منتديات نور الاستقامة - عرض مشاركة واحدة - تفسير سورة البقرة...للشيخ العلامة محمد بن يوسف اطفيش
عرض مشاركة واحدة
كُتبَ بتاريخ : [ 02-24-2011 ]
 
 رقم المشاركة : ( 2 )
رقم العضوية : 176
تاريخ التسجيل : Oct 2010
مكان الإقامة : ابراء
عدد المشاركات : 493
عدد النقاط : 20

cdabra غير متواجد حالياً



تابع

الآيات ( 49 - 74 )

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

{ وَإِذْ نَجَّيْنَكُمْ } واذكروا إذْ نجيناكم ، بإنجاء آبائكم ، واذكروا نعمتى وتفضيلى ووقت إنجاء آبائكم { مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } أتباع فرعون فى دينه ، وهو الوليد بن مصعَب بن ريان عُمِّر أكثر من أربعمائة سنة ولقبه فرعون ، والفرعنة الدهاء والمكر ، كذا قيل ، ولعله تصرف بالعربية من لفظ عجمى لا عربى ، بدليل منعه من الصرف ، فإنه لا علة فيه مع العلمية سوى العجمة التى ندعيها ، وهو من ذرية عمليق بن لاود بن إرم بن سام بن نوح ، وألف آل عن هاء أهل ، والمعنى واحد فيصغر على أول ، ونقله الكسائى نصاً عن العرب وهن أبى عمر ، غلام ثعلب ، الأهل القرابة ، ولو بلا تابع والآل بتابع .

{ يَسُومُونَكُمْ } يولونكم على الاستمرار { سُوءَ الْعَذَابِ } ضرّ العذاب ومرارته ، والعذاب السوء الأشد ، صنف يقطع الحجارة من الجبل ، وهم أقواهم ، وصنف ينقلها ، والطين للبناء ، وصنف يضربون اللبن ، ويطبخ الآجر ، وصنف للنجارة بالنون ، وصنف للحدادة وصنف يضرب الجزية ، وهم الضعفاء ، كل يوم من غربت عليه الشمس ولم يؤدها غلت يده لعنقه شهراً ، وصنف لغزل الكتان ونسجه ، وهن النساء ، ومن سوء العذاب تذبيح الأبناء كما قال الله تعالى { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } وقد ذكر أنواع السوء إجمالاً مع الذبح فى قوله تعالى ويذبحون بالواو وأما هنا فالمراد ذلك ، أو المراد بسوء العذاب خصوص التذبيح ، ولا منافاة لأنه لم يحصره فى لاذبح ، بل ذكر فى موضع الامتنان ما هو أشد ، مع أنه لا مانع من إرادة العموم هنا أيضا بسوء العذاب ، إلا أنه ميز بعضا فقط ، كأنه قيل منه تذبيح الأبناء ، ذبح إثنى عشر ألف اين ، أو سبعين ألفاً ، غير ما تسبب لإسقاط أمه ، فإن أسقطت ذكراً ذبحه ، والتحقيق أن سوء العذاب أعم ، فذكر التذبيح تخصيص بعد تعميم ، أو المراد ما عدا التذبيح ، وجملة يذبحون حال ، وعلى أن المراد بسوء العذاب التذبيح تكون مفسرة .

{ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } يبقونهن حيات ، أو يعالجون حياتهن إذا أسقطهن ، أو النساء البنات الصغار ، يبقونهن بلا قتل ، وإن كان السقط بنتاً عالجوا حياتها ، أو المراد عموم ذلك كله .

{ وَفِى ذَلِكُمْ } المذكور من سوء العذاب إجمالاً والتذبيح خصوصاً { بَلآءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } امتحان أو فى ذلكم الإنجاء إنعام ، أو فى ذلك الإنجاء ، وسوء العذاب والذبح ابتلاء ، أتصبرون وتشكرون ، أم تجزعون ، والله عالم ، قال الله تعالى { وَنَبْلُوَكُمْ بالشر والخير } { فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَيهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ، وَأَمَا إِذَا مَا ابْتَلَيهُ فَقَدرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } رأى فرعون فى النوم ناراً أقبلت من بيت المقدس ، وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطى بها ولم تتعرض لنبى إسرائيل ، فشق ذلك عليه ، وسأل الكهنة ، فقالوا له : يولد فى بنى إسرائيل من يكون سبباً فى ذهاب ملكك ، فأمر بقتل كل غلام فيهم ، وأسرع الموت فى شيوخهم ، فجاء رؤساء القبط وقالوا أنت تذبح صغارهم ، ويموت كبارهم ، ويوشك أن يقع العمل علينا ، فأمر بالذبح سنة والترك أخرى ، فولد هارون سنة ترك الذبح ، وموسى سنة الذبح .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } لأجلكم يا بنى إسرائيل ، أو بسببكم ، أو شبه سلوكهن بالآلة فى كونه واسطة فى حصول الفرق ، فكانت الباء ، نفى ذلك استعارة تبعية ، والفرق مقدم على السلوك فيه ، لقوله تعالى { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كل فرق كَالطّودِ العَظِيم } وما قيل من أنه فرق شيئاً نشيئاً بسلوكهم لا يصح { الْبَحْرَ } لتسلكوه وتنجوا من عدوكم ، بحر القلزم فرقاً مستديراً راجعاً إلى جهة المدخل ، وكان عرضه فى ذلك المحل أربعة فراسخ ، فيستبعد السلوك فيه على ذلك الطول بلا تقويس ، فيحتاجون إلى رجوع فى سفن مع كثرتهم ، وقيل النيل فرقا على سمت ، ويسهل رجوعهم فى سفن ، أو على استدارة وتقويس إلى جهة المدخل ، وهو أولى ويهلك عدوكم .

{ فَأَنْجَيكُمْ } من عدوكم ومن الغرق { وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ } المراد فرعون وآله ، أى هذا الجنس الشامل لفرعون وآله ، لقوله تعالى { ولَقَدْ كَرَّمْنَ بَنِى آدم } أى جنس البشر الشامل لآدم وذريته ، أو آل فرعون هو فرعون ، وأما قومه فأتباع له وذكر بالغرق فى آى أخر ، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم مزامير آل داودَ أى مزامير داود ، وكان الحسن البصرى يقول : اللهم صل على آل محمد بدل اللهم صلى على محمد ، وذلك أن ما للإنسان يكون لأهله ، تحقيقاً أو فخراً ، وأيضاً إذا أغرق أهله فهو أولى ، لأنه رأسهم ، وبه ضلوا ، وناسب نجاة موسى من الغرق ونجانه منه حين ألفى فيه طفلاً ، وللأمة نصيب مما لبنيها ، وفرعون غرق بالماء إذ فاخر به فى قوله { وهذه الأنهار تجرى من تحتى } ولقومه نصيب مما قاله ، وكما عجل الموت بأنهار الدم عجل موته بالغرق ، والموت به شديد . ولذلك كان الغريق شهيداً .

{ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } بعد خروج أولهم ، وبنو إسرائيل يومئذ ستمائة وعشرون ألفا ليس فيهم ابن عشرين لصغره ، ولا ابن ستين لكبره ، وأنهم بقوا فى مصر ، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب عليه السلام اثنين وسبعين إنساناً ، ما بين رجل وامرأة ، وبين يعقوب وموسى عليهما السلام ألف سنة ، وقيل أربعمائة ، بارك الله فى ذلك النس وهم عدا من مات ، ومن ذبح وآل فرعون أل ألف وسبعمائة ألف ، وفيهم من دهم الخيل سبعون ألفا ، وإسناد النظر إذا كان بمعنى بالعين إنما هو للمجموع ، لأنه إنما يرى الغرق ، أو أجبر بنى إسرائيل الذين يقربون من البحر ، وإن فسرناه بالعلم ، فهو لكل واحد ، وفى المشاهدة نعمة زائدة ، وإن فسرنا النظر ينظر بعض إلى بعض من أكلوا حين استوحشوا ، فأشار بالعصا فكانت أكلوا ، فالأمر ظاهر كلن على هذا تتعلق الجملة بأنجيناكم أو بفرقنا لا بأغرقنا .
--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)

{ وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى } المفاعلة للمبالغة لأن من شأن المتفاعلين جذب كل واحد ليغلب الآخر ، أو على بابها ، إذ وعده الله إنزال التوراة ووعد الله المجىء إلى الطور للعبادة ، أو يكفى فيها فعل من طرف ، وقبول من آخر ، كعالجت المريض أو الطلب طرف وامتناع القبول طرف { أَرْبِعِينَ لَيْلَةً } تمام أربعين يوماً بلياليها ذا القعدة وعشرة من ذى الحجة ، أو ذا الحجة وعشرة من المحرم ، يصوم الأيام فى الطور بوصال ، ويقوم الليالى . ويتعبد ، جعلت له ذلك لأنزل عليه التوراة بعد تمامها ، فتعملوا بها ، وأخبره الله بذلك ، وعبر بالليالى لأنها أول اليوم ، والشهور والأعوام ، فإنها بالهلال والهلال بالليل ولأن الظلمة أقدم من الضوء ، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار . استخلف هارون على بنى إسرائيل ، فذهب إلى الطور ، فتعبد أربعين ، وأنزل عليه بعد تمامها ، أو فى العشرة الأخيرة أو فى الأربعين كلها أو فى أولها ، أقوال التوراة سبعين سفرا ، وقلما توجد كلها عند إنسان واحد على عهد موسى أو ما يليه وذلك بعد ما ذهب منها بإلقائه الألواح الزبرجدية المكتوبة هى فيها ، فيحتاج إنسان إلى مسألة ، فيقال هى فى سفر كذا وكذا ، عند فلان فى موضع كذا؛ فتلاشت ولم يبق منها إلى القليل ، ثم وقع التحريف أيضا ، ومواعدة الأربعين إخبار بما فى نفس الأمر عند الله ، إذ كان فى الغيب عند الله أن يتعبد ثلاثين ، أمره بها ثم زاد عشرة ، والنصب على المفعولية أى واعدنا موسى إعطاء أربعين يتعبد فيها ، أو على الظرفية ، أى أمراً واقعاً فيها أو بعدها ، أو مفعول مطلق ، أى مواعدة أربعين .

