأنه صرح بهم ، إذ فهموا بالقيد ، وفرقة نبذوها جهرا ، وهم المذكورون بقوله نبذه فريق وهم عالمون بأنها حق ، وفرقة نبذوها فى خفاء جهلا بأنها حق ، وهم الأكثرون فى قوله تعالى : { بل أكثرهم لا يؤمنون } وفرقة علموا أنها حق وتمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية ، عنادا أو تجاهلا ، وهم فى قوله ، كأنهم لا يعلمون ، وفرقة علموا أنها حق ولا يتمسكون بها ظاهرا ، وهذه قسمة متعينة ، صحت بالعناية المقصودة فى التقسيم ، فلا يضرنا جواز دخول الخامسة فيما قبلها ، والعدد من حكم المجموع المتوزع فى الآيات مع أن الضمائر فيها لليهود مطلقا .
---------------------------------------------------
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{ واتَّبَعُواْ } معطوف على قوله ولما جاهم . . . إلخ ، عطف قصة على أخرى [ مَا ] أى السحر ، ما تأخذ الكهنة من الشياطين ، وما تضم إليه من الأكاذيب { تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ } تتبع ، أو تقرأ على الناس ، أى ، ما تلت ، ولكن نزل الحال الماضية منزلة الحاضرة ، كأنهم تشاهد ، فليس مما يترتب على نبذ الذى هو جواب لما إلا على ما مر من أن القرآن وافق التوراة فنبذوها ، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن ، فهذا قوله تعالى « ولما جاءهم رسول من عند الله . . . » الآية.

{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ } فى عهد ملكه ، أى زمانه ، أو على بظاهرها ، فيضمن معنى تتلو معنى تتقول ، أى تكذب ، قالت اليهود ، انظروا إلى محمد ، يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان فى الأنبياء ، إنما كان ساحرا ، يركب الريح ، وكانوا لا يسألونه عن شىء إلا أنزل عليه ، فقالوا ، محمد أعلم بما أنزل إلينا منا ، فسألوه عن السحر فنزل ، واتبعوا ما تتلوا الآية ، محمد أعلم بما أنزل إلينا منا ، فسألوه عن السحر فنزل ، واتبعوا ما تتلو الآية ، وقيل ملك سليمان كرسية.

{ وَمَا كَفَرَ } أشرك { سُلَيْمَنُ } فإن السحر الذى تتلوه الشياطين تضمن إشراكا ، كدعوى ، أن الساحر خلق كذا ، أو حول الشيخ شابا ، أو الإنسان حمارا أو الطبيعة علة تغنى عن الله ، وكدعوى أن السحر حلال وما لم يكن فيه شرك ففسق ، فلا ما نع من أن الكفر شامل لذلك كله ، وهذا كما عنده هذه الأمة ، ويحتمل أنه عند من قبلنا شرك مطلقا ، وما فعل سليمان ذلك وما علمه.

{ وَلَكِنَّ الشَّيَطِينَ كَفَرُواْ } إذ فعلوه وعلموه الناس ، كما فسر الكفر بقوله { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } والمراد بالشياطين فى الموضعين متمردو الجن ، والمعنى الموجود فى الحقيقة ، وهى هنا متمردو الجن ، وفى المجاز وهو هنا متمرد الإنس ، وذلك المعنى هو مطلق التمرد ، وذلك عموم معنى الجميع بين الحقيقة والمجاز ، وهو الصحيح ، وقيل : شياطين الإنس ، وتعلم السحر للعمل به أو لتعليمه ، أو للرثاء به حرام ، وللحذر منه ، أو لتعليمه من لا يعصى به فمباح ، أو لغيره فمكروه أو مباح أو حرام ، أقوال .

وعن أحمد ، أن السحر شكر ولو لم يعتقد حله ، ولا تضمن خصلة شرك ، دفن سليمان عليه السلام كتب السحر ، وما يلقيه مسترقو السمع من الملائكة إلى الكهنة من صدق وكذب فى صندوق تحت كرسيه ، وقد شاع فى الناس أن الشياطين تعلم الغيب ، وقال : من قال ذلك قتلته ، ولما مات قال شيطان فى صورة إنسان لنفر من بنى إسرائيل : احفروا تحت الكرسى تستخرجوا منه لا يفنى ، وأراهم المكان ، فقالوا : دن ، فقال : من هنا ، وإن لم تجدوا فاقتلونى ، وكان لا يدنو منه شيطان إلا احترق ، فأخرجوها ، وقال لهم ، إن سليمان ضبط الثقلين والطير بها ، وفشا فى الناس أنه ساحر ، ورفضوا كتب الله إلا العلماء والصالحين ، فعلموا أن ذلك ليس من علمه ، بل نبى يعمل بتأييد الله ، وما زال قول السوء عليه حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه براءته من السحر ، وقيل : دفنها صخر تحت الكرسى حين قبض الخاتم من زوجه الأمينة ، وكان يضعه عندها بجنابته أو حاجة الإنسان ، وقال : أعطنى الخاتم ، فأعطته ، ظنته سليما ، فلبسه ، وقعد على الكرسى ، وأذعن له الخلق ، وجاء سليمان يطلب منها ، فقالت : ما أنت هو ، قد أخذ سليمان وطر بعد أربعين يوماً ، وألقاه فى البحر على طريقه ، فبلعته سمكة فوقعت فى يد سليما ، فأخذه منها ، ولما مات ستخرجوها من تحت الكرسى على ما مر ، ولا مانع من ذلك .

وأما ما يقال إنه كان صخر يدخل على زوج سليمان فيطؤها فمنكر لا يصح ، لأن أزواج الأنبياء محفوظة من ذلك ، ولو كن مشركات ، وأمر الجن فأحضروه فحبسه فى صخرة ، فسد عليه بالرصاص والحديد فى قعر البحر.

{ وَمَآ أُنْزِلَ } عطف على ما تتلوا أو على السحر ، كأنه قيل ، ويعلمونهم ما أنزل { عَلَى الْمَلَكَيْنِ } من ملائكة الله ، أو رجلين كالملكين فى الصلاح ، والإنزال على ظاهره ، أو بمعنى الإلهام ، وما أنزل عليهما نوع من السحر قوى ، بل نوع غير السحر . كما يدل له العطف ، وعلى أنه من السحر فالعطف لتنزيله بالقوة منزلة تغاير الذات.

{ بِبَابِلَ } فى بابل ، بلد فى سواد الكوفة ، وعن ابن مسعود ، هو أرض الكوفة ، قيل من نصيبين إلى رأس العين ، سميت لتبلبل ألسنة الناس عند وقوع صرح نمروذا ، ولأن الله حشر الناس بالريح لهذه الأرض ، فلم يدر أحد ما يقول الآخرة ، ثم فرقتهم الريح فى البلاد ، كل بلغته ، فالبلبلة تفرقهم عن بابل ، أو تغاير الألسنة فيها ، والتغاير تفرق ، ونزل نوح بلدة بثمانين إنسانا ، سميت بهم فأصبحوا يوما وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، وقيل سميت بهذه الثمانين لغة .

{ هَرُوتَ وَمَرُوتَ } لفظان عجميان ، وقيل عربيان من الهربت والمرت بمعنى الكسر ، ويرى منع الصرف ، وسامها غرا وغرايا ، فلما أذنبا سميا باسم الكسر ، أباح الله لهما ملكين ، أو بشرين تعليم السرح ابتلاء من الله عز وجل للناس ، هل يتعلمونه ، وهل يعلمون به ، كما أن الله خلق المعصية ، ونهى عنها ، وخلق المحرمات كالخنزير ، ونهى عن تناولها ، وكما ابتلى قوم طالوت بالشرب من النهر ، أو ليتميز السحر من المعجزة ، إذ كثر فى ذلك الزمان مع ادعاء النبوة به .

وأما ما روى أنهما ملكان من أعيد الملائكة تعجبت الملائكة من كثرة ذنوب الناس وعظمها ، فقال الله : لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم من الشهاوى لعصيتم مثلهم ، فقالوا : سبحانك ما كان ينبغى لنا ذلك ، فقال : اختاروا من هو أعبدكم ، فاختاروهما ، فركبها فيهما ، وأمرهما بالقضاء بين الناس ، ويصعدان مساء ، فاختصمت إليهما امرأة من لخم ، أو فارسية ملكة مع زوجهان فراوداها فشرطت أن يقضيا لها عليه ، فقضيا لها ، ثم أن يقتلاه فقتلاه ، وأن يشربا خمرا ، ويسجدا للصنم ففعلا ، وأن تعلمانى الاسم الذى تصعدان به فعلماها ، فصعدت ، فمسخت زهرة ، فلم يقدروا على الطلوع فالتجآ إلى إدريس فى عصرها ، فشفع لهما أن يختارا عذاب الدنيا أو الآخرة ، فاختارا الأولى ، لأنه ينقطع ، وعلقا بشعورهما ، أو منكوسين يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة فبعيد .

وهو ممكن ، ولا يحكم بالكفر على قائله ، لأنه لم يثبت لها تلك المعاصى مطلقا ، بل قال ، ركب لله فيهما ما ركب فى البشر من الشهوة ، وذلك من حين أنزلا ، وليس متأخرا إلى وقت القضاء بين المرأة وزوجها ، فلا يعارض بعصمة الملائكة ، لأن الله أخرجها من شأنهما إلى شأن البشر .

وقول الملائكة ، سبحانك ما ينبغى لنا تعظيم لله . لا رد لقوله لو ركبت فيكم الشهوة لعصيتم ، وهما ملكان ، ولو ركب فيهما ذلك فلا ينافى تسميتها ملكين فى الآية ، وإن سلم ذلك فهما ملكان قيل : فهو مجاز بلا ضعف ، والشاهد الأحاديث ، والكلام فى العصمة مع البقاء على شأنها بلا إخراج ، وأما مع الإخراج عن شأنها لله أن يخرج من يشاء من أهلها إلى غيره ، فلا يكون معصوما . وأما الزهرة فالظاهر أنها قل ذلك لكم بلا نص على قبيلتها ، فجاءت هذه الرواية بحدوثها ، بنسخ المرة إليها .

وقد روى أن امرأة دخلت على عائشة رضى الله عنها تطلب التوبة من تعلم السحر منهما ، وأن رجلا من هذه الأمة أتاها ليتعلم ، فوجدهما معلقين بأرجلهما ، مزرقة أعينهما ، مسودة جلودهما ، بين ألسنتهما وبين الماء أربع أصابع ، يعذبان بالعطش .

وقد أثبت قصتهما الشيخ يوسف بن إبراهيم ، ورواها مرفوعة أحمد وابن حبان والبيهقى ، وموقوفة عن على وابن مسعود وابن عباس ، وصحح السيوطى الرواية .

{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ } له مرة ، وهو الثابت ، وقيل ثلاثا ، وقيل سبعا ، وقيل تسعا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } ابتلاء من الله للناس ، فمن تعلمه كفر ، أو من تعلمه وعمل به كفر ، وكذا من اعتقد أنه حق جائز ، من لم يتعلمه ، أو تعلمه ليتقى ضره ، أو يدفع به دعوة النبوة عن من ادعاها به ، وكان مؤمنا ، فهو باق على إيمانه { فَلاَ تَكْفُرْ } بتعلمه أو بالعمل به أو دعوى النبوة به ، فإن لم يرتدع بهذه النصيحة علماه { فَيَتَعَلَّمُونَ } أى الناس المعبر عنهم بأحد فى سياق السلب ، عطف على ما يعلمان ، كأنه قيل ، يعلمان الناس بعد قولهما ، إنما نحن . . . إلخ فيعلمون أو على يعلمون { مِنْهُمَا } من الملكين أنفسهما ، وقيل ، بتوسط شياطين ، يأخذان عنهما مرة فى السنة ويعلمان الناس ، أو من السحر وما أنزل على الملكين ، أو من الفتنة والكفر ، أى يتعلمون بعضا من كل منهما ، وعلى الثانى العطف على اتبعوه ، أو الوجه الأول أحق .

{ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ } الإنسان { وَزَوْجِهِ } أى قرينه ، حليلته وحليلها ، أو صاحبا وصاحبة مطلقا ، بأن ببغض كلا إلى الآخرة ، ولا مؤثر إلا الله ، والله يؤثر السحر ويطبع الطبائع ويؤثر أثرها ومن قال باستقلال شىء أشرك { وَمَا هُمْ } أى السحرة ، وهذا أولى من رد الضمير إلى اليهود أو الشياطين { بِضَارِّينَ بِهِ } أى بالسحر ، أو ما يفرقون به { مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ } متعلق بضارين ، أى إلا بتقديره ، ومن قال بتخليته بينه وبين المسحور لم يرد أن السحر مستغن عن الله ومستقل ، فإنه لا تأثير لشىء إلا بالله ، وكل شىء مستأنف من الله.

{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } فى الآخرة ، أو مع الدنيا ، وهو السحر { وَلاَ يَنْفَعُهُمْ } زاده لأنه قد يضر الشىء ، ومعه نفع فالسحر ضر محض ، وأما تعلمه لدفع الشبهة عن دعوى النبوة وليتقيه فنفى تعلمه خير على ما مر ، والذى عندى ، أنه لا يجوز تعلمه إلا لمن استوثق من نفسه أنه لا يستعمله ولا يعلمه لمن يعلم أنه يستعمله ، أولا يعلم حاله ، لأن للعلم بالشىء قوة داعية للعمل به ولا سيما مثل هذا ، والنفس داعية.

{ وَلَقَدْ عَلِمُواْ } أى اليهود المذكورون بالسوء فى عهده صلى الله عليه وسلم ، أو عهد سليمان ، والشياطين ، والكلام متعلق بقوله ، ولما جاءهم فصل بقصة السحر { لَمَنِ اشْتَرَيهُ } استبدله ، أو اشتراه بدينه ، اللام للابتداء ، والجملة جواب القسم ، { مَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ } نصيب فى الجنة لبيعه بالسحر أو تعلمه.

{ وَلَبِئْسَ } اللام لام جواب القسم ، والجملة معطوفة على الجواب السابق وهو ، لقد علموا { مَا شَرَوْا } باعوا { بِهِ أَنْفُسَهُمْ } وهو الكفر مطلقا ، أو السحر أو تعلمه ، أو نبذوا كتاب الله المنجى من الهلاك إلى ذلك الهلاك { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أى حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب للكفر أو السحر ، أو تعلمه ما فعلوه ، وإلا فقد أثبت لهم العلم فى قوله ، ولقد علموا ، فالعلم المثبت الظن أو هو العلم بأن اشتروا النفس بالسحر مثلا مذموم بدون علم أن منه ما يفعلونه ، فإن حب الشىء يعمى ويصم ، والعلم المنفى بلو العلم بحقيقة ما يصيرون إليه . وملزم له فى الجنة ، ويجوز كون لو للتمنى فلا جواب لها .
---------------------------------------------------
وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ } بالنبى صلى الله عليه وسلم والقرآن ، أو أراد اليهود مطلقا ، لو آمنوا بالكتب والأنبياء مطلقا { وَاتَّقُواْ } عقاب الله على الكفر والسحر والمعاصى لأثيبوا من عند الله ، دل عليه ذكر المثوبة ، أو للتمنى فلا يقدر لها جواب والتمنى فى الموضعين مصروف للناس ، والمصدر من خبر أن بعد لو الشرطية ، أو التمنية ، فاعل بمحذوف ، أى لو ثبت إيمانهم واتقاؤهم ، أو مبتدأ خبره محذوف وجوبا ، ونسب لسيبويه ، أو مبتدأ لا خبر له ، ووجهه اشتمال الكلام على المسند والمسند إليه لفظا قبل التأويل ، وهو وجه سيبويه ، إذ قدر المبتدأ مع اختصاص لو بالفعل ، حيث استغنى بوجوده قبل التأويل ، والصحيح الأول ، وهكذا فى القرآن ، ولا أعيده.

