منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - من هم الاباضية -مدخل لفهم حقيقة الإباضية والمذهب الاباضي
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 11-14-2010 ]
 
 رقم المشاركة : ( 3 )
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : Jan 2010
مكان الإقامة : في قلوب الناس
عدد المشاركات : 8,917
عدد النقاط : 363

عابر الفيافي غير متواجد حالياً



عقيدة وفقه

رؤية الله
رؤيةُ الله تَعَالىَ من الأمورِ الغيبية التي اختلف فيها العلماء بين مثبت للرؤية وناف لها، ورغم أَنَّهَا ليست في الأصل من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام التي نص القُرآن عليهَا، إِلاَّ أَنَّها صارت من أهم المسائل التي أدرجها العلماء كأصل من أصول العقيدة، وقد تشدَّدت المسائل فيما بينها حتَّى كفّرت بَعضها البعض بهذه المسألة وغيرها، وأصبحت من أبرز المسائل الخلافية بين المذاهب الإِسلاَمية.
وسنعرض أقوال المذاهب في هذا المقال، وأصل اختلافهم، من تفصيل الشيخ أحمد الخليلي لها في كتابه الشافي الكافي: «الحق الدامغ» وفيما يلي ملخص ما قاله:
«والنزاعُ بَين مختلف طوائف الأُمَّة في إمكان رؤية الله تعالى ووقوعها قديم، فبعض الطوائفِ المنتسبة إلى السنَّة والسلفية والأشاعرة والماتريدية والظاهرية وغيرهم يقولون: إِنَّها ممكنة في الدنيا والآخرة، غير أن جمهورهم يثبت وقوعها في الآخرة دون الدنيا.
واختلفت الطائفة التي تقول: إِنَّها واقعة في الدنيا والآخرة كذلك، هل هي خاصة في الدنيا برسول الله -صلى الله عليه وسلم - أو هي عامة للمؤمنين؟ فأكثرهم على أَنَّهَا خَاصَّةً به، وهو قول الأشعري وأتباعه، نقله عنهم الحافظ بن حجر، وقال النووي ولم يقل بوقوعها لغيره -صلى الله عليه و سلم -في الدنيا إلا غلاة الصوفية. أما ابن القيم فيقول في حادي الأرواح([1]): "فقد دَلَّت الأحاديث الصحيحة على أن المنافقين يرونه تعالى, بل والكفار أيضا كما في حديث التجلي يوم القيامة", ثم قال: "وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة: إحداها: أن لا يراه إِلاَّ المؤمنون. والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم؛ ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك. والثالث: يراه المنافقون دون الكفار. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وهي لأصحابه»([2]).
رأي الإباضية

أما الإباضية فيعتقدون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه عندما عَرج به إلى السماء، كما ادعى البعض، وهو قول الجمهور من أهل التحقيق، ويرون أَيْضًا استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، وهو ما يتناسب مع تنزيه الله تعالى من صفات النقص، وما تَدُلُّ عليه الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، وهو ما ينسجم مع العقل والمنطق.
ومن هذا المبدأ فسَّر الإباضية وغيرهم من المذاهب التي ذهبت إِلىَ هذا الرأي كُلّ الآيات والأحاديث التي تُوهم التشبيه أو الرؤية، بما يتناسب مع صفات الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، والمتتبع للقرآن الكريم لا يجد آية صريحة في مسألة الرؤية، بل إن الآيات والأحاديث التي تنفي الرؤية أكثر وأصرح من الآيات والأحاديث التي تثبتها.
والقول بعدم رؤية الباري سبحانه وتعالى ليس جديدا، وليس خاصا بالإباضية فقط وإنما كان رأيا قديما، بل كان هو الرأي السائد في الصدر الأَوَّل من الصحابة والتابعين، إِلىَ أوائل القرن الثاني عندما تولى المعتزلة الحكم، ابتداء من عهد المأمون، وهو رأي الشيعة أَيْضًا، ولم يتغير هذا الرأي إِلاَّ بعدما سيطر أهل الحديث على الحكم العباسي، وأقصيت المعتزلة ونكل بهم أشد التنكيل، فكانت نقطة صراع يَتَبَيَّن منها الموالي للحكم العباسي، والخارج عليه، مثلها مثل فتنة الإمَام أحمد في خلق القُرآن.
أدلة الإباضية في نفي رؤية الله تعالى في الدار الآخرة: منها أدلة نقلية، وأدلة عقلية، تناولتها كثير من كتب الإباضية أختصرها فيما يلي:
أولا: الأدِلَّة النقلية:

1- من القرآن الكريم:

· قول الله تعالى: ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. (سورة الأنعام: 103) قال صاحب قاموس الشريعة: هذه صفة لا تُنسَخ، لأَنَّ هذا خبر، والأخبار لا تنسخ، ولأنَّ الله مدح نفسه، ومدائح الله لا تزول ولا تتحول.
· قول الله تعالى لموسى عليه السلام لَمَّا سأله الرؤية، قال له:﴿ لَن تَـرَانِي ﴾ (الأعراف: 143)، وهذا نفي مطلق غير مقيد بزمان ولا مكان، فلو حصلت الرؤية في أي زمان من أزمان الدنيا والآخرة، لكان منافيا لهذا الخبر. وحرف النفي "لن" عند علماء اللغة هو من حروف الإياس. وَإنَّمَا طلبَ موسى عليه السلام رؤية الله ليُقيم الحجَّة على قومه الذين ألحوا عليه أن يروا الله جهرة أَمَّا هو، فيعلم أن ذلك مستحيل.
· ما جاء في آيات الكتاب من الإنكار البالغ والتقريع الشديد للذين سألوا الرؤية من اليهود والمشركين، مع تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعوا فيه، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُـنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىآ أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ (النساء: 153)
· وقول الله تعالى: (وَقَالَ الذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلآَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلآَئِكَةُ أَوْ نَرَىا رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فيِ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْاْ عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 21) وقوله تعالى: (اَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ، وَمَنْ يَّتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالاِيمَانِ فَقَدْ ضَّلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ) (البقرة: 108)


2- الأدلة من الأحاديث الواردة في نفي الرؤية، هي:

· روى مسلم في صحيحه عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : (لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة).
· روى مسلم عن أبى ذر أَنَّهُ سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنّى أراه) فهذا الحديث ينفي الرؤية مطلقا فقد وصف الرسول ربه بأنه نور، واستبعد حصول الرؤية بقوله (أنّى أراه) وأنّى بمعنى كيف. ولو يعلم بأنه سيراه في الآخرة لأخبر أبا ذر.
· روي عن علي بن أبي طالب في تفسير قول الله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ﴾ فقالَ: أنَّ الله لا يُدرك بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وروي عنه أيضا في تفسير قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ﴾ (القيامة: 22). قال: إلى ثواب رَبِّها ناظرة.
· قول عائشة أم المؤمنين لمسروق: من زعم أنَّ محمدا رأى ربه، فقد أعظم على الله الفرية.
وغيرها من الأحاديث التي لا يتسع المقال لذكرها


