منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 11-14-2010 ]
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



تاريـخ و حـضـارة

نشأة الاباضية
في الوقت الذي كان الخوارج المتطرفون يقومون بثوراتهم وحركاتهم ضد الأمويين وولاتهم ويتعرضون من جراء ذلك للقتل والتشريد ويواجهون السخط والاستنكار من قبل السكان، كانت هناك جماعة انبثقت بعد معركة النهروان واتخذت من مدينة البصرة مقرا لها، وآثرت السلم وعدم اللجوء إلى السيف أو العنف لفرض آرائها. وقد تزعم هذه الجماعة أبو بلال مرداس بن أدية التميمي، وكونت هذه الجماعة البذرة التي أنتجت بما عرف فيما بعد في التاريخ الإسلامي بالفرقة الإباضية. وكان زعيم هذه الفرقة - قبل أن تُعرَف بالإباضية - هو
أبو بلال مرداس بن أدية التميمي.
هو مرداس بن حدير ويكنى بأبي بلال. ينتمي إلى قبيلة تميم التي كان يتزعمها الأحنف بن قيس، وقد شهد معركة صفين مع الإمام علي هو وأخوه عروة وفارقه مع أهل النهروان بعد التحكيم وكان من العدد القليل الذين نجوا من القتل في معركة النهرولن. قال عنه ابن الأثير: (كان مرداس عابدا مجتهدا عظيم القدر وكان لا يدين بالاستعراض ويحرم خروج النساء ويقول لا نقاتل إلا من قاتلنا)[1].
ويظهر أنه لم يكن مرتاحا لما حدث من خلاف وفتنة بين المسلمين وصعق لِما حل بأصحابه من قتل وتشريد على أيدي إخوانه المسلمين ورأى أن القتال بين أتباع العقيدة الإسلامية أمر لا يصح, فانسحب مع نفر من أصحابه وأقام بالبصرة تحت حماية الأحنف بن قيس الذي كان يمتاز بحكمته وسداد رأيه، وفي ظل هذه الحماية أخذ أبو بلال ينشر آراءه وأفكاره مؤثرا طريق النقاش والإقناع بدلا من طريق الحرب الذي سلكه الخوارج، فدعا أتباعه ألا يجردوا سلاحا ولا يقاتلوا أحدا إلا إذا تعرضوا للعدوان فأنكر قتل المخالفين واستعراض الناس على طريقة متطرفي الخوارج. وكان مما ساعده في نشر أفكاره هو تسامح زياد بن أبيه والي العراق في ذلك الحين معه ومع جماعته لأنهم لم يحاربوه كما فعل الخوارج. وقد أنكر الخوارج قعود أبي بلال وجماعته عن الثورة ضد ولاة الأمويين فلقبوهم - احتقارا - بالقعدة، أما أهل البصرة فكانوا يسمونهم الحرورية[2]، نسبة إلى حروراء.
نشط أبو بلال في البصرة لنشر دعوته وأفكاره وكان يعقد المجالس والمناظرات لإقناع الناس بآرائه، فانضم إليه عدد كبير من الناس وازداد عددهم حتى بنوا مسجدا خاصا لهم بالبصرة[3]. وبلغ من حسن سيرته أن جميع الفِرق التي خرجت على الدولة الأموية تتولاه بما فيهم الأزارقة والنجدات والشيعة والمعتزلة، ولعل ذلك يعود إلى أن تلك الفِرق جميعا كانت هي التي تسمى بالمحكمة قبل أن تنقسم.
كان أبو بلال ملازما للإمام جابر بن زيد حتى قيل أنه ما كان يصبر على فراقه فقد كان من تشوقه إليه أنه يخرج من عند جابر بعد العشاء ويأتيه قبل صلاة الصبح فيقول له جابر لقد شَقَقْتَ على نفسك فيرد عليه أبو بلال : والله لقد طال ما همت نفسي بلقاك شوقا إليك حتى أتيتك. وهذا يبين مدى الصلة الفكرية والروحية التي كانت تربط أبا بلال بالإمام جابر ويذكر مؤرخو الإباضية أن أبا بلال كان لا يبرم أمرا إلا بمشورة الإمام جابر.
وعندما تولى عبيد الله بن زياد إمارة العراق سنة 55 للهجرة اتبع سياسة جديدة مختلفة عن سياسة والده تجاه القعدة فاشتد في طلب الخوارج واستعمل القسوة مع كل المعارضين سواء كانوا من القعدة أو من الخوارج ورفض الشفاعة في أي واحد منهم، ورغم كل هذا كان أبو بلال يقول كلمة الحق ولم يخش في الله لومة لائم.
يقول الدرجيني[4]: (ثبت عندنا من طريق صحيح أن أبا بلال رحمه الله كان في المسجد الجامع فسمع زيادا يقول على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء والحاضر بالغائب والصحيح بالسقيم. فقام رحمه الله فقال: قد سمعنا ما قلت ،وإنك تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي وما هكذا ذكر الله إذ يقول (وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)[5].
كان من نتيجة ذلك أن سُجن أبا بلال قبل أن يُقتل أخاه عروة ثم أُطلق سراحه وربما كان سبب ذلك خوفه من إثارة بني تميم التي كان لها آنذاك وزن كبير في البصرة. ولكن هذا العفو لم يشمل أتباعه فاستمر في مطاردتهم وملاحقتهم ولم يفرق بين الرجال والنساء فقد ذكر المؤرخون أنه أتى بامرأة من أصحاب أبي بلال اسمها البلجاء (أو البثجاء) كانت مجتهدة في العبادة وكانت تذكر تجبر ابن زياد وسوء سيرته فقال لها أبو بلال: إن هذا الجبار قد ذكرك فتغيبي. قالت: (أخشى أن يلقى أحد مكروها بسببي. فأخذها ابن زياد فقطع رجليها ويديها ثم رمى بها في السوق)[6].
واستمر ابن زياد في اضطهاد كل مخالفيه سواء كانوا من المحاربين أو من القعدة وكان يبث العيون والجواسيس لتعقبهم وملاحقتهم ثم حبسهم أو قتلهم. وتمشيا مع هذه السياسة اضطر أبو بلال وأصحابه إلى التخفي فكانوا يعقدون اجتماعاتهم سرا للنظر في أمورهم وقد ذكر الدرجيني أنهم كانوا يأتون إلى المجالس متشبهين بالنساء أحيانا ومنتحلين صفة الباعة المتجولين أحيانا أخرى.
كان من نتيجة الاضطهاد الذي مارسه عبيد الله بن زياد ضد المسلمين أثره الكبير في نفس أبي بلال فقرر أن يترك البصرة إلى مكان آخر أملا أن يأمن شر ابن زياد وأن يدعو إلى فكره في مكان آخر فقال لأصحابه: (إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للفضل مفارقين للعدل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا). فخرج من البصرة وهو يقول:
إني وزنت الذي يبقى ليعدله


ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
من كان يرجو بقاء لا نفاد له


فلا يكن حبه الدنيا له شجــنا


تقوى الإله وخوف النار أخرجني



وبيع نفسي بما ليست له ثمنا


سار ومعه أربعون رجلا من أتباعه حتى نزلوا بآسك[7]، وقد أعلن أنه وأصحابه لن يخيفوا أحدا أو يجردوا سيفا ولا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. ولكن ابن زياد لم يرتض هذا العمل من أبي بلال فأرسل إليه جيشا مكونا من أربعة آلاف رجل بقيادة عباد ابن أخضر فقتلهم جميعا وكان ذلك في سنة 61 هجرية. وكان يقول قبل قتله:
ماذا نبالي إذا أرواحنا خرجــــت


ماذا فعـلتم بأجسـادي وأوصـالــي
نرجو الجنان إذا طارت جماجمنا

تحت العجاج كمثل الحنظل البالي
إني امرؤ باعني ربي لموعـــــــده

إذ القلوب هوت من خوف أوجالي[8]

كان لمقتل أبي بلال صدى عميق في نفوس أصحابه وآثار نقمة شديدة ضد ابن زياد فقد كان بسلوكه وعمله واستشهاده المثل الأعلى لأتباعه فرثاه كثير من الشعراء منهم عمران ابن حطان الذي قال فيه[9]:
يا عين ابكي لمرداس ومصرعــه


يا رب مرداس اجعلــني كمرداس
تركتني هائما أبكـي لمرزأتــــي

في منزل موحش من بعد إينـــاس
أنكرتُ بعدك ما قد كنت أعرفه

ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
وقال أيضا:
لقد زاد الحيــاة إلي بغضـــــا

وحبــا للخـــروج أبو بـــــلال

أحاذر أن أموت على فراشــي

وأرجو الموت تحت ذرى العوالي
فمن يك همـه الدنيــا فإنــــي

لها والله رب العـــرش قـــــال

ولو أني علمت بأن حتــــــفي

كحتــف أبي بــلال لم أبـــال


[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ الجزء الثاني ص.517 ذكر أحداث سنة 59 هـ

[2] عوض خليفات: نشأة الحركة الإباضية ص. 65

[3] الأنساب للبلاذري - نقلا عن نشأة الحركة الإباضية لعوض خليفات

[4] [4] الدرجيني: طبقات المشايخ بالمغرب الجزء الثاني ص. 215
[5] سورة النجم آية

[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ الجزء الثاني ص.517 ذكر أحداث سنة 59 هـ

[7] آسك: بلد من نواحي الأهواز

[8] الحارثي: العقود الفضية في أصول الإباضية ص.



علاقة الاباضية بالدولة الأموية
إن نظام الحكم في الإسلام هو الذي جاءت قواعده الأساسية في كتاب الله تعالى وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وطبقه الخلفاء الراشدون بطريقة عملية. وبما أن الخلافة هي أهم مرافق الدولة، وأعظم مظهر للأمة، وأقوى سلطة تشرف على تنفيذ أوامر الله، وتطبيق الكتاب العزيز، فقد جاء الإسلام بنظام الإمامة في رئاسة الدولة الإسلامية، ليقود المسلمين في كل زمان ومكان أفضل أبنائها وأكثرهم كفاءة، وأتمهم في الورع والنزاهة والإخلاص.
فالخلافة بهذا الوصف لا يمكن أن تخضع لنظام وراثي، ولا أن ترتبط بجنس أو قبيلة أو أسرة أو لون، وإنما يجب أن يشترط فيها الكفاية الدينية والخلقية والعملية والعقلية، فإذا تساوت هذه الكفايات في عدد من الأشخاص أمكن أن تجعل الهاشمية أو القرشية أو العروبة من أسباب المفاضلة، أو وسائل الترجيح.
و تنعقد الإمامة في الدولة الإسلامية بطريق واحد لا ثاني له، ألا وهو اختيار أهل الحل والعقد للإمام أو الخليفة، وقبول الإمام أو الخليفة لهذا المنصب. وبهذه الطريقة بويع الخلفاء الراشدون جميعا. لكن الأمويين والعباسيين ومن جاء بعدهم لم يلتزموا بهذا الأصل فتحولت الخلافة الإسلامية منذ أن عهد معاوية بن أبي سفيان إلى ابنه يزيد بالخلافة إلى ملك عضوض وبذلك تحقق قول الرسول صلي الله عليه وسلم في الحديثين الذين رواهما الإمام أحمد في مسنده.
الحديث الأول رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَـتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبت الناس بالتي تليها وأولها انقضاء الحكم وآخرهن الصلاة)[1]، والحديث الثاني رواه حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه إذا شاء الله أن يرفعه ثم يكون ملكا جبريا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة[2]).
ومن خلال تتبع ما حدث بعد معركة صفين ومقتل الإمام علي كرم الله وجهه وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة إلى معاوية وما حدث بعدها من أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، نجد أن عروة الإسلام الأولى -وهي الحكم - قد انتقضت، ومنذ ذلك الحين انتقل الحكم الإسلامي إلى ملك عضوض توارثه بنو أمية ثم بنو العباس ومن جاء بعدهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وبقدر ما يؤكد الحديث الثاني أنه ستكون في آخر الزمان خلافة على منهاج النبوة وهي بشارة لهذه الأمة التي تعاني في هذا العصر من الملك الجبري أو الملك العاض في أماكن عدة من بلاد الإسلام، فإنه يبين بوضوح أنه سيحدث انحراف عن منهاج النبوة مباشرة بعد الخلافة الراشدة. وأول انحراف حدث - كما هو معروف - هو الانحراف في اختيار الخليفة أو الحاكم وهو ما عناه النبي (صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الأول الذي ينص على أن أول ما يُنتقض من عرى الإسلام هو الحكم. وقد بدأ الانحراف في الحكم منذ تحكيم الحكمين بعد معركة صفين، التي راح ضحيتها آلاف من الصحابة والتابعين، وبعدها توارث بنو أمية الخلافة الإسلامية. وقد صاحب هذا الانحراف في اختيار الخليفة، عدم الالتزام بالعدل في الحكم وعدم الحرص على أموال الأمة.
ففي عهد الخلافة الراشدة كان المسلمون يختارون للخلافة أكفأهم لها، وأقدرهم على سياسة الأمة، لكن الأمر تغير بعد ذلك فقد أجمع المؤرخون والفقهاء وعلماء الأمة على أن أمراء وحكام الأمويين أو العباسيين قد تولوا الحكم عن غير مشورة من المسلمين، وفرضوا أنفسهم على الأمة، عدا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كما أن أكثرهم قد عاث فسادا في بيت مال المسلمين، فبدلا من إنفاقه في مصالح المسلمين ووضعه حيث أمر الله، أنفقوه على شهواتهم وأهوائهم, وعلى الشعراء - الذين كالوا لهم المديح وعلى أنصارهم من القواد الذين ساعدوهم على تثبيت حكمهم.
يقول أبو الحسن الندوي[3] في كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان "الانحطاط في الحياة الإسلامية" بعد أن تحدث عن المجتمع الإسلامي الأول وعصر الخلفاء الراشدين (ولكن من المؤسف ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يعدوا له عدة, ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية عميقة متينة كما تلقى الأولون وكثيرون في عصرهم وجيلهم, ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية والدنيوية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية وهذا الحكم عام يتمثل في خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فظهر في ذلك ثلمات في ردم الإسلام لم تسد حتى الآن، ووقعت تحريفات في الحياة الإسلامية ووقع فصل بين الدين والسياسة عمليا، فإن هؤلاء لم يكونوا من العلم والدين بمكان يستغنون به عن غيرهم من العلماء أهل الدين فاستبدوا بالحكم و السياسة، واستعانوا - إذا أرادوا واقتضت المصالح - بالفقهاء ورجال الدين, فتحررت السياسة من رقابه الدين, وأصبح رجال الدين والعلم بين معارض للخلافة وخارج عليها, وحائد منعزل اشتغل بخاصة نفسه, ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء مما يرى ويسمع ولا يملك من الأمر شيئا, ومتعاون مع الحكومة لمصلحة دينيّه أو شخصيّه, ولكل ما نوى, وحينئذ انفصل الدين والسياسة، وأصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي, وأصبحت السياسة مطلقة اليد, حرة التصرف, نافذة الكلمة, صاحبة الأمر والنهي, ومن ثم أصبح رجال العلم والدين طبقه متميزة، ورجال الدنيا طبقه متميزة, والشقة بينهما شاسعة, وفي بعض الأحيان بينهما عداء وتنافس. ولم يكن كثير من رجال الحكومة حتى الخلفاء أمثلة كاملة في الدين والأخلاق, بل كان في عدد منهم عروق للجاهلية ونزعاتها, فسرت روحهم ونفسيتهم في الحياة العامة, وأصبحوا أُسوة للناس في أخلاقهم وعوائدهم، وزالت رقابة الدين والأخلاق, وارتفعت الحسبة وفقدت حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلطانها, لأنها لا تستند إلى قوة ولا تحميها حكومة وإنما يقوم بها متطوعون لا قوة لديهم ولا عقاب, فتنفست الجاهلية في بلاد الإسلام ورفعت رأسها وأخلد عدد كبير من الناس إلى الترف والنعيم والملاهي والملاعب وانغمسوا في الملذات والشهوات, ونظرة في كتاب الأغاني وكتاب الحيوان للجاحظ تريك ما كان هنالك من رغبة جامحة إلى اللهو, وتهافت علي الملاهي والملذات[4].
ويقول خالد البيطار في كتابه " الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز " (عندما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز كانت الأوضاع قد وصلت إلى حال لا ترضي أحدا وقد ساءت الأحوال قبيل استلام يزيد بن معاوية واتسعت الهوة بين الخلفاء والعلماء وصار الناس في واد وحكامهم في واد آخر. وقد ازدادت الأحوال سوءا باستلام بعض الولاة أمثال الحجاج لِما جنت أيديهم من ظلم وعسف، وقد وقع الخلفاء بما وقع به الولاة من ظلم وجور, ووقعوا كذلك في البطر والترف فصاروا يجمعون الأموال وينفقونها في غير محلها ويعطون الأعطيات بلا حساب ولا رقيب ولا قانون . كان الشاعر يدخل على الخليفة أو الوالي فيمدحه فيكيل له من المال ويخلع عليه من الأعطيات. وقد اعتمدوا على المظاهر في خلافتهم, وكانوا يأخذون الناس بالشبهة فلا احترام لأحد إلا بقدر ما يؤيدهم في مخالفاتهم أو يكف لسانه عنهم وقد عاملوا أهل البيت ومن يمت إليهم بصلة أو من يؤيدهم أسوأ المعاملة حتى وصل الأمر بهم إلى شتم الإمام علي ولعنه على المنبر وكانوا يتصفون بالقسوة في كل أمورهم بالنسبة لمن يخالفهم، وقد أنفقوا كثيرا من الأموال وأضاعوا الرجال في حروبهم مع الخوارج ومع غيرهم . وقد بذلوا من أجل إبقاء الخلافة في البيت الأموي الكثير من الجهود، واكتسبوا كثيرا من العداوات والمخالفات لأكابر الصحابة والعلماء . كل تلك الأمور جعلت الناس في ضيق بل جعلتهم ينتظرون اليد الحانية المصلحة التي تعيد الحق إلى نصابه وتعيد إليهم أمنهم وراحتهم وتعيد إلى الإسلام وجهه الناصع وإلى المسلمين العدل والحق[5].
وهذه بعض الأمثلة لأعمال الأمويين المخالفة لأحكام الإسلام

