ثالثا: فريضة الولاية والبراءة
تُطبِّقُ الإباضية هذهالفريضة ، ولا يوجد هذا مع غيرهم ، فهذا مثلاً صاحب البداية والنهاية ذكر في ترجمةقتيبة بن مسلم أنه زَلَّ زلة كان فيها حتفه ، وفعل فَعلةً رَغِمَ فيها أنفُه ، وخلغالطاعة فبادرت المَنِيَّةُ إليه ، وفارق الجماعة فمات ميتةً جاهلية ، ثم قال: "لكن سبق له منالأعمال الصالحة ما قد يُكَفِّرُ الله به سيئاته ويضاعف به حسناته ، والله يسامحهويعفو عنه ويتقبل منه ما كان يكابده من مُناجَزَة الأعداء - رحمهالله". فهذا التخبيط بعينه ،فلعمري ما يُرجَى لمن مات ميتة جاهلية؟ "أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (سورةالقلم 35-36). فانظر وقارن بين هذا وبين ما فعله الإباضية عندما قُتِلَ بنو عمإمامهم الجلندى بن مسعود ، بكى الإمام ، فقال المسلمون: أتبكي رأفة على هؤلاء البغاة إذهم بنو عمك؟ إعتزل عن المسلمين؛فاعتزل ، كل هذا الذنب الذي فعله ، وقد فعل ذلك قبله أبو حُذيفة - رضي الله عنه -لما قُتِل أبوه في بدر ، لكنهم - جزاهم الله خيراً - لم تأخذهم في الله لومة لائم ،وما كانت أعمالهم وأقوالهم إلا ناصعة البياض في كل شيء ، بعيدين عن المُداهنة فيالدين ، قوامين بالقسط ولو على أنفسهم والوالدين والأقربين ، مطبقين للكتاب والسنةتطبيقاً لا يمتري فيه اثنان ، يقول الله سبحانه: "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَوَالمُؤْمِنَاتِ" (سورة محمد 19). ويقول تعالى: "مَا كَانَ لَلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْيَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِيقُرْبَى" (سورة التوبة 113) ،وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: "أيُّ عُرَى الإسلام أوثق؟قال: الله ورسوله أعلم. قال: "الوَلاية في الله والبغض فيالله"، وهذه حقيقة الإيمان عندالإباضية ، فمن لم يَدِن بها فلا دين له ولا وِلاية له ، هذه قضية انفرد بهالإباضية دون غيرهم من الفرق الإسلامية فضلاً من الله عليهم ، لم يُساووا بينالمؤمن التقي والعاصي الشقي في المعاملة: "إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّالفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَابِغَائِبِينَ" (سورة الإنفطار 13-16). فهل المحارب لله تعالى من الأبرار حتى نتولاه أو على الأقل أن ننزله منزلةالطائع ، والله وَلِيُّ الخلق وربهم فرق بينهم ، إن هذا لهو المُصادمة للحق ، وكأنالقوم شركاء الله في تصرفاته.
رابعا: الوعد والوعيد
إن الإباضية اتَّزَنُوافي عقائدهم ولم تستولِ عليهم الأهواء ، ولا الأخبار المجتثة ، فلم يُعِدُّوا للعصاةالجنة لأنها ليست مُلكاً لهم يدخلون فيها من شاؤوا ويُبعِدون من شاؤوا ، بليَعِدُون بها من وعدهم الله ، ويُبعِدون عنها من أبعدهم الله ، فالله سبحانهبَيَّنَ في وصف الجنة أنها: "أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" ولم يقل للمسلمين ، فهم متمسكون بهاتين الآيتين لايعرفون غير طريقها ؛ قوله تعالى: "بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِخَطِيئَتُهُ فَأُلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارَ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ، وَالَّذِينَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجّنَّةِ هُمْ فِيْهَاخَالِدُونَ" (سورة البقرة 81-82). لا يَعْدُل الإباضية عن صريح هذه الآيات إلى نقلٍ آحادي ، الله أعلم بصحته ، يقول: "أعددتُشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فكأنهم يقولون: يا مسلم بعد أن تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله لا تبالي بماتفعله من المعاصي فإنك لا بد أن تدخل الجنة ، إما بشفاعة الرسول - صلى الله عليهوسلم - ؛ والله تعالى يقول: "مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيْعٍيُطَاعُ" (سورة غافر 18). وإماأن تدخل الجنة بعدما تُعذَّب قليلاً بقدر عملك ، وقد قال اليهود قبلهم ذلك: "وَقَالُوا لَنْتَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِعَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُوْلُوْنَ عَلَى اللهِ مَا لاَتَعْلَمُونَ" (سورة البقرة 80) ،وإما أن تدخل تحت المشيئة ؛ فيشاء الله أن يرحمك وإن خالفته وعصيته والله سبحانهشاء - كما أخبرنا - أن يخلده في النار ، فلذلك انهمكت الأمة الإسلامية في المعاصيولم تبالِ بما يأتي منها ، لأنها لا تحاذِر شيئاً ، فقد وعدهم علماؤُهم أنهمسيدخلون الجنة ، وهذه ثغرة إستغلها أعداء الإسلام فدخلوا على المسلمين منها ، ولولم يكن علماء المسلمين فتحوا الباب على مصراعيه ، لما استطاع أعداؤُهم أن يلِجواعليهم ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ويُروَى أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليهأرسل جيشاً إلى فارس ، فجاءه المبشر بالفتح فسأل عن المقاومة كم كانت؟ قال: من غُدوةٍ إلىالرَّواح ثم فتح للمسلمين ، فقالعمر: إنا لله وإنا إليه راجعون ، بدلتم بعدي أو بدلتُبعدكم؟ يقوم الشرك في وجه الإسلام من غُدوةٍ إلىالرَّواح؟
والسيئة في الآية معناها الذنباليسير كما جاء في لغة العرب ، وأحاطت به كثرت حتى لم يجد مَخْلَصاً منها ، لأنهيُذنِب فلم يتب حتى استولت عليه الذنوب ، ولا دخل للشرك في هذه الآية حتى يقال إنهيعني بالسيئة الشرك.
خامسا: تنزيه الله
إن الإباضية نَزَّهواالله سبحانه وتعالى تنزيهاً يليق بجلاله ولم يشبهوه بخلقه تعالى ، ولم يقولوا (بليردوا مثل هذا القول الذي يصادم النصوص): "إن اللهيأتي يوم القيامة إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يعرفوه؟!! حتى يكشف لهمعن ساقه؟! فيعرفونه بهافيتَّبِعونه!!!! يقولون: إنهم أخذوا ذلكمن صحيحي البخاري ومسلم ، يتأولون قول الله تعالى: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْسَاقٍ" (سورة القلم 42).
فلله العجب! أين ذهبت عقولُ هؤلاء الناس؟ وتجنبواالعربية في الساق وأولوه على حسب ما يَهْوَوْن!! فإذا كان لله ساق فأي امتياز لهعلى غيره ، يلزم القائلين بذلك أن يردوا قول الله سبحانه: "لَيْسَ كَمِثْلِهِشَيْءٌ" (سورة الشورى 11). فلعمْرُ الحق ، من كانت هذه صفته ، وهو يَبرُز لخلقهكما يبرز ملوك الدنيا ، إذاً سيكون مثله أشياء وأشياء ... سبحان الله والحمد للهعلى هدايته ، فلله دَرُّ الإباضية كيف وقعوا على الحقيقة ووقفوا على الإستقامةوالطريقة ولم يُفَرِّطوا في ذرة من حقوق الله سبحانه الواجبةوالمستحيلة.
وما توفيقي إلابالله.