ثانيا: الأدلة العقلية على نفي الرؤية:

· إن كُلّ ما يمكن أن يراه الإنسان أو يتخيله أو يتصوره لاَ بُدَّ أن يكون محدودا، بالشكل أو بالحجم أو باللون أو بالزمان أو بالمكان. وجميع المخلوقات التي نعرفها والتي لا نعرفها, نراها أو لا نراها هي محدودة بهذه الحدود أو ببعضها. وما دامت هذه صفات المخلوقات فَإنَّهُ يستحيل أن تكون من صفات الخالق.
ورؤية الله تبارك وتعالى تستلزم شروطا لذلك منها: أن يكون محدودا بجهة معينة، أو صفة أو شكل معين، حتى تتوجه إليه الأبصار، وهذا مستحيل في حق الله تبارك وتعالى.
فمن صفاته سبحانه وتعالى أَنَّهُ: قديم بلا بداية، باق بلا نهاية، منزه عن الشكل واللون، لا يحويه زمان ولا مكان، لأَنَّهُ هو الذي خلق الأشكال والأحجام والألوان والأزمان والأمكنة، وهو منزه عن الجهات والاستقرار، وليس له صورة على النحو الذي يمكن أن يَتَغَيَّر من شكل إلى آخر.
ومن صفاته أيضا: أنه الأَوَّل فليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، لا يشبه شيئا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فكيف يمكن أن يتصور أو يتخيل أو يرى.
· إن كثيرا من الأشياء التي خلقها الله تعالى في هذا الكون لا يراها الإنسان، فنحن لا نستطيع رؤية الأشعة السينية، ولا الأشعة فوق البنفسجية، ولا الأشعة تحت الحمراء، كما لا نستطيع رؤية الكهرباء التي تسري في الأسلاك، ولا الجاذبية والروائح والأصوات، ولكن نؤمن بها وندرك تأثيرها في الأشياء حولنا؛ أَمَّا حقيقتها فيعلمها الله. وكذلك نؤمن بوجود الله وقدرته دون أن نراه.
· كثيرا ما نجد في كتاب الله تعالى ما وعد الله به عباده المؤمنين في الدار الآخرة من النعيم مذكورا بأوضح العبارات وبصراحة كاملة، ومكررا في مواضع شتى لأجل التشويق، بينما لا تجد للرؤية ذكرا إِلاَّ ما يتأوله المثبتون للرؤية من لفظ ﴿الزيادة﴾ وأمثالها، وهو لم يذكر إِلاَّ مجملا، فلو كانت الرؤية ثابتة وهي أصل كُلّ نعيم في الْجَنَّة، لوردت في آيات صريحة لا تحتمل التأويل.
· نرى التناقضات والاضطرابات التي يذكرها القائلون بالرؤية في الآخرة، وذلك لاختلافهم في من يَرونه ومتى يرونه؟؟.
· من يروه يوم القيامة؟ يقول الأكثر بأن الرؤية خَاصَّة بالمؤمنين، إذ هي نعمة يمنّ الله بها عليهم، يتضاءل معها نعيم الْجَنَّة، ومن الغريب أَيْضًا أَنَّنا نجد البعض ينعم بها عَلَى الكفار والمنافقين، ويمنعها عن المسلمين القائلين بعدم الرؤية لعدم إيمانهم بذلك.
· متى يرونه؟ نجد من خلال استقرار الأحاديث المثبتة للرؤية تناقضها فيما بينها، من حيث الموضع الذِي يرى فيه رَبِّ العزة، وأهم هَذِهِ الأحاديث: حديث: «فإنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته» مَع أنَّ سياق هذا الحديث يَقتضي أن هذه الرؤية ستكون في الموقف، وأنها غير خَاصَّة بالمؤمنين، بل يشاركهم المنافقون والمشركون كما ذكر ذَلِكَ ابن القيم وغيره.
· إن محاولة تنزيه المولى عز وجل وإثبات الرؤية، وتأويلها بأنها رؤية بلا كيف، هو كلام بشر قابل للأخذ والرد.
- أدلة القائلين بالرؤية، ورأي الإباضية:

القائلون بالرؤية استدلوا ببعض الآيات والأحاديث منها:
· قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ(22) إِلَىا رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذِم بَاسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَنْ يـُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ (القيامة)، قالوا: إِنَّ النظر هنا بمعنى الرؤية، وهذا أقوى الأدلة التي يستدلون بها.
· قول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ) (يونس: 26) فقالوا: إِنَّ الحسنى هي الْجَنَّة، والزيادة: هي رؤية الله في الْجَنَّة.
· قولُ الله تعالى ﴿ كَلآَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبـِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين: 15)، قالَ المثبتون للرؤية أن الحَجبَ هو: الحجبُ عن رؤية الله تعالى. وذكر ابن كثير في تفسير الآية: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون؛ ثُمَّ يحجب عنه الكافرون، وينظر إليه الكافرون كل يوم غدوة وعشية.
- وأما الأحاديث التي استدلوا بها، فمنها:
1- حديث البخاري في كتاب التوحيد عن أبي هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - : «هل تضامون في القمر ليلة البدر؟» قالوا: لا، يا رسول الله. قال: «فإنكم ترونه كذلك, يجمع الله الناس يوم القيامة, فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه, فيتبع من كان يعبد الشمسُ الشمسَ, ويتبع من كان يعبد القمرُ القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت, وتبقى هذه الأُمَّة فيها شافعوها أو منافقوها شك إبراهيم فيأتيهم الله في هيئة، فيقول: أنا ربكم. فيقولون:أنت ربنا, فيتبعونه...» الخ.
2- حديث مسلم في كتاب الإيمان فيه زيادة: «فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتي ربنا... » الخ وهو حديث طويل يرجع إليه في مصادره.
هذه الآيات الكريمة والأحاديث المذكورة إذا أخِذت على ظاهرها فإنها تفيد تشبيه الله بخلقه، وهذا يتنافى مع تنزيه الله تعالى، وقَد قال بعض العلماء هربا من هذا التشبيه: بأن المؤمنين يرون ربهم بلا هيئة ولا كيف، وقال غيرهم: بأن الآخرة محل خرق العادات، وأن الله سيخلق حاسة سادسة في المؤمنين يرونه بها، وهذا تكلف لا ضرورة له، كما أنه افتراض تخيلي دون دليل عقلي أو نقلي يؤيده، والعقائد لا تنبني على الافتراضات والتخمينات، وَإنَّمَا تبنى على الآيات المحكمات التي لا تحتمل غير معنى واحدا.
· يذكر ابن القيم: أن المنافقين أيضا يرونه، وذكر ابن كثير: أن الكافرين يرونه ثم يحجب عنهم؛ فإن رؤية الكافرين لربهم يوم القيامة ينافي ما يقوله المثبتون بأن الرؤية هي أعظم نعيم في الْجَنَّة، وهو خاص بالمؤمنين، فكيف يكشف الحجاب وينظر إليه الكافرون.
ومن أغرب ما سمعنا من تفسير هذه الآية ما قاله أحد العلماء وأخذ يردده أحد الخطباء عَلَى المنابر، يقول: إِنَّ الإباضية هم الذين يحُجبون عن رَبِّهم، فلا يرونه عندما يراه المؤمنون، ولكنهم يرون مالكا خازن النار بسبب إنكارهم للرؤية.
تفسير الإباضية لهذه الآيات:
كان تفسيرا بما يتناسب مع جلال الله وعظمته، ومع ما ينسجم مع اللغة العربية.
يقول الشيخ أحمد الخليلي: «إن الانسجام المعهود في القرآن الكريم، وارتباط بعض الآيات مع بعض لا يكون إلا بتفسير آية القيامة: (﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ(23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذِم بَاسِرَةٌ(24) تَظُنُّ أَنْ يـُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ بِالانتظار, فَإِنَّ الآيات قَسَّمت الناس يومئذ إلى طائفتين:
إحداهما: وجوهها ناضرة: أي مبتهجة مشرقة بما ترجوه من ثواب الله. إلى ربها ناظرة: أي منتظرة لرحمته ودخول جنته. والطائفة الأخرى: وجوهها باسرة: أي كالحة مكفهرة لما تتوقعه من العذاب. تظن أن يفعل بها فاقرة: أي تتوقع أن ينزل بها ما يقطع فقار ظهورها. فنضارة هذه الوجوه مقابل بسور تلك, وانتظار هذه لرحمة الله ودخول جنته مقابل ما يتوقع تلك للعذاب. ولو فسر النظر هنا بالرؤية لتقطع الوصل بين الآيات, وتفكك رباطها, وانقطع انسجامها. وهذا التفسير هو الذي ينسجم مع ما في خاتمة سورة عبس، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)﴾.
وقَد فسَّر النظر: بمعنى الانتظار كُلّ من علي بن أبي طالب وابن عباس كما أخرجَ ذَلِكَ الإمام الربيع في مسنده، وروي ذلك عن كثير من السلف, فقد أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن عمر، كما أخرجه أيضا عن عكرمة ورواه الطبري من عدة وجوه وبمختلف الأسانيد عن مجاهد وهو من مفسري التابعين وتلميذ ابن عَبَّاس»[3].
وهناك آيات كثيرة في القرآن تفيد أن معنى النظر: هو الانتظار، ومنها قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلآَّ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآَئِكَةُ وَقُضِيَ الاَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ(210)﴾ ، وقوله تعالى في سورة يس: ﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَاخُذُهُمْ وَهُمْ يَخَصِّمُونَ(49)﴾، وقول الله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نـُّورِكُم) (الحديد: 13)
إن آية القيامة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ تُصوِّر موقف يوم القيامة قَبل أن ينتقل الأبرار إلى دار الثواب، والفجار إلى دار العقاب، بدليل السياق في الآيات السابقة, وقوله تَعَالىَ في الأشقياء ﴿ تَظُنُّ أَنْ يـُّفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾ يؤكده، فَإِنَّ ذلك قبل دخول النار قطعا، إذ لا معنى لظنهم ذلك بعد الدخول، فكيف تكون هذه الآية دليلا عَلَى رؤية الله تعالى في الْجَنَّة، وسياق الآية يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا في الموقف.
مِمَّا أشكل على المثبتين للرؤية: إسناد النظر في آية القيامة إلى الوجوه، فترددوا بين القول بأن الرؤية بالبصر، أو بالوجوه، أو بالجسم كله, أو بحاسة سادسة, وما هذا الاضطراب إِلاَّ دليل بَيِّن عَلَى أَنَّهُم غير مستندين إلى أصل متين ولا ركن مكين فيما قالوه, ولو أَنَّهُم فهموا الآية الكريمة فهما صحيحا، وحملوها على ما يقتضيه السياق واللغة، لسلموا من هذا الاضطراب.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار: «وأَمَّا رؤية الربِّ تعالى فربما قيل في بادئ الرأي أن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات، كقوله تعالى (لَن تَـرَانِي) ، وقوله (لاَّ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ)، فَهمَا أَصرح دلالة على النفي، من دلالة قوله تعالى : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نـَّاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبـِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ على الإثبات، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن الكريم وكلام العرب. كقوله ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾, ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ﴾ (الأعراف: 53)، ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلآَّ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآَئِكَةُ﴾».
· معنى الزيادة في الآية الكريمة:
لفظة مبهمة غير دالة على الرؤية، وفي تفسير الزيادة وردت أقوال مختلفة منها: أَنَّهَا النظر إلى وجه الله تعالى، ومنها ما رُوِيَ عن علي كرم الله وجهه: أن الزيادة غُرفة من لؤلؤة, وعن ابن عباس قالَ: «الحسنى هي الجنة والزيادة عشر أمثالها»، وعن مجاهد قال : «أن الزيادة مغفرة من الله ورضوان»، وذكر الفخر الرازي «أن الزيادة أن تمرَّ السحابة بأهل الْجَنَّة فتقول: ما تريدون أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرهم). وقد تشمل الزيادة كل هذه الأشياء أو غيرها. لأن في الجنة كما ورد في الحديث: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». فدلالة هذه الآية على الرؤية دلالة ظنية، لأن معنى الزيادة هنا يحتمل كل ما ذكر. فحصر الزيادة بالرؤية ليس في محله.
تفسير الرؤية بالعلم:

فسر بعض العلماء الرؤية بالعلم التام، والمعرفة الكاملة بالله تعالى يوم القيامة، ومن هؤلاء الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين". وقد وردت آيات تدل على أن المقصود بالرؤية هو العلم، ومن هذه الآيات قول الله تعالى:
· ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبـُّكَ بِعَادٍ(6)﴾ (الفجر).
· ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبـُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)
· ﴿ اَلَمْ تَرَ إِلىَا رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ, سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45)﴾ (الفرقان)
· ﴿ أَلَمْ تَعْلَمَ اَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فيِ السَّمَآءِ وَالاَرْضِ، إِنَّ ذَالِكَ فيِ كِتَابٍ، اِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ(70)﴾ (الحج)
ففي كل ما سبق ألم تر معناها ألم تعلم. و كذلك قول الشاعر:
رأيت الله أهلك قوم عاد ثمود وقوم نوح أجمعين
يعني: علمت أن الله قد أهلك قوم عاد وثمود، فالعرب استعملوا كلمة الرؤية للدلالة على تمام العلم والمعرفة، ومن ذلك يمكن تأويل الرؤية بالعلم، فيكون معنى الرؤية هو معرفة الله تعالى تمام المعرفة بعد أن يكشف حجاب الغيب، والله أعلم.
الخلاصة:
مِمَّا سبق يمكن أن نخلص إِلىَ أن المسألة خلافية، وَإنَّمَا أردت أن أبيِّن بَعض الأدلة التي اعتمدها الإباضية وغيرهم من المذاهب الإِسلاَمية، لأَنَّ الكثير من الناس يجهلونها، وتبقى القضية تحتاج إِلىَ الرجوع إِلىَ المطولات في الإطلاع عَلَى هَذِهِ المسألة بتفصيل، ولا يسعنا في هذا المقال استقصاء جميع الأقوال والأدلة، ومناقشتها. والإباضية لا ينكرون على أحد أن يأخذ بأي رأي يشاءه، وَإنَّمَا ينكرونه التعصب المقيت الذِي لا يستند إِلىَ حجة، وَإنَّمَا هو إتباع للهوى، وحكم بغير بَيِّنَة، و«عدو الإنسان ما جهل» وهذا الذي يرفضه العقل والنقل، وهو الذي أدى ببعض العلماء لأن يقولوا: «إِنَّ الإباضية لديهم خلل في العقيدة»، ومنهم: من صرح بكفر من أنكر الرؤية، وأفتى بعدم جواز الصلاة خلفهم، وقد تهور أحدهم حتَّى قال: «لو وُجدت دولة إسلامية فإن منكر الرؤية يجب أن تحز رقبته».
ومن المعلوم أن المسلم لا يكفر إِلاَّ بإنكار صريح القرآن أو تأويل آيات القرآن بما لا تحتمله اللغة العربية، أو أن تكون أعماله مخالفة لصريح القرآن. فكيف يجرؤ مسلم بتكفير مسلم لمجرد الاختلاف في فهم معاني القرآن الكريم.
و الذي أريد أن أؤكده هنا أن القضايا الخلافية لا يمكن أن تكون أصلا من أصول العقيدة، لأن أصول العقيدة لا يمكن أن تُبنى عَلَى ما اختلف في تأويله من آيات القرآن ولا عَلَى الأحاديث الأحادية أو المرسلة, وَإنَّمَا تُبنى عَلَى المتفق عَلَى معناه من كتاب الله تعالى، وعلى الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا تعارض نصا ثابتا.

[1]) حادي الأرواح ابن القيم:ص. 405 ابن كثير للطباعة والنشر 1991

[2]) الحق الدامغ أحمد الخليلي

[3] الحق الدامغ أحمد الخليلي





الولاية والبراءة والوقوف
أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على الحب في الله للمتقين الأبرار والبراءة والكره والبغض لأعداء الله من العصاة والكافرين والمنافقين هكذا على وجه العموم، لكن الإباضية توسعوا في تطبيق هذه المبادئ أكثر من غيرهم حيث أنهم يقسمون الولاية والبراءة إلى قسمين أساسيين هما:
  • ولاية الجملة وبراءة الجملة
  • لولاية والبراءة الشخصيتان.
ثم يطبقون هذه المبادئ عمليا.
تعريفات
ولاية الجملة: هي الحب في الله لكل من آمن بالله واتبع هداه منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة فهؤلاء هم أولياء الله ويجب على المسلم أن يحبهم ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة.
براءة الجملة: هي البغض في الله لكل من أشرك به أو أنكر وجوده أو كفر أو أعرض عن رسالاته بارتكابه للمعاصي وإصراره عليها دون أن يتوب، فهؤلاء جميعا يجب على المسلم أن يبغضهم ويبرأ إلى الله منهم.
الولاية الشخصية: هي الحب والولاء والرضا والاهتمام بالمصالح والدعاء بالرحمة والمغفرة لكل من ثبت عندك وفاؤهم بدين الله شخصا شخصا، سواء ثبت ذلك بالقرآن أو بالسنة أو بخبر العدول من المسلمين أو بالمعرفة الشخصية، ويشمل هذا الأنبياء المذكورة أسماؤهم في القرآن الكريم ومن عرفت من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الصالحين، وكل من تعرف من أصدقائك وأقاربك، فتقول: اللهم إني أُشهدك أني أحب فلان.
البراءة الشخصية: تعني البغض لكل من ثبت كفره ونفاقه ممن ورد ذكره في القرآن أو بخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أو ممن سمعت عنه أو عرفته من الظالمين والمجرمين والكفار و العصاة، فتقول في حق هؤلاء : اللهم إن أبرأ إليك من فعل فلان. وقد ورد عن عمر رضي الله عنه قوله: (من رأينا فيه شرا تبرأنا منه).
الوقوف: وبين الولاية والبراءة توجد حالة تسمى "الوقوف" فإذا لم يثبت عندك تقوى شخص ما فيجب أن تقف فيه فلا تحبه ولا تبغضه، أي لا تتولاه ولا تتبرأ منه وهذا ما يسمي بالوقوف، وهو حكم مبني على الجهل بالشخص. قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)[1]، ومن الوقوف يمكن أن تنتقل إما إلى الولاية وإما إلى البراءة. فإذا تعرفت على شخص مصادفة لا تدرى هل هو مؤمن وَفِيّ أو عاص فيجب أن تَقْفُ فيه حتى إذا عاشرته وعرفته وتأكدت من التزامه وصلاحه حينئذ تتولاه وتحبه وبذلك تكون قد انتقلت من الوقوف إلى الولاية. وحكم الولاية هو ما ثبت عندك بعلم فلا يجوز أن تنتقل منه إلا إذا ثبت لك ضده. فإذا ثبت عندك بيقين أن هذا الرجل الذي كنت تحبه وتتولاه قد انتهك حرمات الله وارتكب من المعاصي ما يوجب البراءة فإنك تنتقل من الولاية إلى البراءة فتتبرأ منه وتعلن بغضك وكراهيتك له من أجل المعصية التي ارتكبها. ولو تاب وصلح وثبت عندك صلاحه فإنك تنتقل من حكم البراءة إلى حكم الولاية وهكذا.
الولاية والبراءة في القرآن الكريم
يقول الشيخ بيوض رحمه الله (والولاية والبراءة الشخصيتان مرتكزتان على أسباب دينية, فهما ليستا نظاما من النظم الاجتماعية، إنما أصلهما ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بولاية المؤمنين بعضهم لبعض وبالبراءة من الكفار والمنافقين، والآيات الواردة في هذا كثيرة جدا منها قوله تبارك وتعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء)[2]، ويقول تبارك وتعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[3]، وفي شأن البراءة يقول الله عز وجل: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)[4].
أهمية الولاية والبراءة في المجتمعات الإسلامية
وتعتبر الولاية والبراءة الشخصيتين من أهم قضايا العقيدة في الفكر الإسلامي لأنها تفرق بين معاملة المؤمنين الملتزمين بدينهم وبين العصاة والكفار والمنافقين, وهذا ما تفرد به الإباضية اعتمادا على النصوص المتقدمة وعلى قول الله تعالى في سورة التوبة (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)[5]، وعلى قصة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك حين هجرهم النبي (ص) وصحابته حتى تاب الله عليهم.
يقول عدون جهلان -رحمه الله- (ولعل الولاية والبراءة من الأصول التي درسها الإباضية بعمق وانفردت عما سواها من الفرق بالقول بولاية الشخص وبراءة الشخص بحكم الظاهر ولذلك نجد دراسات مستفيضة لفقهاء الإباضية وعلمائها حول هذه المسألة، ففصّلوا القول في شروط الولاية والبراءة ووجوبها وبينوا بشكل دقيق الجهات التي تتم بها كل من الولاية والبراءة الشخصية كما حددوا بدقة من تجب فيه الولاية والبراءة سواء في الجملة أو في الشخص، وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام الإباضية بهذا الجانب لم ينحصر في نطاق الاجتهاد الفقهي والنظر العقلي فحسب وإنما تعداه إلى الميدان العملي والتطبيق الفعلي فتجسدت هذه الآراء والأحكام في واقع الحياة اليومية داخل المجتمعات الإباضية)[6].
فمن حيث معاملة مثل هؤلاء العصاة فيقول الشيخ بيوض: (إذا بلغنا عن شخص ما معصية ولكنها خاصة بنفسه ليس فيها ضرر كبير للمجتمع ولا هتك للحرمات جهارا بحيث لم ينزع جلباب الحياء عن نفسه فإن مثل هذا يترك لا يعلن عنه البراءة ما لم يجاهر بمعصيته، ففي الناس عصاة كثيرون نعاملهم معاملة دنيوية بالبيع والشراء والأخذ والعطاء ونعتقد بالقلب أنهم عصاة ونترك أمرهم إلى الله. أما إذا كان العاصي قد جاهر بمعصيته بحيث تحدث ضررا في الناس فهذا يجب إعلان البراءة منه في المساجد، وهنا يدخل الاعتبار الاجتماعي للمحافظة على المجتمع فلو علمنا -مثلا- أن إنسانا يشرب الخمر في بيته أو في حانة ولم تظهر منه عربدة في الطرقات سكتنا عنه ولا تعلن براءته على رؤوس الملأ غير أننا نبغضه في قلوبنا لأنه عاص لله، ولكنه إذا مر في شارع وهو معربد يسب الله وينطق بالهجر أو يكشف عن عورته فهنا يجب إعلان البراءة منه في المساجد وفي مجتمعات المسلمين حتى يقاطع تمام المقاطعة حفاظا على سلامة المجتمع، وقل مثل هذا في السرقة والزنى وسائر الفواحش)[7].
التطبيق العملي لمبدأ الولاية والبراءة
يقول الشيخ علي يحي معمر: (إن المجتمع الإسلامي أنظف من أن تقع فيه المعصية من مسلم ثم يسكتون عنه فيدعونه فيهم محبوبا قبل أن يبادر إلى التوبة والاستغفار والتكفير، إن كانت المعصية مما يتحلل منه بالتكفير، فليس من الحق أبدا أن نتغاضى عن أولئك الذين يرتكبون المعاصي ونضعهم في صف واحد مع المؤمنين الموفين، بل يجب أن نزجر العاصي عن معصيته, وأن لا نساوي بينه وبين الموفي، وأن لا نعطيه من المحبة وطلب المغفرة وحسن التعامل ما نعطيه للذي يراقب الله في الخفاء والعلانية ويرجع إليه في كل كبيرة وصغيرة، ويقف عند حدوده لا يتخطاها)[8].
وقد مارس الإباضية تطبيق هذه المبادئ عمليا فسجلت كتب التاريخ عند الإباضية البراءة من العصاة - علنا في المساجد - بعد نصحهم وإرشادهم فلا يتعامل معهم بقية المسلمين حتى يتوبوا. فعندما يثبت على شخص ما ارتكاب معصية تعلن منه البراءة حتى يتوب، ويتبع ذلك كإجراء تأديبي، هجرانه، أي مقاطعته اجتماعيا فلا يتعامل معه أحد، فلا يكلم ولا يحضر جماعة، ولا يؤاكل، ولا يجالس . فيجد نفسه معزولا عن المجتمع فيضطر إلى التوبة لتعود إليه مكانته، وعندها يستطيع أن يعيش بين المسلمين كواحد منهم.
وأخف من حكم البراءة ما سمي بالخطة والهجران الذي عمل به العزابة في المغرب وهما يطبقان على كل من يخالف العرف العام للبلد أو الاتفاقات المعمول بها تحت رعاية العزابة، أو مخالفة السلوك المتبع في قضية من القضايا وبهذه الاعتبارات فإن الهجران قد نال كثيرا حتى من كبار العلماء.
وقد جرى في بعض العهود توسع في تطبيق الهجران فلم يقتصر فيه على من ارتكب المعاصي المعروفة، وإنما يطبق على من يخالف السيرة المتعارف عليها، وعلى من يرتكب ما يعتقد أنه يحط من قيمة الشخص أو يسبب مضرة للأفراد أو انحلالا وتفككا في المجتمع. وقد طبقت الخطة والهجران حتى على بعض العلماء، وقد ذكر الشيخ على يحي معمر[9] أمثلة عديدة من المواقف، ومن أمثلة ذلك العلامة ابن خلفون[10]، فقد خالف علماء عصره في بعض المسائل ونظرا لتشدد بعض العلماء وتمسكه برأيه طبقت عليه الخطة وبقي في الهجران عدة سنوات، قيل أنها بلغت اثنتي عشرة سنة، ومنها موقف العلماء من سليمان بن عبد الله بن بكر فقد أفتى هذا الشيخ بمسألة مخالفة للمعمول به بتاجديت[11]، فأخرجه الأشياخ إلى الخطة وجاء سليمان ليتوب بين أيديهم فلم يقبلوا منه إلا بعد سنوات ذلك لأنهم قالوا أن الفتوى قد انتشرت ولا تتم التوبة حتى يبلغ خبر رجوع الشيخ عن فتواه إلى كل من بلغته الفتوى الخاطئة.
كان من نتيجة تطبيق نظام الولاية والبراءة أن الإباضية استطاعوا حفظ مجتمعاتهم من البدع والخرافات التي تجدها عند غيرهم فلم تدخل الصوفية أو الزندقة أو البدع المتعلقة بالشرك إلى المجتمعات الإباضية التي تم فيها تطبيق مبدأ الولاية والبراءة الشخصيتين وبذلك كانت المجتمعات الإباضية من أكثر الفرق تمسكا بآداب الدين والتزاما بتعاليم الإسلام، وتورعا عن الشبهات. بهذا يشهد تاريخ الإباضية وبهذا يشهد كل من عاشرهم أو عاش بينهم. ورغم أن هذا النظام قد اندثر بعد دخول الاستعمار إلى بلاد المسلمين ومحاولته القضاء على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، إلا أن آثار تطبيق هذا النظام لا زالت قائمة. فالإباضية على وجه العموم لا زالوا من أكثر المسلمين تمسكا بآداب الإسلام وتعاليمه وأكثرهم ابتعادا عن المعاصي والشبهات، بذلك تشهد كتب السير عند الإباضية كما يشهد بذلك كل من عاش بينهم وعرفهم عن قرب.
ولو أن المجتمعات الإسلامية سواء كانت دولا أو قبائل أو جماعات أو عائلات أخذت بهذا النظام بعد تعديله بما يتناسب مع واقع العصر لاستطاعت أن تحل كثيرا من المشاكل التي نراها في كثير من الدول الإسلامية، ومنها مشاكل الشباب على اختلاف أنواعها من التدخين والمخدرات وعدم الاهتمام بالصلاة والتشبه بالأجانب إلى غير ذلك مما هو معروف للجميع.
المراجع
1) سمر أسرة مسلمة - علي يحي معمر
2) الفكر السياسي عند الإباضية - عدون جهلان
3) فتاوى الشيخ بيوض - جمع وترتيب بكير بالحاج
4) قواعد الإسلام - إسماعيل الجيطالي