· جعل الأمويون لعن الإمام علي سنة على المنابر في المساجد منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ودام هذا حوالي ستين سنة حتى جاء عمر بن عبد العزيز فاستبدله بقول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) [6].
· كان يزيد بن معاوية من شاربي الخمر سماعي الغناء والمستهترين بأوامر الله، وكان ممن اتخذ الصيد حرفة واتخذ الفتيان والغلمان والتفكه بالقرود وغيرها من الأعمال التي لا تليق بالخلفاء في الوقت الذي كانت فيه الفتن على أشدها.
· في عهد يزيد بن معاوية قُتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وقُتل معه من أهل بيته ومن أصحابه سبعون رجلا في موقعة كربلاء المعروفة، وفي عهده أيضا في سنة 63 للهجرة خرج أهل المدينة على يزيد لِقلّة دينه فجهز لهم مسلم بن عقبة فخرجوا له بظاهر المدينة فاستبيحت المدينة المنورة مدة ثلاثة أيام وقُتل من أهل المدينة في واقعة الحرة المشهورة من الصحابة والتابعين عدد كبير منهم عبد الله بن حنظلة المشهور بغسيل الملائكة.
· ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء بعضا من أخبار عبد الملك بن مروان منها قول يحيى الغساني أن عبد الملك بن مروان كان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء، فقالت له مرة : (بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلاء بعد المنسك والعبادة. قال: أي والله والدماء قد شربتها). وقال العسكري : (كان عبد الملك أول من غدر في الإسلام[7]، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف). وقال ابن عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال هذا آخر العهد بك[8].
· قال عبد الملك بن مروان في خطبته بالمدينة : (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه)، رغم أنه كان عابدا زاهدا قبل توليه الخلافة وكان معدودا في الفقهاء، إلا أنه قد تغير بعد ذلك. قال السيوطي (لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا توليته للحجاج على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم يهينهم ويذلهم قتلا وضربا وشتما وحبسا لكفى).
· في عهد الوليد بن عبد الملك الذي ورث الخلافة عن أبيه سار سيرة والده حتى أن عمر بن عبد العزيز قال: (امتلأت الأرض - والله - ظلما وجورا). وذلك حين كان الوليد بالشام والحجاج بالعراق وعثمان بن حجارة بالحجاز وقرة بن شريك في مصر.
· كان يزيد بن عبد الملك أخو الوليد صاحب لذّات وطرب، مولع بالغناء، فقد اشتهر بصحبته لحُبابة وسُلامة المغنيتين حتى قيل أنه مات بسبب جزعه على موت حبابة. وقد ذكر السيوطي أنه أقام أربعين يوما يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز ثم عدل عن ذلك.
· عندما كتب السيوطي عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك وصفه بقوله "الخليفة الفاسق" فقال فيه كان فاسقا، شاربا للخمر، منتهكا لحرمات الله، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه، وخرجوا عليه فقُتل. ولما قُتل وقُطع رأسه وجيء به، نظر إليه أخوه سليمان بن يزيد فقال : بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا.
· أما أعمال الحجاج فهي لا تحصى ويكفي أن نذكر أن الحجاج بعث إلى ابن عمر من يضربه بطرف رمح مسموم فمات منها، وختم في عنق أنس ابن مالك ختما يريد بذلك إذلاله.
· أحرق الأمويون البيت الحرام ورموه بالمنجنيق. كل هذا حدث من أجل القضاء على معارضيهم وتثبيت حكمهم. فقد أهرق الأمويون كثيرا من الدماء ظلما وعدوانا. وقد تمثل ذلك في قتلهم لعبد الله بن الزبير والحسين بن علي وحجر بن عدي وأصحابه وضربهم لمكة بالمنجنيق وقتلهم لكثير من الأبرياء وخصوصا في عهدي عبيد الله بن زياد والحجاج. ولقد استطاع الأمويون أن يضفوا على دولتهم صفة شرعية بالقوة والعنف أحيانا، وبالدهاء والحيلة أحيانا أخرى.
· تهاون الأمويون في العمل بسنّة الرسول (صلى الله عليه وسلم )، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد في حديثه عن القراءة في الصلاة قال: (وأما المداومة فيها على قراءة قصار السور دائما فهو فعل مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابث، وقال: (مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله (ص) يقرأ في المغرب بطولى الطولين، قال: وما طولى الطولين؟ قال : الأعراف). قال ابن القيم في زاد المعاد: قال شيخنا (يقصد ابن تيمية) وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة، وأحدثوه فيها كما أحدثوا فيها ترك تمام التكبير، وكما أحدثوا فيها التأخير الشديد، وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه (صلى الله عليه وسلم )، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء (خرج القراء وهم أهل القرآن والصلاح بالعراق على الحجاج لظلمه وتأخيره الصلاة والجمع في الحضر، وكان هذا مذهبا واهيا لبني أمية كما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) : (يكون عليكم أمراء يميتون الصلاة) [9].
هذه بعض النماذج من سلوك أمراء الأمويين، وقد يوجد في هذه الأخبار بعض المبالغات من المؤرخين في وصف تصرفات وسلوك بعض الأمراء، لكنها أيضا لا تخلو من حقائق مهمة أجمع عليها المؤرخون وهي أن الخلافة الإسلامية تولاها من ليس أهلا لها، كما أنهم لم يلتزموا بالإسلام في أنفسهم ولا طبقوا العدل في رعيتهم، فكان من نتيجة ذلك أن نقم الناس على سيرتهم وحكمهم خصوصا أن كثيرا منهم كان من بقية الصحابة ومن أبناء المهاجرين والأنصار الذين ذاقوا حلاوة العدل والشورى في ظل الخلافة الراشدة فلم يرتضوا سيرة ولاة الأمويين المخالفة لمبادئ الإسلام، فمنهم من سكت، ومنهم من أنكر عليهم مخالفتهم للدين واستئثارهم بالرئاسة وهي شورى بين المسلمين، ومنهم من رفع السيف وأخذ يقاتلهم. ولكن الدولة الأموية كانت في شبابها وقد استقر لها الأمر فركزت كل جهدها إلى ضرب خصومها. ومن يدرس تاريخ الدولة الأموية يجد أن فترة حكمها كانت أغلبها فترة حروب مع معارضيها حتى انتهت على أيدي العباسيين. قال الثعالبي: (روت الرواة من غير وجه عن عبد الملك بن عمير الليثي قال: رأيت هنا في هذا القصر - وأشار إلى قصر الإمارة بالكوفة - رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس، ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بين أبي عبيد، ثم رأيت رأس المختار بن يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك، فحدثت بهذا الحديث عبد الملك، فتطير منه وفارق مكانه).
ومن أجل هذه الأعمال وغيرها كثير مما هو مفصل في كتب التاريخ ونتيجة للانحراف بالحكم الإسلامي عن حقيقته فقد عمت النقمة على الأمويين العالم الإسلامي كله ما عدا فئة من المستفيدين بالوضع والمعتزين بالجاه والمنصب.
ولقد اتفق الصحابة والتابعون والعلماء والفقهاء وعامة المسلمين الصادقين على أن الحكم بعد الخلافة الراشدة قد انحرف عن مجراه الطبيعي في النظام الإسلامي باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز، ولكنهم رغم اتفاقهم أن الحكم قد انحرف، فقد اختلفوا في معالجة هذا الانحراف حسب قربهم وبعدهم عن الحكم وفهمهم للإسلام، و حسب تصوراتهم لما حدث وكيف حدث. وباستقراء الحوادث التاريخية يمكننا أن نقسم آراءهم إلى ثلاثة أقسام:
· قسم غير راض فهو ينتقد وينقم، ولكنه في نفس الوقت يقف من الحكم الأموي موقفا مسالما، لا يجهر بالنقمة، ولا يدعو إلى الثورة خوفا من فتنة تضر بالأمة، أكثر مما تصلح، وتشتت أكثر مما تجمع، ولذا فهم يرون وجوب الخضوع للأمر القائم حتى تتبدل الأمور. ويمثل هذا الجانب علماء الحديث الذي استطاعوا أن يتكيفوا مع الوضع القائم وأن يهتموا بجمع الحديث وحفظه.
· وقسم آخر رفع السيف وأخذ يقاتل الأمويين، وقد تطرف بعض منهم حتى أنهم استحلوا دماء المسلمين دون حق، وهؤلاء الذين أطلق عليهم فيما بعد اسم الخوارج. ومنهم الأزارقة والنجدات.
· وقسم ثالث كان ينتقد الانحراف ويطالب بتنفيذ أحكام الله والاستمساك بشريعته دون دعوة تؤدّي إلى فتنة جامحة، فهم يقفون موقف الناقد الصريح الذي لا يسكت عن منكر، ولا يرفع سيفا.
وكانت الإباضية من أوائل الفِرَق التي أنكرت على بنى أمية استئثارهم بالحكم دون غيرهم وتصرفهم في بيت مال المسلمين دون حق، لكنها لم ترفع السيف في وجه أحد، إلا أن الدعاية السياسية في العهد الأموي استطاعت أن تضفي لقب الخارجية على كل من عارضها سواء بالسيف أو اللسان، وحتى بالسكوت، ومنذ ذلك الوقت صنفت الإباضية من طائفة الخوارج.
وانتشرت كلمة الخوارج وتلقفها الناس فنشروها في كتبهم وفي أحاديثهم، وفي المجالس الخاصة والعامة، كما وضعت كثير من الأحاديث في ذم الخوارج. ووجد الكذابون والمشنعون والمستغلون ميدانا فسيحا للافتراء والزيادة فنشروا أباطيل كثيرة عن الخوارج تناقلها الناس كأنها وقائع وأخذها كتاب المقالات كمادة علمية حشوا بها كتبهم دون تحقيق أو تمحيص أو نقد، فأصبحت كأنها حقائق لا يتوجه إليها نقد ولا يرتفع بصددها نقاش[10].

مسند الإمام أحمد بن حنبل، حديث رقم ....[1]

مسند الإمام أحمد، حديث رقم .....[2]

[3]) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، الطبعة الثامنة، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 132-134.

[4]) أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص

[5]) خالد البيطار: عمر بن عبد العزيز

[6]) سورة النحل آية 90

[7]) أخرج العسكري بسنده عن ابن الكلبي قال : كان مروان بن الحكم ولى العهد عمرو بن سعيد بن العاص بعد ابنه عبد الملك، فقتله عبد الملك، وكان قتله أول غدر في الإسلام. نقلا عن تاريخ الخلفاء ص. 216

[8]) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 216

[9]) الحديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي ذر قال: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها) قال : قلت فما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة).

علي يحي معمر ، .....



علاقة الإباضية بالخوارج
مقدمة
لقد أُسيء فهم واستعمال كلمة الخوارج من قبل الكتاب - قديما وحديثا - إذ أخرجها كثير من الكتاب عن معناها الحقيقي، ووصفوا بها أناسا ليسوا بخوارج ونسبوا لهم أعمالا هم منها براء. ولقد تأذى الإباضية كثيرا بهذه الكتابات التي أصبحت ولا تزال مرجعا لكل باحث، والتي سببت في ازدياد الفرقة واتساع الهوة بين الإباضية وغيرهم من الفرق والمذاهب الإسلامية.
وذلك لأن كلمة الخوارج تشمئز منها النفس، وينقبض منها القلب فعندما يسمع المسلم هذه الكلمة يتخيل الخوارج قوما قساة القلوب جفاة الأكباد لا يعرفون إلا السيف، يسلبون وينهبون ويقتلون من أمامهم، شيخا كان أو صبيا، رجلا كان أو امرأة، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم طريقا، فالنتيجة التي يخرج بها المسلم وهو يقرأ أحداث التاريخ أن هذه صفات كل من ينسب إلى الخوارج في كل زمان ومكان. ولذلك لا يرضى مسلم أن يوصف بهذه الصفة.
وكلمة الخوارج شبيهة في هذا العصر بكلمة إرهابي. ففي السنوات الأخيرة فرضت هذه الكلمة نفسها في وسائل الإعلام وأصبحت تطلق على المسلم الملتزم بدينه، كما تطلق على قاطع الطريق وعلى من يخطف طائرة، وعلى المجاهد في سبيل الله وهؤلاء ليسوا سواء . إن الإعلام العالمي يتحدث عن الإرهاب دون تحديد ما هو الإرهاب الحقيقي ولكن بطريقة غامضة ومشوشة، المسلم الصادق يعلم جيدا أن هذه الكلمة يقصد بها محاربة الدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله في كل مكان. وكذلك كلمة الخوارج عندما أُطلقت من قبل الأمويين على أعدائهم، فهي قريبة من هذا المعنى.
فقد اختلف المؤرخون وأصحاب المقالات في تعريف الخوارج فأكثرهم أطلقها على الطائفة التي أنكرت تحكيم الحكمين واعتزلت جيش الإمام علي بن أبي طالب بعد التحكيم، لأنهم في نظر هؤلاء نقضوا بيعة في أعناقهم، وخرجوا عن إمامة مشروعة، وهي الطائفة التي حاربها الإمام علي وقضى عليها في معركة النهروان. وهذه الطائفة سميت في كتب التاريخ بعدة أسماء أخرى منها : أهل النهروان والحرورية والمحكِّمة.
وبعض المؤرخين يطلقون كلمة الخوارج على كل من انتقد أو خرج على الدولة الأموية، وهناك من يجمع بين هؤلاء وأولئك فيقول أن المحكمة الذين خرجوا على الإمام علي هم أصل الخوارج، ومن خرج بعد ذلك على الأمويين فهو أيضا من الخوارج. كما يطلقها بعض من المتكلمين في أصول العقائد والديانات على بعض الفرق وهم يقصدون بها الخروج من الدين، استنادا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أناسا من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)‏.
ومن هذا يتبين أن المؤرخين لم يتفقوا على تعريف معين لكلمة الخوارج كما أنهم لم يحددوا معنى لها فنجد الخلط بين المعنى السياسي لكلمة الخوارج والمعنى الديني لها واضحا في كتب التاريخ والعقائد والفرق والمقالات.
وبما أن الإباضية كانت من إحدى الطوائف التي انتقدت سياسة الأمويين لذلك أطلقت عليهم كلمة الخوارج كما أطلقت على غيرهم رغم التباين الكبير بين فكر الإباضية وبقية الفِرَق التي تكونت في تلك الفترة. لكن المؤرخين اضطربوا في تحديد علاقة الإباضية بالخوارج، فأغلبهم ينسب الإباضية إلى الخوارج على وجه العموم، وبعضهم قال : الإباضية أعدل الخوارج، ومن أنصفهم قليلا قال: (الإباضية أقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة) ، وقليل منهم الذين صرحوا بأن الإباضية ليسوا من الخوارج، وهؤلاء هم الذين أتيحت لهم الفرصة للاتصال بالإباضية أو مطالعة كتبهم. والواقع إن كل من يعرف الإباضية حق المعرفة ليدرك أن الإباضية هم أبعد الناس عن الخوارج قولا وعملا، لكن الحرب الإعلامية التي شنتها السياسة الأموية على معارضيها خلطت بين الحق والباطل فنسبت الإباضية إلى الخوارج. ثم جاء بعدهم من كتب التاريخ فلم يتمكن لندرة المعلومات الصحيحة عن الإباضية أن يعرف حقيقتهم.
وقبل أن نوضح علاقة الإباضية بالخوارج يجب أن نعرف المعنى اللغوي والاصطلاحي للخوارج، وما أنواع الخروج، ومن الذي تنطبق عليه أحاديث الخوارج ، وعندها تتضح حقيقة العلاقة بين الإباضية والخوارج.
أنواع الخروج
المدقق في كلمة " الخوارج" التي استعملها المؤرخون يجد أن لها عدة معان . فبالنظر إلى معناها اللغوي ومعناها الاصطلاحي نجد أن هناك فرقا كبيرا بينهما، فأحيانا تستعمل لتعني الخروج السياسي وأحيانا الخروج الديني (أي الخروج من الإسلام) وأحيانا تعني الاثنين معا أي الخروج السياسي والديني ولا شك أن الحكم الشرعي الذي يترتب على وصف فرقة ما بالخروج يختلف باختلاف دلالة الكلمة. لذلك قبل أن نحكم على الإباضية أو على غيرهم بهذا الحكم يلزم أن نتفق على مدلول كلمة الخوارج أولا.
الخوارج لغة: أصلها من الفعل خرج (عكس دخل) فإذا قلت خرج أحمد فإن المستمع لن يستفيد من هذا إلا إذا تبعته بما يوضح هذا الخروج. فهذا الخروج قد يعني خرج أحمد من بيته ، أو خرج أحمد عن طاعة أبيه، وقد تعني خرج أحمد في سبيل الله أو خرج أحمد عن طاعة السلطان، كما تعني أيضا: خرج أحمد من الإسلام. فهذه المعاني الخمسة للخروج كل منها يختلف عن الآخر، بل إن بعضها متناقض تماما. فالخروج في سبيل الله مناقض للخروج من الإسلام. فإذا أردنا أن نعرف الحكم الشرعي الذي يترتب على هذه المعاني الخمسة للخروج لوجدنا أن خروج أحمد من البيت أمر عادي لا ينبني عليه أي حكم شرعي، أما خروج أحمد عن طاعة أبيه فهو من عقوق الوالدين ورغم أن العقوق من كبائر الذنوب إلا أن تأثيره لا يتجاوز غير نفسه وأسرته. أما من يخرج من الإسلام فينطبق عليه أحكام المرتدين، وأما خروج فرد أو جماعة عن طاعة السلطان فقد يكون بحق أو بغير حق وقد يكون واجبا أو جائزا أو حراما. فإذا كان السلطان ظالما وكان هذا الخروج من أجل الحق فهذا يسمى جهادا في سبيل الله، وإن كان السلطان عادلا كان الخروج باطلا فإن هذا الخروج لا يعني إلا إثارة الفتنة بين الناس وبلبلة المجتمع، وعلى الحاكم المسلم أن يحاول إقناع هذه الفِرَق بالحسنى فإن أبت إلا الاستمرار في خروجها وثورتها وأصرت على محاربة السلطان العادل فإن على الحاكم أو الخليفة أن يحاربها حتى يقضي عليها. ولا شك أن الأمة كلها ستتطوع للقضاء على هذه الفتنة كما حدث عندما قاتل سيدنا أبو بكر الصديق مانعي الزكاة. وهذا الخروج هو الذي يطلق عليه الخروج السياسي والديني. أما إذا لم يلتزم الحاكم المسلم بأصول الحكم من حيث الشورى والعدل والاهتمام بأمور الرعية فإنه من واجب الأمة تقويم الأمور بالحسنى فيجوز أن تقوم جماعة أو أكثر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتغيير المنكر قد يكون بالقلب وقد يكون باللسان وقد يكون باليد. وأسلوب التغيير من الأمور التي تختلف فيها وجهات النظر بين الناس في كل زمان ومكان، فقد تتطور الأمور حتى تصل إلى الحد الذي قد تخرج جماعة أو أكثر عن السلطان القائم, وقد تصحب هذه الفتنة مصالح شخصية ومؤامرات أجنبية وكيد صليبي أو يهودي حاقد. وهذا ما يسمى بالخروج السياسي.
الذي يهمنا مما سبق هو أنواع الخروج الثلاثة الأخيرة وهي: الخروج السياسي والخروج الديني، والخروج السياسي الديني. وإذا بحثنا عن أمثلة لهذه الأنواع الثلاثة في فترة الخلافة الراشدة قبل معركة صفين لأمكننا أن نحددها فيما يلي:
· الخروج السياسي مثل :خروج طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام (رضي الله عنهم جميعا) على الإمام علي كرم الله وجهه ورفضهم بيعته كان خلافا سياسيا أصله اختلاف وجهات النظر في قضية الإمامة. وكذلك خروج معاوية بن أبي سفيان عن طاعة الإمام علي حتى اضطر الإمام على إلى قتاله كان خروجا سياسيا.
· الخروج الديني ومثله كل من دخل في الإسلام ثم أنكر بعض تعاليمه أو رفضها أو تكبر عنها مثل ما فعل جبلة بن الأيهم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
·الخروج السياسي الديني ويتمثل في ارتداد الأعراب عن الإسلام في عهد أبي بكر الصديق الذين امتنعوا عن دفع الزكاة فقاتلهم سيدنا أبو بكر فمنهم من قتل ومنهم من تاب وعاد إلى حظيرة الإسلام.
هذه هي الأنواع الثلاثة للخروج قبل فتنة التحكيم بين المسلمين فإذا اتفقنا عليها وانتقلنا إلى ما بعدها علينا أن نطبق نفس المقاييس على الطوائف والفرق التي تكونت بعد ذلك.
ولقد كانت فتنة التحكيم أكبر فتنة حدثت بين المسلمين والتي كان من نتيجتها أن انقسم فيها المسلمون إلى ثلاثة أقسام : قسم مع الإمام علي وقسم مع معاوية بن أبي سفيان وقسم اعتزل الإمام عليا بعد أن رضي بالتحكيم. وفي كل الأقسام الثلاثة يوجد مجموعة من الصحابة. والمؤرخون وكتّاب المقالات، وضعوا في أذهان الناس أن المحكِّمة الذين قاتلهم الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه في واقعة النهروان عام 38 هـ هم أصل الخوارج، وهو مفهوم خاطئ فإن المحكِّمة قُتلوا في النهروان ولم ينج منهم إلا تسعة كما يقول المؤرخون ثم ثار على الحكم الأموي طوائف كثيرة من الناس جماعات وأفراد. فقد خرج على الأمويين مجموعة التوابين وعبد الله بن الزبير والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهم، وهذا كله حدث في أواخر ولاية عبيد الله بن زياد قبل أن يظهر الخوارج سنة 64 هجرية الذين ينطبق عليهم حديث المروق والذين ينطبق عليهم تعريف الخوارج بمعنييه السياسي والديني، فالذين خرجوا على الدولة الأموية قبل سنة 64 هجرية وكذلك المحكمة الذين قاتلهم الإمام على في معركة النهروان لا ينطبق عليهم إلا معنى الخروج السياسي.
أما الذين خرجوا سنة 64بقيادة نافع بن الأزرق واستحلوا دماء وأموال المسلمين دون وجه حق, وقتلوا الناس في الطرقات دون سبب وحكموا بالكفر على المسلمين فهؤلاء فقط الذين يمكن اعتبارهم خوارج
إن معركة النهروان التي وقعت بين الإمام علي وجزء من جيشه فهي ليست إلا فتنة بين الصحابة مثلها في ذلك معركة صفين ومعركة الجمل. والذين قتلوا في هذه المعركة لا يختلفون عن الذين قتلوا في صفين أو في الجمل أو في غيرها من المعارك التي حدثت بين الصحابة، ويخطئ من يظن أو يعتقد أن الجيش الذي اعتزل الإمام علي وأطلق عليه من بعد اسم "الخوارج" ليس فيه من الصحابة أحد، والواقع والتاريخ يثبت غير ذلك. فإمامهم هو عبد الله بن وهب الراسبي كان صحابيا ،ذكر ذلك ابن حجر في كتابه " الإصابة في تاريخ الصحابة" وذكر الدرجيني في الطبقات أسماء كثير من الصحابة ممن لم يرضوا بالتحكيم وقتلوا في النهروان[2].
نخلص إلى القول بأن معركة النهروان التي نتجت عن التحكيم كانت فتنة عظيمة بين الصحابة كغيرها من الفتن التي سبقتها، ولقد هزت المسلمين هزا عنيفا وتسببت في فرقتهم التي لا يزال المسلمون يعانون منها حتى الآن.
وإذن يجب أن نفرق بين فتنة التحكيم وبين الحركات التي خرجت عن الدولة الأموية فيما بعد. وكل من يدرس تلك الفترة التاريخية دراسة دقيقة سوف يصل إلى هذه الحقيقة. تذكر كتب التاريخ أن أهل النهروان كانوا ستة آلاف رجع منهم إلى معسكر الإمام علي ألفان وبقي أربعة آلاف قاتلهم جيش الإمام علي ولم ينج منهم إلا تسعة. فعلى التعريف الذي اتفق عليه أغلب المؤرخين أن الخوارج هم الطائفة التي خرجت على الإمام علي فهذا يعني أن هذه الحركة التي سميت فيما بعد بالخوارج قد انتهت بنهاية تلك المعركة، إلا أنه من الملاحظ أن كتب التاريخ تذكر أن الحركات الخارجية كانت أشد عنفا في عهد الدولة الأموية. فهل يعقل أن يستطيع هؤلاء التسعة الذين نجوا أن يجندوا الجيوش التي ظل الأمويون يحاربونها مدة تزيد عن سبعين سنة. وهل يعقل أيضا أن يعتزل الإمام علي آلافمن جيشه ولا يوجد فيهم صحابي واحد. وإذا أطلقنا كلمة الخوارج عليهم فهذا ينطبق على من فيهم من الصحابة[3] وهو وصف لا يرضاه مسلم. ومهما يكن من أمر فإن اختلافهم مع الإمام علي في حكم شرعي، ما كان ليخرجهم من الإسلام ولا أن يوصفوا بالمروق من الدين. لقد كانوا يطلقون عليهم المحكِّمة وأهل النهروان والحروريين. ولكن ربط الخروج السياسي بالخروج الديني جاء متأخرا، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن التاريخ قد شوهه الأمويون وأن أكثر المفكرين والكتاب المعاصرين غير قادرين على التصريح بهذه الحقيقة لأنها تخالف ما كتبه الأقدمون.
وإذا كانت الخوارج طائفة من الناس خرجت عن الإمام علي أو عن الدولة الأموية فهذه قضية تاريخية، قد انتهت منذ القرون الأولى، أما إذا كانت الخوارج مبادئ وأفكار تدعو إلى الخروج على الحكم القائم، فان العالم الإسلامي اليوم مليء بالحركات والجماعات التي تعارض أنظمة معينة وبعضها ترفع السلاح وتقتل الأبرياء ومع ذلك لم يوصفوا بالخوارج ولم يحكم بكفرهم أو بخروجهم من الإسلام أحد, وأكثر ما وصفوا به أنهم متأولون خاطئون. فلماذا تطلق كلمة الخوارج على الإباضية دون غيرهم في هذا العصر.