{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ } اتخذ آباؤكم الباقون فى مصر ومن معهم ، إلا اثنى عشر ألف رجل مع هارون ، وقيل اتخذه ثمانية آلاف { الْعِجْلَ } الذى صاغه موسى السامرى المنافق إلها يعبدونه ، فالمفعول الثانى إلها ، أو لا ثانى له ، كقوله اتخذت سيفا صنعته { مِنْ بَعْدِهِ } بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى ميقات الأربعين { وَأَنْتُمْ ظَلِمُونَ } باتخاذه لأنفسكم ولدين الله ، ولم يقتدى بكم وزمانكم ومكانكم ، وكل من عصى الله فقد ظلم وقته ومكانه ، والظلم الضر ، ونقص حق الشىء ، ووضع الشىء فى غير موضعه فاحفظ ذلك لغير هذا الموضوع ، واعتبره ، وقد وضعوا العبادة واسم الألوهية فى غير موضعهما ، وذلك العجل لحم ودم بإذن الله على الصحيح ، وقيل صورة ، فنسبة الخوار إليه على التجوز ، ونسب للجمهور .

--------------------------------------------------------------------------------

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ } الاتخاذ قبلنا توبة عبدة العجل بعد ما قتلوا منهم سبعين ألفا ، ورفع الله عنهم السيف ، وصح إطلاق العفو مع عقابهم بالقتل لأنه عفو عن مزيد العقاب بخلاف الغفران فلا يكون مع العقاب كذا قيل ، والصحيح أنه يستعمل كالعفو بلا عقاب ومع عقاب { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } تستعملون قلوبكم ، وألسنتكم ، وجوارحكم فى العبادة لمقابلة نعمة العفو إذ عاملناكم معاملة من يرجو الشكر على ما أنعم به أو لتشكروا ، والشكر استشعار العجز عن الوفاء بحق النعم ، عند الجنيد ، والنواضع عند حضور النعمة القلب عند الشبلى ، والطاعة لمن فوقك لنعمه ولنظيرى بالمكافأة ولمن دون ذلك بالإحسان .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

{ وَإِذْ ءَاتَيْنَا } هى إذ الساكنة ، فتحت بالنقل ، ومدت بألف آتينا بعد حذف همزه ، { مُوسَى } منع الصرف للعملية والعجمة ، مركب من ماء وشجر ، فمو ماء ، وسى شجر أبدلت الشين سينا ، وزاد الألف لأنه وجد بين ماء وشجر فى بركة فرعون من النيل ، وقيل عربى مفعل ، وقيل فعلى ، من ماس يميس ، أبدلت الياء واو كطوبى من طاب يطيب ، والألف للتأنيث ، وهو ضعيف ، لأن زيادة الميم أولا أولى من زيادة الألف { الْكِتَبَ } الصحف { وَالْفُرْقَانَ } التوراة الفارقة بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، أو الكتاب التوراة ، والفرقان المعجزات ، كالعصا واليد أو كلاهما التوراة وعطف تنزيلا لتغاير الصفات منزلة تعاير الذات آى آتينا موسى كلاما جامعاً بين كونه مكتوباً من الله فى الألواح ، وفى اللوح المحفوظ ، وكونه مفرقا بين ذلك ، والفرقان أيضا مكتوب فى اللوح المحفوظ ، وفى صحف الملائكة ، والفرقان النصر الفارق بين العدو والولى ، كما قيل سمى يوم بدر يوم الفرقان لذلك وذلك كما تقول جاء زيد العالم الشجاع والكريم ، تريد جاء زيد المتصف بالعلم والشجاعة والكرم ، ويدل لذلك قوله تعالى : الفرقان وضياء وذكراً.

{ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } من الضلال بهما أو به ، إذ قلنا هما واحد ، أى لتهتدوا ، أو عاملناكم معاملة الراجى ، أو أرجو الاهتداء ، وكذا حيث تكون لعل من الله ولو لم أذكر ذلك .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } من عبد العجل من الرجال والنساء ، فإن لفظ قوم يستعمل عامّاً للنساء مع الرجال ، تبعاً على المشهور ، ولو كان لا يستعمل فيهن وحدهن لأنهم القائمون بهن ، الرجال قوامون على النساء ، وقيل يجوز إطلاق القوم عليهن حقيقة أو مع الرجال كذلك { يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } إلَهاً .

{ فَتُوبُوا } من عبادة العجل ، وتسميته إلَها ، والدعاء إليه ، والرضى بتصويره ، مع أنه لا يقدر على فعل شىء ، فضلا عن أن يكون خالقاً { إِلَى بَارِئِكُمْ } خالقكم برءاء من التفاوت ، كيد فى عياة القصر والرقة ، وأخرى طويلة غليظة أو يد سوداء ، ووجه أبيض ، وهو أخص من الخلق ومخرجكم من العدم والخلق النقل من حال الأحرى والتقدير { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } ليس هذا من التوبة ، تفسير إلها بل هى فى قوله توبوا ، وهذا عقاب تصح به توبتهم ، وتقبل كمن فعل ذنباً مما بينه وبين الله فاستقبحه ، وندم ، وعزم على عدم العود ، وأمر بكفارة ، فالتحقيق أن الكفارة ليست من حد التوبة ولو كانت قد تؤخذ فى تعريفها بخلاف رد المظلمة فمن حدها . ومعنى اقتلوا أنفسكم ، ليقتل بعضكم بعضاً أنفسكم ، أو نزلهم منزلة شىء واحد ، وذلك أنهم لم يؤمر كل واحد أن يقتل نفسه بل أمر من لم يعبد العجل ، وهم اثنا عشر ألفا أن يقتل من عبده ، والقاتل والمقتول كنفس واحدة ، نسبا وديناً ، والخطاب لمن يعبده فى اقتلوا ، أو اقتلوا يا عابدى العجل ، بعضكم بعضاً ، أو أسلموا أنفسكم للقتل ، فالخطاب للعابدين ، قالوا : نصبر للقتل طاعة الله ليقبل تربتنا ، وعلى أن القاتلين من لم يعبد العجل ، فالعابدون جلسوا محبتين ، وقال هلم موسى من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله ، أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردود التوبة ، فأخرجت الخناجر والسيوف ، وأقبلوا عليهم للقتل فكان الرجل يرى أباه وابنه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فيرق له ولا يمكنه أن يقتله ، فقالوا يا موسى : كيف نفعل ، فأرسل الله عليهم سحابة سوداء تغشى الأرض كالدخان لئلا يعرف القاتل المقتول ، فشرعوا يقتلون من الغداة إلى العشى ، حتى قتلوا سبعين ألفا ، واشتد الكرب ، فبكى موسى وهارون تضرعاً إلى الله ، فانكشفت السحابة وسقطت الشفار من أيديهم ، ونزلت التوبة ، فأوحى الله إلى موسى ، أما يرضيكم أن أدخل القاتل والمقتول الجنة ، فكان من قتل منهم شهيداً ، ومن بقى منهم مغفوراً له خطيئته من غير قتل ، وذلك حكمة من الله عز وجل ، وله أن يفعل ما يشاء ، أبدلهم عن الحياة الدنيا حياة سرمدية بهيجة ، وقيل التقل إذلال النفوس بالطاعة وترك المعصية .

{ ذَلِكُمْ } أى القتل { خَيْرٌ } منفعة أو اسم تفضيل خارج عنه ، وإن لم يخرج فباعتبار لذة المعصية فى النفوس ، أو من باب العسل أحلى من الخل { لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } الخطاب للذين لم يعبدوا العجل ، والذين عبدوه ، أذعن العابدون للقتل ، وامتثل غير العابدين قتل العابدين ، مع أنهم من نسبهم وقرابتهم وأصدقائهم وأصهارهم ، وجيرانهم ، وكرر لفظ بارىء ولم يقل خير لكم عنده ليشعر بأن من هو بارىء حقيق بأن يمتثل له أمره ونهيه .

{ فَتَابَ } الله ، ومقتضى الظاهر ، فتبت { عَلَيْكُمْ } قبل توبتكم ، من قتل ، ومن لم يقتل لإذعانه للقتل { إِنَّهُ هُوَ } مقتضى الظاهر إننى أنا { التَّوَّابُ } على كل من تاب من خلقه { الرَّحِيمُ } المنعم على من تاب أو أنه هو الذى عهدتم يا بنى إسرائيل قبل ذلك توبته عليكم ورحمته لكم .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

{ وَإِذْ قُلْتُمْ } نسب القول إليهم ، لأنه لآبائهم ، وذلك القول ارتداد منهم ، وقيل المراد لن يكمل إيماننا بك حتى نرى الله عز وجل ، كقوله صلى الله عليه وسلم : لن يؤمن أحدكم حتى يحب لنفسه ، أى لن يكمل إيمانه { يَمُوسَى لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ } بنبوءتك مطلقا ، أو لن نذعن لك ، أو لن نؤمن لأجل قولك أو بك ، فيما تقول من أن التوراة من الله أو من أن الله ألزمنا قتل عابدى العجل كفارة لهم ، أو من أن هذا الذى سمعنا كلام الله ، والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه الذين لم يعبدوا العجل لميقات وقت لهم من خيارهم أمره الله أن يأتى بهم إلى طور سيناء ليعتذروا ويطلبوا العفو عن عبّاد العجل ، فأتى بهم ، وأمرهم أن يتطهروا ، ويطهروا ثيابهم ، ويصوموا ، وقالوا له ، ادع الله أن يسمعنا كلامه ، فأسمعهم ، أننى أنا الله لا إله إلا أنا ، أخرجتكم من أرض مصر تيد شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى . سمعوا كلام الله بأن خلق صوتاً فى أبدانهم ، أو فى الهواء ، أو حيث شاء وفى أبدانهم وأسماعهم ، وقيل القائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات التوراة ، قالوا بعد الرجوع وقتله عبدة العجل وتحريقه ، وقيل عشرة آلاف من قومه ، وعلى كل حال لم يقنعوا بذلك ، وسألوا الرؤية جهاراً كما قال { حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً } عياناً ، أى رؤية جهرة بحاسة العين لا مناماً وقلبا أو ذوى جهرة أو مجاهرين ، أو مبالغة أو قولاً ذا جهرة أو قول جهرة ، أو قولاً جاهراً أو مبالغة .

{ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّعِقَةُ } النار مع صوت شديد من المساء لطلبكم مالا يجوز للزوم التشبيه ، ولوقفكم عن الإيمان حتى شرطتم له { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } يرى بعضكم بعضاً كيف يموت ، أو ترون أثر الموت فى أنفسكم ، إذ يحيى كل واحد منكم عضواً عضواً ، أو يرى بعضكم بحيا من موت ، وقيل الموت عنا غشيان كما قال الله عز وجل ، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، كذا قيل ، ولعله تمثيلى ، وإلا فغشيان أهل النار إراحة لهم لو كان لكن لا يكون .

--------------------------------------------------------------------------------

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

{ ثُمَّ بَعَثْنَكُمْ مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } بيومين من حين موتكم ، يرى بعضكم بعضاً كيف يحيا لدعاء موسى عليه السلام ، وتضرعه إلى ربه أن يحييهم ، ويقول يا رب ، خرجوا معى أحياء ، ويقول قومهم ، قتلتهم ، أنا لو شئت أهلتكتهم من قبل وإياى { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمة الإحياء بعد الموت ، ولله أن يميت الإنسان مرتين وما شاء ، والآية دليل على كفر مجيز الرؤية دنيا أو أخرى وذلك لأن إجازتها ولو فى القلب إجازة لتكييفه ، وتكييفه ممتنع ، لأن فيه تشبيهاً ، وإدراكه بالقلب تكييف لا يتصور بدونه ، فلا يصح قولهم بلا كيف ، وتكييفه فى القلب بلا تقدير أن يكيفه لغيره ، هو من نفس المحذور ، فبطل قول طرائف من المبتدعة أن الصاعقة ليست لمجرد الطلب بل لعنادهم واشتراطهم ، وإذا كان المنع للتشبيه لم يضرنا أنها نزلت لطالبها فى الدنيا .

--------------------------------------------------------------------------------

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } أى جعلناه ظلة عليكم من حر الشمس ، وهو السحاب الرقيق ، يسير بسيرهم فى التيه ، أمرهم الله بقتال الجبارين ، فقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا ، فحبسهم الله فى التيه ، وكانوا يسيرون ليلا ونهاراً ، وينزل عليهم عمود من نور يَسيرون فى ضوئه ، وثيابهم لا تنسخ ولا تبلى ، وذلك من الله ، لا كما قيل لا تبلى لعدم الحرارة ، ولا تنسخ لعدم الدخان ، والتيه واد بين الشام ومصر ، فيه طرق لا رمل فيها ، بين جبال من رمل يمشى فيها الركب المصرى والمغربى والشامى ، عرضه تسعة فراسخ فى ثلاثين فرسخا ، وقيل ستة فراسخ فى اثنى عشر فرسخا ، وقيل خرجوا من التيه فوقعوا فى صحراء ، واشتكوا الحر فظللهم الله عز وجل بالغمام ، وقيل من عبدالله منهم ثلاثين سنة ولم يعص فيها أظله الغمام ، فكان ذلك لجماعة منهم .

{ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ } فى التيه [ الْمَنَّ ] الرنجين بالمثناة الفوقية والراء المهملة والجيم الموحدة والمثناة التحتية النون ، لفظ يونانى تستعمله الأطباء ، ويقال معرب ترتكين ، وهو شىء يشبه الصمغ ، حلو مع بعض حموضة ، وينزل على الأشجار قليلا إلى الآن فى بوادى تركستان ، وهو مشهور فى بلدة آمد وحواليها ، شهر فيهم بحلوة القدرة ، وقد أمروا فى التيه أن لا يأخذوا أكثر من صاع كل يوم ولا يدخروا الزيادة إلا يوم الجمعة ، فيأخذون فيه صاعين ليدخروا ليوم السبت ، فإنه لا ينزل يوم السبت .

[ وَالسَّلْوَى ] طائرٌ يشبه السمان أو هما السمان ، وألفه ليست للتأنيث لورود سلواة ، قلبت هذه التاء للوحدة لا للتأنيث ، وقيل هو واحد والجمع سلاوة ، وقيل هو للواحد فصاعدا ، تبعثه عليهم ريح الجنوب ، فيذبح الرجل ما يكفيه على حد ما مر فى المن ، ويطير الباقى وذلك بكرة وعشية ، أو متى شاءوا وادخروا من المن والسلوى فأصاب النتن ما ادخروا وفى البخارى ومسلم عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم ، « لولا بنو إسرائيل لم يَخْنزِ اللحم » . الحديث .

ويروى أن السلوى تجيئهم مطبوخة أو مشوية ، قيل ويناسبه الحديث المذكور ، لأن التغيير أنسب بالمطبوخ ، وهو أعظم معجزة قلت كما يخنز المطبوخ يخنز غير المطبوخ ولا تثبت المعجزة بلا دليل قوى ، وقدم المن مع أنه حلوى على السلوى مع أنها غذاء ، لأن نزوله من السماء خارق للعادة بخلاف الطير قائلين لكم { كُلُوا مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ } المن والسلوى طيبان ، طيب لذة وطيب حلال وطيب مجىء بلا كسب ، فكفروا النعمة وادخروا فقطا عن حالهما فصارا يدوران ويختزان ، ولو بلا ادخار ، وعاشوا بهما كذلك ، وإذا وضع الطعام بين يديك فقيل لا تأكل حتى يقول حامله إليك كل لمناسبة الآية ، وقيل لك الأكل بلا انتظار لقوله : كل وهو أولى ، إن اطمأنت النفس ، لذلك ظلموا أنفسهم بذلك .

{ وَمَا ظَلَمُونَا } أشار به إلى أنهم ظلموا أنفسهم بالكفر والمختلفة ، وصرح به فى قوله { وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } تكرر الظلم منهم واعتادوه ، وكانوا ستمائة ألف فى التيه ، وفيه مات هارون وموسى ، وماتوا كلهم فيه إلا من لم يبلغ العشرين ، ذهب موسى وهارون إلى غار ، فمات هارون ، فدفنه موسى ، فقالوا : قتلته لحبنا إياه ، فتضرع إلى الله ، فأوحى إليه أن سر بهم إليه ، فناداه ، يا هارون ، فخرج ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك؟ قال : لا ، ولكن مت ، قال : فعد كما كنت فى قبرك ، وعاش موسى سنة ، ومر فى حاجة له بملائكة يحفرون قبراً لم ير أحسن منه بهجة وخضرة ونضرة ، فقال : يا ملائكة الله ، لمن تحفرون هذا هذا القبر؟ فقالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد من الله بمنزلة ، فقالوا : يا صفّى الله ، أتحب أن يكون لك؟ قال : نعم ، قالوا : فأنزل فاضطجع فيه ، وتوجه إلى ربك ، ففعل وتنفس أسهل تنفس ، ومات ، وسووا عليه التراب ، وقيل : أتاه ملك بتفاحة من الجنة فشمها فمات ، وليس كما قيل ، إنه مات فى جبل أحد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لو أنى عنده لأربتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ، لعدم صحة هذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

{ وَإِذْ قُلْنَا } لمن بقى من أهل التيه حيا بعد خروجهم { ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ } أريحا ، بفتح الهمزة وكسر الراء وإسكان المثناة التحتية بعدها حاء مهملة قرية فى الغور قريبة من بيت المقدس ، وهى قرية الجبارين ، فيها قوم من بقية عاد ، يقال لهم العمالقة ، ولم تصح قصص عود ، ولا أنه رأس هؤلاء الجبارين ، والقائل بإِذن الله هو يوشع بن نون ، نبأه فى أخر عمر موسى ، وربما قال له موسى : بم أوحى الله إليك ، فيقول : لم أكن أسألك عن ذلك .

ويروى أنه لما احتضر فى التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبى ، وأن الله عز وجل أمر يوشع بقتل الجبارين فقاتلهم ، وفتح أريحا ، وقيل : يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ، فلطمه موسى ، وفقأ عينه ، فقال : يا رب أرسلتنى إلى عبد كره الموت ، ففقأ عينى فرد الله عليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدى ، وقال له : إن شئت أحياك الله عدد ما تقع عليه يدك من شعر متن الثور سنين ، فقال له موسى : ثم ماذا؟ قال : تم تموت ، قال : الآن من قريب ، ب أدننى من الأرض المقدسة رمية حجر ، وقبره فى التيه بجانب الطريق عند جبل من رمل ، ولا يصح عنه صلى الله عليه وسلم ، أن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت ولا ضربه ، لأنه ظلم لملك الموت وسخط لقضاء الله ، ورد له ، اللهم إلا إن جاء فى صورة لص أو قاطع ، ولم يعلمه ملك الموت ، وعينه جسم نورانى ، وقيل : القرية بيت المقدس على يد يوشع ، وقيل على يد موسى ، وأنه خرج من التيه بعد أربعين سنة مع قومه ، وعلى مقدمته يوشع وفتحها وأقام ما شاء الله ثم مات ، وسميت القرية قرية من قرى بالألف بمعنى جمع ، وهى جامعة للعامر .

{ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمَا رَغَداً } لا منع عليكم منى ، ولا من أحد ، ولا من قلة أو جدب ، فهذا مستثنى من كون الأمم السابقة لا يأكلون الغنيمة فإن لداحلى القرية المذكورة أكل ما فيها من مال العمالقة وأخذه وقله إلى حيث شاءوا { وَادْخُلُوا الْبَابَ } باب أريحا ، أراد الحقيقة ، فإن لها سبعة أبواب أو ثمانية ، يدخلون من أيها شاءوا.

{ سُجَّداً } منحنين ، تواضعاً لا على الأرض ، وقيل : القرية قرية بيت المقدس ، والباب بابها المقول له باب حطة ، والقائل ادخلوا موسى عليه السلام ، قال لهم فى التيه : إذا مضت أربعون سنة وخرجتم من التيه ، فادخلوا بيت المقدس ، وقيل : خرج موسى من التيه حيا بعد الأربعين بمن بقى منهم ، ففتح أريحا ، ومات { وَقُولُوا حِطَّةٌ } سألتنا حطة ، أو شأنك حطة ، أى أن تحط عنا ذنوبنا ، وقيل لفظ تعبد عبرانى ، لا يدرى ما هو ، وقيل تواضع لله ، أى أمرنا تواضع لله .