[1] القرآن الكريم، سورة الإسراء ، آية 36

[2] القرآن الكريم، سورة الممتحنة، آية 4

[3] القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 71

[4] القرآن الكريم، سورة المجادلة، آية 22

[5] القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 114

[6] عدون جهلان , الفكر السياسي عند الإباضية ص. 58

[7] بكير بالحاج -فتاوى الشيخ بيوض

[8] علي يحي معمر - الإباضية في موكب التاريخ - الحلقة الأولى

[9] علي يحي معمر : الإباضية في الجزائر

[10] ابن خلفون: أبو يعقوب بن خلفون - من علماء القرن السادس الهجري كان غزير العلم واسع الأفق ، حاضر البديهة، ساطع الحجة. اختلف مع علماء عصره في بعض المسائل. وصل لنا من كتبه أجوبة ابن خلفون - حققه الدكتور عمروالنامي

[11] تاجديت : قرية من قرى الجزائر كانت حافلة بالعلماء


الأسماء والصفات
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، ففهِمَه الصحابة حقَّ الفهم، واعتنوا به أشدَّ العناية، فحرصوا علَيه من أجل العمل به، فتدبروا آياته حتَّى أشربوا حب القرآن، فكان همهم الأكبر هو نشر دين الله، ونصر شريعته، فاقتدوا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يوجههم إلى ما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وَمِمَّا تعلموه منه أن لا يخوضوا في الآيات المتشابهات، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الذِينَ فيِ قُلَوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَاوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ, إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فيِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ أُولُواْ الاَلْبَابُ﴾ (آل عمران: 7).
لذلك لم تطرح الكثير من المسائل في عهد الصحابة رضوان الله عليهم لعدة أسباب منها:
1. أنهم كانوا يفهمون القرآن على سليقتهم العرَبيَِّة وفطرتهم السليمة، دون تكلف وتعقيد.
2. كان همهم العمل والجهاد ونشر الدين، ولم يقعدوا للمجادلات والمناظرات.
3. لم يختلطوا كثيرا بالثقافات والفلسفات الأخرى.
لهذه الأسباب وغيرها لم تطرح العديد من القضايا في عصرهم، خاصة إذا علمنا الحذر الشديد الذي كانوا يتحلون به عند خوضهم في آيات الله سبحانه وتعالى، وأبرز مثال على ذلك قول أبي بكر الصديق: «أي أرض تُقلُّني، وأيُّ سماء تظلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي».
ومع ذلك فقد وقع منهم بعض الكلام في مثل هذه القضايا، بحكم احتكاكهم بأهل الكتاب في المدينة، إِلاَّ أَنَّهُم لم يسترسلوا فيها لِما ورد فيها من التحذير الشديد.
وعندما اختلط أصحاب الثقافات السابقة بالمسلمين، انتشرت بين أوساطهم أفكار لم تكن معهودة عند السلف، ومن أبرز هذه الأفكار، فكرة الكلام في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر، وحقيقة النفاق، وهل هنالك منزلة بين الإيمان والكفر، وما مصير مرتكب الكبيرة؟، وحقيقة الشفاعة، وهل الله يرى أم لا يرى؟، وهل الجنة مخلوقة أم لا؟، وهل النار تفنى أم لا؟، وما مصير أصحاب النار؟، وما حقيقة القرآن، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟، ونحو ذلك من المسائل التي كان يَحذر منها الصحابة كثيرا لِما ينشأ منها من الجدال الذي يُؤَدِّي إلى الفرقة والشقاق بل التفسيق والتكفير، فقد كانت هناك بوادر لمثل هذه المسائل في عهد الصحابة، إلا أَنَّها خمدت في مهدها لانشغالهم بما هو أهم من ذلك بكثير، وهو الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله، وحماية ثغور الإسلام من الأعداء الذين كانوا يتربصون بهم من كُلّ جانب كما سلف ذكره.
وعندما انتشرت هذه الفلسفات الواردة على الفكر الإسلامي، اضطر المسلمون أن يتخذوا تجاهها مواقف، وكانت هذه المواقف تعبر عن رؤيتهم إلى النصوص الشرعية، وكيفية التعامل معها، فقد كانت هنالك أمور اتفق المسلمون عليها، وأمور اختلفوا عليها.
ونحن سنتناول في هذه المقالة مسألة: «الأسماء و الصفات»، ونبين موقف الإباضية نحو هذه المسألة المختلف فيها؛ لكن قبل البدء لا بأس أن نشير إلى أن سبب النزاع في المسألة هو اختلافهم في فهم الآيات المتشابهة، وكذلك اختلافهم في فهم وتأويل بعض الأحاديث الواردة في صفات الله عز وجل.
ولقد قسَّم علماء العقيدة التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
1. توحيد الربوبية: هو توحيد فعل الله عز وجل، بمعنى أن الذي يرزق هو الله، وأن الذي يخلق هو الله. وهذا القسم لم ينكره أحد حتَّى كفار قريش، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُوفَكُونَ﴾ (العنكبوت: 61)، وقال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نـَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَرْضَ مِنم بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلَ اَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت: 63)، وقال ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَمْرُ﴾ (الأعراف: 54)
2. توحيد الألوهية: وهو توحيد فعل العبد لله، بمعنى أن الإنسان لا يتوجه بأعماله إِلاَّ لله؛ فلا يتوكل إِلاَّ عليه، ولا يدعو غيره، ولا يصلي إِلاَّ إليه، ولا يشرك غيره في أي عمل يقوم به، قال الله تعالى: ﴿قُلِ اِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَآيْ وَمَمَاتِيَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162)؛ و هو إخلاص العمل لله تعالى دون غيره، وهو الفرق الجوهري بين المسلم والكافر.
وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم على هذين القسمين من التوحيد، لكنهم اختلفوا في القسم الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات.
3. توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه، ونفي الصفات التي نفاها عن نفسه.
وجوهر الخلاف في هَذِه القضية هو: هل الصفة شيء زائد عن الذات، أم هي عين الذات؟.
والإباضية يقسمون الصفات إلى ثلاثة أنواع:
1. صفات واجبة: كالوجود، والوحدانية، والأزلية، والأبدية، والقدرة، والحياة، والعلم؛ فالله موجود, والله واحد، وهو حي لا يموت، عالم قدير، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الشورى:11)
2. صفات مستحيلة: كالحدوث، والعدم، والفناء، والجهل، والعجز، ومشابهة الأجسام المخلوقة؛ فالله لا يفنى ولا يبيد، وليس بعاجز، ولا يشبه أحدا من خلقه، لأن هذه الصفات صفات ضعف، وهي من صفات المخلوقين، ولذلك فهي مستحيلة في حق الله تعالى.
3. صفات جائـزة: وهي كُلّ ما لا يترتب عليها وعلى عدمها نقص في حَقّ الله تعالى، فيوصف بها حين يفعلها، ولا يوصف بها إذا لم يفعلها لجواز فعلها أو تركها، كالخلق والإفناء والإعادة؛ فالله يخلق من يشاء متى يشاء كما شاء، ويرزق من يشاء متى شاء كما يشاء، وكما أَنَّهُ يحيي ويميت ويُمرِض ويشفي من يشاء متى يشاء كما يشاء، وهذه أفعال الله في خلقه؛ وجميع أفعال الله تعالى هي صفاته الجائزة التي لا يدرك الإنسان كنهها.
وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، فيها ذكر لبعض صفات الله تعالى، كقوله: ﴿اللهُ لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم﴾ (البقرة: 255)، فهو حي و قيوم، وكقوله: ﴿وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام: 18)، ولا خلاف بين المسلمين في صفة القاهر، ولا الحكيم، ولا الخبير، ولا الحي ولا القيوم، ونحو ذلك من الصفات الظاهرة الدلالة.
والإشكال الكبير الذي وقع بين المسلمين هو في الآيات التي ظاهرها التشبيه، مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ﴾ وقوله: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ﴾، وقوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبـِّكَ فَإِنـَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ فما المقصود بالاستواء؟ وما المقصود بيد الله؟ ووجهه؟ وعينه وغيرها من الصفات؟، هل لله وجه وهل له يد، وهل له عين؟ وهل يستوي مثل استوائنا نحن المخلوقين؟؟.
هنا وقع الخلاف بين المسلمين، إلى:
الفريق الأَوَّل: يؤمن بظواهر الآيات والأحاديث الواردة في صفاته تَعَالى، ويرون الإيمان بها إيمانا بالله ودليلا عَلَى القول بتوحيده تَعَالى، ويسمون المؤولين لها إلى غَير معنى الجسمية بالمعطلة، أي معطلة صفات الله، فيقولون: إِنَّ لله يدا، ووجها، وعينا، ويستوي: بِمعنى يجلس، ويستثني البعض ويقول: له يد لا كأيدينا، ووجه لا كوجوهنا، وعين لا كأعيننا، وهكذا، وهذا الرأي يوهم أن الله يشبه مخلوقاته في امتلاكه لهذه الأعضاء، وهو غني عنها..
ويروون أحاديث في: أَنَّ الله خلق آدم عَلَى صورته، وأَنَّ له أصابع، وساقا، وقدما، وأَنَّه يضع قدمه عَلَى نار جهنم أَو عَلَى جهنم، فتقول: قط، قط. وأن له مكانا، وأَنَّه ينتقل من مكان إلى مكان، وأَنَّه ينزل إلى السماء الدنيا آخر كُلّ ليلة، وينزل في ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، وأَنَّه يضع قدمه عَلَى جهنم فتقول: قط قط، وغيرها من الأحاديث التي يعتمدون عليها..
الفريق الثاني: يزيد إلى ما مضى أشياء لا تليق بجلال الله عند أَي فرد له ذرة من العقل، حيث يقولون بأنَّ الله يضحك ويجلس، ويتعب ويرتاح، وينزل ويصعد.. وغير ذلك من الأقوال تَعَالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الفريق الثالث: وهم الذين يردون كُلّ ما ورد في الأسماء والصفات من كتاب الله وَالسنَّة الصحيحة المتواترة إلى محكم قوله تَعَالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الشورى:11)، وقاعدة: «لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء».
وحِرصُ الإباضية والمعتزلة وأهل البيت على التنزيه المطلق لله تعالى، جعلهم يؤوِّلون الآيات والأحاديث التي يفهم منها تشبيه الله بخلقه بِما يتناسب مع جلال الله وقدرته، وهذا المفهوم يُخالف مفهوم المتمسِّكين بظاهر معاني الآيات الذين يقولون: إِنَّه يجب أن نفهم الآيات على ظاهرها، دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل أو تأويل, ولا ينبغي أن نُعمِل فيها عقولنا أو نُؤوِّلها على غير معناها الظاهر.. ومن هذا نشأ الخلاف في قضية الأسماء والصفات.
فمنهم من يثبت لله صفات كصفات المخلوقين دون تكييف أو تمثيل أو تأويل؛ فيقول: إِنَّ الله استوى على العرش بذاته، وأَنَّه يَنزل كُلَّ ليلة في ثلث الليل الأخير نزولا يليق بِمقامه، وأنَّ له يدا ووجها، وقبضة وأصابع، وساقا ويمينا وجنبا كما ورد في ظاهر الآيات والأحاديث.
وإذا كانت بعض آيات الصفات يُمكن أن تفهم على ظاهرها بدون تشبيه أو تعطيل أو تكييف أو تأويل، فإن بعض هذه الآيات لا يُمكن إِلاَّ أن تُؤوَّل؛ فمثلا: قول الله تعالى: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ (الشمس: 13) وقوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ (القمر: 14)، وقوله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ (القلم: 42)، وقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم﴾ (التوبة: 67)، فكلُّ هذه الآيات وغيرها لا يُمكن أن تؤخذ بِمعناها الظاهري، فلابد من تأويلها.
فالمعنى الظاهري للآية الأخيرة يفهم منه نسبة النسيان إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكذلك آية ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾، وآية ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ﴾ (طه: 39)، فَإِنَّ العين هنا لا بد من تأويلها. وإذا أوَّلنا هذه الآية بِما يتناسب مع جلالة الله وعظمته فَإِنَّ كُلّ الآيات المتعلِّقة بصفات الله عز وجل يجب تأويلها بما يتناسب مع جلال الله تعالى، وبما تحتمله اللغة العربية، ومن هذه الكلمة الاستواء في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىا﴾ (طه: 5) فالاستواء يؤوَّل بمعنى الاستيلاء والاستعلاء، ولا يعنى الاستقرار.
وكذلك تؤوَّل أحاديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في صفات الله تعالى بنفس الكيفية.
فحديث النزول المشهور الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل رَبّنا كُلّ ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل؛ فيقول: "هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له»، يجب تأويله بِما لا يَتعارَض مَع جلالِ الله وعظمته؛ لأَنَّ الله مطَّلِع علينا في كُلّ وقت وحين، ويعلم عنَّا أكثر من علمنا بأنفسنا؛ فهو يقول للشيء كن فيكون، ولا يحتاج أن ينزل نزولا حقيقيا كُلّ ليلة ليغفر للتائبين والمستغفرين.
وإذ افترضنا ذلك كما يقول المتمسكون بظاهر الحديث أن الله ينزل نزولا حقيقيا يليق بجلال قدره في ثلث الليل الآخر؛ فإنه من المعلوم أن الأرض كرويَّة، وفي كُلّ لَحظة يوجد وقت السحر في مكان ما مِن لأرض التي نعيش عليها، وعليه فإنَّ الله ينزل في كُلّ لَحظة في مكان ما من هذا العالم، و هذا أمر لا يمكن أن يُتصوَّر أو حتَّى يفكَّر فيه؛ لهذا التصور جعل بَعض العقول في هذه القرون المتأخرة ترفض الاعتقاد بكروية الأرض، وتكفر كُلّ من قال بذلك، بعد إثبات ذلك بالأدلة العلمية والنصية.
فتأويل هذا الحديث وغيره من الأحاديث والآيات المتشابهة هو المخرج الوحيد للمسلمين من الوقوع في تشبيه الله بخلقه، وبنسبة صفات خلقه إليه.
أمثلة للصفات التي أَوَّلَها الإباضية
ومن أمثلة الصفات التي أَوَّلها الإباضية: صفة النفس والوجه والعين واليد والقبضة والتجلي الواردة في آياتٍ كثيرة من القرآن الكريم.
النفس: قال الله تعالى: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلآَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ (المائدة: 116)؛ فالنفس لا تكون إِلاَّ للمخلوقين لأَنَّ بِها يَحيون، ومعنى الآية: أي تَعلم غَيبي ولا أعلم غَيبك،
وفي قول الله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ (آل عمران: 28)، أي يُحذركم عُقوبته.
وفي قوله تَعَالى: ﴿ كَتَبَ عَلَىا نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 12)، أي على ذاته، كقوله: ﴿ اِنَ اَحْسَنتُم أَحْسَنتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ﴾ (الإسراء: 7).
الوجه: إذ لا يجوز أن يكون لله وجه، كما يعقل من وجوه الأجسام؛ لأَنَّهُ تعالى ليس بجسم، ولا يجوز عليه التبعيض، فقول الله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾(البقرة: 115).
وقوله: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَىا وَجْهُ رَبـِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 27)، وكذلك قول الله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ﴾، أي أن كُلّ ما في الوجود يفنى ولا يبقى إِلاَّ الله تعالى.
أما قوله تعالى: ﴿ إِنـَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ (الإنسان: 9)، فمعناها إِنَّمَا نطلب ثواب الله ورضاه.
العين: العين في اللغة على عدَّة معان؛ فهي: العين المركبة في الرأس، وتأتي بمعنى الحفظ، وبمعنى الجاسوس؛ أما العين المركبة في الرأس فَهي منفيَّة عن الله تعالى، ولذلك تُؤوَّل الآيات الواردة التي فيها كلمة العين على مقتضى المعاني الأخرى للعين، فقول الله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾، وقوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ﴾ فهي تؤوَّل بمعنى الحفظ والعلم.
الاستواء: في صفات الله بمعنى الاستيلاء والاستعلاء والقهر والغلبة، وعند غَير الإباضيَّة بمعنى الاستقرار، وبما أنَّ الاستقرار يوهم تشبيه الله بخلقه، فَإِنَّ الإباضية استبعدوا هذا الفهم، وَاتَّفَقوا على أن الاستواء معناه الاستيلاء والْمُلك كما في فهمه العرب عند نزول القُرآن، وذلك في قول الشاعر:
قَد استوى بشر على العــراق بغير سيف أو دم مُهــراق
العرش: عندما نقرأ قول الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىا﴾ لا يَنبغي أن نفهم منه أن الله مستقر عليه؛ لأَنَّ هذا تشبيه فلابد مِن تأويل الاستواء على معنى الاستعلاء والغلبة والقهر، ومثل هذا قولنا: «بيت الله» لا يعنى أن الله يسكن فيه.
يقول صاحب قاموس الشريعة في معنى العرش: «العرش خَلق من خَلق الله تعالى فوق السماء السابعة، يختبر به ملائكته، وهو موضوع للتسبيح، والتحميد، والثناء والمدح، والشكر، والعرش في السماء كبيت الله الحرام في الأرض؛ فأهل الأرض مكلفون بأن يطوفوا بالبيت طوافا وتمسحا وتقبيلا للحجر الأسود، وكذلك الملائكة في السماء يطوفون حول العرش»، وهذا يكفينا في معنى العرش وأي معنى آخر يوهم التشبيه حتى إمرار الآية كما هي يؤول إلى التشبيه والحلول.
وختاما: فإِنَّ المسلمين وإن اختلفوا في فهمهم لآيات الصفات الواردة في القرآن الكريم، لَكِنَّهم متفقون على وجوب تنزيه الله تعالى عن كُلّ نقص، وإن أهم ما يجب أن يعتقده المسلم في مسألة الصفات أنَّ الله ليس كمثله شيء، كما ذكر في القرآن الكريم، وهذا يعني أن كُلَّ صفة لمخلوق ليست من صفات الله تعالى، لأَنَّ المخلوق محدود بالعدم، لم يكن موجودا قبل أن يُخلق، ولن يكون موجودا بعد أن يَموت، فحياته محدودة، ومحتاج إلى غَيره.. وواجب على كُلّ مسلم أن ينزه الله تعالى عن جميع النقائص، وينسب إليه كُلَّ صفات الكمال.
وَكُلّما اعترضته آية أَو حديث صحيح في صفاته تَعَالى، أَو اعتراه شَيء في قلبه؛ فليقل كما قال تَعَالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.






يتبع بإذن الله

توقيع :



لا يـورث الـعلم مـن الأعمام **** ولا يـرى بالليـل فـي الـمنـام
لـكــنـه يحصـــل بالتـــكـــرار **** والـدرس بالليـــل وبـالـنـهار
مـثاله كشجرة فـــي النــفس **** وسقيه بالدرس بعد الـغرس