· وإذا سلمنا بتسمية الذين أنكروا التحكيم بالخوارج، فالإباضية كفرقة لم تعرف إلا بعد التحكيم، وإذا أنكر الإباضية التحكيم فيما بعد فهم ليسوا وحدهم الذين أنكروا التحكيم فقد أنكر التحكيم على بن أبي طالب نفسه ولكنه غُلب على أمره[4].
وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ المعروفة كتاريخ الطبري وابن الأثير لوجدنا إشارات كثيرة على مفارقة الإباضية للخوارج منذ منتصف القرن الأول الهجري. ومن يدرس تاريخ الإباضية وأصول عقيدتهم سوف يدرك أن الإباضية لا يمكن أن ينطبق عليهم أحاديث المروق التي تنسب إلى الخوارج . والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما يلي:
· عندما اشتد إيذاء بعض ولاة الأمويين للمسلمين والمعارضين للحكم الأموي أرسل نافع بن الأزرق رسالة إلى عبد الله بن إباض يدعوه فيها للخروج ورد عليه هذا نصها عند الطبري (سم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة والدين واحد ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلا ونهارا، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال : ( وقاتلوا المشركين كافة) ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال. وقد رد عليه عبد الله بن إباض بما يلي: (قاتله الله، أيّ رأْيٍ رأَى، صدق نافع بن الأزرق لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيا وحكما فيما يشير به وكانت سيرته كسيرة النبي (ص) في المشركين، ولكنه كذب وكذّبنا فيما يقول. إن القوم كفار بالنعم والأحكام وهم براء من الشرك. وما سوى ذلك من أموالهم فهو حرام علينا)[5]. وهذه الرسالة هي بداية مفارقة الإباضية لمن سموا بالخوارج فيما بعد، فنافع ين الأزرق يصف أمراء الأمويين بالشرك ويطلب من عبد الله بن إباض أن يقاتلهم معه بينما كان رد عبد الله بن إباض أنهم براء من الشرك وأنهم كفار بالنعم فقط ولا يجوز قتالهم ولا أخذ أموالهم.
· نجد في بعض الكتب تسمية الإباضية بالقعدة من قبل الخوارج وكان هذا في عهد زياد بن أبيه عندما كان واليا على العراق وكان زعيم الإباضية أبو بلال مرداس بن أدية التميمي فلما أراد بعض الناقمين على الحكم الأموي الثورة على زياد بن أبيه وطلبوا من أبي بلال أن يناصرهم لم يستجب لهم ، فأنكروا قعودهم عن الجهاد ومحاربة الظالمين فلقبوهم - احتقارا - بالقعدة وهذا يدل على رفضهم الإباضية لمبدأ الخروج.
· قامت حروب بين الإباضية وبين بعض طوائف الخوارج ومنها ما حدث بين الجلندى بن مسعود إمام الإباضية في عُمان (130-132هـ) وشيبان الخارجي وهو من الصفرية والتي انتهت بقتل شيبان الخارجي.
· إن عبد الله بن إباض الذي تنسب إليه الإباضية لم يرفع السيف في وجه الدولة الأموية ولكنه اكتفى بنقد سياستهم عن طريق المراسلة. ورسالته التي أرسلها إلى عبد الملك بن مروان مشهورة في كتب التاريخ عند الإباضية لكنه لم يشترك في أي عملية عسكرية ضد الأمويين، بل إنه لما طلب منه بعض الناقمين على الحكم الأموي أن يبايعوه رفض في شدة ثم أشار إلى عمران المساجد بالذكر والصلاة وقال في لهجة احتجاج: أعلى هؤلاء يجوز الخروج؟ أما أبو بلال مرداس فكان ينتقد سياسة الأمويين باللسان ولم يرفع سيفا ومع ذلك لم يسلم من أذى الأمويين حتى اضطر إلى ترك البصرة، ولما سار بجماعته أدركه جنود بني أمية فقتلوه وأصحابه بآسك.
· الإباضية لم يرفعوا السيف في وجه أحد من أهل التوحيد إلا في موقف الدفاع عن أنفسهم فعندما قامت في عُمان دولة باسم الإباضية في عهد أبي العباس السفاح سنة 132 هجرية. لم تبدأ أحدا بحرب، كما لم تحاول أن تتوسع، ولقد هاجمتها عدة مرات قوات العباسيين فردت الاعتداء واستمرت لعدة قرون. وكان لها شرف الدفاع عن الجزيرة العربية ضد الاستعمار الغربي منذ القرن الخامس عشر الميلادي مما سوف نتعرض له في فصل "دور الإباضية في خدمة الإسلام".
· اتجه الإباضية إلى خدمة الإسلام علما وعملا منذ القرن الأول الهجري فجابر بن زيد - إمام الإباضية الأول - كان أول من دون الحديث وأقوال الصحابة فيما عرف بديوان جابر بن زيد, أما الخوارج فقد جنحوا إلى إراقة الدماء ولم يذكر التاريخ أن أحد من الأزارقة أو النجدات أو الصفرية أو غيرهم من الخوارج ألف كتابا أو ترك علما ولم تعرف لهم رواية ولا تدوين. وكتب أهل السنة عندما تذكر مؤلفات الخوارج إنما يقصدون الإباضية. والإباضية يشهد لهم التاريخ أنهم قد اهتموا بالعلم تدوينا ونقلا منذ بدايتهم حتى الآن.
· الإباضية يجيزون التزاوج بينهم وبين بقية المسلمين، أما الخوارج فلا يجيزون ذلك لأنهم يعتقدون أن من سواهم مشركين. ففي كل مكان وجد فيه الإباضية وغيرهم من المسلمين، فإن العلاقات الاجتماعية بينهم مبنية على أحكام الإسلام التي لم يختلف فيها أحد.
مما سبق يتبين أن الإباضية لم يخرجوا على الدولة الأموية أو العباسية لا خروجا سياسيا ولا خروجا دينيا. ولكنهم لم يكونوا راضين عن سياسة الأمويين. ولقد خرج عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عن الدولة الأموية وظل يحاربها قرابة عشرين عاما وحكم جزءا من الحجاز، ومع ذلك لم يُسمَّ خارجيا ولم ينسب إلى الخوارج مما يدل أن الخوارج ككلمة أطلقت فيما بعد من قبل الأمويون على بعض خصومهم.
وبناء على ما تقدم فإنه لا ينسب الإباضية إلى الخوارج إلا من لم يعرف حقيقتهم وفكرهم وكل من عاشر الإباضية يدرك أنهم من أحرص المؤمنين على التقيد بما ثبت في النصوص الشرعية من أحكام المسلمين وهم يعتقدون أن كل من نطق بكلمة الشهادة فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم فلا يستحلون دماء أحد من أهل القبلة إلا بالحق الذي بينته وحددته الشريعة الإسلامية كالردة وقتل النفس وما شابه ذلك. ولا يستحلون مال أحد إلا بالطرق التي رسمتها الشريعة الإسلامية للتعامل بين الناس: فريضة في كتاب الله، هبة عن تراض،بيع عن تراض وما في معناها. أما قتل الأبرياء وسبي الأطفال والنساء فقد حالت دونها كلمة التوحيد، ولا يستحلون هذا حتى من البغاة مهما بالغوا في مسلكهم الظالم. فالاعتبارات التي سمي الخوارج من أجلها خوارج لا وجود لها عند الإباضية مطلقا، بل أن الإباضية أبعد الناس عنها عقيدة وقولا وعملا وجميع كُتّاب المقالات رغم إصرارهم على أن الإباضية من الخوارج يشهدون بذلك ويسجلونه في كتبهم[6].
وقد التزم الإباضية على مدى التاريخ بتعاليم الإسلام لدرجة أنهم وصفوا بالتشدد والاحتياط في كثير من أمور الدين وخصوصا فيما يتعلق بالصلاة والمعاملات ومن يقرأ كتب الفقه الإباضي أو الفتاوى يتبين له ذلك كما أن من عاشر الإباضية وتعامل معهم ليدرك مدي حرصهم على اجتناب الشبهات. وإذا اعتقد بعض الناس أن الإباضية مخطئون في فهم بعض النصوص فهم على أسوأ الاحتمالات متأولون ولا يمكن أن يوصف من يتأول نصا من نصوص القرآن ويفهمه فهما آخر بالخروج من الدين.
إن كلمة الخوارج لا يجب أن تطلق إلا على الذين خرجوا من الدين، ولا يجب أن ترتبط بزمن أو تاريخ معين كما لا يجب أن ترتبط بطائفة أو غيرها، والخروج من الدين لا يكون إلا بإنكار صريح من القرآن أو إنكار أحد أركان الإسلام أو الإيمان، أما الخروج على إمام، والثورة عليه، مهما كانت أسباب الخروج، لا يمكن أن تعتبر خروجا من الدين، ومروقا من الإسلام فلم يعرف التاريخ الإسلامي أن أحدا حكم بالخروج على أئمة شرعيين، كالذين ثاروا على عثمان رضي الله عنه أو الإمام علي كرم الله وجهه، فلماذا إذن يطلق هذا الاسم على الإباضية دون غيرهم.
أرجو أن يكون ما ذكرته كافيا للدلالة على أنه ليس هناك علاقة للإباضية بالخوارج لا من الناحية السياسة ولا من الناحية الدينية، واختم هذا الفصل بما كتبه الشيخ علي يحي معمر حول نسبة الإباضية للخوارج فيقول : (وعلى جميع الاعتبارات، لماذا نحكم على فرقة من المسلمين اليوم موجودة في أي بلد من بلدان الإسلام بأنها من الخوارج مع العلم بأن هذه الفرقة لم تحضر بيعة الإمام علي ولا اشتركت في حروب الجمل وصفين، ولا شاهدت أحداث النهروان فهي في الواقع لم تبايعه ولم تنفصل عنه ولم تحاربه، لأن فاصلا زمنيا طوله ألف وأربعمائة سنة يفصل بينهم، ثم هم في واقعهم لم يخرجوا عن نظام الحكم الذي يجري عليهم ،ولم يقم منهم دعاة لإسقاط الأنظمة الحاكمة، ولم يحاربوا غيرهم من المسلمين ولم يستحلوا دمهم ولا مالهم، ولم يحكموا على مخالفيهم بالكفر، وهم بين كل ذلك يعيشون مع غيرهم من المسلمين كما يعيش الأخ مع أخيه يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويوجبون ما أوجب الله ويحرمون ما حرم الله.
فلماذا تسيطر - على أقلام المؤرخين وكتاب المقالات والفلاسفة والباحثين (من القدماء والمعاصرين) جميعا رغم وضوح الحقائق - تلك الكلمة التي أطلقتها شفة مجهولة قالت إن الإباضية من الخوارج.
لقد انتهت الخارجية بحقها وباطلها عند نهاية الدولة الأموية تقريبا فلماذا يتهم الإباضي في هذا القرن بتحمل أوزار ارتكبت قبل أربعة عشر قرنا إن صح أنها ارتكبت، ثم يقف موقف القاضي في هذه القضية أناس درسوا الشريعة الإسلامية حتى كانوا قدوة، ودرسوا التاريخ حتى كانوا أساتذة، ودرسوا الحقوق حتى اعتز بهم القضاء والمحاماة. وكانت مجالسهم طافحة بالتحرر الفكري والصفاء الذهني والانفلات من قيود التقليد والعصبيات والرواسب، حتى إذا سألتهم عن الإباضية وأصلها وتاريخها وعقيدتها وجدت أن ألسنتهم قد تلجلجت وأقلامهم اضطربت وقد انساقوا مع التيار الخاطئ مكتوفي الأيدي والأذهان مع أقوال السابقين دون تمحيص أو تدقيق.
إن محاربة المؤرخين وكتاب المقالات لهذا العدو الوهمي الذي يطلق عليه لفظ الخوارج أكثر ضراوة من أي حرب أخرى. أي أن الحرب التاريخية المذهبية أعنف وأشد من الحرب السياسية والعسكرية. فقد انتهت المعارك السياسية والعسكرية بانتهاء الدولة الأموية تقريبا بل إن الذين قامت من أجلهم زوبعة الخوارج قد انتهت قصتهم قبل انتهاء النصف الأول من خير القرون، ولكن هجوم المؤرخين وكتاب المقالات لا يزال مستمرا بل أعنف مما يكون في بعض الأحوال. ومن المؤسف أن هذا الهجوم الذي ينطلق بهذا العنف يستند إلى ما قيل - وقع أم لم يقع - قبل ألف سنة ومن السهل على أي قلم اليوم أن يجرد حملة على الخوارج يحملهم بكل سهولة أوزار التاريخ الطويل[7].
وأقول : ما الفائدة التي يجنيها أولئك الذين يتهمون الإباضية في هذا الوقت بالخارجية. إن المسلم الحريص على وحدة الأمة لا يمكن أن تصدر منه هذه الأقوال، ولا نستطيع أن نجد تفسيرا لهذا إلا أن يكون ناتجا عن جهل أو تعصب أو تقليد أعمى، وفي كل الأحوال هؤلاء ليسوا معذورين. ولا يسع المسلم في هذا الوقت إلا أن يشعر بالأسف لتلك الفتاوى التي تخرج من هنا وهناك والتي تصف الإباضية بالخوارج أحيانا وبالكفر أحيانا أخرى. والمدقق في مصادر هذه الفتاوى سيدرك أنها صدرت من أناس لم يعرفوا الإباضية لا من خلال الكتب ولا من خلال الواقع وأن هذه الفتاوى سواء صدرت عن حسن نية أو غيرها لن تزيد الأمة إلا تفرقا والجاهل إلا تعصبا ولن يستفيد منها إلا أعداء الإسلام.
وإذا أراد بعض المعاصرين من الفقهاء والخطباء والكتاب أن يحكموا على سلف الإباضية بالخروج على الدولة الأموية أو العباسية فلهم ذلك - إذا كانت هذه قناعاتهم - وسواء كان ذلك حقا أو باطلا فهو أمر قد مر وانتهى، أما الحكم على الإباضية عموما في كل العصور بالخروج من الدين أو الكفر أو الخلل في العقيدة أو الإفتاء بعدم جواز الصلاة خلفهم فهو أمر خطير، ومن يقول بذلك فهو مسئول أمام الله سبحانه وتعالى على ذلك. كما أنه مسئول أيضا عن تضليل عامة المسلمين الذين يأخذون بهذه الفتاوى وينشرونها في بلاهة وغفلة يناصبون بها إخوانهم الإباضية العداء ويزيدون الأمة تفككا وتفرقا. ويحق لنا أن نسأل هؤلاء لماذا الخوف من الفكر الإباضي أن ينتشر بين المسلمين؟ فإذا كان الفكر الإباضي يستمد أصوله من الإسلام فهو فكر إسلامي يجب على الأمة أن تدرسه وتستفيد منه كما استفادت من غيره، وان كان غير ذلك فإن العقل السليم والفطرة السوية سوف ترفضه ولن يحتاج أن يحارب بمثل الضراوة التي سمعنا وعشنا ورأينا جزءا منها. وإنه لمن المؤسف جدا أن تُمنع كتب الإباضية من دخول بعض بلاد الإسلام في الوقت الذي يسمح فيه للكتب الهدامة والمجلات الخليعة والأفكار المنحرفة من دخولها وتداولها بين شباب المسلمين.
لقاء الإباضية بالخوارج