{ لَمَثُوبَةٌ } مستأنفة ، وليس من جواب لو ، لأن جوابها لا يكون جلمة اسمية ، واللام للابتداء ، والمعنى ثواب ، نقلت صمة الواو إلى الثاء الساكنة كمعونة ، أو وصف بمعنى المصدر كمقول ومصون ، والأصل مثووبة ، نقلت ضمة الواو للثاء فحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين كمفتون ومعقول ، وصفين فى الأصل ، وكانا بمعنى الفتنة والعقل ، وهو وجه فى قوله تعالى « بأيكم المفتون » أو اسم مصدر أى إثابة.

{ مِّن عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ } من كل شىء ، أو مما استبدلوا به دينهم ، وهذا مراعاة لما فى استبدالهم مع نفع ادعوه ، ولا يلزم التنقيص الذى فى قولك ، هذا السيف خير من العصا ، أو ، السلطان خير من الحجام ، لأن الكلام باعتبار القصد ، والقصد فى المثالين النقص ، وفى الآية ذمّهم ، بأنهم مع جهلهم تظهر لهم الخيرية ، وأيضا ما استبدلوا به الدين فى اعتقادهم عظيم ، أو أنه فاق فى الخير أكثر مما فاق استبدالهم فى شره ، كقولك ، الخل أحمض من العمل ، أى زاد فى حموضته على زيادة العسل فى حلاوته ، ولكان قول خير خارج عن التفضيل ، أو هو بمعنى المنفعة قائل به أن ما استبدلوا به غير حسن ، أو أنه مضرة { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أنها خير لم يستبدلوا الحق بالباطل . أو لو للتمنى مصروف للناس ، وقس على هذا فى مثله ، إلا أن الأصل الشروط لتبادره وأكثريته .
---------------------------------------------------
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ } للنبى صلى الله عليه وسلم { رَاعِنَا } اعتبرنا وانظر أحوالنا ، وتدبرها ، وتدارك مصالحنا ، وتأنّ بنا حتى نفهم ما تقول ، هذا مرادهم ، رحمهم الله ، ومن ذلك رعى الغنم ونحوها ، والمفاعلة للمبالغة هنا ، وهى بلغة اليهود سب ، لما سمعوا المؤمنين يقولونها قالوها له صلى الله عليه وسلم سبّاً فى لغتهم ، عبرية أو سريانية ، يتسابون بها بينهم ، فكانوا يسبون بها النبى صلى الله عليه وسلم ، وليست من الرعونة بمعنى الحمق ، وإن كانت منها فمما توافق فيه لغة العرب والعجم ، وقد يكون بين لفظ العرب ولفظهم مغايرة فيزيلونها ليوافقوا كلام العرب خداعاً للسب .

وقد قيل ، معناها ، اسمع لا سمعت ، وقالوا ، كنا نسب محمداً سرّاً فأعلنوا به الآن ، فيقولون ، يا محمد راعنا ، ويضحكون فيما بينهم ، ويقال ، كان مالك بن صيف ، ورفاعة بن زيد إذا لقيا النبى صلى الله عليه وسلم قالا وهما يكلمانه ، راعنا سمعك ، واسمع غير مسمع ، فظن المسلمون ، أن هذا شىء يعظمون به الأنبياء فنزلت الآية .
ويقال ، كان ذلك لغة للأنصار فى الجاهلية ، وكان سعد بن معاذ ، أو سعد ابن عبادة يعرف لغتهم ، فسمعهم يقولونها للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، والذى نفسى بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه ، قالوا ، أو لستم تقولونها؟ فنزلت الآية قطعاً لألسنة اليهود عن التدليس ، ويحتمل أن يريد أنت راعن ، أو يا راعن ، أى أحمق ، فزادوا الألف وفتحوا ، أو أنت راعينا لا نبى ، فحذفوا الياء أو اختلسوها.

{ وَقُولُوا انْظُرْنَا } اعتبرنا حتى نفهم ، أو أمهلنا ، فإنه يقال ، نظره بمعنى أمهله فلا حادة إلى تقدير انظر إلينا { وَاسْمَعُواْ } من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبول وعمل وانتهاء بجد ، بحيث لا تحتاجون إلى الإعادة وطلب المراعاة ، لا كقول اليهود سمعنا وعصينا ، السابين براعينا ، ولا تكونوا أيها المسلمون مثلهم فى طلبكم الإعادة { وَلِلْكَافِرِينَ } اليهود السابين براعنا . أو جعله للكافرين . فدخل اليهود ، وذلك السب كفر { عَذَابٌ أَلِيمٌ } زعم طائفة من اليهود أنها يودون الخير للمؤمنين فكذبهم الله عز وجل بقوله :

{ مَّا يَوَدُّ } يحب ، أو يتمنى حسداً { الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ } أى ، وهم أهل الكتاب ، وكلهم كفرة ، إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا من آمن ، كعبدالله بن سلامن وإن جعلناها للتبعيض فالمراد البعض الأكثر ، وهو خلاف الظاهر { وَلاَ الْمُشْرِكِينَ } من العرب ، والكلام جاء فيهم عطف على أهل الكتب ، وذكرهم اتباعا لليهود ، وهم لم يدعوا ود الخير للمؤمنين ، ولذلك أخرهم { أَنْ يُنَزَّلَ } أى أن ينزل الله { عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ } نائب فاعل ينزل ، فمن صلة للتأكيد والاستغراق ، وصح ذلك مع أن قوله ينزل مثبت لانسحاب نفى الود إليه ، والمراد بالخير الوحى والعلم والنصر ، وغير ذلك من أنواع الخير ، وكراهتهم تعم كل خير .

روى أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : وددنا لو كان خيراً مما نحن فيه فنتبعه ، فنزلت الآية تكذيباً لهم ، ومعنى تكذيبهم ، أنه صلى الله عليه وسلم على خير مما هم فيه ، ولم يؤمنوا ، وقيل : نزلت تكذيباً لجماعة من اليهود ، يظهرون أنهم يحبون المؤمنين ، وإنما قال عليكم مع أن الوحى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنا متعبدون بما أنزل إليه ، فهو خطاب متوجه إلينا ، وواقع علينا بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبلغ من تقدير مضاف ، أى ينزل على نبيكم ، ولا تنزيل إلا من الله ، ومع ذلك قال { مِّن رَّبِّكُمْ } إغاظة للكفار ، وتحبيباً لنفسه إلينا ، وتذكيراً لنعمة التربية منه ، والعبودية منا له.

{ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } أى السعادة والجنة ، أو النبوة ، أو هى الخير المذكور ، ذكره بالاسم الظاهر تصريحاً بأنه رحمة من الله ، وفضل لا واجب عليه ، ولا يوجبه عمل عامل ، أو أراد بالرحمة مطلقها فى الأمة وسائر الأمم { مَنْ يَشَآء } هو النبى صلى الله عليه وسلم وأمته دون اليهود والمشركين والمنافقين ، وهو العموم { وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } كل خير دينى أو دنيوى أو أخروى منة من الله عز وجل .

لآيات ( 106 - 113 )
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

ولما قال اليهود والمشركون من العرب : محمد يقول من عنده لا من الله ، لأنه يأمر بأمر ثم ينهى عنه نزل :
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ } نرفع حكمها ولفظها ، أو نرفع حكمها ، ونبقى لفظها ، أو نرفع لفظها ونبقى حكمها { أَوْنُنْسِهَا } نرفعها من قلبك ، ونمحها منه ومن قلوب أصحابك فلا يدركون لفظها ولا معناها ، ولا العمل بها ، وهذا قسم آخر ، لأنه قد يكون فى الأخبار ، وقد يكون فى غيرها ، فإما أن يكون معناها فى آية أخرى ، أولا ، فيكون قد رفع التكليف بها ، وهو شامل النبى صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله } وأما الامتناع فى قوله تعالى { ولو شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إلينا } فباعتبار مالا يجوظ نسخه ، أو باعتبار الكل ، وبين النسخ والإنساء عموم وخصوص يجتمعان فى الرفع عن القلوب ، ويختص النسخ بمنسوخ الحكم مع بقاء التلاوة ، وبالعكس ، ويختص الإناء بالأخباء التى أذهبت عن القلوب { فَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ } ثواباً أو سهولة فى الامتثال { أَوْ مِثْلِهَآ } فى ذلك ، كما قال : « وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل ، قالوا : إنما أنت مفترٍ » .

روى أن جماعة من الصحابة قاموا ليلة ليقرأوا سورة ، فلم يبق لهم منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فأخبروه صلى الله عليه وسلم غدوة الليلة ، فقال : رفعت تلاوتها وحكمها ، ومما نسخ لفظه وحكمه : عشر رضعات معلومات يحرمن ، وكثير من سورة الأحزاب ، وكانت كالبقرة ، إلا أنه يحتمل بقاء بعض حكمها فى سورة أخرى .

قال بعض الصحابة : كنا نقرأ سورة تشبهها فى الطول والشدة ببراءة ، فأنسبتها ، غير أنى حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا تراب ، وكنا نقرأ سورة تشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أنى حفظت منها { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فتكتب شهادتها فى أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة .
ومما نسخ لفظه فقط آية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما . . . الآية ، قال عمر : قرأناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ، إذا كانت البينة أو الحمل أو الاعتراف ، وكانت فى سورة الأحزاب ، وقيل فى النور ، وقوله تعالى : خروجكم عن آبائكم كفر ، يعنى انتسابكم إلى غيرهم .

ومما نسخ حكمه فقط آية عدة الوفاء بالسنة ، نسخت بآية العدة بأربعة أشهر وعشر ، وآية وجوب ثبوت واحدة لعشرة بآية ثبوت واحد لاثنين .

ويكون النسخ بالإبدال إلى أخف كالأربعة الأشهر ، والمصابرة لأقل من ثلاثة ، وإلى أثقل كوجوب الصوم بعد التخيير بينه وبين الإطعام ، وكترك القتال حتما إلى وجوبه فيما قيل ، ونسخ الإباحة إلى التحريم ، كتحريم الخمر بعد إباحتها ، وإلى مساو كنسخ الصلاة إلى القدس بالصلاة إلى الكعبة ، وبلا إبدال ، وحمل عليه قوله عز وعلا : « أو ننسها » فالمعنى نأت بغيرها فى غير شأنها ، وأما نسخ وجوب صوم عاشوراء إلى الندب بصوم ثلاثة أيام من كل شهر ، أو برمضان أو صوم الثلاثة برمضان فموجود ، إلا أنه لا يوجد المنسوخ فى القرآن صراحا ، بل بتأويل .

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } زيادة تثبيت للنبى صلى الله عليه وسلم ، وأمته تبع له ، أو الخطاب لكل من يصلح له ، يعلمون أن الله لا يعجزه شىء ، فقد نسخهم قردة وخنازير بعد أن كانوا فى صورة البشر ، وليس ذلك بداوة ، بل قضى الله الأزل ، أن بقاءهم فى صورة البشر إلى وقت مخصوص ، فكذلك قضى الله فيه ، أن الآية تبقى إلى كذا ، ثم إنه إن كان النسخ إلى أخف فالخيرية فى النفع ، أو إلى أثقل فالخيرية فى الثواب ، هذا فى الحكم ، وإن كان النسخ فى اللفظ إلى أخصر فالخيرية فى النفع ، أو إلى أطول نفى الثواب ، وإن كان فى اللفظ والحكم إلى أخف حكما وأخصر لفظاً فالخيرية فى النفع ، أو إلى أثقل حكما وأطول لفظا فالخيرية فى الثواب ، أو إلى أخف حكما وأطول لفظا فالخيرية فى النفع والثواب ، أو إلى أثقل حكما وأخصر لفظا فالخيرية فى الثواب بالنسبة للحكم ، وفى النفع بالنسبة إلى اللفظ ، منه بعضهم النسخ إلى أثقل .

والنسخ دليل على أن القرآن حادث مخلوق ، ولا نثبت الكلام النفسى ، فضلا عن أن يقال : التعبير من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسى ، وهى الأفعال ، فى الأمر والنهى ، والنسب الخبرية فى الخبر ، وفى إثبات الكلام النفسى إثبات كون الله ظرفا ومتحيزا ، وإن رجع ذلك إلى العلم لزم أن كل ما علمه قديم ، والقرآن هو هذه الألفاظ ، لا غيرها .
-----------------------------------------------------

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالاَرْضِ } له التصرف فيهما بالزيد والنقص والتغيير ، ومن له ذلك فكيف وله أضعافها : العرش والكرسى وغيرهما ، فله التصرف بالنسخ ، وكل ذلك على ما سبق به قضاؤه الأزلى ، ولم تعطف هذه الجملة لأنه إيضاح لما قبلها ، وتأكيد فى المعنى ، وللإشعار بأنها مستقلة فى الاحتجاج.

{ وَمَا لَكُمْ } الخطاب لكفار العرب وغيرهم { مِّن دُونِ اللهِ مِنْ وَلِىٍّ } يحفظكم عن توجه العذاب إليكم { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفعه عنكم إذا أتاكم ، وقد يضعف الولى عن النصرة ، وقد يكون النصير أجنبياً ، فبينهما عموم وخصوص من وجه ، فعموم الولى فى النصر وعدمه ، وخصوصه فى القرابة ، وعموم النصر فى القرابة ، وعدمها ، وخصوصه فى إيقاع النصر جزءاً ، ومن وليه الله لا يجد إلا خيراً فى أمر السنخ وغيره ، ولا يرتب ، والمراد بالولى الولى من حيث الدفع ، وإلا فلكل أحد ولىّ ، وما حجازية لم تعمل لتقدم الخير ، ويجوز أن يكون اسمها اسم فاعل ، تاب عنه لكم ، وولى فاعل له ، أغنى عن خبرها ، أى ما ثابت لكم ولى ولا نصير ، كما تقول ، ما قائم الزيدان .
--------------------------------------------------

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{ أمْ } بل أتريدون ، وهو إضراب انتقال عن قصة ، لا إبطال { تُرِيدُونَ } يا معشر العرب ، وغيرهم كاليهود { تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ } أعلمهم أنه رسول للعرب واليهود وغيرهم ، أما العرب فسألوه ، أن يوسع أرض مكة بإذهاب الجبال عنها للحرث والنزهة ، وأن يجعل الصفا ذهباً ، ويبعث قُصَيّاً يخبرهم أنه نبى ، قال السدى : وأن يروا الله جهرة ، قال : نعم ، على أنه لكم كالمائدة لبنى إسرائيل فقال ابن أبى العالية ، أن تكون كفارانا ككفارات بنى إسرائيل ، فقال : كفاراتكم خير ، الاستغفار ، والصلوات ، والجمعة ، وكفاراتهم خزى ، فإن لم يكفروها نفى الآخرة ، ومن ذلك قول رافع بن خزيمة ، إن كنت رسولا فليكلمنا الله لنسمع كلامه ، وقال عبدالله بن أمية المخزومى فى رهط من قريش : ما أومن بك حتى تفجر : إلى قوله : نقرؤه ، وقال بقية الرهط ، فائتنا بكتاب جملة مكتوب كالتوراة ، وأما اليهود فسألوه ، أن يأتى بالكتاب جملة كالتوراة ، وأن يأتى بالله والملائكة قبيلا ، ونحو ذلك.

{ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } سأله اليهود أن يريهم الله جهرة ، وأن يجعل لهم إلهاً كما جعل قوم لأنفسهم آلهة ، ونحو ذلك { وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ } يأخذ الشرك والكبائر بدل التوحيد ، والإيمان بترك التفكر فيما أنزل الله ، وطلب آيات أخر تعنتاً { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءً } أى عن سواء ، أو أخطأ سواء { السَّبِيل } أى السبيل السواء ، أى المعتدل ، وهو الحق ، قيل قوله « ومن يتبدل الكفر الإيمان » . إلخ يدل على أن الخطاب فى قوله تعالى : ألم تعلم ، وما لكم ، وأم تريدون للمؤمنين ، لأن هذا لا يصح إلا فى المؤمنين ، لأنهم آمنوا ، فنهوا أن يبدلوه بالكفر ، قلت : لا يتعين هذا ، لجواز أن يكون معنى التبدل إعراض الكفرة عن التوحيد والإيمان ، واستدل على أن الخطاب فى ذلك كله للمؤمنين ، بأن قوله « أم تريدون » عطف على { لا تقولوا راعنا } .

قلت : لا يتعين لجواز أن تكون أم حرف ابتداء للإضراب كما مر ، ولا داعى إلى تقدير ، أتفعلون ما أمرتم من السمع ، وقول ، انظرنا ، أم تريدون ، واستدل على أن الخطاب للمؤمنين بأنهم كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عما لا خير فيه ، كما سأل اليهود موسى عليه السلام ، كما روى أنهم قالوا ، اجعل لنا ذات أنواط ، كما أن للمشركين ذات أنواط ، شجرة يعبدونها ، ويعلقون عليها سلاحهم ومأكولهم ومشروبهم ، إلا أنهم لم يريدوا أن يعبدوها ، فقال : الله أكبر ، هذا كما قال لأخى موسى قومه اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، والذى نفسى بيده لتركبن سَنن من قبلكم ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكن فيكم ، أفلا أدرى أتعبدون العجل أم لا . واختار بعض أن الخطاب لليهود ، لأن الكلام فيهم من قوله يا بنى إسرائيل ، اذكروا .
-------------------------------------------------

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
{ وَدَّ كَثِيرٌ } منهم ، حيى بن أخطب ، وأبو ياسر ، وكانا أشد الناس حسدا للعرب على الإسلام وكون النبى منهم { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ } أحب وتمنى كثير من اليهود ردكم ، أى تصيركم { مِّن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّاراً } مشكرين وقوله { حَسَداً } تعليل لود ، لا ليرد ، لأن المعنى عليه ود ، وأن يكون الرد للحسد ، وليس مراداً ، ووصف الحسد بقوله { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } لخبثها الشديد فلا موجب لذلك الرد من التدين ، بل تشهيا ، أو من عند ذواتهم ، كأنهم جبلوا عليه ، فيصعب زواله { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ } فى التوراة ، بموافقة تعوته فيها وبالمعجزات { الْحَقُّ } أى بعد تبين الحق لهم ، أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن .

قال نفر من أحبار اليهود كفنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس لحذيفة وعمار بعد أحد ، لو كنتم على الحق لما غلبتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم ، فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : أمر شديد ، فقال : عاهدت الله تعالى ، ألا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت ، فقالت اليهود ، أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله ربّاً ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا ، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفلحتما ، فنزل : " ود كثير ".

{ فَاعْفُواْ } عن اليهود والعرب ، كما لم يذكر لفظ عنهمن والفاء تدل على اليهود أولا وبالذات ، ودخلت العرب ثانيا وبالتبع لا تعاقبوهم ، { وَاصْفَحُواْ } عنهم ، لا تعاتبوهم العتاب الشديد ، وضعف ما قيل ، لا تخالطوهم ، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ، وأصل العفو محو الجريمة ، من عفا إذا اندرس ، وترك العقوبة لازمة ، وبينهما عموم وخصوص ، من وجه ، يجتمعان إذا لم يعاقب ولم يعاتب { حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ } واحد الأمور . وهى القيامة ، والجزاء فيها ، وقوة الرسالة وكثرة الأمة ، أو ضد النهى ، بأن يأذن فى قتالهم لوقته ، فجاء الإذن فى قتال العرب قبل بدر ، إذ قال { أذن للذين يقاتلون } الآية ، وجاء الإذن فى أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وبقتل قريظة وإجلاء النضير بعد أحد ، بل بعد الأحزاب ، وهى بعد أحد { إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه الانتقام منهم .

--------------------------------------------------
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
{ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ } بطهارة وخشوع وإخلاص مع تأديتها بأجزائها ، وهكذا فى سائر القرآن { وَءَاتُوا الزَّكَوةَ } صيروها آتية أهلها ، بأن توصلوها إلى مستحقيها ، وعلى أصحاب الزكاة مؤونة حملها والمجىء بها حتى تصل العامل الذى جاء إليها ، أو للفقير إذ لم يكن الإمام ، أو أمرهم بتفريقها ، وذلك هو الأصل . وإن جاءها الفقير أو وكيله وقبضها أجزت ، والمراد بالزكاة الجزء المعلوم من المال ، ويجوز أن يراد جعلوا التزكية آتية منكم إلى أهلها ، وكذلك فى سائر القرآن ، وذلك أمر بالعبادة البدنية والمالية ، لأنها تدفع المكروه ، وزعم الطبرى أنها كفارة ، لميلهم إلى قول اليهود ، راعنا ، وهو مردود.

{ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ } طاعة ، كأمر ونهى ، وتعليم وصلة رحم ، وأداء فرض أو سنة أو نفل { تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ } تعلمون أن الله عالم به ، وأولى من هذا ، تجدونه بوجود ثوابه ، سمى الثواب باسم سببه وملزومه ، أو يقدر ، تجدون ثوابه اللقمة والتمرة كأحد ، أو تجدونه نفسه مجسما ، وأنا أقول ، لا بأس بتجسيم الأعراض ، لأن الله قادر على إنشاء كل شىء من أول ، فهو قادر على تصيير العرض جسما ، كما جاءت الأحاديث والآثار ، بأنه تجيئه صلاته بصورة رجل حسن ، وتجيئه صدقته ظلا ، وهكذا فى الشر ، إلا أنى لا أقول بوزن ما تجسم من الأعراض { إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عنه شىء ، فهو يجازى على مثاقيل الذر من خير وشر .
---------------------------------------------------

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
{ وَقَالُواْ } متعلق بقوله رد كثير ، والواو لأهل الكتاب ، لا لكثير فى قوله : ود كثير من أهل الكتاب ، أو لليهود والنصارى ، ولو لم يتقدم ذكر النصارى ، لدلالة ما بعده عليهم ، أو على الاستخدام ، لأن الكثير المذكور أريد به أحبار اليهود خاصة ، إلا أنه لا مانع من أنه يراد به النصارى { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَرَى } أى قالت اليهود ، لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، وروعى فى هوداً ونصارى معنى من ، إذ هما جمع هائد ، أى تائب من عبادة العجل ، أو منتسب لليهود ، وقد قيل ، هوداً مخفف من يهود ، بحذف الياء ، ونصرانى أو نصران أو نصرى .

وقدم نصارى نجران إليه صلى الله عليه وسلم ، وناظرهم أحبار اليهود ، وارتفعت أصواتهم ، قالت اليهود للنصارى : ما أنتم على شىء ، وكفروا بعيسى والإنجيل ، والجنة لنا دونكم ، وقالت النصارى لليهود ، ما أنتم على شىء وكفروا بموسى والتوراة ، والجنة لنا دونكم ، فنزلت الآية ، جمعهم بالواو فى قالوا ، لأن السامع يميز ما قال كل ما بعده ، لأن اليهود لا تقول ، لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، والنصارى لا تقول ، لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، ولا تقول اليهود والنصارى ، لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى ، لأنه بنافيه سبب النزول ، وقوله : { وقالت اليهود ليست النصارى } الآية ، وأو بمعنى الواو ، أو للتفصيل ، كما قال : وقالوا كونوا هوداً أو نصارى.

{ تِلْكَ } القولة ، التى هى قولتهم لن يدخل الجنة . . . الآية { أَمَانِيُّهُمْ } شهواتهم الباطلة التى يتمنونها ، أى يقدرونها ، ويقطعون بها ، جمع أمنية ، وأصل هذا المفرد أمنوية ، بوزن أضحوكة قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فى الياء ، وقلبت ضمة النون كسرة ، وهذا الوزن للمبالغة ، وهو بمعنى الأكاذيب حقيقة ، وبمعنى ما يتمنى مجاز .

{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَنَكُمْ } حجتكم عليها ، والأصل هاتيوا ، ثقلت الضمة على الياء فنقلت للتاء ، وحذفت الياء للساكن ، والماضى هاتى ، والمضارع يهاتى ، لكن لا يتصرف ، ولكن الأصل بذلك ، وقيل يتصرف ، وقيل ، الهاء عن الهمزة ، وقيل للتنبيه ، والهمزة حذفت ، أو اسم فعل ، وزعم بعض أنه اسم صوت ، ويرده اتصال الضمير به ، والبرهان من البره ، وهو القطع ، والحجة تقطع الخصم ، والنون زائدة ، أو من البرهنة بمعنى البيان ، فالنون أصل كذا قيل ، ويحتاج إلى ثباته فى كلام العرب ، وإلا فلعل لفظ البرهنة تصرف من غير العرب.

{ إِنْ كُنْتُمْ صَدِقِينَ } فيها ، وإنما قال : أمانيهم بالجمع مع أن القولة أُمنية واحدة ، لأنها قالته اليهود ، وقالتها النصارى ، فاستعملوا الجمع فى اثنتين ، أو لأنها تعدد قولها فى اليهود ، وغالبهم بقولها وأيضا يرددها فى نفسه ، وتعدد قولها فى النصارى ، وغالبهم يقولها ، وأيضا يرددها فى نفسه ، ولأن لليهود أمنية أن يدخلوها ، وأمنية ألا يدخلها غيرهم ، وللنصارى أمنية أن يدخلوها ، وأمنية ألا يدخلها غيرهم ، فهؤلاء أربع أمانى ، أوعد الأمنية الواحدة أمانى لشدتها ، أو الإشارة إلى تلك القولة ، وإلى تمنيهم ألا ينزل على المؤمنين خير ، وتمنيهم أن يردوهم كفاراً ، أو قولهم { لن تمسنا النار إلا أياماً . }
----------------------------------------------------

بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
{ بَلَى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، ولو كانوا أيضاً لا يدخلونها ، فالمعنى ، لا يدخلونها ، وغيرهم يدخلها ، وقد تقع فى غير النفى والاستفهام { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ } أخضعه { لِلهِ } وخص الوجه لأنه أعظم ، إذ فيه أكثر الحواس بل كأنها ، وشاركه غيره فى الحس ، ولأنه موضع السجود الذى العبد فيه أقرب ما يكون من ربه ، فغيره أولى بأن يكون قد أسلم لله ، أو الوجه بمعنى الذات كلها إذ هو جزؤها الأعظم ، أو بمعنى قصده { وَهُوَ مُحْسِنٌ } موحد عامل متق ، ولو لم يبلغ إلى قوله صلى الله عليه وسلم ، الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه { فَلَهُ أَجْرُهُ } ثوابه على عمله وتقواه ، وتوحيده ، وهو الجنة { عِنْدَ رَبِّهِ } عندية علم وعهد وتشريف { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فى الآخرة إلا خوفا يحدث لعظم الهول ، ويزول ويعقبه الأمن الدائم { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فيها على فوت التوحيد ، والعمل والتقوى ، لأن ذلك لم يفتهم ، وإنما يحزن من فاته أو بعضه ، وأما فى الدنيا فالمؤمن من أشد حزنا فى أمر دينه ، وفصل قوله : وقالوا لن يدخل الجنة . . . إلخ بقوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ } أحبارهم فى المدينة ، أو نافع بن حرملة ، ونسب للجميع لأنه منهم ، وراضون بقوله ، أو مطلقا ، ذكر الله اعتقاد من اعتقد ذلك ، ولفظ من لفظ ، وهم القليل { لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ } . معتد به من الدين ، كفروا بالإنجيل وعيسى وأثبتوا الحق لأنفسهم .

{ وَقَالَتِ النَّصَرَى } كلهم إلا قليلا منهم أو واحد منهم كما مر ، أو من وفد من نصارى نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر الله اعتقاد من اعتقد ، ولفظ من لفظ ، وهو القليل { لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىءٍ } معتد به من الدين ، كفروا بموسى والتوراة ، وأثبتوا الحق لأنفسهم ، ونفى الشىء فى الموضعين كناية عن عدم الاعتناء ، وهى أبلغ من التصريح { وَهُمْ } أى الفريقان { يَتْلُون الْكِتَبَ } جنس الكتاب ، تتلو اليهود التوراة ، وتجد فيها تصديق عيسى والإنجيل ، وتتلو النصارى الإنجيل وتجد فيه تصديق موسى والتوراة ، أو تتلو اليهود التوراة والإنجيل ويجدون فيهما تصديق الكل ، وكذا النصارى ، وقيل المراد التوراة.

{ كَذَلِكَ } كقول اليهود للنصارى ، والنصارى لليهود ، { قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وهم مشركو العرب وغيرهم ، كأمم قبل اليهود والنصارى { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } قالوا لكل ذى دين ، ليسوا على شىء يعتد به ، وفى ذلك تشبيهان ، تشبيه المقول بالمقول فى المؤدى ، وتشبيه القول بالقول فى الصدور عن مجرد الهوى ، ولو زاد اليهود بالتعصب فليس فى الآية تكرير ، بل فيها مزيد التوبيخ ، بل شبه جمع في نفى الحق من فى يده علم التوراة والإنجيل بمن لا علم له من عبدة الأصنام كقريش ، ومن ينكر الله ، والمراد بالتشبيه التنظير ، أو هو من التشبيه المقلوب ، إذ شبهوا بالجاهلين ، وكذلك مفعول لقال ، أى مثل قول اليهود والنصارى ، قال الذين لا يعلمون ، ومثل مفعول به ليعلمون ، بمعنى يعتقدون ، أو مفعول به لقال ، أو مفعول مطلق له ، وكذلك مفعول به له ، أو مثل توكيد لكذلك لا بدل ، لا تحاد مفهومهما ، بخلاف ، جاء زيد أخوك ، فإن الأخوة ليست مفهومة لزيد.

{ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } بين الفريقين ، وبينهما وبين الذين لا يعلمون ، والمراد الفريقان بالذات؛ لأن الكلام فيهما ، والذى لا يعلمون بالتبع { يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر الدين ، فيدخل الجنة من عمل بالناسخ وترك ما نسخ . وذلك إشراك ، ومن أشرك بعبادة الصنم ، أو بإنكار الله ، وأيضاً المشركون أسف الناس ، واليهود فى لظى ، والنصارى فى الحطمة ، وذلك من الحكم المذكور ، فالحكم بينهم أن يقسم لكل فريق يوماً يليق به من العذاب .

الآيات ( 114 - 123 )

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَجِدَ اللهِ } أى مسجد كانت من مساجد الإسلام { أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } بتلاوة كتب الله ، والصلاة ، وسائر الأذكار ، والاستفهام للنفى ، أى لا أحد أظلم ، وقد ثبت الظلم لغير مانع المساجد ، ولكن مانعها أعظم ظلماً من المعصية ، بمنع غيرها ، أو بغير منع لشىء ، لكن جاء أيضاً « ومن أظلم ممن كذب على الله » ونحو هذا ، فنقول : ذلك كله أمر واحد ، مفضل على غيره ، كأنه قيل : المفترى على الله ، ومانع المساجد ونحوهما أظلم من غيرهم ، والتفضيل بينهم يوكل إلى الفهم ، مثل أن تقول ، من قال ، اتخذ الله ولداً أظلم من المفترى عليه؛ والمفترى عليه أظلم ممن منع مساجد الله ، والممنوع الناس ، لا المساجد ، ولكن أوقع على المساجد لأنها محل إيقاعهم العبادة ، وللإشارة إلى أنها مظلومة ، كما ظلم الناس ، ولأنه يوقع لها تمييز لمن يتعبد فيها ، فظلمت بمنع من تحبه عنها ، ومنعهم كإغلاقها ، وبعد ذلك ، قال : الممنوع ذكر الله ، أو المراد ، لأجل ذكره ، أو من أن يذكر ، والمراد بالمساجد كل مسجد خرب ، أو سيخرب ، ومنع أو سيمنع كما منعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قبل الهجرة ، وفى عام الحديبية ، أن يدخلوا المسجد الحرام للعمرة.

{ وَسَعَى } اجتهد { فِى خَرَابِهَا } فى تحصيل خرابها ، أو اسم مصدر ، أى فى تخريبها ، بالتعطيل أو الهدم كما هدم بخت نصر بيت المقدس ، وألفى فيه الجيف ، وذبح فيه الخنزير ، وأحرق التوراة ، وقتل بنى إسرائيل وسبى الذرارى ، وكما فعل ططيوس الرومى وقومه من روم ونصارى ذلك بعد أن بنى على عهد عزير ، وبقى خراباً إلى أن عمره المسلمون على عهد عمر رضى الله عنه ، ويجوز أن يراد بالمساجد المسجد الحرام ، وتخريبه تعطيل قريش للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنه ، جمع تعظيماً ، ولأن مساجد الإسلام كلها تنبنى عليه وتبنى إليه ، ولأن معطل مسجد حق كمانع المساجد كلها ، كما أن مكذب نبى أو كتاب كمكذب الأنبياء وأعظم الكتب.

{ أُولَئِكَ } المانعون الساعون فى خرابها { مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } وقد تحقق ذلك وقوعاً فى مدة عظيمة ، لا يدخل مشرك ، نصرانى ولا رومى ولا غيره ، مسجداً من مساجد المسلمين إلا خائفاً ، وهذا إلى الآن إلا مساجد بلاد أخذوها ، ولا يدخل مشرك المسجد الحرام إلا الآن إلا خائفاً متنكراً ، ومضى زمان مديد من عهد عمر وما بعده ، لا يدخل بيت المقدس مشرك ، ولا يوجد فيه إلا أُوجع ضربا ، وليس فى الآية أنه لا يدخلها أبداً ، بل فيها ، أنه يتحقق هذا المقدار من عدم الدخول إلا مع خوف ، فلا يرد ما ذكرت من دخولهم مساجد بلاد أخذوها ، ودخولهم المسجد الحرام ، وأخذهم الحجر الأسود ، ثم إنه رد ، وكون المقدس فى يد الإفرنج أكثر من مائة سنة بحيث لا يدخله مسلم إلا خائفا ، حتى نزعه منهم الناصر صلا الدين يوسف ، وذلك إما على أن معنى الآية أن الله قضى ألا يدخلوها إلا خائفين وعدا بالنصر للمؤمنين ، وإما على معنى أنه لا يجوز لكم أن تتركوهم ودخلوها ، أو ما كان الحق أن يدخلوها إلا خائفين أن تبطشوا بهم ، فضلا عن أن يجترثوا على تخريبها ، أو يمنعوا المؤمنين عنها ، ولا يجوز عندنا أن يترك مشرك أن يدخل مسجداً إلا إن لم تقدر ، وذلك قول مالك ، لقوله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام }.

والمساجد كلها مثله فى التطهير عن الأنجاس ، فهى مثله أيضاً فى الحرمة ، وأجازه الشافعى فى غير المسجد الحرام بشرط الحاجة فيه ، وأذن مسلم له ، لذكره فى الآية ، وإدخال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف وغيرهم المسجد منسوخ بهذه الآية { إنما المشركون نجس . . . } إلخ . لاستلحاقه سائر المساجد مع علة النجس والحرمة ، ولقوله { ما كان لهم } إلخ ، سواء فسرناه بالأمر بإبعاد المشركين عنها ، أو بقضاء الله ، لأنه أمر يرغب فيه ، فلا إشكال ، وأجازه أبو حنيفة مطلقا { لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } بالقتل والسبى فى بعض ، والجزية فى البعض الآخر ، وأصل الخزى ذل يستحيا منه ، ولذلك يستعمل فى كل منها ، والقتل والسبى ذل عظيم يستحى منه فى السبى دون القتل ، إلا إنه يقال ، يستحى منه المفتول قبل أن يقتل ، وأصحابه وقرابته ، قبلت النضير الجزية ، وقتل بعض قريظة وسبى بعض.

{ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فى النار ، لمنعهم مساجد الله وسعيهم فى خرابها ، وكان صلى الله عليه وسلم يصلى النافلة على الدابة ، أينما توجهت من مكة إلى المدينة ، وفى غير ذلك حتى الوتر قبل أن يفرض عليه وحولت القبلة إلى الكعبة ، وطعنت اليهود فى ذلك كله ، وقالوا : لا قبلة لهم معلومة ، وصلى على اجتهاده إلى جهة ليلا فى غزوة ومعهم النبى صلى الله عليه وسلم ، وقيل ، لم يكن معهم لظلمة ، فلما أصبحوا تبين أن بعضا صلى إلى الشمال ، وبعضا إلى الجنوب ، فنزل قوله تعالى :

{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } استلحقا جوانبهما ، فذلك الأرض كلها { فَأَيْنَمَا } هو المكان الذى أتم فيه ، أو الذى استقبلتم إليه { تُوَلُّواْ } وجوهكم فى الصلاة ، بأمره لكم بالتولية { فَثَمَّ وَجْهُ } ذات { اللهِ } أو فثم الله بالعلم والحفظ وسعة الرحمة وغير ذلك ، أو فثم جهة الله ، أى الجهة التى أمركم بها ، وليس توليكم باختياركم حتى يصيبوكم بصلاة بعض الجنوب وبعض إلى الشمال فى السفر ، للجهل بالجهة فى غزوة ، وقد قيل ، نزلت الآية فيهم ، وقيل فى الصلاة على الراحلة للضرورة وصلاة النفل عليها مطلقا ، وفى ذلك اختصاص لنا بأن نصلى حيث أدركتنا الصلاة لا كمن قبلنا لا يصلون إلا فى كنائسهم ، وكان عيسى عليه السلام يصلى حيث أدركته الصلاة فصلوا إلى الكعبة ، وقوله فصلوا إلى الكعبة متعلق بقوله ، وليس توليكم باختياركم ، وما بينهما اعتراض ، والنفل على الراحلة ، وصلوا فى الأرض كلها ، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً ولا يضركم أن منعوكم عن المسجد الحرام أو الأقصى ، وقبل فتح المقدس منع المسلمون من الصلاة فيه ، وقيل منعهم الإفرنج حين استولوا عليه حتى رده صلاح الدين ، وعليه فالآية إخبار بالغيب.

{ إِنَّ اللهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ } يسمع فضله وعلمه كل شىء ومن سعة فضله أن جعل لكم الأرض مسجداً ، فقيل ، ولو سبخة حال الاختيار ، ولا بد من الطهارة ، ون قبلنا لا يصلون ، إلا فى مساجدهم ، فإذا غابوا عنها تركوها وقضوها .
----------------------------------------------------

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
{ وَقَالُوا } عطف على منع ، أى ومن أظلم ممن منع وسعى ، وقالوا ، أى وممن قالوا { اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً } قالت العرب وبعض النصارى ، الملائكة والجن بنات الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالت اليهود عزير ابن الله . ومن قال بالأبوة والنبوة بمعنى الرحمة لم يجز له ذلك ، لأن لفظ الكفر كفر ، ولم لم يعتقد ظاهره ، وإن صح أن عيسى قال بذلك على معنى الرحمن فقد قيل به على ظاهره بعده ، فيكون لفظ الشرك بحكم الشرع قطعاً لمادة الشرك ، وقد كان بعض بربر الغرب يقولون للرحمن باب ، فقال بعض علماء المغرب :

يَقُولُونَ لِلرَّحْمَنِ بَابٌ بِجَهْلِهِمْ ... وَمَنْ قَالَ لِلرَّحْمَنِ بَابٌ فقَدْ كَفَرْ
وأجاب بعض بأنه لا كفر ، إذ لم يقصدوا الإشراك ، ومن قاله ولم يرد الإشراك فليس شركا لكن ينهى عن قوله { سُبْحَنَهُ } نزهوه أيها المؤمنون عن الولد تنزيها ، لأن الوالد له جهات وحدوث وفناء فيخلفه ولده ، والله بخلاف ذلك.

{ بَلْ لَّهُ مَا فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } من غير العقلاء ، ولفظ ما هنا للأنواع ، والأنواع غير عاقلة ، وإنما العاقل بعض الأفراد ، والمملوك والمخلوق لا يكونان ولدا ومخلوقا للخالق والمالك { كُلٌّ } مما فى السموات والأرض ، عليهما وما فيهما من أجزاء { لَّهُ قَنِتُونَ } عابدون عبادة يعلمها الله ، أو منقادون لما أراد الله ، ومن زعموه ولدا فقد أذعن للعبودية لله ، وهم ممن فى السموات والأرض فليسوا بأولاد ، الآية تناسب حديث : من ملك ذا رحم ، أى وكان محرما ، عتق عليه ، وجمع السلامة للمذكر تغليل ، وتلويح بأن الجمادات وغيرها كالعقلاء فى الانقياد ، أو لأن الله خلق تمييزاً للجمادات يتعبدون به ، أو جمع سلامة للمذكر تغليب للعقلاء الذكور .
---------------------------------------------------

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
{ بَديعُ } هو بديع { السَّمَواتِ والأَرْضِ } أى غريب شكلهما ، إذ أوجدهما بلا مثال سابق ، وفائقهما فيما تشاهد ، والعرش ولو كان أعظم منها لا نشاهده ، صفة مشبه أضيفت لفاعلها ، لأن يدع لازم لا مفعول له ، كقولك زيد كثير المال ، وقد يقال بمعنى مبدع ، أضيف لمفعوله { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } أراد إيجاده { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ } أى احصل { فَيَكُونُ } فهو يكون ، أى يحصل بلا توقف ، وليس هناك قول ، بل تمثيل لوجود ما يريد وجوده بسرعة .
----------------------------------------------------

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{ وَقَالَ } إلخ ، عطف على قالوا ، اتخذ الله ، أو على ما عطف عليه ، وذلك قدح فى التوحيد ، وهذا قدح فى النبوة { الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } مشركو العرب من مكة وغيرها ، أو مع اليهود والنصارى وغيرهم ، وقيل المراد اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما ، أن رافع بن خزيمة اليهودى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت رسول الله تعالى فقل له يكلمنا حتى نسمع كلامه فنزلت هذه الآية ، وقوله تعالى : يسألك أهل الكتب . . . إلخ ، وقيل النصارى ، وأنهم المرادون فى قوله تعالى ، وقالوا اتخذ الله ولدا ، المذكورون فى الآية ، وهو ضعيف .

{ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ } جهرة ، أو بإنزال الوحى إلينا { أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ } على صدقك ، كتصيير الصفا ذهبا ، وإفساح الجبال عن مكة ، وبعث قصىّ ، وأن يأتى بالله والملائكة قبيلا ، أو نحو ذلك مما مر ، لولا أنزل علينا الملائكة ، أو ترى ربنا { كذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من الأمم الماضية لأنبيائهم { مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } كما قالوا ، أرنا الله جهرة ، هل يستطيع ربك . . . الخ ، وليس من طلب الآيات ، لن نصبر على طعام واحد . . . الخ ، اجعل لنا إلها ، بل مجرد عناد وفساد { تَشَبَهَتْ قُلُوبُهُمْ } قلوب هؤلاء وأولئك فى الكفر والعناد فلا يشتد حزنك يا محمد ، إذ قيل لك ما قيل لمن قبلك { قَدْ بَيَّنَّا الآيَتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بأنها آيات توجب الإيمان ، أى نزلناها بينة من أول الأمر لا غير ، مبينة ، ثم بيناها ، وهذا كقولك ، وسع فم البئر ، وأدر جيب القميص ، وسبحان من صغر البعوض .
---------------------------------------------------

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{ إِنَّا أَرْسَلْنَكَ } يا محمد { بَالْحَقِّ } مع الحق ، أو مؤيدا به ، وهو دين الإسلام ، أو لأجل إقامته { بَشِيراً } لمن اتبعه بالجنة { وَنَذِيراً } لمن خالفه بالنار ، ولم نرسلك لتجبر عليه ، إن أنت إلا بشير ونذير ، لست عليهم بمسيرط { وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ } النار الملتهبة وأصحابها اليهود والنصارى ، ومشركو العرب وسائر المشركين ، لا تسأل عنهم ، فإن عقابهم لا يسعه إخبارك به ، ولا يحتمله فهمك ، فلا فائدة فى السؤال عنه ، والله قادر على الإخبار به ولكن لا يمكنك الاطلاع عليه فى الدنيا فتسلَّ بشناعته عن ضرهم لك ، أو لا نسأل عنهم سؤال تحسر ، لِمَ لم يؤمنوا مع وضوح الدلائل .