هذه نبذةٌ يسيرة مماامتازوا به للتنبيه لا للإستقصاء ، ويقول واصفُهم أبو مسلم الرواحي:
أئمةٌ حُفِظَ الدينُ الحنيفُ بهم ************ من يوم ِقيل َلدينِا للهِ أديانُ
صِيدٌ سُراةٌ أُباة ُالضَّيْمِ أُسْدُ شِرى ********** شُمْسُ العز ائِمِ أوَّاهونَ رُهبانُ
سُفْنُ النجاة ِهُداةُ الناسِ قادتُهُمْ *************** طُهْر ُالسَّرائِر ِللإسلامِ حيطانُ
تَقَبَّلو امِدَحَ القرآن ِأجمَعَها *************** إذا استحق مديحَ اللهِ إيمانُ
جَدُّوا إلى الباقياتِ الصالحاتِ فَلَمْ ********* يَفُتْهُم ُفي التُّقَىسِرٌّو إعلانُ
على الحَنيفِيَّةِ الزَّهراءِ سَيْرُهُمُ *********** والوَجْهُ والقَصْدُ إيمانٌ وإحسانُ
بِسِيرَةَ العُمَرَيْن ِاسْتَلأَمُوا وَسَطَوْا *********** لِشَرْبَةِ النَّهْرَ وَانِ الكُل ُّعَطْشانُ
صُعْبُ الشَّكائِم ِفي ذاتِ الإلَه ِفَإِنْ********* حَناهُمُ الحَقّ ُعن مَكْرُوهِه ِلانُوا
مُسَوِّمِينَ لِنَصْرِ اللهِ أنْفُسَهُمْ ********** أَرْواحُهُم ْفي سَبِيل ِالله ِقُرْبانُ
أئِمَّتِي عُمْدَتي دِينِي مَحَجَّتُهُمْ *********** غَوْثِي إذا ضاقَ بِي في الكَوْنِ إِمْكانُ
لا يَقْبَل ُالله ُدِيناً غَيْر َدِيْنِهِمُ ********** وَلايَصِحُّ الهُدَى إلا بمادَانُوا
مِنْ عَهْد ِبَدْر ٍوَأُحْدٍ لاتُزَحْزِحُهُمْ ********* عَنْ مَوْقِفِ الحَقّ ِأَزْماتٌ وأَزْمانُ
حَقِيقَةُ الحَقّ ِمادَانُو ابِه ِوَأَتَوْا *********** وَمَا عَدَاهُ أَخَالِيط ٌوَخُمَّانُ
إِنْ يَشْرُ فِالنَّاسُ في الدُّنيا بِثَرْوَتِهِمْ ********* فَثَرْوَةُ القَوْمِ إخْلاصٌ وإتْقانُ
للهِ ماجَمَعُوا لله ِماتَرَكُوا ********** للهِ إنْ قَرُبُوا للهِ إنْ بَانُوا
أزْكَى الصَّنِيعيْنِ ماكانَا لهُدَى مَعَهُ ******* لَدَيْهِمُ وَلَه ُفي الحَقِّر ُجْحَانُ
تَراهُم ُفي ضَمِيرِ اللَّيْل ِصَيَّرَهُمْ ********* مِثْل َالخَيَال التَسْبِيح ٌوَقُرْآنُ
هُمُ الإبَاضِيَّةُ الزُّهْر ُالكِرَامُ لَهُمْ ******** بِعِزَّةِ اللهِ فَوْق َالخَلْقِ سُلْطَانُ
لايُعْرَف ُالعَدْل ُإلاَّفِياسْتِقَامَتِهِمْ ******* لَمْ يُوفِ إلاّ َلَهُم ْفِي العَدْل ِمِيزَانُ
فِي الذَّب ِّعَنْ حُرُمَاتِ الله ِشَأْنُهُمُ ******* لاشَأْنَ دُنْيَاهُم ُنَيْلٌ وَحِرْمَانُ
ضَنُّوا بِبُلْغَةِ مَحْياهُم ْعَلَى بَشَرٍ *******مِنْه اكَأَنَّ هُم ْبِالبُلْغَةِ اخْتَانُوا
سِيما التَّعَفُّفِ تَكْسُوهُمْ جَلال َغِنىً **** فَالقَلْب ُفِي شِبَعٍ والبَطْنُ خَمْصَانٌ
تَمَثَّلَت ْلَهُمُ الدُّنْيا فَمَا جَهِلُوا ****** حَقِيقَةَ الأَمْرَ أَنّ َالعَيْشَ ثُعْبانُ
جازُوا الجُسُور َخَفَافَا لحَاذِ وَقْرُهُمُ ****** زُهْدٌو َخَوْفٌ وَإصْبار ٌوَشُكْرانُ
فَازَ المُخِفُّونَ منْ دَارِ الغُرُور ِفَلا ******* خَوْفٌ عَلَيْهِم ْوَلابِالقَوْم ِأَحْزَانُ
إلى آخِر ما قاله هذا النابغة في وصفهم في قصيدته المسماة "الفتح والرضوان" عليهم وعليه رحمة اللهورضوانه
تم بحمد الله.
لا تنسوني من دعائكم