يلتقي الإباضية مع الخوارج في من الناحية الفكرية في قضيتين اثنتين هما: مفهوم الخلافة ورفض تحكيم الحكمين. وفي ما عدا ذلك فإن الإباضية أبعد الناس عن الخوارج في فهمهم للإسلام وعملهم بأحكامه. وقد بين الشيخ علي يحي معمر في كتابه الإباضية في موكب التاريخ أن اشتراك أفراد أو طوائف في رأي معين لا يعني اشتراك أولئك الأفراد أو تلك الطوائف في جميع الآراء، واتفاقهم عليها.
إن الإباضية والخوارج ينتقدون قبول التحكيم ويرون أن الإمام علي رضي الله عنه مخطئ في قبوله التحكيم لأنه جعل حقه في الخلافة موضع نزاع بينه وبين معاوية، وكما أخطأ في قبوله تحكيم الحكمين فقد أخطأ في قتاله لأهل النهروان. وهذا الرأي ليس مقصورا على الإباضية أو على الخوارج فقط، وإنما كان رأي كثير من الصحابة كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومن التابعين الحسن البصري وغيره. وكل مسلم قرأ أو سمع عن فتنة التحكيم كان يتمنى لو أن رفع المصاحف في معركة صفين لم يقع، وأن التحكيم لم يقبل, وأن الإمام علي لو استمر في قتال أهل الشام لخمدت الفتنة واستقرت له الأمور فيما بعد.
أما قضية الخلافة فأصلها الحديث الذي ورد عن رسول الله (ص) الذي يقول: (الخلافة في قريش) ورأي الإباضية وكذلك الخوارج أن الخلافة الإسلامية لا تنحصر في قبيلة أو عائلة أو طائفة وإنما يتولى أمر المسلمين أكفأ أبنائها وأقدرهم على خدمتهم وتسيير أمورهم. بينما رأى فريق آخر أن الخلافة محصورة في قبيلة قريش. ورغم أن النقاش كان فيها حادا بين العلماء في القرون الأولى إلا أنه بعد ذلك وخصوصا في العصر الحالي بعد أن ضاعت الخلافة الإسلامية لم يعد هناك من يقول إن الخلافة يجب أن تكون في قريش. والعالم الإسلامي اليوم مليء بالحركات الإسلامية التي تنادى بإعادة الخلافة الإسلامية دون اعتبار لأن تكون الخلافة في قريش أو في غيرها. وبذلك يبقى اللقاء الوحيد بين الإباضية والخوارج هو في اتفاقهم على عدم قبول تحكيم الأشخاص في قضية حكم فيها الشرع من قبل. وعلى كل حال فهذه قضية تاريخية قد انتهت كما ذكرنا وكما هم ومعرف. وقد يختلف الناس في تقييمها ومعرفة المخطئ من المصيب ولكن الذي يجب ألا يختلف فيه المسلمون هو أن يتجنبوا مثل تلك الأخطاء أخذا للعبرة من هذه الفترة والاستفادة منها لمستقبل الأمة.
الخوارج في نظر الإباضية
الخوارج قديما هم طوائف من الناس من زمن التابعين رؤوسهم نافع بن الأزرق ونجدة بن عامر، وعبد الله بن الصفار، ومن شايعهم وسموا خوارج لأنهم خرجوا عن الحق، وعن الأمة بالحكم على مرتكب الذنب بالشرك، فاستحلوا ما حرم الله من الدماء والأموال بالمعصية[8]. وحين أخطئوا في التأويل لم يقتصروا على مجرد القول، بل تجاوزوه إلى الفعل، فاستعرضوا النساء والأطفال والشيوخ. وهم باعتقادهم وعملهم قد خرجوا من الإسلام وخرجوا عن الحق فهم الذين يمكن أن ينطبق عليهم الحديث الوارد في المروق من الدين.
يرى الإباضية أنه عند إطلاق لفظة الخوارج لا ينبغي أن ينظر إليها من جانب سياسي سواء كانت هذه الثورة لأسباب شرعية عندهم أو لأسباب غير شرعية لذلك هم لا يطلقون هذه الكلمة على قتلة عثمان ولا على طلحة والزبير وأتباعهما ولا على معاوية وجيشه وإنما يلاحظ عند إطلاقها المعنى الديني الذي يتضمنه حديث المروق في صيغه المختلفة وهم الذين ينكرون الثابت القطعي من أحكام الإسلام وأقرب الفرق إلى ذلك هم ( الأزارقة والصفرية والنجدية) الذين تبرأ الإباضية من أفعالهم.
دور الخوارج في وضع الحديث
ذكر الشيخ مصطفى السباعي في كتابه " السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ما نصه(لم يلعب الخوارج[9] دورا مهما في حركة الوضع لاعتقادهم أن مرتكب الكبيرة كافر ولهذا السبب لا توجد في كتب الموضوعات أدلة على وضع الخوارج للحديث). ونقل عن سليمان بن الأشعث قوله: (ليس من أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج)[10]. ويقول ابن تيمية : (الخوارج مع مروقهم من الدين فهم أصدق الناس حتى قيل إن حديثهم أصح الحديث).
وقد وضع أمراء الأمويين في أذهان الناس أن من أنكر على الأمويين منكرهم وأمرهم بالمعروف، أو شهر سيفا لقتالهم فهو من الخوارج - سواء انطبقت عليهم أم لم تنطبق - ولذلك شمل هذا الحكم الإباضية، ثم وضعت الأحاديث الكثيرة في ذم الخوارج وفعلهم حتى وصفوا بالمروق من الدين. ثم صدر حكم أخر من جهة ما في وقت ما بأنهم أهل البدع والأهواء ولا يجوز أخذ حديثهم (رغم أنهم أصدق الناس وأقربهم من الصحابة) وبذلك عزلوا عن الأمة فكريا وسياسيا، بل حوربوا محاربة شديدة وأصبح كل من يحاول أن يقترب من فكر الخوارج أو من المعتزلة أو الإباضية يشك في دينه وفي فكره. ولقد اجتهد بعض من المفكرين الإسلاميين في مختلف العصور والأزمان الخروج من الدائرة الضيقة للفكر الإسلامي التي حصرها بعض القدماء في أهل السنة والجماعة أو في الفكر السلفي، أو غيره فاتُّهِموا وحوربوا فكريا وأدبيا، ولا تزال تلك الدائرة ضيقة، ولا يزال ذلك الفكر محاصرا.
ورغم اعتراف علماء الحديث بصدق الخوارج (الإباضية) ومع ذلك فم يقبلوا منهم لا حديثا ولا فقها، ففي كتاب"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لا توجد أي إشارة إلى مسند الإمام الربيع الذي روى أحاديثه عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد بل أن المؤلف (رحمه الله) عندما تحدث عن كتابة الحديث في جيل التابعين ذكر أن جابر بن زيد امتنع عن كتابة الحديث كما امتنع بعض التابعين. ولقد ذكرنا فيما سبق أن جابر بن زيد دوّن ما سمعه من الأحاديث وأقوال الصحابة في كتابه المسمّى "ديوان جابر" لكن يبدوا أن الشيخ السباعي رحمه الله كغيره لم يطلع على الإباضية اطلاعا كافيا ولهذا نقل ما وصل إليه عن أسلافه.
خاتمة هذا البحث
ومهما كان تعريف الخوارج أو دلالة كلمة الخوارج فإن الذين أطلقت عليهم هذه الكلمة قد انتهوا منذ القرن الثاني الهجري على أيدي الأمويين، لكن الملاحظ أن كلمة الخوارج بقيت تطلق على الإباضية منذ ذلك التاريخ حتى الوقت الحاضر. وترتب على ذلك عزل الفكر الإباضي عن بقية المسلمين، ولو كانت كلمة الخوارج تعنى الخروج السياسي لما كان لها أي تأثير سلبي على الإباضية إلا أنها عندما رُبطت بالمعنى الديني أصبح كل مَن خرج على السياسة الأموية خارجا من الدين وكل من اعتزل الإمام عليا خارجا من الدين، فإن إطلاق الكلمة بهذا المعنى يترتب عليه حكم شرعي ولذلك فمن الواجب على من يطلق هذه الكلمة على الإباضية بعد انتهاء حركات الخوارج أن يتثبت مما يقول أو يكتب.
وفي الحقيقة أن قضية الخوارج بصفة عامة تحتاج إلى دراسة موضوعية جديدة من قبل الباحثين الذين همهم معرفة الحقيقة، وليس نقل ما كتبه الأقدمون دون تمحيص
للمزيد من المعومات عن الخوارج من وجهة نظر إباضية إقرأ كتاب " الخوارج والحقيقة الغائبة" للشيخ ناصر السابعي ----