وعن ابن عباس ، أنه صلى الله عليه وسلم سأل الله عن أبويه ، فنزلت نهيا عن السؤال عن الكفرة عموما ، وإنما سأل عن خفة عذابهما وشدته ، أو عن حال أهل الفترة ، فأخبره بأنهم غير معذورين ، وذلك قبل أن يحييهما الله ويؤمنا به ، على ما روى ضعيفا .

وروى أنه سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما ، فذهب إليهما ، فدعا لهما ، وتمنى أن يعرف حالهما ، وقال : ليت شعرى ، ما حالهما فى الآخرة ، فنزلت الآية .
والصحيح أن الآية فى أهل الكتبا ، أو فيهم ، وفى سائر المشركين ، لا فيهما ، ولا بأس على من وقف فيها لشبهة ما ذكروا من الأحاديث فى إيمانهما ، إذ كانت ضعيفة ، لا للحمية ، والضعف فى الولاية والبراءة .
----------------------------------------------------

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{ لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتِّبِعَ مِلَّتَهُمْ } أفرد الملة مع تعددها ، لأن مللهم كلها كفر ، والكفر ملة ، وسميت ملة ، لأن الشيطان أملها عليهم ، أو أهواؤهم وأنفسهم ، كما أن دين الله عز وجل أمله جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم ، قالوا له صلى الله عليه وسلم ، لن نرضى عنك حتى تتبع ديننا وملتنا ، فإنه الهدى ، فأنزل الله عليه ، وهو فى اللوح المحفوظ سابق ، وأعلمه أن الأمر كما قالوا لا يرضون عنك إقناطا له عنهم ، إذ اتباعه ملتهم فى غاية البعد التى لا غاية بعدها ، كان يلاطفهم طمعا فى إيمانهم حتى نزلت ، وعلمه أن يرد عليهم فى قوله { قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ } وهو دين الإسلام { هُوَ الْهُدَى } تحقيقا إلى الحق ، لا ملتكم ولا غيرها ، من كل ما خالفه ، فأيسوا بعد ما كانوا يرجونه .

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ } والله لئن اتبعت { أَهْوَاءَهُمْ } أى ملتهم التى ادعوها دينا ، ومقتضى الظاهر ، ولئن اتبعتها أى الملة ، وعبّر عنها بالأهواء ليصرح بأنها مجرد اتباع للنفس { بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } هو العلم والمراد الحقيقة ، أو بعض العلم { مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِىٍّ } بلى أمرك ، يحفظك من العذاب من أول { وَلاَ نَصِيرَ } يدفعه عنك إن جاءك ، لا ولى ولا ناصر إلا الله ، فإذا لم يجئك ولى من عنده ولا نصير هلكت ، أو مالك ولى ولا نصير من عذاب الله .
-----------------------------------------------------

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{ الَّذِينَ } خبره أولئك يؤمنون به { ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ } الإنجيل والتوراة ، وقيل المراد ، المؤمنون والقرآن { يَتْلُونَهُ } أى القرآن ، والجملة حال ، أى مقدرا بفتح الدال ، لهم أن يتلوه { حَقَّ تِلاَوَتِهِ } لا يغيرون لفظه ولا معناه ، ولا يزيدون ولا ينقصون ، ويعملون به ، ويتفكرون فى معانيه ، ويكلون متشابهه إلى الله ، وذلك هو قراءته حق قراءته ، وأما قراءته بإخلال ذلك أو بعضه فكلا قراءة ، أو يتلونه يلونه بتلك الحقوق ، وهم عبدالله بن سلام ونحوه من أهل المدينة وغيرها من علماء أهل الكتبا العاملين به ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية رهابين من أهل الشام ، منهم بحيرا الراهب ، ودخلوا الحبشة ورجعوا مع الاثنين والثلاثين منها مع جعفر رضى الله عنه وأصحابه فى سفينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما جعلت يتلونه حالا مقدرة لأنهم حال إيتاء الكتاب ليسوا يتلون القرآن حق تلاوته ، بل بعد.

{ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالكتاب ، أو بالله ، لا إله إلا الله ، أو الذين الأنبياء ، والكتاب الجنس ، وإنما قلت ، والتوراة ، لأن من آمن بالإنجيل تحقيقاً حتى آمن بالقرآن لا يكفر بها ، ولا يجوز أن يراد علماء أهل الكتاب مطلقاً كقوله { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } . . الآية ، لأنه ليس كل من عرفه يتلوه حق تلاوته { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } بالكتاب ، التوراة والإنجيل ، بأن يحرفه بزيادة أو نقص ، أو كتم ، أو تفسير بما ليس حقّاً ، وقيل القرآن كما هو { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ } إذ بدلوا الضلال بالهدى ، والنار بالجنة . وهذا لعمومه أولى من التفسير بأخذ الرشا على الدين .
---------------------------------------------------

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
{ يَبَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } على زمانكم ومن قبلكم ومن بعدكم ، إلا هذه الأمة ، فإنها أفضل الأمم على الإطلال ، لقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس } ولا تكون خير أمة إلا لمن خير الرسل ، صدر قصتهم بهذا ، وختمها به تأكيداً لتذكر النعم ، أو للتحذير من إضاعتها .
-----------------------------------------------

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
{ وَاتَّقُوا يَوْماً } عقاب يوم { لاَّ نَجْزِى } فيه { نَفْسٌ } مؤمنة أو مطلقا { عَنْ نَّفْسٍ } كافرة ، أو مطلقا { شَيْئاً } أى جزاء ، أو لا تدفع شيئاً { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } فداء ، لأنه يعادل المفدى { وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَعَةٌ } أى لا شفاعة لهم ، فضلا عن أن تقبل ، أو هو على ظاهره ، إلا لمن أذن له ، فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم يقول : أصيحابى ، فيقال : لا تدرى ما أحدث هذا بعدك { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } يدفع العذاب عنهم .

الآيات ( 124 - 134 )
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

{ وَإِذِ ابْتَلَى } اذكروا يا بنى إسرائيل ، أو اذكر يا محمد إذ ابتلى ، أو متعلق يقال بعد ، إو بكان كذا وكذا ، فحذف أى ، كلف حقيقة ، أو اختبر مجازا لعلاقة اللزوم ، فإن التكليف وهو الأمر والنهى ، أو إلزام ما فيه المشقة يستلزم الاختبار بالنسبة لمن يجهل العواقب ، تعالى الله . ومعنى تكليفه أنه قدر له ذلكن وقضى أ ، يجرى له ، فلا يشكل بما كان من الكلمات قبل بلوغه { إِبْرَاهِمَ } إب راهيم ، أى رحيم وذلك ، لغتهم السريانية ، تشبه العربية ، قال السهيلى : كثيراً ما يقع الاتفاق أو التقارب بين السريانى والعربى ، ألا يرى أن إبراهيم تفسيره أب ريحم لرحمة بالأطفال ، ولذلك جعل هو وزوجه كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة ، إبراهيم بن تارخ بن آزر ، أو إبراهيم بن آزر ، وهو الصحيح ، بل تارخ هو آزر بن ناخور بن شارخ بن أرغو بن قالغ بن عابر ابن شالح بن قينان بن أرفجشد بن سام بن نوح ، ويقال : قينان ساحر ، فأسقطوه.

{ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ } أى معان ، تسمية للمدلول باسم الدال ، المضمضة والاستنشاق والسواك ، وقص الشارب ، وفرق شعر الرأس إلى الجانبين ، إذا طال أربعة أصابع عرضا ، وقلم الأظفار ، ونتف الإبطين ، وحلق العانة ، والختان ، قيل : ختن نفسه وهو ابن مائة وعشرين سنة ، والاستنجاء بالماء ، وأما بالحجارة قبله فلهذه الأمة خاصة والتوبة والعبادة والحمد والسياحة ، والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وحفظ حدود الله ، والصلاة والخشوع وترك اللغو والزكاة وحفظ الفروج ، وحفظ الأمانة ، وحفظ العهد والمحافظة على الصلاة والإيمان والقنوت والصدقة . والصوم ، وكثرة ذكر الله ، ومداومة الصلاة وإعطاء السائل والمحروم والتصديق بيوم الدين ، والاشفاق من العذاب ، والقيام بالشهادة وقربان الأزواج وقربان المملوكات ، وإعفاء اللحية ، والإحرام والوقوف بعرفة ، والمبيت بالمزدلفة والرمى ، والذبح ، والحلق ، والطواف ، والسعى ، والنظر فى الكواكب والقمر والشمس فيحصل الحجة ، وذبح الولد ، والتسليم للوقع فى نار نمروذ ، وسائر الأوامر والنواهى ، والهجرة بدينه من العراق للكفر فيه إلى حران ، ثم إلى الشام ليجد الوصول إلى دينه ، صبر على ذلك كله ، كما قال الله جل وعلا { فَأَتَمَّهُنَّ } أتى بهن تامات ، كما قال : " وإبراهيم الذى وفى ".

{ قَالَ إِنَّى جَاعِلُكَ لِلناسِ إِمَاماً } قدورة فى الدين إلى يوم القيامة ، ولا نبى بعده إلا من ذريته ، مأموراً باتباعه فى الجملة ، وهو إمام لكل نبى بعده ، وكل نبى إمام لمن بعده من العامة والأنبياء ، وذلك فى الأصول ومكارم الأخرق ، وهو محبوب فى جميع الملل . وعن مجاهد ، الكلمات هى ، إنى جاعلك . . . إلى آخر القصة ، والإمام كل ما يؤثم به ، كما قيل لخيط البناء إمام ، لأنه يقتدى به فى البناء { وَمِن ذُرِّيَّتَى } أى واجعل أئمة أنبياء ، وقيل ، أو غير أنبياء ، من ذريتى ، أو أئمة من ذريتى عطفا على محل النصب للكاف ، وكأنه قيل ، وجاعل من ذريتى أئمة ، وللكاف محل جر بالإضافة ، ومحل نصب على المفعولية ، لأن جاعل اسم فاعل للاستقبال ، وهو من زيادة السامع إلى كلام المخاطب ، كقول الصحابة والمقصرين بعد قوله صلى الله عليه وسلم « اللهم ارحم المحلقين » ، ويقول القائل ، جاء زيد ، فتقول ، راكباً وكما قال العباس ، إلا الإذخر ، بعد تحريم النبى صلى الله عليه وسلم شجر مكة وكلأها ، والذرية تشمل الأنثى ، كما أن عيسى هو ابن مريم ، ومريمن من ذريته ، والياء مشددة زائدة فوزته فُعْلية ، بضم فإسكان ، وباؤه فى الأصل للنسب ، والأصح فتح أوله وضمه ، كما قيل ، دهرى بضم الدال فى النسب إلى دهر بفتحها ، أو الياء الثانية عن راء ، قلبت ياء ، لئلا تجتمع ثلاث راءات ، وأدغمت فيها الياء ، والأصل ذريرة ، بضم الذال وشد الراء الأولى مكسورة ، أو ذرُّورة بالواو ، وكل ذلك من الذر بمعنى الخلق فالرء الثانية زائدة ، والأصل ذريته ، أو ذروية ، قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء فى الياء الأولى . وقلبت الواو ياء فى الثانى ، وأدغمت الياء فى الياء.

{ قَالَ لاَ يَنَالُ } لا يصيب { عَهْدِى } معهودى إليك وأمانتى ، وهو الإمامة ، تسمى الأمانة عهداً ، لأنها تعاهد بالحفظ { الظَّلِمِينَ } من ذريتك ، وهذا إجابة إدعائه ، أن يجعل من ذريته أئمة ، ولكنه استثنى الظالمين بفسق أو بشرك ، فأيما فاسق أو مشرك تصدر فليس بإمام أو خليفة أو حاكم ، بل غاصب ، ولا يصلح للإمامة ، وهى أمانة الله ، من يخون ، ولا ينفذ حكم الفاسق ، وناصبه ظالم ، من استرعى الذئب الغنم ظلم ، وعن الحسن ، أن الله تعالى لم يجعل للظالم عهداً ، فلا يوفى له بشأن إمامته إذا أحدث ظلماً ، فالعدل كما شرط فى البدء شرط فى البقاء ، وإن نصب بعد توبته جاز ، كما كان أبو بكر وعمر خليفتين بعد إسلامهما من شرك .
--------------------------------------------------

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ } الكعبة { مَثَابَةً لَّلنَّاسِ } مرجعاً يثوب إليه من كان عنده أو يجيئه من لم يكن عنده ، أو يلتجىء إليه الخائف ، وإطلاق الرجوع لمن لم يكن مجاز ، فذلك جمع بين الحقيقة والمجاز ، وقد أجيزا ، وهو من عموم المجاز ، ويناسب الإطلاق أن الآتى والراجع كواحد ، لاتفاق الدين ، أو مثابة بمعنى موضع ذهاب إليه ، أو مزار ، استعمال للمقيد فى معنى المطلق ، أو هو موضع ثواب ، فلا مجاز ، وتاؤه لتأنيث البقعة ، وقيل : هى للمبالغة كما فى الوصف ، كعّلامة ، لكنه لا يؤنث ، وهو اسم مكان ميمى ، أو مصدر ميمى ، أى ذا ثواب ، والأول أولى ، والأصل مثوبة بإسكان الثاء ، فتحت بفتحة الواو نقلا ، فقلبت ألفا.

{ وَأَمْناً } موضع أمن ، أى ذا أمن ، وقد يناسب هذا أن تجعل مثابة مصدراً ، أى ذا مثابة وأمن للناس فى حرمه ، أو أمن لحرمه ، لا يقع فيه ما يقع فى غيره من الظلم والقارة ، يلقى فيه للرجل قاتل أبيه فلا يخيفه ولا يهيجه ، ويتبع الكلب الصيد فيدخل الحرم فلا يتبعه بعد لحرمة الحرم ، وقد قال الله : { حرماً آمناً } فقد تقول ، آمناً بمعنى آمن إلا أن فيه مجاز التعلق والاشتقاق ، وإذ جعلنا المصدر بعنى اسم فاعل ومجاز الإسناد ، لأن الذى يأمن هو الناس لا الحرم ، وما تقدم فيه مجاز واحد كلا مجاز ، إذ هو مجاز حذف ، ومن جنى فى الحرم حد فيه ، أو خارجا فالتجأ إليه أخرج ، أو ضيق عليه حتى يخرج فيحد ، وذلك من جملة الأمن فيه ، وذكر بعض أنه آمن للحاج من النار وكفارة لذنوبه التى بينه وبين الله يوم القيامة ، ولا يدرى فى الدنيا أقبل منه أم رد.