{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَيَكُمْ } ذنوبكم ، والأصل خطابتى بياء بعد الألف زائدة ، هى ياء خطيئة ، أبدلت همزة فاجتمعت همزتان ، قلبت الثانية ، وهى لام الكلمة ، ياء ، ثم قلبت الياء ألفاً ، فكانت الهمزة بين الألفين فقلبت ياء ، وإنما أبدلوا الياء ألفاً لفتح الهمزة قبلها مع تحركها فى النصب لفظا ، وفى الجر والرفع حكما ، وقال الخليل : الهمزة على الياء التى بعد الألف ، وفعل ما ذكر { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } ثواباً لإحسانهم بالطاعة ، عطفت الجملة على قولوا .

--------------------------------------------------------------------------------

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } بالقول الذى قيل لهم منهم { قَوْلاَ غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ } أى جعلوا قولا مكانه ، كقولك بدل بخوفه أمنا ، أو صبروا القول الذى أمروا به قولا آخر ، وبدلوا فعلا إذ لم يدخلوا سجداً ، بل يزحفون على أستارهم ، وقالوا حبة فى شعرة ، أو فى شعيرة ، أو حنطة فى شعيرة ، أو حطا سمقاتا أى حنطة حمراء ، ولعمل بعضاً قال كذا ، وبعضاً قال كذا ، وذلك استهزاء { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } بتبديل القول والفعل لسبب التبديل ، ومقتضى الظاهر فبدلوا قولا ، فأنزلنا علهيم ، الكن أعاد ذكر ظلمهم للمبالغة فى تقبيح شأنهم وللتصريح بموجب العذاب { رِجْزاً } طاعوناً أو صاعقة أو ظلمة أو ثلجا ، أول الطاعون فى بنى إسرائيل { مِّنَ السَّمَاءِ } ولو كان الطاعون من الجن لأن قضاءه من الله ، وبأسباب سماوية ، فقال لذلك من السماء ، مع أنه أرضى { بِمَا كَانُوا } بكونهم { يَفْسُقَونَ } يظلمون الظلم المذكور ، وهو خروج عن السجود ، وقول حطة ، وسماه فى الأعراف ظلماً ، أو أراد بالفسق مطلق معصيتهم ، ومات بهذا الرجز فى هذه القرية التى أمروا بدخولها فى ساعة سبعون ألفاً أو أربعة وعشرون ألفاً .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } طلب لهم موسى من الله السقيا حين عطشوا فى التيه ، طلبوا الطعام فأعطوا المن والسلوى ، والماء فاستسقى لهم موسى ، فأعطوه ، واشتكوا الحر فأظلهم الله بالغمام ، ذكر الله عز وجل كل واحد على حدة فى معرض أمر مستقل موجب للتذكر ، استأنف لذلك ذكر أبعد فضل عن قصة التيه مبالغة في بيان أن السقى نعمة عظيمة ، ولو ذكر عقب قصة التيه ، ولو مع إذ هذه لكان ربما يتوهم أن الكل نعمة واحدة ، وقال أبو مسلم : ليس هذا فى التيه .

{ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } الذى فر بثوبك لتتبعه من مغسلك عاريا ليرى بنو إسرائيل أنه ما بك أدرة ، كانوا يغتسلون عراة ، وموسى فى خلوة ، فاتهموه بانتفاخ بيضته ، وهو ذراع فى ذراع ، له أربعة أوجه ، وقيل كرأس الرجل من رخام ، وقيل خفيف ، ومن قال سدس اعتبر ما يلى الأرض وما يلى السماء ، لأنه لا انفجار منهما أوحى الله إليه مع جبريل أن يجعله إذ احتاجوا ماء ضربه ، فسال ، وإذا اكتفوا ضربه فأمسك وهذا معجزة أخرى إذ كان فعل واحد ، وهو الضرب ، سبباً للماء وكفه ، وكلما ضرب خلق الله الماء وكل ما ضرب آل أو جمع الله المياه الكثيرة فى الحجر الصغير وخلق فيها خفة .

{ فَانْفَجَرَتْ } فضربه بعصاه فانفجرت ، وقال وهب ما هو حَجر بل يَضرب بها أى حجر أراد فيسيل ماء ، فيضرب أقرب حجر إليه ولو صغيراً ، وقيل حجر كان عند وصل مع العصا إلى شعيب ، فأعطاهما موسى ، وقيل حجر خفيف من قعر البحر يشبه رأسى الآدمى يجعله فى مخلابه ، ويقال حجر مربع يخرج من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين ، وكان من رأس الجنة ، طولها عشرة أذرع على طول موسى لها شعبتان تتقدان فى الظلمة نوراً حيثما كان ، وأمامهم فى التيه فلهم عمود من نور ليلا ، حملها معه آدم من الجنة وتوارثها الأنبياء إلى شعيب ، فأعطاها موسى ، والانفجار السيلان بوسع بعد انشقاق ، وهو الانبجاس فى السورة الأخرى أو هو الرشخ بقليل ، والانفجار بعده بوسع .

{ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } ، وقيل خرج آدم بها ، وبالحجر من الجنة فتوراثهما الأنبياء كذلك إلى موسى ، لكل سبط عين ، وهم اثنا عشر سِبطا ، وكان ليعقوب اثنا عشر ولداً لكل ولد ذرية هى سبط { قَدْ عَلِمَ } عرف { كُلُّ أُنَاسِ } أى قوم هم سبط { مَّشْرَبَهُمْ } موضع شربهم من الاثنتى عشرة ، لا يشاركون غيرهم ، ولا يشاركهم غيرهم من كل وجه من وجوه الحجر الأربعة ، ثلاثة أعين كل واحدة تسيل فى جدول ، وسعتهم اثنا عشر فرسخا أو ميلا ، وهو أولى ، وعددهم كما مر ستمائة ألف ، والجملة نعت اثنتا عشرة والرابط محذوف أى مشربهم منها ، أو مستأنفة ، أو حال بتقدير الرابط العائد إلى صاحب الحال ، أى منها ، كما فى النعت والمسوغ لمجىء الحال من النكرة تخصيصها بالتمييز قلنا لهم { كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِّزْقِ اللهِ } المن والسلوى ، وماء العيون أضيف لله لأنه بلا عمل منهم ، وقدم الأكل لأنه العمدة ، وبه قوام الجسد ، والاحتياج إلى الماء حاصل عنه ، ولأنه مركب للطعام ، والرزق بمعنى المرزوق ، وهو الطعام يحمله الماء إلى العروق ، ولا دليل للمعتزلة فى الآية على أن الحرام غير رزق ، فإنه يؤاخذ عليه متعمده ، وكذا جاهله إذا كان مما يدرك بالعلم ، وليس فى الآية سوى أنه أمرهم بالأكل والشرب من ذلك ، واتفق أنه حلال والله عالم بأنه حلال ، وإن أريد بالرزق العموم فالحلال قيد من خارج ، لا من لفظ الرزق .

{ وَلاَ تَعْثَوْا } تفسدوا { فِى الأَرْضِ } أرض التيه وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليه ، وما يخرجون إليه إذا أخرجهم الله منه { مُفْسِدِينَ } تأكيد فى المعنى لتعثوا ، باعتبار النهى أى نهيتهم نهياً شديداً عن الإفساد ، وإن جعلنا للعثى بمعنى الاعتداء المطلق أو بالشرك والإفساد بالمعاصى فلا تأكيد .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

{ وَإِذْ قُلْتُمْ } فى التيه { يَمُوسَى لَنْ نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } المن والسلوى ، سماها واحداً باعتبار أنهما طعام لكل يوم لا ينقص أحدهما ولا يزاد عليهما ، ولا يبدلان هما أو أحدهما ، أو باعتبار أنهما جمعهما الاستلذاذ الشديد { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ } ما نأكله فإنا سئمنا المن والسلوى ، أى بعض ما تنبته الأرض ، وبينه بقوله { مِنْ بَقْلِهَا } إلخ إلى هو بقلها أو بعض بقلها ، وهو ما تنبته الأرض ولا ساق له ، والمراد ما يؤكل منه ، يكون حارّاً وبارداً ، أو رطباً ويابساً { وَقِثَّائِهَا } ما يكون بطيخاً إذا أينع ، والخيار كلاهما بارد رطب { وَفُومِهَا } برها بل كان ما يخبر قوم ، أو ثومها ، وهو حار يابس ، وعليه فهو لغة ، أو أبدلت التاء المثلثة فاء كحذف فى جدث ، وفم فى ثم وهو مسموع لا مقيس { وَعَدَسِهَا } بارد يابس { وَبَصَلِهَا } وهو حار رطب ، وإن طبخ كان بارداً رطباً .

{ قَالَ } موسى ، أو الله { أَتَسْتَبْدِلُونَ } إنكار لأن يليق ذلك شرعاً أو عقلا ، وتوبيخ { الَّذِى هُوَ أَدْنَى } أقرب وحسوداً وتحصيلا لقلة قيمته أو أدنأ بالهمرة كما قرىء بها فليت ألفا من الدناءة وهو الخمسة ، أو أدون ، أى دون كذا فى الرتبة ، أخرت الواو ، وقلبت ألفا ، والأدنى على الأوجه البقل ، والقثاء ، والفوم ، والعدس والبصل ، وأفردهم بالذكر باعتبار أنهن كواحد إذ هو نوع خالف المن والسلوى ، وبدل منهما { بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ } أفضل ، وهو المن والسلوى ، أفردهما لما مرّ والذى يظهر لى أنه تعالى ، ما عاب عليهم هذا الاستبدال إلا أنه خلق فيهم عدم سآمتهم للمن والسلوى ، وإلا عقد خلق الله فى الطباع سآمة الإنسان ما دام عليه من طعام مثلا ، ولا سيما أنه لا يخلط به غيره ، ولا سيما مع طول المدة ، فما ذكر عنهم من السآمة غير ثابت عنهم ، أو ادعوها مع عدمها ، واستمروا على طلب البدل ، فقال الله جل جلاله على لسان موسى عليه السلام بعد دعائه لله فسألوا.

{ اهْبِطُوا مِصْراً } إن قدرتم على الخروج من التيه ، وليسوا بقادرين ، فالأمر لتعجز ، كقوله تعالى : { كونوا حجارة } أو للإطلاق بعد الحصر ، على أن يكون ذلك عند قرب مرت موسى عليه السلام ، وقرب الخروج من التيه ، أو على أن موسى لم يمت فيه ، بل خرج معهم ، وببعد أن يكون قائل « أتستبدلون » الله على لسان يوشع ، حين نبىء فى التيه عند حضور الخروج .

والمراد مصراً من الأمصار ، أو القاهرة أو اعمالها ، وعلى الأخيرين نوّن مع أنه علم القاهرة أو أعمالها ، لأنه ثلاثى ساكن الوسط كهند ، أو بتأويل البلد ، أو المحل ، ويدل لهما قراءة عدم التنوين ، ومعنى هبوط مصر نزوله ، أو الهبوط دناءة الرتبة ، فإن طعام التيه أفضل من طعام مصر ، أو حسّى بأن تكون أرض المصر الذى يخرجون إليها أسفل من أرض التيه .

{ فَإِنَّ لَكُمْ } فى المصر { مَّا سَأَلْتُمْ } من البقل وما بعده إلا أنه إذا فسرنا القوم بالثوم كان الكل بقلا ، وجنسه ، وكلامهم إنما على الطعام ، فالمناسب أنه البر ، وما يخبر طعاما ، لكن أفضله البر ، وذكر أولا ما يؤكل بلا علاج نار ، وذكر بعدها ما يعالج بها مع تقديم الأشرف فالأشرف .

{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ } جعلت على فروعهم لفعلهم مثل أفعال آبائهم ، ورضاهم عنهم ، ولا سيما بعد ذهابهم إلى قتل عيسى عليه السلام ، جملاً تشبيهاً بنقش الدراهم فى لزوم الأثر واستمراره ، نفى ضرب استعارة تحقيقية تبعية { المدِّلّة } ضعف القلب والخوف مما يخاف منه ، أو هى الجزية أخبر الله جل جلاله ، أنها ستكون عليهما إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذه معجزة وإن لم يقل هذا ، مما لم يوح به قب القرآن ، مواضع أيضاً أنى قضيت عليهم أنها ستكون .

{ وَالْمَسْكَنَةُ } أثر الفقر الظاهر على البدن ولو كانوا أغنياء ، ولا يوجد يهودى غنى النفس { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ } رجعوا أو احتملوا ، أو استحقوا أم أقروا أو لازموا حال كونهم ملابسين لغضب الله ، وهو قضاؤه الأزلى عليهم بالشقوة وتوابعها ، أو هو ذمة إياهم فى الدنيا وعقابه فى الآخرة { ذَلِكَ } المذكور من الغضب ، وضرب الذلة والمسكنة ، وصيغة البعد لبعد ما قبل البوء بغضب ، أو لبعد ذلك عن منصب من أكرمه الله بنعم الدين والدينا : وأنزل عليه كتاباً لفظاعتها ، أو لبعدهم عنها { بِأَنَّهُمْ } أى سبب ذلك أنهم { كَانُوا يَكْفُرُونَ } يؤوَّل المصدر من كان أى بكونهم يكفرون ، وكثير يأتون به من خبرها ، مثل أن يقال هنا بكفرهم ، وكأنهم يقولون ، لا تدل على الحدث ، والتحقيق أنها تدل عليه { بِأَيَتِ اللهِ } التى أنزلت فى التوراة مما يكرهونه ، والتى فى الإنجيل مطلقا ، لكفرهم بعيسى عليه السلام ، أو بما خالف منه التوراة ، وبما أنزل من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه ، وذلك قبل أهل عصره صلى الله عليه وسلم كراهة لأن تخرج النبوءة من ولد هارون عليه السلام ، وقد أنكروا الرجم أيضاً قبله صلى الله عليه وسلم .

{ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ } مجموع ذلك لمن بعد موسى ، وأما فى زمانه فلا إلا الذلة ، روى أنهم قتلوا بعده سبعين نبيّاً أول النهار ، ولم يشغلهم ذلك حتى إنه قام سوق البقل آخر النهار ، وقتلوا زكريا وشعياء ، وعملوا فى قتل عيسى ، وأما قوله تعالى :{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } فإنما هو بالحجة وبأخذ الثأر بعد ، فذلك لا يختلف ، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما ، أن الله عز وجل قادر أن يقتل بكل نبى سبعين ألفاً كما كان بعد قتل يحيى ، وبكل خليفة خمسة وثلاثين ألفا ، والمراد بالنبيين ما شمل الرسل ، لقوله تعالى :{ أفكلما جاءكم رسول . . . } الآية .

{ بِغَيْرِ الْحَقِّ } عندهم ، فإنهم يقتلونهم تشبيهاً وحبّاً للدنيا ، ولا يعتقدون أن قتلهم حق ، فليس المراد أنه قد يكون قتل الأنبياء حقا ، إذ لا يفعلون موجب قتل ، ولا يبيح الله دمهم بلا موجب ، ووجه آخر ، أن المراد بيان الواقع ، كالصفة الكاشفة تأكيداً لذمهم وفضيحة ، أو يعتبر أنه لو شاء الله لأباحه كما أباح لملك الموت ، وكما أمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، وقيل : قتلوا فى بيت المقدس فى يوم واحدة ثلاثمائة نبى { ذَلِكَ } المذكور البعيد من الغضب وضرب الذلة والمسكنة ، كرر للتأكيد ، أو ذلك المذكرو من الكفر وقتل الأنبياء { بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا } بعصيانهم وكونهم { يَعْتَدُونَ } ينهمكون فى المعاصى ، ولا تنس أن المعصية توجب العقاب بالإيقاع فى مصعية أعظم منها ، وذلك بعصيان منهم فى قتلهم لا باعتقاد حل .

--------------------------------------------------------------------------------

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من لدن آدم أو بعدها بالأنبياء الوحى والكتب ، كتبّع ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، وقيل : المنافقون بإضمار الشرك ، وقيل : مؤمنو هذه الأمة ، فمنعنى من آمن على هذا القول ، والأول من آمن من اليهود والنصارى والصابئين ، وأما على غيرهما فالمعنى من تاب من نفاقه ويهوديته ونصرانيته وصابئيته ، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.

{ وَالَّذِينَ هَادُوا } دخلوا فى اليهودية ، من هاد بمعنى تاب من عباد العجل ، أو سكن ، ومنعه الهوادة ، أومعرب يهوذا ، بذال معجمة بعدها ألف ، عرب إهمال الذال وإسقاط الألف ، سمو باسم ولد يعقوب يهوذا ، وهو أكبر ولده . ولا يلزم أن يكون هذا الاسم قبل موسى ، مع أنهم فى زمانه وما بعده فقط ، ولا أن يكونوا كلهم عبدوا العجل ، لأن التسمية تحدث ولو بعد زمان من سموا به ، ولأن وجه التسمية فى بعض لأفراد كيف .

{ وَالنَّصَرَى } جمع نصران ، كالندامى ، واليا فى نصرانى لمبالغة ، كقوله : والدهر بالإنسان دوَّارىّ ، أى دوار ورجل أحمرى ، أى أحمر ، وقيل للوحدة ، كزنجى من زنج ، ورمى مر روم ، وقيل جمع نصرى كمهرى ومهارى . حذفت إحدى ياءيه ، وفتحت الراء ، وقلبت للياء الباقية ألفا ، سموا لأنهم نصروا المسيح ، أو لأنهم كانوا معه فى قرية يقال لها نصران عند الجوهرى ، أو نصرانية ، أو نصرانيا ، أو نصرى ، أو ناصرة ، كان عيسى ينزلها ، سموا باسمها ، أو باسم من أسسها ، كما سميت قسنطينة المغرب والعظمى ، باسم من بناها .

{ وَالصَّبِئِينَ } طائفة من اليهود ، أو من النصارى عبدوا الملائكة والكواكب ، أو بين اليهود والمجوس ، أو تعبد الكواكب فى الباطن وتنتسب إلى النصارى فى الظاهر . أو لفقوا دينا من التوراة والإنجيل ، ولما جاء القرآن أخذوا منه بعضا . كالصلاة إلى الكعبة والوضوء . أقوال . ويدعون أنهم على دين صابىء ابن شيث بن آدم ، وقيل : منهم من يعبدون الكواكب الثوابت : وهم صابئة صفد ، ومنهم من يعبدون السيارة ، وهم صابئة الروم ، ومنهم من يفزع إلى الجمادات ، ومنهم من يصلى إلى الجنوب ، ومنهم من يعبد الملائكة ، من صبا يصبو بلا همز ، أو صبأ يصبأ بالهمزة ، قلبت ياء ، وحذفت كما حذفت فى الأول الياء التى هى عن واد .

{ مَنْ آمَنَ } من اليهود والنصارى والصابئين وترك الإشراك بالله { بِاللهِ } ورسله وأنبيائه وكتبه ولم ينكر نبيا أو كتابا { وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يوم البعث والجزاء . ولم يذكر المجوس لأنه ليس منهم من لو تبع كتابه لنجا ، إذ كتابهم أضاعوه سرعة { وَعَمِلَ صَلِحاً } ولم يفرق بين أحد من رسله قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعدها ، فآمن به واتبع القرآن ، ومن لم يؤمن به ، وبالقرآن لم ينتفع بعمله فهو مشرك فى النار ، وهو غير متبع للتوراة والإنجيل ، بل كافر بهما أيضاً ، لأن فيهما الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم ، وكذا من كفر من اليهود والنصارى قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يدخلون فى الآية ، كمن قال : عيسى إله ، ومريم إله ، أو عيسى ابن الله .

{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } أجرة علمهم للطاعات ، وتركهم للمعاصى والمكروهات { عِنْدَ رَبِّهِمْ } حفظه الله لهم لا يضيع ، كما يحفظ الشىء ، بحضرة الملك فى خزانته { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من العقاب لانتفاعه { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على تضييع العمر ، وفوت الأجر ، والفضل لعدم تضييعهم ، وعدم الفوت ، والمراد الخوف والحزن الدائمان؛ فإنه الشقى فى الآخرة لا يزول خوفه وحزنه حتى يدخل النار بل يخاف فيها أيضاً ، لأنه يخاف فى كل عقاب عقاباً بعده ، ويحزن لذلك ، ودخل فى الآية أهل الفترة الذين آمنوا وأدركوا البعثة كأبى ذر ، وسلمان رضى الله عنهما ، أو لم يدركها كقيس بن ساعدة ، قيل : وورقة ابن نوفل ، وبحيرا الراهب .
روى أن سلمان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقول فى أهل دين كنت معهم ، وذكر صلاتهم وعبادتهم؟ فقال : هم فى النار ، فأظلمت علىّ الأرض ، فنزلت : { إنَّ الذِينَ آمنوا . . . } الآية ، فكأنما كشف عنى جبل .
--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ } وثوقكم ، كالميعاد بمعنى الوعد ، وأفرد الميثاق لأن ما أخذ على كل واحد أخذ على غيره ، فكان ميثاقاً واحدا ، والمراد عهدهم الإيمان ، بالتوراة كلها . والعمل بما فيها ، أعطيتم الميثاق على ذلك ، ثم أبيتم ، وقيل ، أخذ الميثاق قبل نزولها على أن يعملوا بما ينزل عليهم فى الكتاب ، ولما نزلت التوراة نفضوا لما فيها من الميثاق { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ } حين نقضتم أو سريانى معرب ، وقيل المراد جبل المناداة ، حمل إليهم ، اقتلعه جبريل من أصله وحمله فى الهواء بينهم وبينه قدر قامة أحدهم ، وهو فرسخ فى فرسخ على قدر عسكرهم ، قيل ، والنار قدامهم ، والبحر المالح خلفهم ، فقيل لهم ، إن لم تقبلوا رضختكم به . فسجدوا للقبول على أنصاف وجوههم ، ناظرين بالعين اليمنى إليه خوفاً ، فكان أفضل سجود اليهود بعد ذلك ما كان على الشق الأيسر والنظر باليمنى إلى جهة المساء ، قائلين { خُذُوا } اقبلوا { مَآءَاتَيْنَكُمْ } وهو التوراة { بِقُوَّةٍ } باجتهاد ، وقيل ، لا يقدر القول هنا ، لأن الميثاق قول ، ولا دليل فى الآية لمن قال ، الاستطاعة قبل الفعل ، إذ لا يقال ، خذ هذا بقوة إلا والقوة فيه ، لأن بهذا المعنى لاننكر صحة تقدمها على الفعل .

{ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } تعاهدوه بالمطالعة والدرس والتفهم لمعانيه والعمل به { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } عقاب الله ، أو المعاصى ، وتقدمت أوجه لعل فى كلام الله ، وقس عليها فى جميع القرآن ، وليس رفع الجبل فوقهم إجباراً على الدين ، فلا يقال ، كيف تقبل الطاعة ، لأن الإحبار ما فيه سلب الاختيار ، بل الآية كمحاربة العدو ، إن أسلم رفع عنه السيف ، وإن أخذوا زال الجبل ، وأما الإكراه فى الدين ففى مخلوق لآخر أن يحبسه حى يؤمن ، أو يمنع عنه الطعام حتى يؤمن أو نحو ذلك لا يجوز ، ولو فسر لا إكراه فى الدين بالنهى عن القتال حتى يؤمر به ، وأما الله فله فعل ما شاء ، قيل : ولا يقال : الإيمان بالإجبار يجزى فى الأمم السابقة أو بعضها فتكون منه هذه القصة ، لأن هذا مما لا تختلف الشرائع فيه ، وقد قال الله تعالى { فلولا كانت قرية آمنت } الآية . { فلم يك ينفعهم إيمانهم . . . } الآية قلت : الآيتان غير ما فى هذه الآية ، لأن هذه الآية جاءت فى القهر على الفعل ، والآيتان فيمن أغلق عنه الله باب الفعل بتوجيه الموت إليه ، ووجه آخر لا يقبل ما عن إجبار إذا استمرت الكراهة ، أما إذا كان بعده الفعل بالاختيار فيقبل كل ما باختيار ، فأخذوه بقوة ثم تركوه ، كما قال :

{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أعرضتم بعدم القبول ، وأصله الإعراض بالجسد { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } العهد الذى أعطيتم وعملتم به مدة ، أو من بعد ذلك العمل المعلوم من المقام ، أو من بعد الأخذ بقوة ، إذ لم يمتثلوا ، بل استمروا على العصيان ، لم يقل ثم توليتم ، وقيل ، بعد رفع الطور فوقكم ، وإيتاء التوراة ، فطوى عن ذكر امتثالهم { فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ } بتوفيقكم للتوبة { عَلَيْكُمْ } الخطاب باعتبار الآباء { وَرَحْمَتُهُ } لكم بالتوبة أو بقبولها قيل ، أو الخطاب للأبناء فالفضل والرحمة بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم ، لو لنفى تاليها ، وإذا زيدت لا العافية ثبت ما نفى ، هذا قول الكوفيين بتركيب لو من لولا والبصريون على أنها بسيطة { لَكُنْتُمْ مِّنَ الْخَسِرِينَ } كمن ذهب رأس ماله أو بعضه ، هذا عندى يعين الخطاب للآباء ، لأن يهود عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاسرون إلا ما شذ بخلاف من تقدم ، ففيهم الخاسر والرابح .

--------------------------------------------------------------------------------

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } عرفتم ، والمعرفة إدراك نفس الشىء ، جسما كان أو عرضا ، والعلم إدراكه على صفة كذا ، ولا يقل الله عارف أو عرف ، أو يعرف بالبناء للفاعل ، فقيل ، لأن المعرفة تقتضى تقدم الجهل ، وقيل لعدم التوفيق ، وقد يستعمل ، قيل بالجواز ، ولم يتقدم جهل تعالى الله { الَّذِينَ اعْتَدَوْا } جاوزوا الحد ، وقدر بعضهم مضافا ، أى : ولقد علمتم اعتداء الذين اعتدوا { مِنْكُمْ } بصيد السمك { فِى السَّبْتِ } وقد بعضهم مضافا ، أى فى حكم السبت وهو يوم ، أو مصدر أو الخطاب فى منكم وعلمتم لمن فى زمانه صلى الله عليه وسلم من بنى إسرائيل ، وهم عارفون بقوم مسخوا فى زمان داود ، ولا يشترط العلم بالكنه فى لفظ المعرفة ، وقوم داود هم سبعون ألفا ، فى أرض أيلة ، بفتح الهمزة وإسكان الياء ، قرية على الساحل بين المدينة والطور ، صنف أمسك ونهى ، وصنف أمسك ولم ينه ، وصنف اصطاد ، وهم اثنا عشر ألفا ، شرعوا حياضاً ينزل الحوت فيها ، ولا يقدر ، على الخروج . ويصطادون ما فيها يوم الأحد ، فعلوا ذلك زماناً ، فقالوا ، قد أحل السبت ، فكانوا يصطادون فيه جهراً ، ويبيعون فى الأسواق ، وقد نهى الله عن الاصطياد فى اليوم الذى بعد يوم الجمعة ، أمروا بالتجرد للعبادة فى يوم ، فاختار موسى الجمعة ، وقيل ، أمروا بذلك ، وخالفوه للسبت ، لأنه يوم تم فيه الخلق ، فألزمهم الله إياه ، والسبت فى الأصل السبوت ، وهو الراحة ، أو من السبت وهو القطع ، قطع الله فيه الخلق وتم ، وأيضاً أمر الله اليهود بقطع الأشغال فيه ، والتفرغ للعبادة ، ولا يبعد تسميته بالسبت فى زمان موسى عليه السلام لذلك ، ولو كان تبديل أسماء الأسبوع بما هى عليه الآن واقعاً من العرب بعد عيسى عليه السلام .

{ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةٍ خَسِئِينَ } أذلاء خاضعين ، ونجا الناهون ، والساكتون على الأصح ، لأن الساكتين أنكروا بقلوبهم فقط ، لوجود من أدى فرض النهى ، وأما الممسوخون خنازير فأصحاب المائدة ، وقيل ، مسخت شبانهم قردة ، وشيوخهم خنازير ، إلا أنه لم يذكر هنا الخنازير ، فهو يتعاوون كالقردة بأذناب كأذنابها ، ويعرفون قرابتهم ، ويحتكون إليهم ، عاشوا ثلاثة أيام ، وقيل سبعة ، وقيل ثمانية وماتوا ولم يأكلوا ولم يشربوا فى الأيام الثلاثة ، وقد كان قبلهم القردة والخنازير ، والممسوخ لانسل له ، كما روى عنه صلى الله عليه وسلم ، ولأمر للتسخير ، إذ لا طاقة لهم أن يتحولوا قردة ، ولا يؤمر بما لا يطاق ، ولكنه مجاز عن تكوينهم قردة أو تمثيل بأمر من يطاع فوراً ، فهو أمر إيجاد لا أمر إيجاب ، كقوله تعالى { كن فيكون } وجمع السلامة لكونهم عقلاء قبل المسخ ، بل وبعده ، فإنهم يعرفون قرابتهم ، ويحتكون إليهم ، فيقولون لهم : ألم ننهكم فيجيبون برءوسهم ، بلى ، وتدمع عيونهم بكاء ، وإنما بدلت الصورة لا العقل إلى ما قيل ، الجمع بذلك تشبيه بالعقلاء ، وهم بعد المسخ مكلفون عند مجاهد ، وقيل لا .

{ فَجَعَلْنَهَا } أى المسخة المعلومة ، أو للعقوبة أو اللقربة ، أو كينونتهم قردة { نَكَلاً } ردعا ومنعاً عن أن يصطاد مثلهم يوم السبت الحوت ، وعن أن يخالف أمر الله مطلقاً ولو بغير الصيد ، أو نكالاً اسم للجام الحديد أو للقيد شبه العقوبة به فى المنع { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } فى زمانها من الناس ، وذكرهم بما إشارة للأنواع من الناس ، أو ما عبارة عن القرى الحاضرة لها ، والمراد أهلها ، وكذا فى قوله { وَمَا خَلْفَهَا } من الناس إلى يوم القيامة ، والآية مقوية لتفسير خلفهم فى الآيات غير هذه بما بعد ، لأن هذه لا يصلح فيها من مضى ، إذ لا تكون المسخة نكالا لمن مات قبلها .

{ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } منهم أو من غيرهم ، وقيل : من هذه الأمة عن أن يقصروا ولغيرهم ، وخصهم لأنهم المنتفعون ، أو لأن المراد بالموعظة حصول أثرها ، كقوله تعالى { إنما تنذر من اتبع الذكر } أى يحصل أثر إنذارك ، قلت ، قوله : فجعلناها نكالا . . . إلخ رد لقول مجاهد ، أنهم لم يمسخوا صورة ولكن قلوباً ، ومثلوا بقردة إذ تحويل قلوبهم لا يظهر لكل أحد حتى يكون رادعاً وموعظة ، ولو ظهر لم يتبين فبحه لجمهور الناس ، بخلاف مسخ صورهم فإنه يظهر قبحها للموحد والمشرك والمطيع والعاصى .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } وقد قتل لهم قتيل لا يدرى قاتله ، اسمه عاميل ، وسألوا موسى أن يدعو الله أن يبينه لهم ، والقتيل ذو مال ، قتله بنو عمه ، وقيل ابنا عمه اثنان ، وقيل ، أخوه ، وقيل ، ابن أخيه ، وهم فقراء ليرثوه ، وحملوه إلى باب قرية ، وألقوه فيه ، فطلبوا آثاره ، وادعوا القتل على رجال جاءوا بهم إلى موسى عليه السلام ، وروى أنه قتله قريب له ليتزوج زوجه ، وقيل ، ليتزوج بنته ، وقد أبى ، ذكر الله تعالى قصتهم ، ذما لهم بالتعاصى ، أو برفع التشاجر بينهم ، وبيانا لمعجزة من معجزات موسى عليه ا لسلام { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } أول القصة هو قوله تعالى { وَإِذْ قَتلتم نفساً } ولكن أخره ليتصل توبيخهم على عيوبهم بالعيوب المتقدمة . إذ وبخهم على قولهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم : { أتتخذنا هزواً } وليس من شأنه أن يعبث معهم بذبح البقرة ، وينسب الأمر لله يذبحها مع أنه لم يأمرهم ، وما قال عن الله إلا الحق ، ووبخهم على تعنتهم فى البقرة ما هى ، ما لونها ، وما هى بعد لونها مع أنهم لو ذبحوا بقرة ما لكفى إذ لم يؤمروا بمعينة ، ولو كان الأمر الغائب المفضى عند الله يؤول إلى معينة لا محيد عنها ، وكذا لو عمدوا إلى بقرة عوان ما بعد سؤالهم الثانى لكفى ذبحها ، ولو عمدوا إلى عوان صفراء لاشية فيها بعد سؤالهم الثالث لكفى.

{ فَقَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } أتتخذ أمرنا هزؤاً ، أو أتتخذنا ذوى هزء ، أو موضع هزء ، أو مهزوءاً بنا أو نفس الهزء مبالغة لبعد ما بين ذبح البقرة وأمر القتيل ، ولو عقلوا لامتثلوا فتظهر لهم الحكمة ، أن يضرب ببعضها فيحيا مع أنهم لم يجربوا منه العبث قط ، ونسبتهم الهزء إليه شرك ، لأنهم لم ينسبوه إليه على وجه مزاح جائز ، بل على وجه الكذب عن الله ، لأنه نسب الأمر بالذبح إلى الله ، وإن جعلوا محط الاستهزاء ، أن الله لا يقدر على إحياء الميت فأشد كفراً ، ويحتمل أن ذلك من غلظ الطبع والجفا لا إشراك ، أو الاستفهام استرشاد لا إنكار .

{ قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ } من أن أكون { مِنَ الْجَاهِلِينَ } أى فى سلك من اتصفوا بالجهل ، لبرهان على جهلهم ، فذلك أبلغ من أن يقول ، أن أكون جاهلاً ، واختار الأبلغ ، لأنه أليق بما وصفوه به ، فإنه من يكذب على الله ، ويقول ، أمر بكذا ولم يأمر به من أهل الجهل البين ، كظلمة الليل ، والجهل عدم العلم ، أو اعتقاد الشىء على خلاف ما هو به ، أو فعل الشىء بخلاف ما حقه أن يفعل ، وهذا الأخير هو المراد هنا ، ولما علموا أن ذلك أمر من الله عز وجل لقوله{ أعوذ بالله } إلخ قالوا ما ذكر الله عنهم بقوله :

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا } اللام للنفع أو للتعديل { رَبَّكَ يُبَيِّنُ لَّنَا مَا هِىَ } أى ما وصفها معها ، فإن ما سؤال عن الوصف هنا ، فكأنه قيل ، ما سنها ، فأجيب عليه ، وعن الجنس أو الحقيقة ، وليس مراداً هنا ، إذ لا يسألون عن جنس البقرة أو حقيقتها لعلمهم بها ، ومن السؤال عن الوصف نحو ما عمرو؛ تريد ، أخياط أم حداد ، أو ، أمسنّ أم شاب ، وما زيد ، أفاضل أم كريم ، والكثير فى ما الجنس أو الحقيقة نحو ما العنقاء ، وما الحركة .

{ قَالَ } أى موسى { إِنَّهُ } أى الله { يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ } هى { فَارِضٌ وَلاَ } هى { بِكْرٌ } أو لا صلة بين النعت والمنعوت ، أو منزلة مع ما بعدها منزلة اسم ، فظهر الإعراب فيما بعد ، كقوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله } أى غير فارض وغير بكر ، وغير الله ، ولم يقرنها بالتاء ، لأنهما لا يطلقان على المذكر ، فهما كحائض ، لا يطلق إلا على المؤنث ، ويقال فى غير البقرة جمل أو غيره بكر ، والمؤنث بكرة بالتاء ، والغرض القطع أى لم تقطع أسنانها لكبرها بالانكسار ، أو باستفراغ سنيها المعتبرة فى الإنسان كالثنى والجذع ، والرباع ، أو انقطاع ولادتها ، والبكر الشابة الصغيرة بحيث لا تلد ، وقيل : التى ولدت ولداً واحداً { عَوَانٌ } نصَف { بَيْنَ ذَلِكَ } بين ما ذكر من الفارض والبكر ، وقيل : ولدت مرة أو مرتين { فَافْعَلُوا مَا تُؤمَرُونَ } به من ذبحها علَى هذا الوصف بلا توقف ، وطلب استفسار ، فتكلفوا سؤالا هم فى غنى عنه ، وهذا من كلام الله ، أو من كلام موسى عليه السلام .
--------------------------------------------------------------------------------

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

{ قَالُوا ادْعُ لَنَّا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَّنَا مَا لَوْنُهَا } كأنهم استعظموا ذبح بقرة فى ميت ، لا يعرف قاتله ، فهول الأمر عليهم ، ولم تكتف قلوبهم ببقرة ما ، فأكثروا السؤال { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا } أى البقرى العوان { بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } أى لونها خالص الصفرة ، كما يقال أبيض يقق ، وأبيض ناصع ، وأسود حالك ، وأحمر قان ، أى شديد اللون ، ولا يخفى أن الأصل فى الصفرة بقاؤها على ظاهرها ، من لون بين بياض وحمرة ، ولا حاجة إلى تفسيرها بالسواد ، ولو ورد مثله لعدم القرينة هنا فلا مجاز ، ولو كان مشتركا لحملت على الأظهر ، وناقلو اللغة من العرب مشافهة كالجوهرى ، وأبى عبيدة والأصمعى لم يثبتوا الفقوع إلا فى الصفرة ، لا يقال أسود فاقع ، ولو أثبته فى القاموس ، وهو مقبول ، إلا أن الجمهور على خلافه { تَسُرُّ النَّظِرِينَ } تلذ قلوب الناظرين إليها بحسنها ، ومادة السرور لذلك ، فمنه السرير ، لا ولىّ النعمة ، وسرير الملك تفاؤلا ، وعن على من هذه الآية ، كل أصفر يسر كالنعل الأصفر ، وأن الأسود ، يحزن ، فهو مفسر للصفرة بظاهرها .

--------------------------------------------------------------------------------

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ } أى ما الوصف الآخر المبين لهذه البقرة العوان ، الصفراء الفاقع ، أو أرادوا مطلق البقرة التى أمروا بذبحها ، إلغاء للبيان المتقدم ، وإعراضاً عنه لسوء أدبهم ، وعلى كل حال أجابهم عن الله مع إثبات الأوصاف السابقة ، بأنها غير مذللكة بالعمل ، وأنها كلها على لون واحد { إِنَّ الْبَقَرَ } الموصوف بتلك الصفات { تَشَبَهَ عَلَيْنَا } لكثرته { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ } إليها بوصف تصفها به بعد ، قال صلى الله عليه وسلم ، لو لم يستثنوا ، أى لم يقولوا إن شاء الله لما بينت لهم آخر الآية ، وليس قولهم ما هى تكريراً للأول لأنهم قالوا أولا ، ما هى ، فبينها لهم بأنها عوان ، وزادوا سؤالا ، ما هى بعد ما وصفتها لنا بأنها صفراء عوان ، وهذا يكفى ، وهو الأصل ، ولا يحتاج إلى ما قيل ، إن المراد آخرا بقولهم ، ما هى ، أسائمة أم عاملة ، إذ لا دليل عليه إلا قوله ، لا ذلول ولا تسقى ، فيسقى على هذا مسلمة لاشية فيها ، فالأولى تفويضهم له فى ازدياد بيان ، فأجابهم بما أقنعهم .
--------------------------------------------------------------------------------

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ } هى { ذَلَولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ } وهذه الإثارة سبب الذل { وَلاَ } هى { تَسْقِى الْحَرْثَ } أو لاصلة بين النعت والمنعوت أو منزلة مع مدخولها منزلة اسم ، كما مر ، والذلول التى ذلت ، وإثارة الأرض قلبها وشقها للزرع ، والحرث الأرض المشقوقة للزراعة ، أو ما وضع فيها من البذر والمراد أنه ليس يحرث بها فتذل ، كما أنها ليست تسقى الحرث فتذل ، فتثير فى حيز النفى ، وقيل ، هى تثير الأرض بأظلافها لقوتها ، وبطرها ومرحها ، فالإثارة صفة أخرى لها فى الإثبات ، وقيل ، هى وحشية إذا كانت لا تثير ولا تسقى ، وقيل : هى من السماء ، والقولان ضعيفان { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب ، كالعور والعرج وانكسار القرون ومن كل عيب كهزال ، لكثرة الحمل عليها { لاَشِيَةَ فِيهَا } لا شىء من اللون فيها يحالف لونها ، حتى قيل ظلفها وقرنها وأهداب عينيها صفر ، تشديد على أنفسهم أورثهم تشديداً فى ثمنها عليهم .

قال صلى الله عليه وسلم : « لو ذبحوا أى بقرة كانت لأجزأتهم ، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم » ، والصحيح أن هذا موقوف على ابن عباس ، لا مرفوع .

ومرادهم طلب البيان لاستبعادهم إحياء ميت ببقرة ميتة ، ظنوا أنها ليست من سائر البقر ، وهى منها فى قدرة الله ، وتعينت هذه فى قضائه تعالى ، وتأخير البيان ممنوع عن وقت التكليف ، لا عن وقت الخطاب . { قَالُوا الْئَنَ } لا قبل { جِئْتَ بِالْحَقّ } البين التام ، وهو الوصف الأخير ، إذ قال ، لا ذلول . . . الخ ، ومن قبل جئت بحق لم نفهمه باتضاح ، وعرفوا أنه الحق البيت التام ، لأنه ما وجد على هذا الوصف إلا واحدة ، فزال بها تشابه البقر عليهم ، وجدوها عند فتى بارّ بأمه ، وقال له ملَك : اذهب إلى أمك ، وقل لها : امسكى هذه البقرة ، فإن موسى بن عمران يشتريها منك بملء مسكها ذهباً . ويروى أن ملكا قال : شاور أمك ، ولا تبعها إلا بمشورتى ، فلم يشر بالبيع حتى سيمت بملئه ذهباً .

وكانت البقرة فى ذلك بثلاثة دنانير ، وهى من بقر الأرض ، لا كما قيل ، نزلت من السماء لأنه لا دليل له ، قيل : ولأن قولهم ، الآن جئت بالحق يناسب أنهم يبحثون عنها فى بقر الأرض ، وإلا قالوا : لا نقدر عليها : قالت ، لا يلزم هذا ، وفرقوا ثمنها على بنى إسرائيل فأصاب كل فريق ديناران { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } ذبحها ، أى ذبحوها بعد ما اتصفوا بالبعد عنه ، تباعدوا عن ذبحها جدّاً ولم يقربوا منه ، ومع ذلك اتصلوا بها بعد ذلك ، وملكوها وذبحوها ، ونفى كاد نفى ، وإثباتها إثبات كسائر الأمثال ، وأخطأ من قال غير ذلك ، وذلك أنه طال الوقت لكثرة مراجعتهم لموسى فى بيانها وطول زمان التفتيش عنها ، وتوقف أم الفتى فى بيعها ، ولأجل الزيادة الخارجة عن العادة فى ثمنها ، ولخوف فضيحة القاتل ، وغلا ثمنها ، ويبعد ما قيل : إنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة ، ومن خطأ المحدثين أنهم لا يكادون ينطفون بخبر كاد غير مقرون بأن مع أن قرنه قليل ، وأنهم دائماً يقولون مثنى مثنى ، ولا يقتصرون على مرة ، حاشاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

--------------------------------------------------------------------------------

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } هذا القتل أول الأمر وآخره ليبين لهم شأنه وقت الإحياء ، ونسب القتل إليهم لأن القاتل من جملتهم ، أو قتله جماعة منهم ، ولأن الحرص على المال فاش فيهم كلهم ، والقاتل حريص ، وكذا الحرص على ما يحبون كجمال المرأة { فَادَّرَءْتُمْ فِيهَا } تدافعتم فى قتلها ، كل ينفيه عن نفسه ويحيله على خصمه ، والأصل تدارأتم أبدلت التاء دالاً وأدغمت ، فكانت همزة الوصل لسكون الأول ، وحذفت الهمزة بعد الراءِ فى المصحف { وَاللهُ مُخْرِجٌ } مظهر { مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } كان فيهم من يجب ألا يظهر القاتل كالقاتلين ومن يليهم ممن عرفهم ، وغير ذلك ممن لم يناسبه الظهور .

--------------------------------------------------------------------------------

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ } أى القتيل فى بدنه قبل أن يدفن ، وقيل على قبره { بِبَعْضِهَا } أىّ بعض كان ، فاتفق أنهم ضربوه بلسانها أو بذنَبها ، أو بقابها ، أو بفخذها اليمنى ، أو بالأذن ، أو بعجب الذنَب ، أو ببضعة بين الكتفين ، أو بعظم ، أو بالغضروف فحيى ولو ضربوه بغير ذلك منها لحيى كذلك ، ولما حيى وأوداجه تشخب دما قال : قتلنى فلان وفلان ، لابن عمه ، أو ابن أخيه ، أو فلان ابن أخى ، ومات ، وحرما الميراث ، وقتلا . قال صلى الله عليه وسلم : « ما ورث قتيل قتيله من عهد أصحاب البقرة » ، وخص البقرة لأنهم كانوا يعبدونها ، فيذبحون ما حبب إليهم ، فيذبحون النفوس الأمارة بالسوء ، ولأنهم عبدوا العجل ، وأشربوا فى قلوبهم العجل ، وخص الضرب بالبيت لئلا يتوهم أن الحياة انتقلت إليه من الحى.

{ كَذَلِكَ } كما أحيا الله هذا القتيل { يُحْيِى اللهُ الْمَوْتَى } كلهم يوم القيامة بلا ضرب ، وبنو إسرائيل لا ينكرون البعث ولكن وعظهم بالبعث ليستعدوا ويذكر منكرو البعث من العرب ، والكف لمن يصلح للخطاب ، فيدخلون بالأولى أو لكل واحد فوافق قوله { وَيُرِيكُمْ } عطف على يحيى { ءَايَتِهِ } دلائل قدرته ، أو ما اشتمل عليه هذا الإحياء ، من الآيات ، أو كلام الميت ، أو كل ما مر من المسخ ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء ، والإحياء ، والخطاب لبنى إسرائيل مع غيرهم كالعرب ، أو لهم فقط ، وكذا فى قوله { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تستعملون فكركم فتدركون أن الله قادر على إحياء غيره كما قدر على إحيائه ، وكما أنشأهم . ويجوز أن يكون الخطاب فى كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون للعرب المنكرين للبعث ، اعترض به فى قصة بنى إسرائيل ، ويختص ببنى إسرائيل الخطاب فى قوله :

{ ثُمَّ قَسَتْ } انتفت عن الاتعاظ بالمعجزات واللين لها ، وأشبهت فى ذلك الجسم الصلب الذى لا يتأثر بالانغماز ، ففيه استعارة تبعية ، أو فى الكلام استعارة تمثيلية { قُلُوبُكُمْ } فى الحال وما قبلها قسوة بعيدة عن شأن من شاهد من المعجزات ما شاهدتم بعدا شبيها فى الامتداد بتراخى الزمان ، أو بعد مرة من الزمان زادت قسوة ، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ، وقد زادوا سوءاً بعد نزول الآيات ، وأكد البعد بقوله { مِنْ بَعْدش ذَلِكَ } بعد ما ذكر من الآيات كإحياء القتيل { فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ } فى عدم الانفعال ، كما لا يطاوعك الانغماز والتثنى . لا تتأثر قلوبهم فى الوعظ بما شاهدوا من الآيات { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } من الحجارة ، أى بل أشد قسوة ، كقوله { إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا } أو يشك الناظر . أهى كالحجارة أم أشد ، أو يخير بين أن تشبه بها وأن يقال أشد على جواز التخيير بأَر فى غير الأمر والنهى ، أو نوَّعهم إلى قلوب كالحجارة ، وقلوب أشد ، والحديد ، ولو كان أقوى من الحجر ، لكن قد يلين بالنار ، وقد قوع لينه لداود عليه السلام خارجا بلا نار ، وأيضا الحديد لا يخرج منه الماء فلا يناسب ذكر خروج الماء من الحجر وهبوطه من الخشية بعد ، ولا سيما أن الحديد إنما يلين بانضمام النار ، لا بمجرده ولينه لداود ومعجزة لامساس لها هنا ، ولم يقل ، أو أقسى لأنه يدل على حصول الشدة لا على زيادتها وأشد قسوة يدل على زيادتها ، فهو أبلغ.

{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ } ينبع نبعاً واسعاً { مِنْهُ الأَنْهَرُ } المياه ، سماها أنهاراً تسمية للحال باسم المحل ، والكلام تعليل جملى الأشد قسوة ، وزعم بعض وتبعهم الشيخ عمرو التلاتى ، أن الواو تكون للتعليل ، ولا يصح ، ولو صح لحملنا عليه الآية ، أى لأن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار ، وهو مطلق الحجارة ، وزعم بعض أنه أراد حجر موسى الذى انفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، والأول أصح للإطلاق ، ولأن حجر موسى خارق للعادة معجزة.

{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّققُ } بعد أن كان منشقّاً ، أصله يتشقق ، أبدلت التاء شينا وأدغمت { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قليلاً دون الانفجار { وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَهْبِطُ } يسقط من الجبل على الاستقلال { مِنْ خَشْيَةِ اللهِ } لا بحيوان أو مطر أو صاعقة أو رعد أو نحو ذلك ، خلق الله فيه التمييز والعقل ، فيخشع فيسقط .

ومن خلق العقل فى الحجر قوله صلى الله عليه وسلم ، « إنى لا أعرف حجرا كان يسلم علىَّ قبل أن أبعث » ، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد بعثه ما مر بحجر أو مدر إلا سلم عليه ، وأن الحصى سبح فى كفه ، وكف بعض الصحابة ، وأن الحجر الأسود يشهد لمن استلمه .

وليس المراد هنا الانقياد لما يريد الله ، فإن الخلق كله كذلك ، حتى قلوب الكفرة فإنها منقادة لما يريد الله من هزال وسمن وصحة ومرض ، وزوال وبقاء ، وفرح وحزن وغير ذلك { وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فهو عالم بما تعملون ، فيعاقبكم على مساوئكم المحبطة لمحاسنكم فى الآخرة .

توقيع :

رد مع اقتباس
 
جاري التحميل ..