نبذة عن الكتاب
يمكن تحميل الكتاب من هنا
قائمة الكتب التي يمكن تحميلها






الدولة الرستمية دولة إسلامية ظلمها التاريخ
بقـلـم : الشيخ مهنا بن راشد بن حمد السعدي
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد سمعنا عن الكثير من الدول الإسلامية التي نشأت وسقطت على مر التاريخ الإسلامي ، كالدولة الأموية العباسية والعثمانية بالمشرق ، والدولة المدارية والإدريسية والفاطمية بالمغرب ، وغيرها من الدول الإسلامية الأخرى التي فصل التاريخ في ذكرها .
وهذه الدول لها إيجابياتها ولها سلبياتها ، وقد قدمت للأمة الإسلامية محاسن ، إلا أنها كذلك لم تخل من المساوئ التي نجدها عند قراءة تاريخها ، وهذه طبيعة البشر القصور عن الكمال .
إلا أن هناك دولا إسلامية قامت ونشأت واستمرت ردحا من الزمن إلى أن سقطت ، وقدمت للأمة الإسلامية الشيء الكثير ، وقد يكون ما قدمته يفوق ما قدمته الدول المشهورة والمعروفة عند الخاصة والعامة .
ومن هذه الدول من سار على نهج الخلافة الراشدة ، وتطبيق مبدأ الشورى ، سواء في انتخاب الحاكم أو في حكم الرعية ،
إلا انه وللأسف الشديد لا نعرف عن هذه الدول الشيء الكثير ، وإذا وصلنا شيء فهو نزر قليل لا يفي للتعرف على جميع جوانب تلك الدولة والظروف التي عايشتها والخدمات الجليلة التي قدمتها للأمة الإسلامية ، وكذلك لا يخلو من التشويه والتحريف .
والتعتيم على هذه الدول من قبل كتاب التاريخ يعود إلى عدة أسباب كالتعصبات المذهبية ، والمصالح السياسية ، والاغراءات المادية وما شابه ذلك من الأسباب التي ليس هذا محل ذكرها .
ومن هذه الدول التي يجهلها الكثير ، دولة إسلامية عريقة نشأت في المغرب في سنة 160هـ ، واستمرت إلى سنة 296هـ ، أي أنها استمرت لمدة 136 سنة (1) .
وقد خدمت هذه الدولة الأمة في الكثير من الجوانب سواء في جانب التأليف ونشر العلم أو في الجانب الاقتصادي والاجتماعي أو في الجانب المعماري ، وحتى في الجانب السياسي .
فما اسم هذه الدولة ؟ ومن أنشأها ؟ وكيف نشأت ؟ وما الذي قدمته للأمة الإسلامية ؟ هذا ما سنحاول أن نتعرف عليه من خلال هذا المقال .
إن هذه الدولة هي الدولة " الرستمية " التي نشأت في المغرب الأوسط ـ الجزائر حاليا ـ على يد الإمام عبد الرحمن بن رستم (2) .
فمن هو الأمام عبد الرحمن بن رستم ؟
هو عبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن كسرى ، ولد في العراق في العقد الأول من القرن الثاني الهجري على أكبر تقدير ، ويرجع في نسبه إلى الأكاسرة ملوك الفرس ، فهم أجداده ، إلا أن بعض المؤرخين يعيدون نسبه إلى اللذارقة ملوك الأندلس قبل الإسلام ، والمهم في هذا أنه سليل بيت الملوك قبل الإسلام ، سواء كانوا من الفرس أم من اللذارقة (3) .
سافر أبوه به وأمه من العراق إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ، إلا أن الأب وافاه أجله ، وترك يتيما وأرمله ، فتزوجت أمه برجل من أهل المغرب ، فأخذه وابنها عبد الرحمن إلى القيروان (4) .
نشأ عبد الرحمن في القيروان ، وصادف هناك نشر الدعوة الإباضية في تلك الربوع فتعلق بها ، ونصحه أحد الدعاة بالسفر إلى المشرق لتلقي المزيد من العلم على يد الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة إمام الإباضية في ذلك الوقت (5) .
توجه إلى البصرة ، وظل مع الإمام أبي عبيدة لمدة خمس سنوات يدرس في سرداب أبي عبيدة ، الذي أعده أبو عبيده تحت الأرض خوفا من عيون الأمويين (6) .
عاد عبد الرحمن مع أصحابه حملة العلم إلى المغرب ، وكان من ضمنهم أول إمام للإباضية بويع في المغرب ، وهو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري اليمني ، وقد ذكرت بعض المصادر ظهور أئمة للإباضية قبل الإمام أبي الخطاب ، كالإمام عبد الحارث الحضرمي ، والإمام أبي الزاجر إسماعيل بن زياد النفوسي (7) .
إلا أن بعض الباحثين يعتبر أن الإمام أبا الخطاب هو أول إمام للإباضية في المغرب ، وذلك أنه استطاع أن يقيم دولة للإباضية في المغرب (8) .
بعد أن وصل حملة العلم إلى المغرب ، هيئوا الأجواء لإقامة دولتهم ، فلما سنحت لهم الفرصة في سنة 140هـ بايعوا أبا الخطاب المعافري بالإمامة ، بأمر من شيخهم أبي عبيدة (9) .
بعد أربع سنوات من قيام دولة أبي الخطاب في الغرب ، وجه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي جيشا بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي ، فاستطاع هذا الأخير القضاء على دولة الإمام أبي الخطاب في معركة عنيفة سنة 144هـ ، أستشهد فيها الإمام أبو الخطاب (10) .
حاول عبد الرحمن نجدة الإمام أبي الخطاب ، لكنه لم يتمكن من ذلك ، فاضطر للفرار من ملاحقة ابن الشعث له ، فتوجه إلى المغرب الأوسط ، حتى وصل إلى جبل يدعى " سوفجج " فتحصن به ، حتى أيس منه ابن الأشعث (11) .
لما أحس عبد الرحمن من نفسه القوة والقدرة على بناء دولته الجديدة ، خاصة بعد أن التف عليه الكثير من أنصاره من البربر ومن أهل العلم والصلاح ممن يثق بهم ، اتجه إلى مكان تكثر في الأشجار والأحراش والسباع يسمى " تيهرت " ، فشرع في بناء دولته الإسلامية الجديدة هناك ما بين 155هـ - 160هـ ، والتي عرفت باسم " الدولة الرستمية " نسبة إلى والد عبد الرحمن ، كما جرت العادة في تسمية الدول الإسلامية في العصور الوسطى بأسماء آباء المؤسسين (12) .
بذل عبد الرحمن ـ وهو لم يبايع بالإمامة ـ جهده مع من معه من العلماء في بناء تيهرت حتى تكون على أجمل هيئة ، حتى أن بعض المصادر العلمية تفصل في بناء المدينة بداية بالمسجد الجامع ، ونهاية بالدور والقصور ، والبيوت والأسوار الحصينة (13) .
فازدهرت تيهرت وبلغت شهرتها الآفاق ، وشدت إليها الرحال للتجارة والسكن والعيش الرغيد الآمن ، مما جعل الكتاب والرحالة يقصدونها ويشيدون بها ومن ذلك ما قاله المقدسي واصفا لها فيقول : " ... هي بلخ المغرب ، قد أحدقت بها النهار ، والتفت بها الأشجار ، وغابت في البساتين ، ونبعت حولها العين ، وجل بها الإقليم ، وانتعش فيه الغريب ، واستطابها اللبيب ، يفضلونها على دمشق وأخطأوا ، وعلى قرطبة وما أظنهم أصابوا ، هو بلد كبير ، كثير الخير رحب ، رقيق طيب ، رشيق الأسواق ، غزير الماء ، جيد الأهل ، قديم الوضع ، محكم الرصف ، عجيب الوصف ... " إهـ (14)
وما أن وصلت سنة 160هـ حتى قام العلماء وأهل تيهرت بمبايعة عبد الرحمن إماما عليهم ، وهو حري بهذا المنصب ، فهو الذي استطاع أن يبني لهم هذه الدولة ، وهو الذي خصه شيخه أبو عبيدة بقوله له : " أفت بما سمعت مني وما لم تسمع " (15) .
وقد تولى الحكم في الدولة الرستمية عدد من الأئمة العدول ، يتم اختيارهم من قبل العلماء والرعية ، فكانت الدولة الرستمية سائرة على نهج الخلافة الراشدة ، وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن الحكم في الدولة الرستمية وراثي بسبب كون جميع من حكم من سلالة الإمام عبد الرحمن ، ولكن الأمر بخلاف ذلك ، وقد تكفل بعض الباحثين بكشف اللبس في هذه القضية كالشيخ علي يحيى معمر في كتابه " الإباضية في موكب التاريخ " 3/30 ، وذكر عدة أدلة تدل على أن نظام الحكم في الدولة الرستمية ليس وراثيا ، وإنما كان يرتسم خطى الخلافة الراشدة بتطبيق مبدأ الشورى ، وتكفل أهل الحل والعقد من العلماء باختيار الإمام الجديد .
وأما عن سبب اختيار أهل الحل والعقد الإمام من أبناء الأمام عبد الرحمن فذلك يعود إلى توفر الصفات والشروط المطلوبة في الإمام من صلاح وتقوى وعلم وحنكة سياسية وغيرها من الصفات ، وقد رد د/ محمد صالح ناصر على من اتهم الدولة الرستمية وأتباعها أنهم طبقوا نظام الوراثة والملك العضود فقال " ... وهذه مغالطة ، لأن كتب التاريخ تشهد أن الرستميين كانوا يطبقون الشورى والانتخاب عند توليت كل إمام ، وما ذنب الرستميين إن كانت الكفاءة والنزاهة والتقوى ترشحهم كل مرة للفوز برضى الأمة التي ارتضتهم " إهـ (16) .
وقد اشتهرت هذه الدولة بنظام الشورى المطبق فيها ، وبعدالة أئمتها ، وصلاحهم وتقواهم وعلمهم ، وبازدهارها ، وقد كان يعيش تحت ظلها أتباع كل المذاهب الإسلامية ، وكانوا يمارسون عبادتهم بكل حرية وأمان ، وكانت لهم مساجدهم وبيوتهم الخاصة التي يعيشون فيها مصانين الحقوق بعدل وإنصاف من غير تفريق بين مذهب ومذهب ، قال ابن الصغير مؤرخ الدولة الرستمية : " ليس أحد ينزل بهم من الغرباء إلا استوطن معهم وابتنى بين أظهرهم ، لما يرى من رخاء البلد وحسن سيرة إمامه وعدله في رعيته ، وأمانه على نفسه وماله ، حتى لا ترى دارا إلا قيل هذه لفلان الكوفي ، وهذه لفلان البصري ، وهذه لفلان القروي ، وهذا مسجد القرويين ، ورحبتهم ، وهذا مسجد البصريين ، وهذا مسجد الكوفيين ... " إهـ (17) .
وابن الصغير هذا نفسه كان شيعيا وقيل مالكي ، ومال د/ محمد صالح و إبراهيم بحاز إلى أنه شيعي المذهب ، وقد كان يعيش في الدولة الرستمية (18) .
وليس هذا فحسب بل كان يعيش في الدولة الرستمية أصحاب الديانات الأخرى كاليهود والنصارى ، وقد كانت للنصارى كنيسة واحدة على الأقل يمارسون فيها عبادتهم ، وكانوا ـ النصارى واليهود ـ يعملون في مهن مهمة كالطب والتجارة داخل الدولة الرستمية (19) .
ولقد اهتم أئمة الدولة الرستمية بالجانب الاقتصادي لدولتهم ، فاهتموا بالزراعة وكانت تكثر فيها البساتين وزراعة الحبوب ، والعصفر والكتان والسمسم ، والنخيل ، ومختلف الفواكه ، والتين والزيتون ، فكانت تدر عليهم أرباحا طائلة ، وقد كانت تكثر فيها الأنهار ، وأقام الرستميون خزانات وأحواض للماء كبيرة اكتشفها الأثريون ، وكانت محكمة التصميم والهندسة ، ليحافظوا على الماء أيام الجفاف ، بل إنهم أوصلوا الماء إلى البيوت عن طريق الأنابيب وشق القنوات (20) .
واهتموا كذلك بالرعي وتربية الماشية ، لكثرة المراعي الخصبة في الدولة الرستمية ، فكانوا يربون الغنم والبقر والجمال والخيول والبغال والحمير ، وكانت تجارتها رائجة ، وتصدر إلى الدول المجاورة ، وكانوا يستغلونها في إنتاج الصوف (21) ، قال ابن حوقل يصف الماشية في تيهرت وأحوازها : " وهي أحد معادن الدواب والماشية والغنم والبغال والبراذين الفراهية ، ويكثر عندهم العسل والسمن " إهـ (22) .
حتى أن بعضهم كان يمتلك مئات الآلاف من الماشية ، التي كانت عمادا لبيت مال المسلمين ، قال الإمام عبد الوهاب : " لولا أنا ومحمد بن جرني ويبيب بن زلغين لخرب بيت مال المسلمين : أنا بالذهب ، ومحمد بن جرني بالحرث ، وابن زلغين بالأنعام " (23) .
وكذلك كان لهم اهتمام كبير بالصناعة ، فكانت توجد في الدولة الرستمية العديد من الصناعات والحرف كالنجارة والحدادة والخياطة والدباغة والطحن ، وصناعة السفن والقوارب ، وصناعة الزجاج والفخار والتحف والعطور ، والخشب المنحوت والمخطوط والمموه والمرصع بالعاج أو الصدف ، وصناعات الذهب والفضة ، حتى أنها كانت تضرب منها الدراهم والدنانير ، فكانت لها عملاتها الخاصة التي كشفت عنها الآثار (24) .
وقد اهتم الرستميون بالتجارة أيما اهتمام ، فأنشئوا الأسواق في مختلف المدن ، فكانت رائجة بشتى أنواع البضائع والمؤن التي تأتي من داخل الدولة الرستمية نفسها أو من الدول الأخرى عن طريق العلاقات التجارية ، حيث أنه كانت للدولة الرستمية علاقات تجارية مع الكثير من الدول كالأندلس ومصر وبلاد السودان وغيرها من الدول في المشرق والمغرب ، فكانت القوافل التجارية تخرج من الدولة الرستمية محملة بشتى أنواع البضائع والمؤن إلى تلك الدولة ، وتعود كذلك محملة بالبضائع التي تنتج في تلك البلاد ، وكانت تجارة الذهب وبيع الرقيق رائجة في ذلك الوقت ، وللدولة الرستمية نشاط كبير فيها ، ووصل النشاط التجار ي في الدولة الرستمية إلى حد أنه كان يوجد بها التخصص في الأسواق ، فكان بها سوق النحاس ، وسوق الأسلحة ، وسوق الصاغة ، وسوق الأقمشة وغيرها من الأسواق (25) .
وقد قام الأئمة الرستميون بإنشاء بيوت للأموال في مدن الدولة الرستمية ، وبيت مال مركزي في العاصمة تيهرت مع دار للزكاة ، وكانت موارد بيوت المال تختلف عن موارد دار الزكاة ، فدار الزكاة مورده هو أموال الزكاة فقط ، وكانت تصرف أموال الزكاة من هذه الدار لمستحقيها الشرعيين الذين حددهم الله تعالى في كتابه في قوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... والله عليم حكيم } التوبة : 6 .
وأما دور الأموال فكانت مصادرها الجزية وخراج الأراضي والضرائب والرسوم التي تؤخذ على القوافل التجارية والتجار والحرفيين ، وكانت أموال هذه الدور تسخر في أجور الموظفين في الدولة ، وفي بناء المساجد والطرقات والأسواق ومصالح المسلمين (26) .
أيضا فإننا نجد أن الرستميين اهتموا بالجانب العلمي والفكري اهتماما كبيرا ، ولا أدل على ذلك أن من الشروط الأساسية في إمام الدولة حتى يتم انتخابه ، أن يكون عالما بأمور الشريعة والسياسة والحكم .
فاهتمت الدولة بإنشاء المؤسسات التعليمية كالكتاب ـ أماكن للتعليم ـ وكذلك إقامة حلق العلم في المساجد سواء في التفسير أو الحديث أو الفقه أو اللغة وغيرها من العلوم ، حتى أن أئمة الدولة الرستمية كانوا يساهمون في التعليم بأنفسهم ولا يأنفون من ذلك أو يتكبرون ، كالإمام عبد الوهاب الذي قضى سبع سنوات يعلم الناس أمور الصلاة في جبل نفوسة ، أو الإمام أفلح الذي دارت عليه أربع حلق للعلم قبل أن يبلغ الحلم (27) .
وكذلك اهتمت الدولة الرستمية بإنشاء المكتبات العلمية الزاخرة بمختلف فنون العلم والآثار ، ومن مكتباتها المشهورة مكتبة " المعصومة " التي كانت تحوي آلافا من المجلدات والكتب ، أوصلها بعض الباحثين إلى ثلاثمائة ألف مجلد ، فكانت تحوي بين رفوفها كتبا في علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وتوحيد ، وكتبا في الطب والرياضيات والهندسة والفلك والتاريخ واللغة وغيرها من العلوم المختلفة ، ولم تكن كتبها مقتصرة على مذهب بعينه بل كانت تجمع مؤلفات لمختلف المذاهب الإسلامية ، ومن المكتبات المشهور الأخرى " خزانة نفوسة " الجامعة لآلاف الكتب ، وكذلك لم تخل منازل العلماء في الدولة الرستمية من وجود المكتبات الخاصة (28) .
وهذه النهضة العلمية لابد وأن يواكبها نهضة في مجال التأليف ، فحازت الدولة الرستمية قصب السبق في ذلك ، فقدم أئمتها وعلماؤها للأمة الكثير من المؤلفات في مختلف فنون العلم سواء الدينية أم الدنيوية ، وكان أئمة الدولة الرستمية في مقدمة الركب في ذلك ، كالأمام عبد الرحمن الذي ألف كتابا في التفسير ، وكتابا جمع فيه خطبه ، والأمام عبد الوهاب الذي ترك لنا كتابا يعرف بـ " مسائل نفوسة الجبل " ، وأما الإمام أفلح فقد ترك لنا الكثير من المؤلفات والرسائل العلمية منها المطبوع ومنها المخطوط ، وأما الإمام أبو اليقظان فكان من المكثرين في التأليف ومن مؤلفاته " رسالة في خلق القرآن " وغيرها من المؤلفات ، هذا بالنسبة لأئمة الدولة الرستمية ، وأما علماؤها فحدث عنهم في مجال التأليف بلا حرج (29) .
كذلك فإن الدولة الرستمية لم تهمل جانب العلوم العقلية كعلم الكلام وغيره ، فكانت تجري بين العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية والتيارات الفكرية المناظرات والمناقشات العلمية بحرية تامة وبلا تضييق ، وذلك أن الدولة الرستمية عاش في كنفها الكثير من اتباع المذاهب الإسلامية كالإباضية والمعتزلة والصفرية والحنفية والمالكية والشيعة وغيرهم ، بل كان هناك وجود لليهود والنصارى كما ذكرنا (30) .
ويحدثنا ابن الصغير عن ذلك فيقول : " من أتى إلى حلق الإباضية من غيرهم ، قربوه وناظروه ألطف مناظرة ، وكذلك من أتى من الإباضية إلى حلق غيرهم كان سبيله كذلك " ، وابن الصغير نفسه كانت له مناظرات مع علماء الدولة الرستمية من الإباضية (31) .
كذلك نجد أن الدولة الرستمية كان لها اهتمام بالأدب العربي من شعر ونثر ، فأما النثر فيظهر ذلك جليا من خطب أئمة الدولة الرستمية ومراسلاتهم ، وأما الشعر فكان لهم نصيب فيه ولكن ليس كالنثر ، ومن شعراء الدولة الرستمية الإمام أفلح بن عبد الوهاب ، ومن قصائده العصماء تلكم القصيدة في فضل العلم التي يقول في مطلعها :
العلم أبقى لأهـل العلم آثـارا :: وليلهم بشموس العلم قد نـارا
يحيى به ذكرهم طول الزمان وقد :: يريك أشخاصهم روحا وأبكارا
حي وإن مات ذو علم وذو ورع :: إن كان في منهج الأبرار ما مارا (32)
ومن شعراء الدولة الرستمية شاعر تيهرت بكر بن حماد الزناتي ، ومن شعره :
قف بالقبـور فنادي الهامدين بهـا :: من أعظم بليت فيها وأجساد
قـوم تقطعت الأسـباب بينهـم :: من الوصال وصاروا تحت أطواد
راحوا جميعا على الأقدام وابتكروا :: فلن يروحوا ولن يغدوا لهم غادي
والله والله لـو ردوا ولو نـطقوا :: إذا لقالوا : التقى من افضل الزاد (33)
وقد كانت للدولة الرستمية علاقات ثقافية مع بلدان المغرب والأندلس ، ومع بلاد السودان وبلدان المشرق العربي ، فكانت بينهم مراسلات ولقاءات (34) .
كذلك فإن الدولة الرستمية تميزت بجمالها المعماري ، فكان بها القصور والبيوت والمساجد والأسواق والفنادق والحمامات يحيط بكل ذلك سور ، وكانت تمر خلالها المياه حتى تصل إلى البيوت ، وقد تفنن الرستميون في بناء دولتهم حتى وصفت بعراق المغرب ، وببلخ المغرب (35) .
وقد أطنب المأرخون والرحالة في وصف جمالها وحسنها ، وقد ذكرنا شيئا مما ذكره المقدسي ، ولنستمع إلى ابن الصغير وهو يصف تيهرت في عهد الإمام افلح فيقول : " ... وشمخ في ملكه ، وابتنى القصور ، واتخذ بابا من حديد ، وبنى الجفان ، وأطعم فيها أيام الجفاف ... وعمرت معه الدنيا ، وكثرت الأموال والمستغلات ، وأتته الرفاق والوفود من كل الأمصار والآفاق بأنواع التجارات ، وتنافس الناس في البنيان ، حتى ابتنى الناس القصور والضياع خارج المدينة ، وأجروا النهار ... " إهـ (36) .
ومن أشهر مدن الدولة الرستمية : مدينة " تيهرت " العاصمة ، ومدينة " وهران " ومدينة " شلف " ومدينة " الغدير " والمدينة " الخضراء " وغيرها من المدن (37) .
وكان للمرأة دور بارز في الدولة الرستمية ، فأنجبت لنا الدولة الرستمية العديد من العالمات والمصلحات ، كأمثال أخت الإمام أفلح ، وأخت الشيخ عمروس ، اللتان تعدان من عالمات الدولة الرستمية ، ولا أدل على بروز المرأة في المجتمع الرستمي وانتنشار العلم بينهن من كلام أحد أفراد الدولة الرستمية واصفا ذلك فيقول : " معاذ الله أن تكون عندنا أمة لا تعلم منزلة يبيت فيها القمر " هذا بالنسبة للإماء فما بالنا بالحرائر (38) .
كذلك فإن أئمة الدولة الرستمية اهتموا بالجانب العسكري للدولة ونشر الأمن والسلام في ربوعها ، فكانت لهم الجيوش الجرارة التي تحمي الدولة من اعتداء الغاشمين ، وكان لهم الوزراء والولاة والقضاة الذين يعينون الإمام في تسيير دفة الحكم والمحافظة على حقوق الشعب ، وكانت لهم الشرطة التي تحافظ على الأمن والنظام في مدن الدولة الرستمية وأسواقها (39) .
وقد ساهمت الدولة الرستمية مساهمة فعالة في نشر الإسلام في إفريقيا السوداء عن طريق ممارسة التجارة مع تلك المناطق التي لم تكن تعرف الإسلام قبل وصول تجار الدولة الرستمية حاملين معهم مشعل الهداية ، ومن أمثال هؤلاء الدعاة التجار الذي أنجبتهم الدولة الرستمية علي بن يخلف النفوسي الذي كان السبب في إسلام ملك مملكة مالي وشعبه (40) .
وقد امتدت حدود الدولة الرستمية في فترة من فتراتها الزاهرة من حدود مصر شرقا إلى مدينة تلمسان في أقاصي المغرب الأوسط غربا (41) .
وبعد هذا العمر المديد وهذه الإنجازات الضخمة التي قدمتها الدولة الرستمية للأمة الإسلامية ، هجم عليها أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين في سنة 296هـ ، فدمرها وعاث فيها فسادا ، وقتل أهلها ، ولم يكتف بذلك ، بل قام بإحراق مكتبة المعصومة بعد أن أخذ منها الكتب الرياضية والصناعية والفنية ، فقضى بذلك على تراث عظيم من تراث الأمة الإسلامية فحسبنا والله ونعم الوكيل (42).
هذه هي الدولة الرستمية الإسلامية ، والتي للأسف الشديد تجاهلها الكثير من المؤرخين والكتاب القدماء أو المحدثين ، وإذا ذكروها لا يذكرونها إلا بقصد التجني عليها ، وتشويهها والتعتيم على الإنجازات العظيمة التي حققتها خدمة للأمة الإسلامية ، وكل هذا يعود إلى الأهواء السياسية ، و التعصبات المذهبية المقيتة التي عادت على هذه الأمة بالشر والوبال ، بالرغم من أن الدولة الرستمية أظلت بظلها مختلف المذاهب الإسلامية بل والديانات الأخرى ، مصانين الحقوق والكرامة .
ومن أمثال هؤلاء المؤرخين الذين ظلموا الدولة الرستمية ، وكان حري بأمثالهم الإنصاف : ابن عبد الحكيم ( تـ : 257هـ ) صاحب كتاب " فتوح مصر والمغرب والأندلس " ، والبلاذري ( تـ : 279 ) صاحب كتاب " فتوح البلدان " ، وحتى ابن خلدون الذي شهد له بالموضوعية لم يسلم من ذلك ( 43) .
فعسى أن تكون هذه الأجيال الإسلامية المباركة في هذا الوقت أن تكون قد أدركت هذه الحقية المرة ، وأدركت أن ما يعانيه المسلمون اليوم من ذل ومهانة وصغار على أيدي أعداء الأمة الإسلامية ، يعود في المقام الأول إلى المسلمين أنفسهم ، بسبب اشتغالهم بالتعصبات المذهبية والتشنيع على إخوانهم من غير مذاهبهم ، مما أدى إلى إيغار الصدور ، وتفتت العلاقات بين المسلمين ، ففتح الباب على مصراعيه أمام أعداء الأمة ليعيثوا في جسدها فسادا ، بعد أن أنهكه أبنائها بصراعاتهم العقيمة ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل الأمر ببعض من ينسبون أنفسهم إلى الإسلام إذا أصيب أحد إخوانهم المسلمين من غير مذهبهم باعتداء سافر غاشم من قبل أعداء الإسلام ، يفرحون لذلك ويسرون ، والله المستعان ، فهل من صحوة من هذا السبات ، وهل من عودة إلى قوله تعالى : { إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } الأنبياء : 92 .