{ وَاتَّخّذُوا } أى الناس { مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى } بفتح الخاء إخبار بمعنى الأمر ، كأنهم امتثلوا الاتخاذ ، فهو يخبر بوقوعه ، والعطف عطف قصة على أخرى ، أى ، وإذ اتخذوا ، أو على جعلنا ، لأن الغرض بيان أحوال البيت ، ومنها الجعل والاتخاذ ، أو يقدر ، فثابوا واتخذوا ، ولا بأس به ، ولو كان الأصل عدم الحذف ، لاتحاد المنسدين فى المسند إليه ، ومن بمعنى إلى ، لأن المصلى يتوجه إلى الحجر الذى هو المقام ، وينوى القبلة الكعبة ، أو للابتداء ، كقولك : رايته من ذلك المكان ، أى انتهى شأنه منه إليك ، أو من للتبعيض ، أو للظرفية ، على أن المقام الحرم ، أو ما دار بالمطاف ، لا الحجر خصوصاً ، والمراد على كل وجه بالمصلى هو الموضع المختار لركعتى الطواف ، ويستحب النفل والفرض فيه ، إذا لم يعطل ركعتى الطواف ، وذلك أنه اتخذ للصلاة مطلقا ، وهو أربعون ذراعاُ شمالا ويمينا وخلفاً ، والمقام موضع القيام ، وهو ذلك الحجر ، قام عليه عند بناء الكعبة يدور به إلى جهاتها ، ويعلو به ، وعند ندائه ، أيها الناس ، حجوا بيت ربكم تطاول حتى ساوى أبا قبيس ، وعند غسل زوج إسماعيل رأسه ، أعنى رأس إبراهيم ، إذ زاره ولم يجده ، أو زار الكعبة ، والمحول له إلى موضعه اليوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو مروى بسند ولو كان فهي ضعف ، لا عمر ، كما روى بسند ولو كان قويا ، ولو احتمل أنه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مطلقا بالبيت ، فعلم عمر أن المراد جعله بين المصلى والكعبة أينما هو ، فأخره إلى حيث هو اليوم .

وروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر ، فقال له : هذا الحجر مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا تتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت الآية .

ويقال : كان داخل الكعبة ثم أخرج ، وقيل : موضعه اليوم هو بيت إبراهيم يحوله إليه من البناء كل يوم ، وقيل المقام الحرم ، وقيل مواضع الحج والصلاة والدعاء عرفة والمزدلفة ومنى ، ومواضع الرمى والصلاة فى ذلك دعاء ، وقيل : الكعبة ، أى موضع صلاة إليه ، إذ يصلى إليها ، ولا مقام إلا مقام إبراهيم عليه السلام ، وهو مقام للمؤمنين كلهم على حد سواء ، ولا وجه لنسبته للشافعى ، ولا وجه للبناء فيه لأنه نقص منه ومن المسجد ، ولا وجه لجعل مقام آخر لمالك ، وآخر لأبى حنيفة ، وآخر لأحمد ، فإن ذلك زيادات فى الدين وتشرع فيه وبدعة ، ونفص من الحرم المقام بالبناء ، ومناقضة لمقام إبراهيم حتى إنه استوت الثلاثة عند العامة بمقام إبراهيم ، ويفضلها عامة أهليها على مقام إبراهيم ، وقد قال أمير مكة للسلطان حمود ، وهو سلطان زنجبار ، أعوام إقامته بمكة : أبني مقاماً لك وللإباضية أهل مذهبك؟ فقال : لا تفعل ، لأنه خلاف الشريعة ، ولأنهم لا يقبلون ذلك عنى ولا عنك ، ولا يقف فيه أحد منهم ، فلذلك ونحوه قلت فيه :

حَمُّودُنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ وَشِيعَتُهُ ... ظَلُّ الْبَرِيَّةِ وَالْحَقُّ شَرِيعَتُهُ
القصيدة....

{ وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ } أصله إسمع إيل ، أى بالله ، ولقد علمت أن العبرية قريبة من العربية ، والمعنى ، أن إبراهيم قال ، اسمع يا ألله دعائى بأن ترزقنى ولدا ، فرزقه ، فسماه إسماعيل ، وهو قوى ، ولو ضعفه بعض ، واختار ا ، ه مطيع الله ، والعهد إلى إبراهيم بالذات ، وإلى إسماعيل بالواسطة ، أمرناهما ، وأمرهما علم عهد إليها ، وفسر العهد إذ فيه معنى القول بقوله { أَنْ طَهِّرَا } أو يقد بأن طهرا { بَيْتِىَ } من الأوثان والأنجاس وما لايليق والحائض والنفساء ، وأهل الشرك ، أى ابنياه على رسم ألا يكون فيه ذلك ، كقولك ، أدر جيب القميص ، وأطل القلم ، أى جىء بهذه الصفة من أول ، أو أخلصاه .

{ لِلطَّائِفِينَ } حوله ، لا يعطلون عن الطواف ، ولا يكون عنده من ليس أهلا للطواف ، كالمشرك ، وذلك على عمومه ، وقال ابن جبير ، الغرباء الوافدون حجاجا وزوارا { وَالْعَكِفِينَ } المقيمين عنده بالتوحيد والطاعة ، وقال عطاء : الجالسون عنده بلا طواف ، وقيل ، المجاورون له من الغرباء ، وقيل ، المعتكفون فيه { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } جمع ساجد ، والمراد بالركع السجود المصلون ، وذكر الركوع والسجود لأنهما أقرب أحوال المصلى إلى الله تعالى . وقد أتم الله تطهيره من الأوثان ، وكل ما لا يليق بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وأتم به عمارته بالطوف والعبادات ، والصلاة المشتملة على الركوع مقدما ، والسجود بعده على ترتيب لفظ الآية ، لا كصلاة اليهود بلا ركوع ، ولا كصلاة لا سجود فيها ، ولا كصلاة يتقدم سجودها على ركوعها ، كما قيل عن اليهود أيضا ، ولا كصلاة مشركى العرب ، يقولون ، السجود مسبَّة ، فيركعون ولا يسجدون .
---------------------------------------------------

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا } أى هذا البلد ، دعاء بعد أن كان عمارة ، أو هذا المكان ، وهو أرض مكة قبل أن يكون فيها ماء وعمارة ، وهذا الدعاء قبل ذلك « بَلَداً ءَامِناً » ذا أمن كلا بن ، بمعنى ذى لبن ، أو مجاز عقلى من الإسناد إلى المكان ، إذ الأمن من فيه ، أو آمنا أهله ، طلب فى المرة الأولى ، كون الوادى بلداً آمنا ، أى معموراً آمنا ، فاستجيب له فى كونه بلدا معمورا ، وتأخرت الاستجابة فى الأمن ، ثم كرر الطلب للأمن فاستجيب له ، إذ قال : رب اجعل هذا البلد آمنا ، فجعله الله بلداً آمنا ، لا ينفر صيده ، ولا يسفك فيه دم ، ولو قصاصا أو حدا ، إلا إن جنى فيه .
وعن الشافعى يقتص منه ويحد فيه ولو جنى خارجه إذا دخله ، ولا يختلى خلاه ، وتضاعف فيه السيئات ، الواحدة بمائة ، كالحسنات ، الواحدة بألف وبمائة ألف ، ولا يظلم فيه ، ولا يخسف ، ولا يمسخ فيه إلا ما قيل ، إنه مسخ رجل وامرأة زنيا فى الكعبة ، ولا يقحط ولا يخاف من عدو ، وليس طلب الأمن تكريرا لقوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، لأن ذلك إخبار من الله ، وما هنا طلب من إبراهيم ، أخبرنا الله بما استجاب له فيه قبل ، فلا حاجة إلى أن يقال ، أراد هنا الأمن من القحط كما قال : « وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ » أى من أنواعها ، وقد استجيب له حتى إنه يجتمع فيها فى اليوم الواحد ثمرات الفصول من الطائف .

قال ابن عباس ، نقل الله بقعة من فلسطين بالشام ، وقيل من الأردن ، وجعلها فى الطائف ، وسميت بالطائف ، لأن جبريل طاف بها سبعا ، ووصفها فى ذلك الموضع ، توسعة لرزق الحرم ، إجابة لدعائه عليه السلام : « مَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ » لا جيمع أهله ولو كفارا ، متابعة لقوله تعالى { لا ينال عهدى الظالمين } فأخبره الله أن الرزق يعم الظالم ، لا كالإمامة بقوله « قَالَ » قال الله عز وجل { ومن كفر } عطف من الله على قول إبراهيم ، من من ، كما فى قوله { ومن ذريتى } وكما يقول الرجل ، أكرم زيدا ، فتقول ، وابنه ، أو يقدر ، والرزق من كفر ، بفتح الهمزة وضم القاف ، وعطف على هذا المنذر بقوله { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } أو قل ، يا إبراهيم ، ومن كفر ، أو ارزق من آمن ومن كفر بالفتح والضم ، أو من كفر فأنا أمتعه ، أو فقد أمتعه ، فحذف أنا ، أو قد ، وإن جعلنا من موصولة مبتدأ فالفاء صلة فى خبرها بلا تقدير ، والمراد تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا ، أو كلما كثر أو طال من الدنيا فقليل قاصر « ثُمَّ أَضْطَرُّهُ » ألجئه بعد موته « إلَى عَذَابِ النَّارِ » لكفره ، فلا يجد امتناعا عنها ، وذلك بلا تحرك منه ، كقوله تعالى : يوم يدعُّونَ إِلَى نَارِ جَهنم دعا ، وقوله : يسحبون ، وقوله { يؤخذ بالنواصى والأقدام } ويتحرك كقوله عز وجل { وسيق الذين كفروا } « وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » النار أو عذابها ، أو الصيرورة ، فإنه يصار إلى المعانى كما يصار إلى الأجسام ، والمتسبب عن الفكر شيئان ، الأول تقليل التمتيع ، إذ قصر عن التمتيع الدنيوى ، ولم يوصل بالأخروى ، والثانى اضطراره إلى عذاب النار .
--------------------------------------------------

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{ وَإِذْ يَرْفَعُ } المضارع لحكاية الحال الماضية كأن المخاطب حضر حين رفع { إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ } الأساس ، أى ينشئها ، أو الجدر؛ لأن كل جزء فيها قاعدة لما فوقه ، أو رفعها تعظيمها بالحد إليها من القعود ، وهو الثبوت { مِنَ الْبَيْتِ } وليس المراد أنها كانت قصيرة وأطالها ، أوقع الإطالة على القاعدة للجوار أو الحلول ، لأن الجدار المجاور لها ، أو الحال فيها غير مرفوع أيضا ، بل يحدث سافة ثم سافة ، ولا مانع من أن يراد برفع الن جعل آخرها عاليا بإكثار السافات.

{ وَإِسْمَعِيلُ } أخره ، لأنه غلام تابع له ، معين له بمناولة الحجر والطين ، ومع ذلك سماه رافعا ، لأن الرفع بواسطة المناولة ، وذلك من عموم المجاز ، وهو هنا مطلق ما به حصول الرفع ، أو جمع بين الحقيقة والمجاز ، أو يقدر ، وإسماعيل يناوله كقوله : وزججن الحواجب والعيونا ، ويضعف أن يقال ، تارة بيتى إبراهيم ، وتارة إسماعيل ، أو بينى أحدهما موضعاً منه ، والآخر موضعاً ، ولو فى وقت واحد ، قائلين { رَبَّنَا تَقَبَّلْ } التفعل للمبالغة بمعنى أقبل قبولا عظيما ، بأن يزيد له ثوابا على القبول { مِنَّا } بناءنا وسعينا فيه { إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ } لدعائنا ، أى العليم به ، واختار لفظ السمع ، لأنه فى الجملة للأصوات { الْعَلِيمُ } بنياتنا .
--------------------------------------------------

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ رَبَّنَا } تأكيد للأول ، أو استجب دعاءنا يا ربنا { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ } منقادين إليك أو مخلصين لك أعمالنا { وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً } واجعل من ذريتنا أمة { مُّسْلِمَةً لَّكَ } طلب البعضَ لعلمه من قوله { وَلاَ ينالُ عهدى الظالمين } أى من ذريته من لا يكون مسلما لله ، واختار الذرية لأنها أحق بالشفقة ، وأنذر عشيرتك الأقربين ، قوا أنفسكم وأهليكم ناراً . ولم يلغ غيرهم ، لأن صلاح بعض الذرية صلاح لغيرهم من الأتباع ، وقد أوقع الله ذلك ، فأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم إذ قال ، ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ، ومن ذلك البعض أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم المجيبة المخلصة العربية التى من نسل إبراهيم ، وأما غيرهم فتبع لهم .

{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } علمناها ، وهى شرائع ديننا ، أو مناسك الحج ومنها الذبح ، أو بصِّنا مواضعها ، ومنها مواضع الذبح ، وأصل النسك العبادة الشاقة ، ثم خص بالحج لمشقته ، وربما خص بعده بالذبح ، وموضع الكعبة قبل الأرض بألفى عام ، زبدة بيضاء ، وبسطت الأرض من تحتها ، واستوحش آدم ، وشكا إلى الله عز وجل فأنزل عليه البيت المعمور ، ياقوتة من الجنة ، لها بابان من زمرد أخضر ، باب غربى ، وباب شرقى فى موضع الكعبة ، وقال : طف وصل عنده كعرشى ، وأنزل عليه الحجر الأسود . فحج آدم من الهند ماشيا ، معه ملك يدله ، واستقبلته الملائكة أربعين فرسخاً ، وقال له الملائكة بر حجك يا آدم ، وقالوا ، حقا لما قد تستعظم النفس من عبادتها ، لقد حججناه قبلك بألفى عامن وزاد بعد ذلك تسعا وثلاثين حجة من الهند ماشياً ، ورفع فى عهد آدم إلى السماء الرابعة ، وبنى الكعبة فى موضعه ، وقيل ، رفع فى الطوفان ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ولا يعودون إليه ، وأمر الله عز وجل جبريل عليه السلام أن يخبىء الحجر فى أبى قبيس صيانة من الغرق ، وبقى البيت خرابا إلى أن أمر الله إبراهيم ببنائه ، وبناه ورد إليه الحجر ، وقد أمره الله جل جلاله الملائكة أن يتوافى كل سماء وأرض بيتاً على مست الكعبة .

روى أن الأرض انشقت إلى منتهاها ، وقذفت الملائكة حجارة كالإبل ، أو كأسنتها ، خضراء ، وبنوا البيت عليها ، ثم بناه آدم لطول عهده من حين بنوه ، فتلك التى بنى عليه إبراهيم أظهره الله ، فذلك بناءان ، ثم شيث ، ثم إبراهيم ، ثم العمالقة ، ثم الحارث بن مضاض الجرهمى ، ثم قصىّ جد النبى صلى الله عليه وسلم ، ثم قريش ، لضعفه بالسيل ، وحضره صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين ، ثم عبدالله ابن الزبير ليدخل فيه الحطيم على أصله مع ضعفه بحجارة المنجنيق ، إذ حاصره الحجاج ، حفر إلى حجارة الملائكة وبنى منها ، وإذا ضرب المعول فيها تحركت كلها وسائر الأرض القريبة ، وجعل لها بابا تحت الموجود الآن ، وبابا مقابلا له من جهلة الركن اليمنى ، ملتصقين بالأرض ابتداء فى جمادى الأخيرة ، وختم فى رجب سنة خمس وستين ، وذبح مائة بدنة للفقراء ، وكساهم ، وهدمه الحجاج كله وبناه ، وأخرج الحطيم ، وقيل ، هدم الحجر القرامطة ، وأخذوا الحجر ، وقتلوا من وجدوا من المسلمين ، ثم رد بعد مدة طويلة ، وبنى ما هدموا ، وبنى فيه بعض الملوك سنة ألف وتسع وثلاثين ، وهو من حجارة خمسة أجبل ، طور سيناء ، وطور زيتاء ، ولبنان بالشام ، والجودى بالجزيرة ، وقواعده من حراء بمكة.

{ وَتُبْ عَلَيْنَا } فيما فرط منا من ترك ما هو أفضل إلى ما دونه ، وذلك ما ليس بمعصية فى حق غير الأنبياء ، كنوم أكثر الليل ، وكما يكون من طبع البشر ، كعجب ضرورى بنفيانه ، وكالانتقام الجائر ، ونحو ذلك مما ليس ذنبا فى حق الناس ، وفعلاه عمداً أو سهواً أو نسياناً أو ذلك هضم ، أو تعليم للتوبة ، أو استتابة لذنوب ذريتهما ، وأضافا لأنفسهما مبالغة ، أو يقدر ، وتب على ذريتنا ، أو إجراء للولد مجرى النفس لعلاقة البعضية ليكون أقرب للإجابة والمعنى ، أقبل توبتنا ، وتوبة العامة الندم عن المعصية وإصلاح ما فسد ، أو العزم على إصلاحه إن لم يمكن فى الحال ، وتوبة الخواص الندم عن المكروه والتقصير والكسل فى العبادة ، وتوبة خواص الخواص الترقى فى الدرجات ، وهما عليهما السلام من الثالث ، أو يخافان أن يكونا من الثانى ، ويجوز أن يقدر ، وتب على عصاتنا أو أراد المجموع ، فيرجع الكلام إلى العصاة { إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ } لمن تاب { الرَّحِيمُ } به ، كالحجة ، لقولهما ، تب علينا ، وقد مر أن توبة الله التوفيق إلى التوبة ، أو قبوله التوبة .
---------------------------------------------------

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{ رَبَّنَا } استجب دعاءنا ، أو كرره تأكيدا وتلذذا ، وهكذا يقدر محذوف ، أو يجعل تأكيداً إذا كرر النداء { وَابْعَثْ فِيهِمْ } فى الأمة المسلمة لك من ذريتى أو فى ذريتى { رَسُولاً } عظيما ترسله بشرع جديد ، وكتاب مجيد { مِّنْهُمْ } من أنفسهم ، وقد استجاب الله دعاءهما بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنهما لم يجتمعا إلا فيه ، فإن أكثر الأنبياء من ذرية نبى الله يعقوب ، ولد نبى الله إسحق ولد إبراهيم نبى الله ، وقليلق من ولد روم بن إبراهيم وهو أيوب وذو القرنين فى قول ، قال صلى الله عليه وسلم : أنا دعوة أبى إبراهيم ، يعنى هذه الآية ، وهو أيضا دعوة إسماعيل ولم يذكره اجتزاء بالأب الأكبر ، ولتقدمه ، وبشرى عيسى بعنى قوله « ومبشراً برسول » . . . الخ ، ورؤيا أمى التى رأت حين وضعتنى أنه أضاءت بى قصور الشام ، وهو صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إسماعيل أيضا لهذه الآية ، ولم يذكره النبى صلى الله عليه وسلم لأنه تبع لأبيه إبراهيم ، ولأن أباه إبراهيم هو الأصل فى هذا الدعاء الذى فى الآية { يَتْلُواْ } يقرأ { عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ } أى القرآن ، والمراد معانية ، لكن بألفاظه ، وهو دلائل النبوة والتوحيد والشرع.

{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ } القرآن أيضاً ، والمراد لفظه ، أو الآيات ألفاظه ، والكتاب معانيه عكس ذلك ، أى ويعلمهم معانيه { وَالْحِكْمَةَ } ما فيه من الأحكام بينهما لهم أو الحكمة العمل به ، أو وضع الأشياء فى مواضعها ، أو ما يزيل حب الدنيا ، أو الآداب أو السنة { وَيُزَكِّيهِمْ } من الشرك والمعاصى ، ومعلوم أن التخلية قبل التحلية ، ولكن أحرها هنا لشرف التحلية هذه ، ولتقدم التخلية هذه فى الذهن والقصد ، فجىء بترتيب الذهن ، ولو تقدمت التخلية فى الخارج ، ولأن المقصود التحلية والخلية وسيلة { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } الغالب لمن أراد مخالفته فالغلبة فعل أو المنتفى عنه الذل فهى صفة { الْحَكِيمُ } فى صنعه ، لا يقول عبثا ، ولا يفعله ، ولا سفها ، ولا يضع الشىء إلا فى موضعه .
----------------------------------------------------

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
{ وَمَن يَرْغَبُ } توبيخ ونفى لأن يصح عقلا أو شرعاً ، تصويب أن يرغب راغب { عَنْ مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } وبتركها { إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } حملها على الخسة والحقارة وهو متعد ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، الكبر أن تسقه الحق . . . إلخ بفتح الفاء ، فى رواية التخفيف ، واللازم سفه بضمها ، أو تعدى فى الآية ، لتضمن معنى جهل ، أو أهلكها ، أو أذلها بالإعراض عن النظر ، وأن أصله اللزوم ، أى جهلها لخفة عقله ، أو جهل أنها مخلوقة لله ، أو يقدر سفه فى نفسه { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَهُُ } اخترناه للرسالة والخلة والإمامة والحكمة { فِى الدُّنْيَا } وشهر بذلك فى الأزمنة بعده عند مسلميها وكافريها { وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ } حال من اسم إن على قول سيبويه ، بجواز الحال من المبتدأ ، أو متعلق بنسبة الكلام ، أى وأنه محكوم عليه فى الآخرة بأنه من الصالحين ، وإن علقناه بقوله { لَمِنَ الصَّلِحِينَ } أو بمتعلقه المحذوف ، أى لمعدود أو ثابت من الصالحين فى الآخرة ، ففيه خروج الللام فى إن عن المصدر ، كما هو ظاهر ، وأنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير الشديد ، ولا يتعلق بصالحين لأنه ليس المراد ، أنه يصلح فى الآخرة ، بل المراد أن يتبين فى الآخرة ، ويشاهد أنه من جملة الصالحين والذين لهم الدرجات العلا .
-------------------------------------------------------

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
{ وَإِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } اذكر إذ قال ، أو متعلق باصطفيناه ، والتعليل مستفاد من المقام ، فإنه إذا قيل اصطفيناه وقت قال له . . . الخ علم أن الإصطفاء لقوهل ، أسلمت . . . الخ بعد قوله الله جل وعلا أسلم ، أو حرف تعليل ، كما تكون على وعن حرفا واسما ، بل كما قال سيبويه فى إذ ما أن إذ حرف ، وفى غير الشرط اسم ، أى نال الاصطفاء بالمبادرة إلى الإذعان والإخلاص ، ومعنى أسلم أذعن وأخلص وجهك ، وجاء على المعنيين ، { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ } أو أسلم ، لفظه أمر ، ومعناه إخطار دلائل التوحيد بباله ، كالقمر والشمس والنجم ، فيكون قوله ، أسلمت مجازاً عن النظر والمعرفة على حد ، كن فيكون ، والمراد بالآية على كل حال ما بعد النبوة أو قبلها حين كبر ، فالمراد ازدياد ذلك ، أو ما فى حال الصغر ، إذ كان فى الغار ، فيكون المراد إنشاء ذلك « ولقد آتينا إبراهيم رشده من قل » وتقدم على هذا أيضاً أن كل مولود يولد على الفطرة ، قال ابن عيينة ، دعا عبدالله بن سلام ابنى أخيه سلمة ، ومهاجر إلى الإسلام ، وقال ، قد علمتهما ، أن الله قال فى التوراة ، إنى باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد ، من آمن به فقد هدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فنزل ، ومن يرغب ، الآية . قال السيوطى : لم نجذ هذا فى شىء من كتب الحديث .
---------------------------------------------------

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ وَوَصَّى بِهَآ } بالملة ، أى باتباعها لصراحة ذكرها ، وأصل الإيصاء التقدم إلى أحد بخير ، والوصل ، يقال وصاه إذا وصله ، وقصاه إذا قطعه وإظهار إبراهيم ، مع أن عطف أوصى على ما قال له ربه يقتضى الضمير ، أو بكلمة ، أسلمت لرب العالمين ، لقوله ، وجعلها كلمة باقية ، فإنه أنسب ، ولا سيما إن رجعنا الضمير إلى قوله إنا برءاء منكم ، بتأويل الكلمة ، ولقربه ، ولو كان فيه تأويل ، وفيه ، أنه لو رجع الضمير لكلمة أسلمت لقال أسلمت لرب العالمين ، وأوصى بها بنيه ويعقوب { إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ } ثمانية أو أربعة عشر ، إسماعيل ، وهو أولهم ، وأمه هاجر ، بفتح الجيم القبطية ، وإسحق ، وأمه سارة ، وأم الباقين قنطوراء بنت يقطن الكنعانية ، تزوجها بعد وفاة سارة : مدين ومدائن ، وزمران ، ولنشان ، ولبشق ، وشوخ ، زاد بعض روم .

{ وَيَعْقُوبُ } بنيه ، كما أوصيا غير بينهما ، أو خصهم للشفقة ، ولأن صلاحهم صلاح لغيرهم ، قال كل منهما لبنيه { يَبَنِىَّ } الخ ، أو قال إبراهيم ، لأنه أشد عمدة ، ولذكر بنيه ، أو يحكى بأوصى ، لأنه بمعنى قال ، أو المقدر ، ويعقوب ، قال : يا بنىَّ { إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَّكُمُ الدِّينَ } الكامل المعهود ، دين الإسلام الذى جاء به إبراهيم.

{ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } راسخون فيه ، أى دوموا عليه حتى إذا جاءكم الموت وافاكم عليه متصفين به ، وأما الموت نفسه فليس بأيديهم ، وأولاد يعقوب : روبين ، بضم الراء وكسر الباء الموحدة ، بعدها مثناة فنون ، ويروى باللام بدل النون . وشمعون بكسر الشين . وبشوخور ، ولاوى ، ويروى ليوى . ويهوذا ، وزبولون بفتح الزاى . وزوانى بفتح الزاى والنون ، ويروى تقتالى بفتح التاء واللام ، ويروى فتتلى بفتح النون والتاء وكسر الللام ، ويروى بتيون بدله . وإساخر بكسر الهمزة وشد السين وفتح الخاء ، ويروى بالياء المثناة بدل الهمزة بذلك الضبط ، وكاد ، ويروى كوذى ، ويروى بإهمال الدال . وأشر كناصر ، ويروى أوشير . وبنيامين بكسر الباء ، ويوسف ، وأكبرهم سنا وربين ، وأصغرهم سنّاً يوسف ، وأكبرهم رأياً شمعون . وقيل يهوذا ، أو النبوة فى أولاد لاوى ، والملك فى أولاد يهوذا .
----------------------------------------------
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ } جمع شاهد كعالم وعلماء ، أو شهيد ككريم وكرماء { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } قالت اليهود ، لعنهم الله ، للنبى صلى الله عليه وسلم : ألم تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ، وما مات نبى إلا عليها ، فنزل « أم كنتم شهداء » وعنوا باليهودية ملة موسى ، وعنوا ألا تخالف فيما خالفها القرآن والإنجيل فيه ، أو عنوا اليهودية المحدثة الباطلة ، فكذبهم الله بأن يعقوب أوصاهم بدين الحق ولم تحضروا ، ولو حضرتم فى زمانه لسمعتموه فى ذلك ، وإنما اليهودية بعد موسى.

{ إِذْ } بدل من إذ { قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِىَ } من بعد موتى ، أراد بما العموم ، من يعلم ومن لا يعلم ، ويبعد أن يكون المراد ما لا يعلم فقط ، وأنه كمختبر لهم ، وكانت المعبودات فى زمانه أصناماً ونجوماً وغير ذلك مما لا يعلم ، فيقول لهم : أيها تعبدون ، فأجابوا أن لا نعبدها ، بل نعبدالله ، كما قال { قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَائِكَ } أى الله الذى هو معبودك ، ومعبود آبائك { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ } عده أباً ليعقوب تغليباً للأكثر ، ولأنه عمه ، والعم أب ، كما فى الحديث ، وأن العم صنو الأب ، وأن العباس بقية آبائى ، وقال : ردوا علىّ ، أى ، وهو العباس حين بعثه لمكة ليدعوهم ، لئلا يقتلوه ، واحفظونى فى العباس فإنه بقية آبائى ، وقدمه على إسحاق الأب الحقيقى تغليباً ، ولكبرسنه ، إذ زاد على أخيه إسحاق بأربع عشر سنة ، ولأنه جد نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولو جعلنا إبراهيم بدلاً من إله على حذف مضاف ، أى إله إبراهيم لم نحتج لتأويل فى ذكر إسماعيل إلا أن فيه سوء أدب.

{ وَإِسْحَقَ أِلَهاً وَاحِداً } بدل من إلهك ، أو نعنى إلهاً واحداً ، تصريح بالتوحيد نفياً للتعدد المتوهم من قوله « إلهك وإله آبائك » فإن أغلبية كون العرفة المكررة عين الأولى لا تكون نصا ، ولأنها فى غير العطف ، أما فيه فكما هنا ، فقد عارضها أغلبية أخرى ، هى أن الأصل فى العطف التغاير ، وقد تستفاد الوحدة من الهاء ، فيكون قوله واحداً نقياً للتركيب والمشاركة فى الصفات { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } مخلصون التوحيد ، أو منقادون لأمره ونهيه .
---------------------------------------------------

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
{ تِلْكَ } أى هؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوهم ، وقال : تلك ، لمعنى الجماعة ، أو للخبر ، وهو قوله { أُمَّةٌ } جماعة ، سميت لأنها تؤم ، أى تقصد ، ويؤم بعضا بعضاً ، ويجمعهم أمر واحد ، دين أو زمان أو مكان ، هذا أصل الأمة ، وقد يطلق على الملة ، أو على الزمان ، أو على المنفرد بشىء فى زمانه ، وحمل بعضهم الآية عليه بمعنى ، أن كل واحد من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أمة فى زمانه ، فالإشارة إلى الأربعة على هذا ، ولا يراد عما يعمل الأربعة من خير أو شر ، إذ لا يعملون شرّاً اللهم إلا على سبيل الفرض للبرهان .

{ قَدْ خَلَتْ } مضت { لَهَا } لا لغيرها { مَا كَسَبَتْ } أجر عملها { وَلَكُمْ } لا لغيركم { مَّا كَسَبْتُمْ } ولهم أو لكم ما كسب لهم أو لكم ، وحذف ذلك مثل أن يتصدق أحد ويصلى النفل ، أو يصومه وينوى بثوابه غيره من الأحياء أو الأموات ، وأما العلم المنتفع به والصدقة الجارية فمن كسب الإنسان ، ومنفذ ذلك كوكيله وولد الرجل من كسبه ، وقيل : يختص ذلك بهذه الأمة ، والخطاب لليهود ، أو المراد الجزاء بخير أو شر كما فى قوله { وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } عن خير أو شر ولا يسألون عما كنتم تعملون ، والسؤال عبارة عن لازمه ، وهو المؤاخذة ، ولو كان حقيقا فكيف ، وهو توبيخ .

قال ابن أبى حاتم مرسلا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يا معشر قريش ، إن أولى الناس بالنبى المتقون ، فكونوا بسبيل من ذلك ، فانظروا ألا يلقانى الناس ، يحملون الأعمال ، وتلقونى بالدنيا تجمعونها فأصد عنكم بوجهى » ، وفى معناه ما روى : با بنى هاشم ، لا يأتينى الناس بأعمالهم ، وتأتونى بأنسابكم ، أو لا تسألون عما يعلم هؤلاء الأنبياء قبلكم من الشرائع ، بل عما يعمل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم .

الآيات ( 135 - 141 )
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَرَىْ تَهْتَدُواْ } أو للتفصيل ، قالت يهود المدينة ، كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وأبو يسار ابن أخطب ، وعبدالله بن صوريا الأعور ، وهم رؤساء يهود المدينة للمسلمين : كونوا هوداً تهتدوا ، لا دين إلا دين اليهود ، وأنكروا الإنجيل وعيسى والقرآن ومحمداً صلى الله عليه وسلم عليهما ، وقالت نصارى نجران لهم : كونوا نصارى تهتدوا ، وأنكروا التوراة وموسى والقرآن ومحمداً صلى الله عليه وسلم عليهما.

{ قُلْ } يا محمد لهم { بَلْ } نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } كما جاء اتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً ، أو نلزمها كما كنا ، لا نفارقها ، أو اتبعوا أنتم كما اتبعناها ، وذلك مضمون الرد على قولهم : كونوا . . . الخ ، أو بل نكون ملة إبراهيم ، أى أهل ملة إبراهيم كما هو لفظ : كونوا هوداً ، أو يقدر ، بل كونوا أهل ملة إبراهيم كما كنا على ملته { حَنِيفاً } عن الأديان كلها إلا دين الإسلام.

{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } كما كان الشرك فى يهوديتكم ونصرانيتكم ، إذ قلتم عزير بن الله ، والمسيح بن الله ، أو إله ، ونحو ذلك ، وكما أشركتكم بإنكار القرآن وبعض الرسل ، واليهود بإنكار الإنجيل ، والنصارى بإنكار التوراة ، والآية تعريض بشرك العرب المشركين ، إذ يعبدون الأصنام ، كما أنها تعريض بشرك اليهود والنصارى .
-----------------------------------------------

قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
{ قُولُواْ } أيها المؤمنون ، أو النبى والمؤمنون ، وكل نبى أول من يؤمن بما أنزل عليه { ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا } أى أخبروهم بأنا على الهدى مؤمنون بما يجب الإيمان به مما أنزل علينا ، وهو القرآن ، أو هذا القول من جملة ما حكى بقل ، والخطاب لليهود والنصارى كأنه قيل : قل لهم ، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا من التوراة والإنجيل والقرآن ، فإنه نزل عليهم كغيرهم { وَمَآ أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } من الصحف العشر { وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ } الخ ، أنزلت على إبراهيم خاصة ، لكن خوطبوا بالعمل بها ، فهى منزلة إليهم ، فهم كمن أرسل إليهم السلطان فى شأن بواسطة كبيرهم { وَيَعْقُوبَ } اجتمع هو وعيص فى بطن أمهما ، فقال عيص : تأخر ، أنزل قبلك ، وإلا خرقت بطن أمى ، فتأخر ، فخرج عيص قبله ، فخرج عقبه يعقوب ، أو متصلا بعقبه ، فسمى يعقوب ، وهذا مما يقال { وَالأَسْبَاطِ } أولاد يعقوب ، سماهم لأنهم أولاد الولد لإسحق وإبراهيم ، والسبط ولد الولد ، أو يراد أولاد أولاد يعقوب ، والأسباط فى بنى إسرائيل كالقبائل فى العرب من بنى إسماعيل من السبوطة ، وهى الاسترسال ، أو من السبط ، وهو شجر كثير الأغصان لكثرتهم ، أو من السبط ، فقلب لكثرتهم وليسوا كلهم أنبياء ، بل بعضهم على الصحيح لصدور كبائر منهم ، والصحيح أنها لا تصدر من نبى ، ولو قبل البلوغ.

{ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } من ربهم ، فحذف لدلالة ما بعده ، جمع التوراة والإنجيل بلفظ ما لشهرة التوراة لموسى والإنجيل لعيسى ، واتصال ذكرهما إلى وقت الخطاب ، ولأن الإنجيل مقرر للتوراة ، وما نسخ منها إلا قليلا ، وموسى وعيسى داخلان فى الأسباط ، وخصهما بالذكر لعظمهما أو لتخصيصهما بكتابيهما ، وكانت العبارة كذلك تحرزاً عما زاد اليهود والنصارى ونقضوا من الكتابين ، وكذا فى قوله { وَمَا أُوتِىَ } من الكتب والمعجزات والدلائل { النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ } واحد فحذف العطف ، أو أحد بمعنى الجمعة بعد السلب ، أى لا نفرق بينهم ، على أنه موضوع للواحد والاثنين فصاعدا بعد كل ، أو النفى كما قال الفارسى { مِّنْهُمْ } بل نؤمن بهم كلهم ، لا كاليهود والنصارى آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وأما التفريق بتفضيل بعض على بعض تفضيلا لا يؤدى لنقض فجائز ، تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
---------------------------------------------------

فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{ فَإِنْ ءَامَنُواْ } أى اليهود والنصارى { بِمِثْلِ مَآ ءَامَنْتُمْ بِهِ فقَدِ اهْتَدَوْاْ } متعلق بقوله عز وجل . . . قولوا ءامنا ، أو بقوله سبحانه ، بل ملة إبراهيم ، أى إن حصلوا الإيمان بمثل ما حصلتم الإيمان به ، وهو الاعتقاد والنطق التعميم فى كتب الله وأنبيائه ، أو إن حصلوا دينا مثل دينكم ، وهو لا يوجد ، فيكون تعجيزا عن أن يوجد دين صحيح غير دين الإسلام ، مثل ، فأْتوا بسورة ، ولو ادعوا أن ما هم عليه الحق ، لأنهم بين عالم أن دين الإسلام هو الحق وكنتم ، وعاقل لو فكر لأدرك ذلك ، وهاء به لما أو مثل زائد ، أو الباء زائد ، وعليه فما مصدرية ، أى مثل إيمانكم بالله ، وهاء به لله .

{ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الإيمان بالحق المذكور ، وعن قوله صلى الله عليه وسلم لهم « قولوا آمنا بالله . . . » الخ . . . { فإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } عظيم ، مخالفة لكم لأجل دينكم ، أو مخالفة لكم للقول ، والفعال على بابه ، فإن المسلمين أيضا مخالفون لهم ، فإنه فى معنى جازوكم على مخالفتكم لهم ، وأنتم المحقون ، وأصله الشق ، وهو الجانب ، أو المشقة ، أو من شق العصا ، إذا أظهروا العداوة { فَسَيَكْفِيكَهُمُ } مضرة شقاقهم { آللهُ } يا محمد ، بقتل قريظة ، وبنى قينقاع ، وسبيهم ، وإجلاء بنى النضير ، وضرب الجزية قبل إجلائهم ، وضرب الجزية على اليهود والنصارى { وَهُوَ السَّمِيعُ } لأقوالهم ، أى العليم بها { الْعَلِيمُ } بأحوالهم ، فيعاقبهم عليها ، وهو متعلق بشقاق ، أو السميع لأقوالكم الحقة أيها المؤمنون ، والعليم بأحوالكم الصالحة فيجازيكم عليها ، فيتعلق بالكفاية الممتن بها ، الموعود بها .
---------------------------------------------------

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{ صِبْغَةَ اللهِ } قيل بدل من صلة ، أو الزموا صيغة الله ، أو صبغَتا الله صبغة ، وحذف صبغنا ، أو أضيف للفظ الجلالة ، أو متعلق بقوله آمنا على حد قعدت جلوساً ، وهى فطرة الله التى فطر الناس عليها ، وهى الإسلام أو التوفيق أو الحجة؛ أو تطهير القلب من الكفر والمعصية ، شبه بالصبغة فى كونه ظاهراً ظهور الصبغة وحلية ، ومتداخلا فى أعماق المصبوغ ، لأنه راسخ ، فى كونه يمتاز به الإنسان عن سائر الحيوان ، وعن الكفار امتياز الثوب المصبوغ ، وهو استعارة تصريحية أصلية تحقيقية ، أو سمى ذلك صبغة للمشاكلة لوقوعه فى جوار محذوف ، هو صبغة النصارى أولادهم فى ماء المعودية ، لتتحقق نصرانيتهم ، وهو ماء أصفر وأصله اء غسل به عيسى عليه السلام فى اليوم الثالث من ولادته ، وكلما انتقص زادوا فيه ماء ، ويقولون ، هو تطهير ، ويقال : هو معرب معموذينا بإعجام الذال ، ومعناه الطهارة ، ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ، ثم تغتسل به الحاملات ، أمر الله المؤمنين أن يقولوا للنصارى ، قولوا آمنا بالله ، وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغة المعودية ، والإبدال ضعيف لكثرة الفصل بالأجنبى.

{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً } لا أحسن من صبغة الله ، ولا مساوى لها ، لأنها الإسلام المنجى من خزى الدنيا والآخرة المورث لخيرهما { وَنَحْنُ لَهُ } لا لغيره كما تشركون معشر اليهود والنصارى غيره فى العبادة { عَبِدُونَ } قيل : أو داخل فيما أمر أن يقولوها أى قولوا معشر اليهود والنصارى نحن له عابدون ، قالت اليهود : نحن أهل الكتاب الأول ، وقبلتنا أقدم ، ولم تكن الأنبياء من العرب ، ولو كان محمد نبيّاً لكان منا ، فنزل قوله تعالى :

{ قُلْ } يا محمد ، أو يا من يصلح للقول { أَتُحَآجُّونَنَا } أتجادلوننا جدالاً يقطعنا ، والحج القطع ، لا قدرة لكم على ذلك ، لأنكم مبطلون { فِى اللهِ } شأنه وقضائه ، إذ قضى وقدر أن يكون نبى من العرب ، ولا سيما أنه مذكور فى التوراة والإنجيل ، متداول ذكره من أوائلكم إلى الآن ، وقد أتى قيدار ولد إسماعيل بالتابوت من الشام إلى مكة ، دوره منه إما إسحاق أو يعقوب عليهما السلام ، وقال : إن لكم نوراً واحداً آخر الأنوار { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } فله أن يختار من شاء منا أو منك { وَلَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ } فإن توهمتم أن النبوة بالعمل فلنا من الأعمال ما نستحق به النبوة ، كما تدعون أن لكم أعمالاً إلا أنها باطلة بخلاف أعمالنا فصحيحة بالإخلاص كما قال { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } الدين والعمل ، وأنتم جعلتم له شركاء ، فنحن أولى بالنبوة ، لكن النبوة لا تعطى صاحبها لعمل غيره ، ولا لعمله بل اضطرارية ، لا كسبية بالأعمال ، أو بوصول نوع من الأعمال .

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ، بعد أن سئل عن الإخلاص ، قال : سألت جبريل عنه قال : سألت ربى عنه ، فقال : سر من أسرارى أودعته قلب من أحببته من عبادى .

وقال سعيد بن جبير ، ألا تشرك فى دنيه ولا ترائى أحداً فى عمله وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما ، وقيل : استاء أعمال العبد فى الظاهر والباطن ، وقيل : كتم الحسنات كما تكتم السيئات ، وقيل : احتقارك عملك .

ومعنى كونه سرا من أسرار الله ، أنه لا طاقة لأحد عليه باختياره ، ومعنى كون الشرك رياء أنه راءى الناس أنه غير مراء ، ومعنى أن العمل لهم شرك أنه رئاء أيضا زاد باسم الشرك؛ لأنه عمل لغير الله عز وجل .
---------------------------------------------------

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبْاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى } يا أهل الكتاب ، لم تحاجون فى إبراهيم ، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون « وأم متصلة متعلقة بقوله أتحاجوننا ، أو منقطعة للانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء ، ووجه الاتصال ذمهم بجمعهم بين المحاجة فى الله والقول بأن إبراهيم ومن معه كانوا هوداً أو نصارى ، مع كون واحد منهما كافيا فى القبح .

وأبو حيان لما رأى أن الغالب فى المتصلة " أم" استدعاء وقوع إحدى الجملتين ، والسؤال عن أحدهما ، وما هنا ليس كذلك ، اقتصر على المنقطعة ، وهكذا عادته ، يرى غير الغالب كأنه غير موجود ، فيقتصر على الغالب .

{ قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ } بحال إبراهيم فى الدين { أَمِ اللهُ } عطف على أنتم ، أو أم الله أعلم ، والتفضيل استهزاء بهم ، أو أعلم بمعنى عالم ، أنتم الجهلاء والله هو العالم ، قال : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب تبع له { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ } أخفى على الناس { شَهَدَةً عِنْدَهُ } جاءت { مِنَ اللهِ } فى التوراة والإنجيل لإبراهيم بالحنيفية ، لا باليهودية أو النصرانية ، ولمحمد بالرسالة ، والكاتمون هم اليهود والنصارى ، لا أحد أظلم منهم ، أو لا أحد أظلم منا لو كتمناها كما كتمتموها ، وقدم ثبوتها عنده على كونها من الله مع أنها متأخر فى الوجود مراعاة لطريق الترقى { وَمَا اللهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فهو مجازيكم على مثاقيل الذر ككتمان شهادته تعالى ، والافتراء على الأنبياء .
--------------------------------------------------

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كرر تأكيداً فى الزجر عما رسخ فى الطباع من الافتخار بالآباء والقرابة والاتكال على أعمالهم ، وقيل : الأولى لليهود ، والثانية لنا ، لئلا نقتدى بهم فى الاتكال ، إلا أن الكلام سوق لأصل الكتاب ، أو الأمة فى الأولى الأنبياء ، وفى الثانية أسلاف اليهود والنصارى ، إلا أن أسلاف اليهود لم يجر لهم ذكر ، وما سبق ذكر الأنبياء ، وقد ياقل : إن القوم لما قالوا فى إبراهيم وبنيه أنهم كانوا هوداً صارا كأنهم قالوا : إنهم كانوا على مثل طريقة سلفنا من اليهود فصار سلفهم فى حكم المذكورين فجاز أن يقال : تلك أمة قد خلت ويعينهم ، وفيه تعسف ، وقد يقال ، إنه لما اختلفت الأوقات فى الأحوال والمواطن لم يكن التكرار ضعيفاً ، كأنه قيل ما هذا الأشر ، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد فى هذا الجنس ، فاتركوا الكلام فى تلك الأمة ، فلها ما كسبت ، وانظروا فيما دعاكم إليه محمد ، فإنه أنفع لكم ولا تسألون إلا عن عملكم .

توقيع :

رد مع اقتباس