الهوامش :
1- إبراهيم بحاز ، الدولة الرستمية ، جمعية التراث – القرارة – الجزائر ، ط2 : 1414هـ / 1993م ، ص110 .
2- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، مكتبة الاستقامة – مسقط – سلطنة عمان ، 1418هـ / 1997م ، ص155 .
3- بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، ج2 ، دار الغرب الإسلامي – بيروت – لبنان ، ط2 : 1421هـ / 2000م ، ص246 رقم الترجمة : 544 .
4- بحاز وآخرون ، المصدر السابق ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
5- بحاز وآخرون ، المصدر السابق ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
6- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، مطابع دار الشعب – الأردن – عمَان ، 1978م ، ص108 ، ص137 ـ د/ محمد صالح ناصر ،منهج الدعوة عند الإباضية ، ص119 ، 149 .
7- أحمد بن سعيد الشماخي ، كتاب السير ، ج1 ، وزارة التراث القومي والثقافة – سلطنة عمان ، ص114 ـ علي يحيى معمر ، الإباضية في موكب التاريخ ، ج3 ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع – مسقط – سلطنة عمان ، ط2 : 1993م ، ص32 ـ عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص139 ، 142 .
8- لقاء مع الشيخ أحمد بن سعود السيابي .
9- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص148 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص150 .
10- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص152 - 153 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص152 .
11- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص166 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص153 .
12- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص167 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص153 ـ بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
13- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص154 .
14- المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان ، 1408هـ / 1987م ، ص228 .
15- عوض خليفات ، نشأة الحركة الإباضية ، ص168 ـ د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص154 ـ بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/247 ، رقم الترجمة : 544 .
16- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص215 .
17- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ت : د/ محمد صالح ناصر و إبراهيم بحاز ، دار الغرب الإسلامي – بيروت – لبنان ، 1406هـ / 1986م ، ص36 .
18- ابن الصغير ، المصدر السابق ، ص13.
19- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص176 ، 373 .
20- بحاز ، المصدر السابق ، ص142 ـ 158 .
21- بحاز ، المصدر السابق ، ص158 – 163 .
22- أبو القاسم ابن حوقل النصيبي ، صورة الأرض ، ط2 ، مطبعة بريل ، ليدن ، 1938م ، ص86 نقلا عن : بحاز ، الدولة الرستمية ، ص159 .
23- الشماخي ، السير ، 2/177 .
24- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص140 ، ص 164- 174، ص181 .
25- بحاز ، المصدر السابق ، ص175- 179 ـ محمد علي دبوز ، تاريخ المغرب الكبير ، ج3 ، دار إحياء الكتب العربية ، ط1 1383هـ / 1963م ، ص283 .
26- بحاز ، المصدر السابق ، ص237- 245 .
27- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص281 ـ بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/61 ، رقم الترجمة : 116 .
28- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص288- 290 .
29- بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/61 ، رقم الترجمة : 116 ، 2/248 ، رقم الترجمة : 544 ، 2/283 ، رقم الترجمة : 609 ، 2/359 ، رقم الترجمة : 784 ـ بحاز ، الدولة الرستمية ، ص298- 329 .
30- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص329 - 342 .
31- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص117 ، 118 .
32- سليمان بن عبدالله الباروني ، كتاب الأزهار الرياضية ، ج2 ، دار أبو سلام للطباعة والنشر – شارع فرنسا - تونس ، ط1 : 1986 ، ص190 ـ بحاز ، الدولة الرستمية ، ص355- 367 .
33- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/73 ـ بحاز ، الدولة الرستمية ، ص364 .
34- بحاز ، الدولة الرستمية ، ص382- 398 .
35- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/8 .
36- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص61 .
37- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/45- 66 .
38- الشماخي ، السير ، 2/195 ـ الدولة الرستمية ، ص377- 381 .
39- الباروني ، الأزهار الرياضية ، 2/164 ، 219 ـ ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص45 ، 62 ، 63 .
40- د/ محمد صالح ناصر ، دور الإباضية في نشر الإسلام بغرب إفريقيا ، مكتبة الضامري للنشر والتوزيع – السيب – سلطنة عمان ، ص19 .
41- بحاز وآخرون ، معجم أعلام الإباضية ، 2/284 ، رقم الترجمة : 609 .
42- د/ محمد صالح ناصر ، منهج الدعوة عند الإباضية ، ص156 - بحاز ، الدولة الرستمية ، ص 128 .
43- ابن الصغير ، أخبار الأئمة الرستميين ، ص6 .

مهنا بن راشد بن حمد السعدي
معهد العلوم الشرعية - مسقط
العنوان : سلطنة عمان - ولاية السويق
ص.ب : 389 - الرمز : 315






حملة العلم إلى المشرق والمغرب

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد ؛
فإن التاريخ الإسلامي قد حفل بالحواضر العلمية التي كانت مراكز للاشعاع العلمي في كافة أنحاء العالم الإسلامي ، ومن بين هذه الحواضر مدينة البصرة التي أنشئت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t ، والتي صارت بعد فترة قصيرة من أكبر المراكز العلمية الهامة في الدولة الإسلامية ؛ حيث كانت تعج بالصحابة وكبار التابعين .
ومن هذه المدينة انطلقت الدعوة الإباضية إلى شتى البقاع ، وكان ممن حمل لواءها مشايخ عظام درسوا على أئمة المذهب ثم انطلقوا يبلغونها ويؤسسون على مبادئها إمامات ودولا [1] ، وسمي هؤلاء في التاريخ الإباضي بحملة العلم إلى المغرب وحملة العلم إلى المشرق .
ونبدأ بذكر حملة العلم إلى المغرب لأنهم الأسبق تاريخيا .
أولا؛ من هم حملة العلم إلى المغرب[2] :
تتفق المصادر أنهم خمسة أنفار وفدوا إلى الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة بالبصرة، واحد منهم من اليمن وهو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح، والباقون مغاربة وهم عبد الرحمن بن رستم الفارسي، وعاصم السدراتي، وأبو المنيب إسماعيل بن درّار الغدامسي، وأبو داود القبلّي .
درس هؤلاء الطلبة الخمسة على يد الإمام أبي عبيدة مدة خمس سنوات من سنة 135 إلى 140 هـ، ثم اتجهوا جميعا عائدين إلى بلاد المغرب الإسلامي ( شمال إفريقيا ) .
1 أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافيري :
أصله من اليمن، أخذ العلم عن إمام الإباضية وقتئذ أبي عبيدة مسلم في مدينة البصرة، وبعد خمس سنوات من التلقي اتجه مع زملائه المغاربة إلى بلادهم بعد أن أوصاهم شيخهم بإعلان الإمامة إن أنسوا من أنفسهم قوة، وأشار عليهم بعقدها لأبي الخطاب . ولما وصلوا إلى بلاد المغرب استقروا بطرابلس التي كانت آنئذ في اضطراب كبير وسخط على الحكام العباسيين وقبلهم الأمويين، فعقدوا الإمامة لأبي الخطاب فسار في المغرب بسيرة الخلفاء الراشدين . امتدت إمامته شرقا إلى برقة وغربا إلى القيروان وجنوبا إلى فزان . ولكن الأقدار لم تتح له فرصة التمكين لدين الله وسياسة الناس بالعدل، حيث أرسل إليه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور جيشا ضخما بقيادة محمد بن الأشعث الخزاعي، فدارت معركة ضارية بين الجيشين انتهت باستشهاد أبي الخطاب والقضاء على إمامته سنة 144 هـ .
2 عبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن كسرى الفارسي :
من أكبر أعلام الإباضية وعظماء التاريخ، اعتبره الدكتور سهيل زكار من بين مائة أوائل في التاريخ والتراث الإسلامي . يرجع نسبه إلى الأكاسرة ملوك الفرس . ولد بالعراق في العقد الأول من القرن الثاني الهجري على أكبر تقدير، تزوجت أمه الأرملة بحاجٍّ مغربي فاصطحبها وابنها اليتيم إلى القيروان، وفيها نشأ عبد الرحمن وترعرع، وبها تعلم مبادئ العلوم، ثم صادف نشر الدعوة الإباضية فتعلق بها، ثم سافر إلى البصرة في بعثة علمية للاستزادة من تعاليم المذهب الإباضي والاغتراف من معين شيوخه، وكان ذلك سنة 135هـ، وبعد خمس سنوات عادت البعثة لتحمل على عاتقها عبء الدعوة الإباضية . أجازه شيخه أبو عبيدة في أن يفتي بما سمع منه وما لم يسمع . عينه الإمام أبو الخطاب واليا على القيروان أيام دولته التي كانت من سنة 140 إلى 144هـ . بعد استشهاد أبي الخطاب في معركة تاورغا لجأ عبد الرحمن إلى المغرب الأوسط بعيدا عن نفوذ العباسيين، واعتصم في منطقة تيهرت بالغرب الجزائري حاليا -، وهناك أسس مدينة تيهرت ( أو تاهرت ) والتي تسمى اليوم بتيارت . وفي سنة 160هـ بايعه الإباضية المغاربة إماما لأول دولة إسلامية مستقلة بالمغرب الأوسط والتي عرفت في التاريخ باسم الدولة الرستمية التي دامت إلى أواخر القرن الثالث الهجري .
ذُكر أن له كتابين أحدهما في تفسير كتاب الله العزيز، والآخر جُمعت فيه خطبه، إلا أنهما لم يصلا إلينا . دام في إمامته إلى غاية وفاته سنة 171هـ [3].
3 عاصم السدراتي :
من أيمة المغرب الإسلامي، جزائري الأصل، وهو أحد حملة العلم الخمسة من وإلى المغرب . بعد العودة من البصرة سنة 140هـ حمل عاصم لواء الدعوة والتعليم، وظل ينتقل بين القرى والبوادي من جبل نفوسة بليبيا إلى جبال الأوراس بالجزائر . درس على يديه أيمة وعلماء أجلاء منهم الإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن ثاني أيمة الرستميين، ومحمد بن يانس وغيرهم . كان مستجاب الدعاء، زاهدا ورعا، كما اشتهر بالشجاعة والفروسية . مات مسموما خلال مشاركته مع الإمام أبي الخطاب في حصار قبيلة ورفجومة سنة 141هـ [4].
4 أبو المنيب إسماعيل بن درّار الغدامسي :
واحد من علماء الإباضية، أصله من طرابلس الغرب، سافر إلى البصرة في البعثة التي أرسلها سلمة بن سعد والتحق بحلقة الإمام أبي عبيدة المستخفية في سرداب بعيدا عن أعين العباسيين، فقضى معه خمس سنوات في طلب العلم الشرعي وبخاصة فقه المعاملات والأحكام . وبعد رجوع البعثة سنة 140هـ وقيام إمامة أبي الخطاب عُين قاضيا للإمامة، فأدى واجبه وقام به أحسن قيام إلى جانب اشتغاله بأداء رسالته في تعليم الأجيال، وكان من أشهر تلاميذه محمد بن يانس . وبعد مقتل زميله عاصم السدراتي اعتزل القضاء واشتغل بالتدريس [5].
5 أبو داود القبلّي النفزاوي :
أحد العلام الكبار، أصله من نفزاوة بتونس، أخذ علومه الأولى عن سلمة بن سعد ثم انطلق مع عبد الرحمن بن رستم وزملائه في بعثة إلى أبي عبيدة مسلم بن أبي كرية . بعد عودته من البصرة سنة 140هـ اعتزل السياسة واهتم بالتدريس وتكوين الأجيال، كان غزير العلم حتى رُوي أن الإمام عبد الوهاب مع سعة علمه إذا جلس بين يديه ظهر كالصبي أمام المعلم [6].
ثانيا؛ من هم حملة العلم إلى المشرق[7] :
الذين حملوا العلم من البصرة إلى المشرق عديدون ، ولكن اشتهر منهم الذين حملوه عن الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي ثالث أيمة الإباضية - إلى عمان . وقد اختلف في عددهم ؛ فالبعض يرى أنهم أربعة [8] وهم : أبو المنذر بشير بن المنذر ، ومحمد بن المعلى ، ومنير بن النير ، وموسى بن أبي جابر . والبعض يرى أنهم خمسة [9] وهم الأربعة المذكورون والإمام أبو سفيان محبوب بن الرحيل الذي قيل : إنه رحل إلى عمان مع الإمام الربيع في آخر عمره . ولعل الأمر الذي جعل الفريق الأول لا يعتبر الإمام محبوبا من حملة العلم كونه استوطن عمان ولم يكن عماني الأصل ؛ بمعنى لم يذهب من عمان إلى البصرة ثم عاد إلى عمان مثل الأربعة الآخرين ، ولكن هذا الاحتمال يعكر عليه أن هذا الاعتبار لم يكن عند حملة العلم إلى المغرب ؛ إذ كان أربعة منهم مغاربة الأصل باعتبار وخامسهم من حضرموت واستقر أخيرا بالمغرب .
1 - العلامة بشير بن المنذر :
هو الشيخ أبو المنذر بشير بن المنذر النزوي العقري ، جد بني زياد ، وهو من بني نافع من سامة بن لؤي بن غالب . من كبار علماء عصره ، ومن أعلام الإباضية بالمشرق في القرن الثاني الهجري. كان له دور بارز في إحياء الإمامة الثانية في أواخر العقد السابع من القرن الثاني الهجري.
المشهور أنه توفي سنة 178 هـ ، ولكن بعض المسائل الواقعة بعد هذا التاريخ يذكر فيها بشير بن المنذر ؛ وأبرزها مسألة براءة بعض العلماء من الإمام المهنا بن جيفر إلى أن مات[10] ، والإمام المهنا كانت إمامته من سنة 126 إلى سنة 137 هـ ، ولا أدري للإباضية مسمى في تلك الفترة غير صاحبنا ؛ إلا ما ذكر في دليل أعلام عمان[11] من أن شيخا يسمى أبا المنذر بشير بن المنذر ، وهو حسب الدليل غير تلميذ الربيع ؛ ولكن المعلومات التي جاءت في تعريفه يبدو فيها الخلط بين صاحبنا بشير والشيخ أبي المنذر بشير بن محمد بن محبوب .
والذي أفترضه أن الإمام بشير قد مات بعد السنة المذكورة له ( 178هـ ) ، لأنه ليس من المستبعد أن يدرك إمامة المهنا [12].
2 - الشيخ محمد بن المعلى :
هو محمد بن المعلى الفشحي من كندة ، من أعلام الإباضية في عُمان في القرن الثاني الهجري ، ومن تلاميذ الإمام الربيع ، كان واليا على مدينة صحار العمانية فترة من الزمن ، رشحه العلامة موسى بن أبي جابر للإمامة فاعتذر بأنه شارٍ فقبل منه .
تذكر بعض المصادر[13] أن بعض الإباضية لا يتولونه ولم تذكر سبب ذلك [14].

3 - الشيخ منير بن النير :
هو منير بن النير بن عبد الملك الريامي الجعلاني ، واحد من تلامذة الإمام الربيع بن حبيب بالبصرة، وحملة العلم إلى عمان ، كان من المعمرين ، وقيل إنه مات شهيدا سنة280هـ عن عمر يناهز المائة وعشر سنين ، ويرى الشيخ البطاشي أن هذا خلط من المؤرخين واستبعد التاريخ المذكور ورجح أن المنير المقصود يكون قد مات على أحسن التقديرات في نهاية القرن الثاني الهجري ، وأن المذكور بأنه مات سنة 280 هـ هو شخص آخر [15].
4 - العلامة موسى بن أبي جابر :
هو موسى بن أبي جابر الإزكوي من بني ضبة ، وقيل : من بني سامة بن لؤي ، درس على يد الربيع بن حبيب ، وكان من العلماء المشهورين في زمانه ، ولعله كان الأبرز فيهم ، حيث لعب دورا هاما في عمان بعد سقوط الإمامة الأولى سنة 134هـ ؛ إذ كان هو المرجع لمن أراد الحكم بما أنزل الله ، وإليه يعود الفضل في إحياء الإمامة الثانية في أواخر العقد السابع من القرن الثاني الهجري . توفي ر حمهم الله جميعا سنة 181 هـ عن عمر يناهز الأربعة والتسعين عاما [16].
5 العلامة أبو سفيان محبوب بن الرحيل القرشي ثم العماني :
من تلاميذ الإمام الربيع ، وكان ربيبا له ، قيل : انتقل معه إلى عمان في آخر حياته . والإمام أبو سفيان أب لعائلة عريقة في العلم ؛ إذ كان من ذريته علماء فطاحل منهم : محمد بن محبوب وبشير بن محمد بن محبوب وسعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب . ويعود الفضل لأبي سفيان في نقل تاريخ الإباضية الأولى في البصرة وفقه أئمتها، ولكن الكتاب الذي ضمن فيه تلك الآثار قد ضاع وبقيت منه أجزاء مضمنة في كتب أخرى مثل: الطبقات للدرجيني ، والسير للشماخي ، وكتاب الضياء للعوتبي ، وبيان الشرع للكندي وغيرها[17].
[1] - انظر ؛ محمد ناصر : منهج الدعوة عند الإياضية ، r15 وما بعدها .

[2] - أُخذت تراجمهم من معجم أعلام الإباضية قسم المغرب، إعداد لجنة البحث العلمي بجمعية التراث، القرارة ، الجزائر .

[3] - جمعية التراث : المعجم، ترجمة رقم 544 .

[4] - م س، ترجمة رقم 528 .

[5] - جمعية التراث : المعجم، ترجمة رقم 107 .

[6] - م س ، ترجمة رقم 303 .

[7] - لا تذكر المصادر الكثير عنهم ، وإنما هي ومضات قليلة لا تعطينا صورة كاملة عن تفاصيل حياتهم .

[8] - انظر ؛ العوتبي : الضياء،ج01، ص40 . الكندي : بيان الشرع،ج01، ص13 . البطاشي : إتحاف الأعيان،ج01، ص220،222،224،225 .

[9] - انظر ؛ السعدي : قاموس الشريعة،ج08،358 . السالمي : شرح الجامع الصحيح،ج01، ص04 . مجموعة أساتذة : دليل أعلام عمان، ص150 .

[10] - الكندي : بيان الشرع،ج04، ص159،160،161،201 . ج06، ص133 . ج67-68، ص400 .

[11] - ص34 .

[12] - انظر ؛ السالمي : تحفة الأعيان،إمامة الوارث بن كعب،ج01، ص112 وما حواليها . البطاشي : الإتحاف ،ج01، ص220 . مجموعة من الأساتذة : دليل أعلام عمان، ص34 .

[13] - انظر ؛ العوتبي : الضياء،ج01، ص40 . الكندي : بيان الشرع ،ج01، ص13 .

[14] - انظر ؛ السالمي : شرح الجامع،ج01، ص04 . البطاشي : الإتحاف،ج01، ص224 . مجموعة أساتذة : الدليل ، ص150 .

[15] - انظر ؛ البطاشي : الإتحاف،ج01، ص225 وما بعدها . مجموعة أساتذة : الدليل ، ص154 .

[16] - انظر؛ السالمي : تحفة الأعيان،ج01، ص115 . البطاشي : م س ، ص222 . مجموعة أساتذة : م س ، ص155 .

[17] - انظر ؛ مجموعة أساتذة : دليل أعلام عمان ، ص143 . البطاشي : الإتحاف ، ج01، ص217 .


قائمة المصادر والمراجع
01- البطاشي ؛ سيف بن حمود : إتحاف العيان في تاريخ بعض علماء عمان . ط2 : 1419ه/1998م . المطبعة الوطنية . مسقط .
02- جمعية التراث ؛ لجنة البحث العلمي : معجم أعلام الإباضية قسم المغرب . ط01 : 1420هـ/1999م . المطبعة العربية . غرداية الجزائر .
03- السالمي ؛ عبد الله بن حميد :
أ ) تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان . 1417ه/1997م . مكتبة الإستقامة . مسقط .
ب ) شرح الجامع الصحيح . المطابع الذهبية . مسقط .
04- السعدي ؛ جميل بن خميس : قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة . 1403ه/1983م . نشر : وزارة التراث القومي والثقافة . سلطنة عمان .
05- العوتبي ؛ سلمة بن مسلم : الضياء . ط1 : 1411ه/1991م . نشر : وزارة التراث القومي والثقافة . سلطنة عمان .
06- الكندي ؛ محمد بن إبراهيم : بيان الشرع . من 1402ه/1982م إلى 1414ه/1993م . نشر : وزارة التراث القومي والثقافة . سلطنة عمان .
07- مجموعة أساتذة : دليل أعلام عمان . ط1 : 1412ه/1991م . المطابع العالمية . مسقط . نشر : جامعة السلطان قابوس . سلطنة عمان .
08- ناصر ؛ محمد بن صالح : منهج الدعوة عند الإباضية . نشر : جمعية التراث بالقرارة – الجزائر .( نسخة مصورة عند وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان ) .





توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس